الاثنين، 30 أغسطس 2010

الحوار في تعليم المسيح
بحسب الأناجيل

د. جورج عوض ابراهيم

إن التربية الحوارية أي القائمة على الحوار لها حضور دينامي إذ تساهم بفاعلية ليس فقط في تحقيق الأهداف التعليمية لكن في نمو الشخص المتعلم داخل مجتمع المتحاورين.

أولا:
مفهوم الحوار
هوالحوار في المفهوم التربوي هو أساس لتشكيل نظام العملية التعليمية في مجال العمل التربوي والمعروف بالتربية الحواريةDialogical
Pedagogy
[1]
الحوار هو اشتراك فعّال لأشخاص في مناقشات مستمرة منظمة يسمحون فيها بسماع آراء مختلفة للمتحاورين على مواضيع محددة مما يترتب عليه نمو مواقف وآراء جديدة[2]. والحوار يهدف إلى تحقيق التواصل بين المتحاورين بشرط توفر رغبة المتحاورين لهذا التواصل الشخصي فيما بينهم لاكتساب خبرات جديدة نتيجة لهذه العلاقة الديناميكية فيما بينهم. الحوار يقدم فرص لنشاط ثقافي تجديدي ذات ملمح وجودي. فالمعلمين والمتعلمين يشكلون معًا العملية التعليمية التي تهدف إلى بناء فكر مشترك لحالة جديدة. وكما وصف :Freire " الحوار ليس هو طريقة تناول الأسئلة الحيوية التي تخص الحياة المدنية لكن كل مظاهر وجودنا. يكتسب الحوار فقط بفضيلة الإيمان أهمية ديناميكية، بالإيمان بالإنسان وإمكانياته، بالإيمان بأنني أستطيع أن أكون نفسي، عندما يكونون الآخرون أنفسهم"

ثانيا: ملامح الحوار
1ـ الفعل الحُر Free act
2ـ الشركة والتواصل Socializing لأنه يتطلب أكثر من شخص.
3ـ الإيجاز Inclusive لأنه يسمح بمشاركة كل الذين يرغبون الحوار في مجموعة محددة.
4ـ فرض قوانين لإجراء هذا الحوار Normative لأنه يتأسس دائما على أسس ليكون له فاعلية.
5ـ تقديم اقتراحات Propositional وليس أوصاف ، لأنه يخلق مناخ لموضوع يشترك فيه المتحاورون الذين يرغبون في المناقشة.
6ـ القوة المغيّرة (التشكيلية) Transformative لأنه ينتج عنه معرفة جديدة تمنح إمكانيات وقدرات جديدة وتخلق واقع جديد يؤثر على طريقة حياة وعمل الإنسان في العالم
[3]، لأن الحوار له أساس كياني يخلق إمكانية في الإنسان ليتناقش ويُعيد تشكيل العناصر الحقيقية لهويته ويساهم هكذا في تغيير العالم[4].
7ـ الحوار يُنشئ شوق ورغبة للمتحاورين للتوافق والاقتراب والانعطاف فيما بينهم بهدف الارتفاع المشترك (السمو) للمبادرات والمسئوليات لكي يؤثرون على مجتمعاتهم مقدمين لهم تغييرات مرجوة لتحسين واقعهم الاجتماعي.

ثالثًا: شروط الحوار أو مستلزمات الحوار
الحوار لا يعمل من تلقاء نفسه أو بطريقة آلية لكن يتطلب وجود شروط معينة لكي تكون له فاعلية:
أـ يتطلب الحوار موقف شخصي على أفكار معينة أو مفهوم معين بهدف تغيير أفكار ومثاليات كفرصة للإشتراك والتواصل.
بـ يعتمد الحوار على تنازل المتحاورين للمشاركة والمساهمة في إجراء هذا الحوار.
جـ يجب على المتحاورين أن يدركوا أنهم سوف يكتشفون ـ من خلال نتائج الحوار ـ مفاهيم جديدة عليهم.

دـ الحوار يتطلب وجود مقدرة نقدية وإبداعية ، فالأولى هي ضرورية لأنها تجعلهم قادرين أن ينزعوا الأسطورة عن الواقع الاجتماعي ويقدمون فرصة دخول إلى مراحل مختلفة للمعرفة، بينما الثانية هي ضرورية لأنها تساهم في إعادة بناء حالات داخلية بأفكار دقيقة
ومعارف تفتح حدود جديدة للعمل.
وـ لا يمكن أن يوجد حوار بدون التواضع والاحترام
[5]، لأنه بدونهما يسقط الحوار في الغيرة والمهانة.

رابعا: تطبيق التربية الحوارية
أ ـ موضوع الحوار
ب ـ حدود الحوار

ج ـ حقوق المتحاورين

اـ موضوع الحوار: لأن التربية الحوارية تهدف إلى تفعيل وتعضيد الإمكانيات والمهارات للإمكانيات المتنوعة التي تحيط الإنسان فموضوع الحوار يمتد إلى كل مظاهر حياة الإنسان ككائن جسدي ونفسي ، فمواضيع الحوارتنبع من كل مجالات خبرة المتعلمين (التلاميذ) المعيشية لحياتهم البشرية مثل:
1ـ من البيئة الاجتماعية والثقافية
[6]
2ـ من الإيمان الديني
3ـ من المشكلات الشخصية التي تنشأ عادة من:
* الأزمات الشخصية
* المشاكل العائلية
* المشاكل الاقتصادية والسياسية
* أزمة القيّم لمجتمع معين.
لقد أستقى المسيح دائمًا مواضيع تربيته الحوارية من بيئة تلاميذه الاجتماعية والثقافية، لذلك لجأ المسيح إلى العناصر الثقافية لحياة المجتمع العبري، وكان هذا هو "منهجه" أو "أسلوبه" التربوي اليومي. ومن الجدير بالملاحظة أن تقول أن العناصر التي كانت تعبر عن حياة تلاميذه الاجتماعية والثقافية كانت تتدفق من التقليد الديني للشعب في فلسطين. الأمر الذي أنشأ احتواء مشترك بين القيم الثقافية لهذه المنطقة والقيم الدينية التي أثرت وشكلت على مبادئ الحياة لأعضاء المجتمع العبري.
لذلك سوف نضع مواضيع حوارات المسيح التي استقاها من خبرات تلاميذه المعيشية.

مواضيع حوارات المسيح من البيئة الإجتماعية والثقافية العبرية:
أولا: من البيئة الاجتماعية
* شفاء المرأة المنحية (لو 134: 10ـ19)
* شفاء إنسان مُستسق (لو 14: 1ـ7)
* حول إعلان فضيلة الصدق والمحبة وحفظ المعروف، المرأة الخاطئة التي دهنت رجلي المسيح بالطيب (لو 7: 36ـ50)
* حول علاقة الخطاة بالأبرار (مر2: 15ـ18)

ثانيًا: الإيمان الديني
الحضور الديناميكي للديانة متسع في كل مرحلة من الحياة البشرية وتغطي كل مناحي الحياة، ويؤثر على الواقع التاريخي للإنسان ليس فقط كفرد منعزل ، لكن كعضو في المجتمع . الديانة تعمل كعنصر لانضمام الفرد في مجموعة اجتماعية معينة، وفي نفس الوقت هو عامل مؤثر على الروابط الاجتماعية ، خاصة تأثير الديانة على التربية حتى أنه يتطابق مع التربية في أغلب الأحوال.

مواضيع المسيح الحوارية من الإيمان الديني:

* عن حول الصيام (مت9: 14ـ17)
* عن راحة السبت (مت 12: 1ـ14)
* عن التقليد الديني (مت : 1ـ20)
* عن الحياة الأبدية (مت 16:9)
* عن القيامة (مت 22: 23ـ33)
* عن عبادة الله (يو4: 1ـ25)

ثالثًا: مشاكل شخصية
اللجوء إلى المشاكل الشخصية في التربية الحوارية لأجل تسهيل المواضيع هو أمر معتاد. الإستفزازات المباشرة للمشاكل الشخصية يضمن مشاركة حماسية للتلاميذ وتساهم في الرضى الفعال للأهداف التعليمية.

مواضيع المسيح الحوارية على أساس المشاكل الشخصي:
* تزعزع العلاقات الشخصية ـ عن الغفران (مت18: 21ـ35)
* أزمة العلاقات الزوجية ـ عن الزواج والطلاق (مت 19: 3ـ12)
* معيار التفوق الأخلاقي في ملكوت الله ـ عن التواضع والبراءة (مت18: 1ـ20)
* مناقشات وجودية ـ عن خبز الحياة (يو6: 22ـ59)

بـ حدود الحوار
التربية الحوارية تتأسس على الفكر التقليدي للتعليم والتعلم والتي تشمل : اـ التحديد المسبق للمستوى الأول والأسمى للانطلاق ونمو التعليم وذلك بواسطة أسس (شروط) أو مبادئ العملية التربوية.
(ب) خصوصية تلاميذ ذات نظام مدرسي معين
عامل آخر يُحجم الحوار هو الفكر التقليدي للتربية كإجراء للمعارف المخزنة “Depository” ، والتي فيها يأتي التلاميذ إليها كمعارف متقولبة. في هذه الحالة يسقط الحوار إلى عمل آلي سؤال \ إجابة. في هذه الحالة يتم طرد ملامح أساسية مثل ملامح الإبداع والعمل المشترك، بناء المعرفة، تحضير قدرات وإمكانيات التلميذ.
أيضًا عدم احترام التلميذ والتقليل من شأنه “devaluation” واعتباره أنه متلقي سلبي للمعرفة وليس عامل يساهم في العملية التعليمية. ويصبح تقييم التلميذ على أساس كمية المعارف المخزنة (المحفوظة). في هذا الإطار تشجع هذه التربية على مشاركة التلميذ ويغيب عنها كل الملامح الديمقراطية للعملية التعليمية
[7].
هكذا التربية التي تتأسس على المعارف المخزنة هى كنتيجة حرمان التلميذ من الحرية والمشاركة . أيضًا هذه التربية تعلم التلاميذ أن المعرفة هي ملك المعلمين . ويدركون بأنفسهم كأن الجهل يستولى عليهم لدرجة أنه يتشكل موقف سلبي داخلهم تجاه المعرفة.
أيضًا عنصر آخر هو الخوف الذي ينتاب المشارك في الحوار نتيجة النقد اللاذع الذي يعرض له في الماضي لأنه عبر عن رأيه في مرة سابقة، هكذا فقد الثقة في معلمه كل هذا يخلق مناخ مليء بالقلق والشد العصبي.

حقوق المتحاورين
يجب أن تتوفر ثلاثة مبادئ من أجل تحقيق حوار تربوي تعال ، وهم :
1ـ حق الحديث
يمثل الشرط الأساسي في تعليم الحوار . يجب على المتحاورين أن تتوفر لهم إمكانية لتعبير عن آرائهم بحرية، عرض أسئلة، نقد بناء والعمل على أتساع (امتداد ) الحوار على أساس تقديراتهم الشخصية لأفكار الآخرين.
2ـ حق في عدم الإجابة هو حق جوهري في التربية الحوارية
قرار أن يظل المرء صامت في إطار الحوار له قيمتين داخليتين:
* هو دلالة لفكر نقدي وتشكيل قرار
* هو شكل قبول واحترام لرأي الآخر.
3ـ حق تقنين إجراء الحوار يسمح للمتحاورين أن يُذّكرون الآخرين بحقوقهم ، على سبيل المثال في حالات عدم الاستعداد لسماع آراء الآخرين. حفظ هذه الحقوق له أهمية فعالة لأنه ينقذ الحوار من الانحرافات والتغيرات والتي ممكن أن يسبب عوامل تاريخية وثقافية أو تمييزات جنسية
[8].

المسيح دافع عن هذه الحقوق
* حرية التعبير عن الرأي (أنظر مت 15:16، يو 34:12)
* الاعتراف بحق الحديث إلى تلاميذه (مت 19: 16ـ30)
* اعتراض المسيح على اللطمة التي قبلها في إطار الحوار (يو 18: 19ـ23)
* الصمت – مغادرة الشاب الغني من الحوار مع المسيح (مت 22:19)
* صمت المسيح أثناء حديثه مع بيلاطس على السؤال الأخير (يو19: 9ـ10)
الحوار في إطار المعرفة المسيحية لا يصير مفهومًا لتبادل آراء وصياغة مواقف من جانب المتحاورين. "الآخرون" المتحاورين يقومون بإجراء شركة حتى ينتهوا إلى "مشاركين" طالما أن المعرفة تؤدي إلى علاقة جديدة
[9].
إن الحوار له أساس وجودي لأنه بواسطته يستطيع الأفراد أن يؤكدون أهميتهم كموجودات بشرية. من هذا المنطلق الحوار له تأثيرات ظاهرة على التلاميذ وأيضًا على إدراكهم بينما في نفس الوقت يُظهر قناعتهم وخصوصيتهم.
على أساس هذا الاعتقاد عندما يحدد أو يعين أو يهدف الحوار إلى تعبير سماع مسئول عندئذ كنتيجة لديه إعلان واكتشاف للمتحاورين . وفي هذه الحالة الله المعلن يُكتشف من جانب الإنسان.
الحوار في تعليم المسيح يبدو أنه يقود إلى تشكيل علاقة حوارية لها بُعدين: الأول: العلاقة بين الله والإنسان، والثاني: بين الإنسان وأخيه والأخير هو شرط لوجود الأول (أنظر ذهبي الفم ، تفسير يوحنا، عظة PG59,191 :82).
ويستطيع المرء بسهولة أن يميز من الحوار :
الأول: حوارات نقدية والثاني: حوارات تعليمية
1- الحوار النقدي
هذا المستوى من الحوارات يظهر في إنجيل مرقس بطريقة مؤثرة في (مر2: 1ـ36)، 11: 27ـ33، 12: 13ـ34) و (مر3: 22ـ30، 7: 1ـ23). ملمح هذا الحوار الأساسي هو أن المسيح يصّد بحسم خصومه، رؤساء اليهود والكتبة والشيوخ ، أعضاء مجمع أورشليم (مر11: 27ـ33، 12: 1ـ12)، الفريسيين والهيروديسين (مر12: 13ـ17)، الصدوقيين (مر12: 18ـ27)، والكتبة (مر 12: 28ـ34).
هذا الشواهد تقدم صورة للمسيح مختلفة تمامًا عن تلك الصورة التي نتجت عن حوارات شبيهة . المسيح يُعلن كمجادل ماهر متجاوب تمامًا على تطلعات الموضوع المثار أو على مستوى تفكير سائليه . لقد تحرك المسيح بسهولة على نفس مستوى خصومه الذين كانوا ينتمون إلى طبقة المفكرين.
الصورة العامة التي شُكلت من خلال الحوارات النقدية هي صورة معلم كفء شجاع يفسر مستندًا على مبررات نقدية التقليد مستخدمًا مصداقية شخصيته القوية.

بـ حوارات تعليميه
الملح الأساسي لهذه الحوارات هو رفض يسوع قبول أفكار المتحاورين معه الذين يريدون أن يجذبوا المسيح إلى معتقداتهم في المواضيع التي يتناقشون فيها معه.
أيضًا ترى المسيح في هذه الحوارات يورط محدثيه بطريقة شخصية عكس ما كانوا يتوقعون إذ تطلعهم أن يورطوه على المستوى الشخصي ، على سبيل المثال في مر10: 17ـ21.
"وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا. ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله. أنت تعرف الوصايا. لا تزن . لا تقتل. لا تسرق. لا تشهد بالزور. لا تسلب أكرم أباك وأمك. فأجاب وقال له يا معلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي. فنظر إليه يسوع وأحبه وقال له يعوزك شيء واحد . أذهب بع كل مالك وأعط للفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب" أيضًا أنظر (مر35:10، 11: 12ـ25) أيضًا مثال آخر في إنجيل لوقا (13: 1ـ3):
"وكان حاضرًا في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم . فأجاب يسوع وقال لهم أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا . كلا أقول لكم . بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" لو13: 1ـ3. (أيضًا أنظر لو20:17ـ21)
أيضًا ملمح آخر في هذا الحوارات هو مقدرة يسوع المعلم أن يعطي قيمة لحدث أو دافع مهمش لكي يُخرِج مثال جريء (إصحاح 11 في انجيل متى) ، من خلال سؤال يمكن أن يقود مستمعيه إلى حيرة شديدة.
الملمح الأخير والهام هي أن في حوارات المسيح التعليمية نجد هدف العمل التربوي المحدد الذي يريد أن يقدمه المسيح لمحاوريه على سبيل
المثال :
1ـ في حواره مع التلاميذ: أنظر مت13:16، "من يقول الناس إني أنا إبن الإنسان" (أيضًا أنظر مت 17: 14، 17: 20)
2ـ مع المقعد قال له في يو14:5: "فلا تخطيء أيضًا لئلا يكون لك أشر
3ـ مع المولود أعمى في يو 9: 1، "أنا هو نور العالم"
4ـ مع السامرية في يو24:4، "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا "
5ـ مع نيقوديموس في يو 3:3 ، "إن كان أحد لا يُولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله"
6ـ مع الكتبة والفريسيين في يو7:8، "من منكم بلا خطية فليرمها بحجر"

مميزات النموذج الحواري في تعليم المسيح
* التعليم يُبنى على خبرة التلميذ ويهدف إلى اكتشاف الحق ، على سبيل المثال في مت 24: 32ـ33، "فمن شجرة التين تعلموا المثل . متى صار غصنها رخصًا وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف قريب. هكذا أنتم أيضًا متى رأيتم هذا كله فأعلموا أنه قريب على الأبواب".
* المعلم يصير معاونًا ويشترك في التفسير والبحث، على سبيل المثال في لو 24: 31ـ33، "فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما. فقال بعضهما لبعض ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب . فقام في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم"
* التلميذ يتعلم منطلقًا من مقدراته الخاصة ويشعر أنه راضي عن نفسه، عندما ينقاد بمساعدة المعلم لكي يكتشف الحق (الحقيقة).
* الحوار يتم في جو الحرية ومساواة ، على سبيل المثال في مت 13:16، "ولما جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيلبس سأل تلاميذه قائلا من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان ...."
* استخدام مفاهيم وكلمات معروفة في الوسط المحيط : قال للتلاميذ الصيادين " أجعلكم صيادي الناس"
* الحوار يُركز في نقطة صراع محورها عندما تذهب المداخلات والمناقشات التي تنتهي وتسبب في تعب المتحاورين ، "أعطوا ما لقيصر وما لله لله" لو 25:20.
* الحوار واضح ومحدد: "ثم قال يسوع أسألكم شيئًا. هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر. تخليص نفس أو إهلاكها" لو9:6.
* الإجابة تُعطى من يسوع المعلم عندما ينقاد التلاميذ إلى اللا مخرج (المأزق) ، غير ذلك يُعطى بواسطتهم هم أنفسهم : "ولما كان وحده سأله الذين حوله مع الأثني عشر عن المثل فقال لهم قد أُعطى لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله. وأما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء" مر10:4
* الحوار يؤّمن مناخ لنمو العلاقات الشخصية : "يا سيد أرى أنك نبي" يو19:4.
* يساهم في خصوبة السائل ونضج الإبن الروحي :"الآن نعلم أنك عالم بكل شيء ولست تحتاج أن يسألك احد ، لهذا نؤمن انك من الله خرجت"
* تفعيل شخصية التلاميذ في مناخ به محفزات تنتج في إطار الحوار (أنظر ذهبي الفم عظة على مزمور PG55,226,MH) هكذا كان الحوار يؤّمن الحرية، حرية العقل والكلمة وكان يدفع الفرد لأن يختار ويُقيم بنفسه الأمور



[1] Marsall,P.J. Dialogical Pedagogy in Teacher Education, Journal of Teacher Education, MayـJun 1994, vol.45, no3, P.172
[2] Kohl, H. Growing Minds on Becoming a Teacher, Harper & Row, N. York, 1984, P.111
[3] Mackie, R. Contributions to the thought of Pavlo Freire, The Continum Publishing Co, N.York. 1981. P.141
[4] Freire, P. Education: The Practice of Freedom, Writers and Readers Publishing Cooperative, London, 1976, P.72
[5] Friere, P. Pedagogy of oppressed, Herder and Herder, N.York, 1970, P.93.
[6] Mclaren, P. Critical Pedagog: Constructing an Arch of social Dreaming and Doorway hope, Journal of Education, 1991, 173 (1), 9ـ34, 21
[7] Kozol, J. The Night is dark and I am far from home, Simon and Schuster, N. York 1990, 71. “Education Takes away from Children”
[8] Mclarem. P. Critical Pedagogy : Journal of Education, 1991, 173 (1), pp.9ـ34.
[9] Νησιςτη, Ν. Ππολεγομενος εις Την θεολογικην γνωσιολογιαν, Αθηναι 1965, σελ.157.
[10] Φραγκοθ Χρ., ψυχο Παιδα γωγικη, Gutenberg, Αθηνα 1984, σ.74
خطية المولود أعمي
د. جورج عوض إبراهيم
نسمع في أحد المولود أعمي سؤال التلاميذ للرب :
" يا معلم مَنْ أخطأ هذا أم أبواه حتي وُلدِ أعمي " يو 9 : 2 كيف إعتبر التلاميذ أن الأعمي يستطيع أن يخطئ قبل ولادته ؟ وكيف نفسر إجابة المسيح بأن " لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه " يو 9 : 3 ؟
ينبغي علينا لكي ندرك مفهوم سؤال التلاميذ أن نعرف الخلفيات التعليمية لهذا السؤال. إن سؤال التلاميذ : " يا معلم مَنْ أخطأ هذا أم أبواه حتي وُلدِ أعمي " يو 9 : 2 ؟ هو سؤال عادي ومتوقع بالنسبة لطريقة التفكير اليهودية, تلك الطريقة التي بمقتضاها كل شيء يُقيّم ويُفهّم بإرتباطه بالناموس الموسوي. الخطية ـ بالنسبة لليهودي ـ هي مخالفة الوصية الناموسية. وهذه الخطية تجلب للمخالف ـ قياساً بمدي حجمها وإتساعها ـ غضب الله وعقابه. إذن التلاميذ وضعوا في حسابهم ـ كأمر مسلم به ـ أن الأعمي أو أبواه قد خالفوا الناموس, وبالتالي أدركوا هذا العمي علي أنه بمثابة عقاب الله بسبب هذه المخالفة. فالتلاميذ ألقوا مسؤلية ما يعاني منه المولود أعمي للمولود أعمي نفسه علي أساس الفكر اليهودي بأن الجنين يمكن أن يخطئ وهو موجود في بطن أمه. كمثال يتعلق بهذا الأمر ما ذُكِر عن عيسو في النصوص الرابونية, بأنه حاول وهو جنين أن يؤذي أخوه التوءم يعقوب. كذلك أيضاً ينسب التلاميذ لأبوي المولود أعمي المسئولية حيث أنه في العهد القديم نجد الأعتقاد بأن عقاب الله يُمكن أن يُنقل من الآباء إلي الأبناء ( حز 20 : 5 : " أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء الجيل الثالث والرابع من مبغضي " [ راجع أيضاً عدد 14 : 18. تث 5 : 9. مز 108: 14. أش 65 : 6 ـ 7 ]. علي الجانب الآخر, فإن حياة الإنسان ـ بحسب العهد القديم ـ ترتبط جوهرياً بقدرة هذا الإنسان علي الرؤية. فالنور يمثل جوهر الحياة. كون أنك لا تري النور يعني أنك ميت, بينما أن تمنح النور يعني أنك مُنحت الحياة. بالتالي, المولود أعمي كان محكوم عليه بأن يعيش حالة الموت المستمرة, طالما يحيا محروماً منذ ولادته من الصلاح الجوهري للحياة, أي النور.
هذا الإنسان المولود أعمي لم يواجه فقط نتائج عماة بل في نفس الوقت عاني من الإحتقار الديني والعُزلة الإجتماعية, لأنه في نظر الجميع هو خاطيء ويحمل فوقه ـ بوضوح ـ علامات الغضب الإلهي والعقاب ولعنة الهجران الإلهي. لأجل هذا قال له الفريسيون : " في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تُعلمنا. فأخرجوه خارجاً " يو 9 : 34 حالة الأعمي كانت صعبة جداً من واقع أنه ليس لديه أي رجاء للشفاء, إذ لم يسجل في العهد القديم حالات شفاء لأعمي منذ الولادة. لأجل هذا يقول هذا الأعمي بعد معجزة الشفاء للمحققين من الفريسيين : " منذ الدهر لم يُسمع أن أحداً فتّح عيني مولود أعمي " ( يو 9 : 32 ). علي النقيض كان موقف مريض بركة جسدا, الذي كان يأمل في أن يأتي أحد لكي يلقيه في البركة عند تحريك المياه ( أنظر يو 5 : 7 ), بينما كان الأعمي لا ينتظر إلا الموت الذي سوف يجده علي هذه الحالة من العمي.
علي الجانب الآخر, أظهر سؤال التلاميذ أنهم أيضاً مصابون بعمي روحي. مناداة الرب بالمعلم أي الرابي يا معلم, أي بلقب محترم لمعلمي الناموس, يظهر أن التلاميذ لم يدركوا بعد أن معلمهم هو هذا الاله ـ الكلمة المتجسد, الذي هو " النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلي العالم " يو 1 : 9. لقد ظلّ التلاميذ عميان أمام سر شخص وعمل الرب المحي. السؤال أظهر عماهم الروحي بوضوح, أيضاً لم يدركوا الأبعاد الحقيقية للخطية والسقوط, لقد واجهوا الخطية ـ كحالة معينة. وإعتبروا نتائجها الوخيمة بأنها نتائج حاسمة وجذرية ولا يمكن تغييرها, إذ لم يتطلعوا لشفائه بواسطة يسوع. قد يكون سؤال التلاميذ نظرياً ـ شيق لاهوتياً, إلا أنه لا يلمس جوهر الأمور. لأنه لم يتركوا ولو هامش صغير للتدخل الإلهي.
الجزء الأول من إجابة يسوع : " لا هذا أخطأ ولا أبواه " أزال التساؤلات. ولكي ندرك جيداً أجابة يسوع ينبغي أن نفهمها خارج المعطيات اليهودية وتحت نور تعاليم العهد الجديد حيث الخطية لا تنحصر في مخالفة محدده للناموس. فالخطية هي ظُلمة يعيش فيها العالم ( أنظر يو 3 : 19 ), هي حالة الموت التي تسود علي الناس بلا إستثناء من بداية سقوط الآباء الأولين, هذه الحالة شوهت الإنسان المخلوق بحسب صورة الله. هكذا عمي إنسان معين منذ الولادة مثله مثل الإنسان الممسوس, أو الأبرص, أو المقعد, أو أي مرض جسدي ونفسي, إشارة إلي سيادة الخطية والموت علي الوجود البشري. الرب لم يرفض في إجابته إرتباط الخطية بالمرض, بل رفض فقط النظرة للخطية علي أنها حالة محددة. فالذي تسبب بالعمي للإنسان ليست خطية بعينها بل السقوط وقوة الخطية التي سادت علي كل الجنس البشري.
الجزء الثاني من إجابة يسوع " لكي تظهر أعمال الله فيه.. " يحتاج إلي إيضاح حيث يبدو من الوهلة الأولي أنه يعني تركيز مفهوم عمي الإنسان في برهان مرئي لقوة الله, وعن حق إذا تسائل أحد قائلاً : هل من الممكن أن يسمح الله بعذاب إنسان فقط لكي يبرهن ـ في لحظة ما ـ قوته ؟ هذه الرؤية بالطبع لا تتجاوب مع الواقع. إن أداة الربط " لكي " لا يجب أن تفسر كأمر نهائي ـ كما يقول ذهبي الفم ـ فالأعمي لم يُولد بهدف أن يُظهر ـ بواسطة شفاءه ـ أعمال الله, بل علي النقيض نتيجة عماه هو ظهور أعمال الله. إن يسوع بإجابته هذه يقدم ذاته كإله حقيقي, إذ يصف عمل شفاء الأعمي كعمل الله.
وبذلك أراد أن يقّوم هكذا الإنطباع الخاطئ للتلاميذ بأنه مجرد معلم حكيم للناموس. إن معلم الناموس ـ كما نعرفه من الكتابات الرابونية ـ في مثل هذا الموقف, ينشغل بتحليل هذه الحالة لكي يعرف مَنْ هو المسئول عن المرض الجسدي للمولود أعمي. لكن يسوع بكونه الاله الحقيقي وبكونه " نور العالم " الحقيقي والفريد [ أنظر يو 8 : 12 : : 90 :5] يتخطي التشوق النظري للسؤال ويتدخل لكي يمنح النور للأعمي وأيضاً الحياة ذاتها. وفي نفس الوقت يمنح يسوع النور لأعين التلاميذ الروحية لكي يدركوا أنه هو كلمة الله المتجسد, وأن عمله هو عمل الله, بمعني عطية الحياة إلي الناس.
علي أساس كل ما ذكرناه فإن المولود أعمي يظل رمز للجنس البشري الساقط الذي خضع لسلطان الخطية والموت, والذي لا يستطيع بمفرده أن يُغير هذه السيادة, والذي ليس لديه ـ أيضاً ـ أي معرفة بوجود إمكانية لحياة تختلف تماماً نوعياً والتي لا تحمله مسئولية شخصية علي ما هو عليه.
المسيح هو بمفرده نور العالم والذي يمكن أن يُبطِل الخطية, وأن يُغير نتائجها الثقيلة علي الإنسان ويفديه ويحرره مِن العمي الروحي والموت مانحاً إياه النور والحياة. وينبغي علي الإنسان أن يدرك قيمة هذه العطية ويقبلها.
القديس ذهبي الفم مفسراً للكتاب المقدس د. جورج عوض ابراهيم
الكتاب المقدس كمصدر هام للتعليم العقيدي.1
تأسس عمل ذهبي الفم كمعلم وواعظ على تفسير الكتاب المقدس. هو يشدد على أن الكتاب المقدس هو مصدر أساسي وهام وتام للتعليم العقيدي والأخلاقي. " هذا الذي يُوجد في إتفاق معه هو مسيحي " " ومَنْ لا يُوجَد في إتفاق معه هو بعيد عن الحق ". دائماً ينصح ذهبي الفم كل إنسان أن يقرأ بيقظة الكتاب المقدس. " لا تنتظروا معلم آخر.... لقد أعطي لكم قول الله ولا أحد آخر سوف يعلمكم إياه ". الشعب خاصةً يحتاج إلي أن يقرأ الكتب المقدسة. " الرهبان الذين إبتعدوا عن المدن هم في موضع آمن لكن نحن الذين نحيا في بحر الرغبات الخاطئة والتَجارب نحتاج هذا الدواء الإلهي حتي نستطيع أن نشفي ذواتنا من السوء. بالكتاب المقدس نستطيع أن نسحق سهام الشرير الملتهبة "
كل ما يحتويه الكتاب المقدس يقدم لنا تعليم وشفاء " داخل أي فقرة صغيرة في الكتاب المقدس نستطيع أن نجد قوة عظيمة وغني لا يُوصف ". الإنسان الذي يقرأ بإهتمام و دائماً الكتاب المقدس يكشف أعماق جديدة وسوف يسمع صوت الله الذي يتحدث بمصداقية لكل نفس بشرية. " وفقط مشاهدة الأناجيل تجعلنا قادرين أن نبتعد عن الخطية ", " ولو أكملنا القراءة بإهتمام عندئذٍ كأن النفس تدخل إلي مكان سرائري ومقدس. تتنقي وتصير أفضل لأن بواسطة هذه النصوص تبدأ الحديث مع الله ".
الكتب المقدسة هي رسالة كُتبت للبشر من الله لكل الدهور, وهذا يشرح النتيجة ( الفاعلية ) التي نستطيع أن نختبرها ونحن نقرأ الكتاب المقدس. عندما الرب الذي يحب الجميع يري كم نحن متأهبون لنعرف أعماق إلوهيته, ينير عقلنا ( ذهننا ) ويكشف ( ويعلن ) لنفوسنا الحق.
يُدرك ذهبي الفم وحي الكتاب المقدس تقريباً بحسب الحرف ( قائمة الأسماء ـ التحيات ـ التواريخ ). لا يحتوي الكتاب المقدس علي شيء زائد أو شيء ليس له هدف, حتي ولو حرف يوتا أو كلمة بسيطة, ودائماً إضافة حرف واحد يمكن أن يغير معناه كما يبدو من إعطاء إسم جديد لإبرام.
يعتبر ذهبي الفم أن الضعف البشري لكُتّاب الكتاب المقدس هو برهان لرأفة الله تجاه البشر وعنايته بهم. حاول أن يكتشف الأهمية الإلهية أيضاً للأخطاء والمتناقضات طالما بحسب فكرة " الإختلافات بين الإنجيلين هي في وعي خطة الله ": " إن إتفق هؤلاء في كل شيء, من جهة الزمن والمكان والكلمات التي قالوها عندئذٍ لا أحد من أعدائهم سوف يؤمن بأنهم كتبوا بدون أن ينصح الواحد الآخر وبدون أن يصلوا مسبقاً إلي إتفاق, أو أن إتفاقهم هو حقيقي وأصيل. الآن هذا الواقع بأن الأناجيل تحتوي علي إختلافات في تفصيلات صغيرة سوف تطيح بكل الشُبهات وتبرر تصديقنا للإنجيليين الذين كتبوها "
الكُتّاب المقدسين كتبوا وتحدثوا " في الروح أو الروح تحدث إليهم لكن ذهبي الفم يميز بيقظة وحي الروح من الأستحواذ منه. الإلهام ( الوحي ) هو إستنارة. الضمير والذهن يظلون في حالة صفاء وهذا الذي يُعلّن له يُدرك تماماً. هذا هو الإختلاف الجوهري بين النبؤة والسحر ولأجل هذا لا يفقد الكّتاب الكنسيين أبداً هويتهم. يشدد ذهبي الفم علي الشخصية الفردية لكل كاتب وظروف الكاتب. هيئة بولس بالأخص هي أمامه بوضوح. كل الكتاب المقدس يمثل وحدة واحدة لأنه أتي كله من الله.الكتّاب هم مجرد
أدوات للكتاب العظيم والفريد.
دراساته الكتابية مع ديودور الطرسوسي:
لقد درس ذهبي الفم أثناء شبابه مع ديودور الطرسوسي وفي مدرسته تشكلت طريقة فهمه للكتاب المقدس وكذلك طريقة شرحه للكتاب.
تحدث ذهبي الفم بإستمرار عن ديودور الطرسوسي بتأثر بالغ معترفاً له بالجميل " لقد عاش ديودور حياة رسولية في الفقر والصلاة وخدمة الكلمة " لسانه يقطر عسلاً ولبناً ", وكان بمثابة بوق وقيثاره. ذهبي الفم كشارح لم يُوجد هكذا مبتدعاً بل تّبع تقليداً ثابتاً محدداً.
يوجد الكثير في تاريخ اللاهوت الأنطاكي ظلّ غامضاً. صارت أنطاكية مركزاً للمسيحية من وقت مبكر لكن نستطيع أن نميز فقط حلقات غير مترابطة في سلسلة تقليدها غير المنقطع. أولاً علينا أن نتذكر ثاؤفيلوس الأنطاكي الذي كان كاتباً هاماً ومفكراً عظيماً. متأخراً نتقابل مع إسم ماليخنيوس الكاهن الذي أسس المدرسة اليونانية ومن ضمن المميزين لبولس السموساطي. هذه هي الفترة التي نشّط فيها المعلم المشهور لوكيانوس. وفي هذا العصر علّم الكاهن دوروثيوس أيضاً في أنطاكية. يوسابيوس الذي سمع تفسير الكتاب المقدس الذي كان يقوم به دوروثيوس في الكنيسة وصفه بأنه إنسان بليغ وخاصةً في اللغة العبرية, فكان يقرأ كتب عبرية بالأضافة إلي ثقافته اليونانية. هكذا يبدو أنه في القرن الثالث كانت أنطاكية أحد المراكز العظيمة للدراسات الكتابية وأن منهج التفسير المعاش قد تشكلّ بالفعل.
كان هناك تحفظ شديد من الأنطاكيون للتفسير الرمزي وخصوصاً إفستاسيوس الأنطاكي الذي بدأ الصراع ضد تلاميذ لوكيانوس
الأريوسيين.
عموماً, الحتمية الدفاعية ضد التعاليم الخاطئة دفعت إلي خلق مدرسة تعليم لاهوتي أنطاكي في القرن الرابع والتي كان يمثلها بالفعل ديودور الطرسوسي هذا إرتبط بلوكيانوس عن طريق تلميذ يوسابيوس إميسيس الذي درّس في إديسا.
ديودوروس كان ناسكاً مدافعاً عن الإرثوذكيسة أولاً ضد الأريوسين ومتأخراً ضد أتباع أبوليناريوس. كتب مواضيع متنوعة لكن كان في الأساس مفسراً. كتب تفسير في الكتب الخمسة الأولي للعهد القديم وفي المزامير وأسفار صمؤئيل وأيضاً في المقاطع الصعبة لأخبار الأيام والجامعة والأنبياء.
من العهد الجديد كتب عن الأناجيل وأعمال الرسل والرسالة الأولي ليوحنا الرسول. لكن بقي من أعماله فقط بعض المقاطع. أيضاً لدينا ورقة صغيرة " عن الثيوريا والرمزية " والتي فيها يشرح مبادئ منهمجة في التفسير.
يميز ديودورس بين التاريخ والثيوريا والرمزية. بحسب إعتقاده, الكتاب المقدس ليس هو عمل مجازي أو مجرد مَثَل. الروايات الكتابية هي حقيقية ومرتبطة بما يُوصف فيها. لأجل هذا علي مفسر الكتاب المقدس أن يكون تاريخي.
التفسير المجازي يبتعد عن الأهمية المباشرة للرواية ويغير الموضوع لأنه يفترض أن المقصود غير المكتوب. الرمزية ينبغي أن تُميز عن الثيوريا التي تعلن الأهمية السامية داخل التاريخ نفسه. الثيوريا لا ترفض الحقيقة التاريخية بل تضعها شرطاً لازماً. هذا هو المنهج الذي إستخدمه بولس الرسول حين شرح النصوص الكتابية.
لقد تجنب ذهبي الفم مبالغات ثيودور وكان الأقرب إلي منهج ديودور. ولا يوجد أدني شك أن ذهبي الفم تأثر بتفسيرات يوسابيوس إميسيس . وفي البداية إستخدم أيضاً نصوص الآباء الكبادوك والذين كانوا أقرب من التقليد الأسكندري

عموماً شرح ذهبي الفم كان شرحاً ريالستيكي, فالحوادث في الكتاب المقدس إما تعلمنا شيئاً أو تتنبأ عن حوادث معينة. التفسير النماذجي يختلف تماماً عن التفسير الرمزي وإعتماد ذهبي الفم في تفسيره للكتاب المقدس كان علي التفسير النماذجي. فالكتب المقدسة لها أهمية دينية لكل مؤمن وكل الأماكن وتنوع القُراء يجب أن يتجاوب مع تنوع المفاهيم الموجودة في الكتاب المقدس.
الكتاب المقدس هو كلمة الله ويحتوي علي عمق أو بُعد ثلاثي. لأجل هذا علي المفسر أن يدخل ويخترق السطح ويمضي أبعد من التفسير الحرفي. فالمستوي الحرفي بحسب رأي ذهبي الفم دائماً ناقص وغير واضح. عندما يتحدث الله إلي إنسان يضع في حسابه ضعف السامع.
هذا هو تفسيره للأوصاف البشرية التي يمنحها الكتاب لله. مثل الأب الذي لا يحفظ كل كرامته حين يتحدث إلي أتباعه. فالمسيح لم يعلن طبيعته الإلهية لنيقوديموس عندما تحدث إليه لأنه هو محتجب بالنسبة له لضعف الشخص الذي يتحدث إليه. لأجل نفس السبب تحدث الرُسل عن المسيح بكونه إنسان متجنبين إعلان الكثير عنه لحين يأتي الوقت المناسب.
كان يستخدم ذهبي الفم دائماً مصطلح " أيقونة " أو " مثال ": لا تنتظروا أن تجدوا حقيقة تامة في الأيقونة. بالحري دققوا في التماثل بين الأيقونة والحقيقة وسمو الحقيقة في العهد الجديد, لأجل هذا فقط إبدءوا بالعهد الجديد وأنتم تستطيعوا أن تتعرفوا علي " الحق " أو أهمية العهد القديم ".الأيقونة لن تكون مختلفة تماماً عن الحقيقة. بل هي تحتوي علي شيئاً من الحقيقة. النماذجية تختلف عن الرمزية, لأن النماذجية تشرح حوادث ووقائع وليست كلمات. فالرمزية تري فقط في الكتاب المقدس أمثلة أو رموز.
بالنسبة للرمزية في العهد القديم والعهد الجديد هما نظامين للتفسير أو عالمين وليسا مستويين في تدبير التاريخ. منهجهما لا يتأسس علي حوادث تاريخية. المفسر التاريخي لا يهدف إلي تغيير الكتاب المقدس إلي تاريخ للعالم. عمل الكتاب المقدس هو كتاب عن الماسيا
والخريستيولوجية والعهد القديم هو تصور مسبق ونبؤة للمستقبل.
ولا أحد ينكر أن في تفسير ذهبي الفم توجد رمزية محددة بدرجة ما
. لكن الرموز ليست هي الكلمات بل الحوادث. هكذا ذبيحة إسحق تعلن الصليب, وحمل العهد القديم يصور مسبقاً المسيح.
وهجرة الشعب الإسرائيلي إلي مصر والخروج هما صورة مسبقة للجوء يوسف إلي مصر ورجوعه بعد ذلك إلي فلسطين.
حاوّل ذهبي الفم أن يستخلص مفهوم الكتاب المقدس من الكتاب المقدس نفسه ولجؤه إلي التقليد كان في أضيق الحدود. كل من آباء إسكندرية وأنطاكية حاولوا أن يفسروا ويشرحوا الأهمية الداخلية للكتاب المقدس. الإختلاف بينهما منحصر في المنهج ولم يمتد إلي الهدف.

عظة 37 يو: 6 ـ 8 " شفاء المخلع ": الكتاب المقدس كنز من الأدوية.
" إن ربحنا من الكتب المقدسة هو ربح عظيم, وفائدتها لنا كبيرة. وهذا ما أراد أن يظهره بولس حين قال " لأن كل ما سبق فكُتب, كُتب لأجل تعلمنا حتي بالصبر و التعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء "( رو 5ـ4:1 ).
فالكتب المقدسة هي كنز من الأدوية, بحيث لو إحتاج أحد أن ينزع الغيرة والحسد, أو أن يخمد الشهوة ويدوس علي حب المال و يحتقر الألم, ويهيئ نفسه ويتحلي بالصبر ويتزين بالفرح, فإنه سيجد في الكتب المقدسة علاجاً عظيماً لكل هذه "
[2]



العظة الأولي للقديس يوحنا ذهبي علي مثل " لعازر والرجل الغني "
" يجب عليكم أن تعلموا هذا أيضاً, أن الإنجيليين الأربعة سجلوا كلهم بعض أقوال المسيح, إلا أن كل واحد منهم أختار أقوالاً أخري ليسجلها أيضاً. لماذا ؟ لكي يجعلنا نقرأ الأناجيل الأخري, ولكي يجعلنا ندرك عظمة هذا الإتفاق بينهما.
فإذا ذكرت الأناجيل الأربعة كل شيء, لما إنتبهنا بتدقيق إلي كل واحد منها, لأن أحدها كان يكفي لنعرف منه كل شيء. وفي نفس الوقت إذا كان كل ما ورد يختلف من إنجيل لآخر, لما رأينا إتفاقها العجيب. لأجل ذلك ذكرت الأناجيل الأربعة جميعها أموراً كثيرة مشتركة, إلا أن كل إنجيل إختار بعض الموضوعات لينفرد بذكرها
[3]"

القديس ذهبي الفم مفسراً للكتاب المقدس

يأتي التفسير في المقام الأول ـ بحسب ذهبي الفم ـ في خدمة الكرازة بالمسيحية. وقد قادة إهتمامة كراعِ إلي تطوير مذهب تاريخي صارم لثيودور بينما يحفظ في نفس الوقت الأساس التاريخي لليثوريا. وإذا كان يوقر الكتاب المقدس " كعلاج إلهي " يشفي أسقام النفس والموت فقد سعي القديس يوحنا ذهبي الفم بغيرة وإيمان راسخ عميق إلي كشف " المعني الإلهي " للكتاب المقدس والكرازة به. وفي تفسيره للمزامير (4:9) يميز ذهبي الفم بين ثلاثة أنواع من العبارات الكتابية: تلك التي تمثل فقط رموزاً أو صوراً وتكشف عن معني تأملي أو روحي, وتلك التي تملك فقط معني حرفياً وتلك التي تُعتبر من النصوص الرمزية الأصلية حيث يأتي المعني الإلهي في التعبير عن حدث تاريخي ( ثيوريا حقيقية ).
كمثال للنوع الأول, والذي يقر فقط بتفسير رمزي فإنه يقوم أمثال 19:5 " إفرح بأمرأة شبابك. الظُبية المحبوبة والوعلة الزهية ". من بين تلك النصوص التي يمكن تفسيرها حرفياً فإنه يأتي بتأكيد سفر التكوين 1:1 في البدء خلق الله السموات والأرض ". إن العبارات العقائدية من هذا النوع لو فُسرت تفسيراً مجازياً لأنتزعنا منها قوتها. أخيراً فإن يو 14:3يعطينا مثالاً للرمزية الأصلية: " كَما رفع موسي الحية في البرية, هكذا ينبغي أن يُرفع إبن الإنسان...." في هذا النص
يقول أن المفسر يلزم أن يري كلاً من حدث قد وقع فعلاً ورمزاً يشير إلي المسيح نفسه.
وفي عظته عن التوبة (4:6) يميز ذهبي الفم أيضاً بين النبوات الرمزية والفعلية. فالرمزية المعبر عنها بالحقائق أو الأشياء وتساعد علي فتح عيون الجاهل, بينما الفعلية تنير بصيرة العارفين بالأمور الروحية. وكمثال علي نبوة فعلية أش 7:53 حيث يرمز إلي المسيح ك" حمل يُساق إلي الذبح ". والمسيح أيضاً هو موضوع نبوة رمزية مثل ذلك الكبش الذي قدمه إبراهيم عِوض عن إبنه الوحيد.
ويقول ذهبي الفم أن هذه الذبيحة " كانت رمزاً للواحد الذي به خلصنا يسوع المسيح"
ويعمق القديس ذهبي الفم من مفهوم الليثوريا ليس فقط, كطريقة تفسير ولكن مثلما فعل ثيودور وديودور كإدراك موحي به أو تأمل ملهم لحقائق سماوية مستعلنة. وفي عظته عن " عدم إمكانية إدراك الله " مثلاً يكشف عن البُعد النسكي للنبؤة الأصلية. وبعد أن صام ثلاثة أسابيع إختبر دانيال رؤيا خاصة, حين كانت نفسه أكثر موائمة وأفضل إستعداداً لقبول مثل هذه الرؤية, إذ صار بالصوم أكثر خفة وأعمق روحانية. ومثل هذه المصطلحات الهللينية وهي المفردات متأصلة في الفكر الأفلاطوني يبدو أنها تضع ذهبي الفم مع السكندريين في تفسيرهم السري المجازي للكتاب. وفي الحقيقة, فإنها فقط تؤكد علي الملمح التأملي الأساسي لليثوريا. وأيضاً, وهو يتحدث عن رؤية ما موهوبة لحزقيال النبي. وحينما يعطي الله مثل هذا الأعلان لعبيده,
يقول ذهبي الفم فإنه يقودهم إلي مواضع الهدوء والسكينة, حتي إذا ما بقيت نفوسهم لا يزعجها شيء من المناظرات أو الضوضاء تسكن بشكل فريد في الرؤية الإلهية. وعن هذه الرؤية " الثيوريا " المتوافقة مع النبي نجد هناك التفسير الرمزي ( التبولوجي ) للرسل والمفسرين اللاحقين الذين يرون في النبوات الصورة المخبأة ليسوع المسيح.
إن القديس يوحنا ذهبي الفم كان يحمل شهادة بليغة لهذا البُعد السري النسكي لليثوريا التي هي ضرورية لشرح حقيقي أصيل للمعني الروحي للكتاب المقدس.
هناك ثلاثة أبعاد واضحة في تفسير القديس ذهبي الفم للكتاب المقدس, البُعد الأول تاريخي, والثاني عقيدي والبُعد الثالث روحي و
أخلاقي.
والآن نتعرف علي هذه الأبعاد من خلال أعماله التفسيرية.
البُعد التاريخي في تفسير ذهبي الفم:
يو4 السامرية نموذجاً
يشرح ذهبي الفم قصة مدينة السامرية:
" قد يكون من المفيد هنا أن نذكر من أين إنحدر السامريون, ولماذا تُدعي كل هذه المنطقة بالسامرة, ومن أين أخذوا هذا الأسم ؟ "
[4]

البُعد العقيدي:
" إن التشديد علي حقيقة تجسده وميلاده الحقيقي هو أساس تعليم الكنيسة, وهذه الحقيقة تمثل رأس خلاصنا الذي من خلاله ( التجسد ) يصير الكل ويكتمل. لأن الموت قد أُبطل والخطية غُفرت, واللعنة زالت, وخيرات غير محددة إستُجدت في حياتنا عن طريق التجسد. لقد أراد المسيح أن يصّدق الناس أن ميلاده بالجسد هو أصل ومنبع الخيرات التي لا تحصي. وهو إن إهتم أن يُظهر الطبيعة البشرية, لم يدع الطبيعة الإلهية في الظلال
[5]
الإيمان يسبق التفسير أو أساس التفسير
" أيها الأحباء, نحن دائماً في إحتياج للإيمان, لأن الأيمان هو مصدر الخيرات ودواء الخلاص. بدونه لا نستطيع أن نفهم التعاليم الإيمانية.
إن من يشرعون في عبور البحر بدون سفينة, يستطيعون السباحة قليلاً مستخدمين الأيدي و الأرجل, لكن بعدما يتقدمون بعيداُ سرعان ما يغوصون في الأعماق بسبب الأمواج, هكذا أولئك الذين, قبل أن يتعلموا شيئاً ـ يستخدمون تأملاتهم الخاصة, إنهم هؤلاء الذين قال لهم بزلس " ينكسر بهم السفينة من جهة الأيمان "
[6]
البُعد الأخلاقي والروحي:
" لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلي المدينة ليبتاعوا طعاماً " يو 8:4
يُعلق ذهبي الفم علي هذا الأمر, قائلاً:
" لعلك إنتبهت إلي أنهم لم يُحضروا معهم شيئاً, ولا حتي إهتموا أن يجهزوا منذ الصباح الباكر, لكنهم إشتروا طعاماً في حينه, فهم لم يفعلوا مثلما نفعل نحن, الذين بمجرد أن نستيقظ من النوم ـ قبل أي شيء ـ ننادي علي الطباخين وخُدام الموائد ونخبرهم بطلباتنا بإهتمام عظيم, وبعد ذلك نهتم بالأمور الأخري معتبرين أن المأكولات, هي أكثر أهمية من الأمور الروحية, و مفضلين عليها الأشياء التي كان يجب أن تكون هامشية في حياتنا. لذلك تسود الفوضي و تنقلب كل الأمور رأساً علي عقب. علي النقيض من ذلك, كان يجب أن نهتم بالأمور الروحية, ثم بعد ذلك ننشغل بأمور معيشتنا "
[7]

البُعد الروحي و الرمزي عند ذهبي الفم:

عندما يشرح ذهبي الفم الأصحاح الرابع من يوحنا حيث تقابل المسيح مع السامرية, كذلك حواره مع التلاميذ حين رأوه يتحدث معها, يتبنيّ ذهبي الفم التفسير الروحي و الرمزي بكل وضوح خاصةً في عدد33, 34 : " "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم. فقال التلاميذ بعضهم لبعض ألعل أحداً أتاه بشيء ليأكل " ( يو 33:4 ـ34 )
يقول ذهبي الفم الأتي:
" وهنا يثور التساؤل: لماذا إذن نستغرب أن تظن المرأة أنه كان يتحدث معها عن الماء العادي عندما سمعته يتكلم عن الماء ؟ فها هم التلاميذ, حدث منهم نفس الشيء, ولم يفهموا شيئاً روحياً, بل كانوا متحيرين, وبالرغم من أنهم يعاملون معلمهم بإحترام وتقدير إلاّ أنهم لم يجرؤوا أن يسألوه ؟ وكان هذا الأمر قد تكرر أكثر من مرة. ماذا أجاب يسوع ؟ " طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله " ( يو 34:4 ). إنه يدعو خلاص البشرية طعاماً, مظهراً كم هو مستعد للعناية بنا, لأنه كما يعتني يطعامنا هكذا يعتني بخلاصنا.
أسمع إذن. ما هي الطريقة التي يكشف بها المسيح كل شيء ؟ ليس مباشرةً, لكن أولاً يثير حيرة السامع ليُشد إنتباهه بالأكثر حتي يبدأ في البحث عن معني ما قيل, و من ثم, عندما تنتابه الشكوك ويتعب, حينئذٍ يقبل شرح ما يبحث فيه, بإستعدادٍ أكبر. لماذا لم يقل مباشرةً " طعامي أن أعمل مشيئة أبي ", وبالرغم من أن الكلام هنا ليس واضحاً بشكلٍ كافِ, لكنه علي أية حال أكثر وضوحاً مما قاله سابقاً ؟ لأنه كما قلت أراد أن يكونوا أكثر يقظة عن طريق الحيرة والشك, ولكي يعودهم أن يسمعوا أقواله الرمزية هذه."
[8]
ويشرح ذهبي الفم بوضوح منهج المسيح في حديثه مع التلاميذ عندما يصل إلي عدد35 : "أما تقولون إنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد. ها أنا أقول لكم إرفعوا أعينكم وأنظروا الحقول إنها قد أبيضت للحصاد " ويُعلق ذهبي الفم قائلاً :
ها هو أيضاً يرفع ذهن التلاميذ إلي الأمور السامية عن طريق الكلام المألوف في الحياة اليومية. بكلمة "طعامي" لا يعني شيئاً إلاّ خلاص البشرية الذي سيتممه. كذلك كلمتي "الحقل" و " الحصاد ", يعنيان جمع النفوس المهيّأة لقبول الكرازة.
وبكلمة "عيون" يعني أيضاً عيون الروح والجسد. لأن التلاميذ رأوا بالفعل جمع السامريين الذين أتوا. وأمّا إستعداد إرادة أولئك, فيدعوها " حقول قد أبيضت ". لأنه كما تَبيّض سنابل القمح, وتكون جاهزة للحصاد, هكذا أيضاً السامريون, هم الآن جاهزون, وهم بمثابة باكورة للخلاص.
لكن, لماذا لم يقُل بوضوح ها إن الناس يأتون لقبول الإيمان, وها هم مهيئون لقبول الكلمة, طالما هم بالفعل قد قبلوا تعليم الأنبياء, وجاء وقت عطاء الثمر ؟ لماذا يُصر علي أن يدعوهم حقولاً وحصاداً ؟ ماذا يقول المفسرون في هذا ؟
لا يقتصر الأمر علي حالتنا هذه, لكن كثيراً ما نجد هذا في كل الإنجيل. ففي كثيرٍ من الأحيان يأخذ الأنبياء في الحديث بأقوال رمزية علي قدر كبير من الأهمية, فما هو السبب وراء ذلك ؟ نري أن هناك سببين:
الأول: لأن الرمزية تجعل الكلمة أكثر قوة وأبعد مديً, لأن الفكر يحمل صورة الأشياء المشار إليها, فتبدو وكأنها تتحرك بالأكثر و بالتالي تأسر العقل بأكثر سهولة, كأن أحداً يري الحقائق مرسومة أمامه. هذا هو السبب الأول.
السبب الثاني: هو أنه بهذه الطريقة يصير السرد مبهجاً بالأكثر و يجعل حضوره في الذهن أكثر ديمومة. لأن مجرد الإرادة لا تقنع السامعين. و تبهر عقولهم مثلما يفعل ذلك وصف تلك الأمور كما رأيناها هنا. وهذا الأمر يمكن للمرء أن يراه إذا إستخدم الأمثال ـ بحكمةٍ في توضيح فكرته"
[9]
أهمية الأستمرار في قراءة الكتاب المقدس:
يشدد ذهبي الفم علي أهمية قراءة الكتاب المقدس بإستمرار, وذلك في عظته الثالثة علي مثل " لعاذر والرجل الغني ", إذ يقول:
كما أنني أيضاً أتوسل إليكم دائماً, ولا أكف عن التوسل, ليس فقط لتنتبهوا إلي ما أقوله هنا, إنما أيضاً لكي تواصلوا بإستمرار قراءة الأسفار الإلهية عند عودتكم إلي منازلكم. و عندما كنت أجلس مع كل منكم علي إنفراد, لم أكن أكف عن إعطائكم نفس النصيحة. أرجو أن لا يتفوه أحدكم بتلك الكلمات الفارغة التي تستحق أعظم توبيخ: "أنا لا أستطيع أن اترك دار القضاء, أنا أدير شئون المدينة, أنا أمارس حرفة معينة, أنا عندي زوجة, أنا أربي أطفالاً, أنا مسئول عن البيت, أنا من أهل العالم, إن قراءة الأسفار الإلهية لا تناسبني, إنما هي عمل الذين إعتزلوا العالم, الذين سكنوا قمم الجبال, يستمرون في عزلتهم علي الدوام". ماذا تقول يا رجل ؟ إن الأهتمام بقراءة الإنجيل لا يلائمك, لأنك مُحاط بالمشغوليات من كل ناحية ؟ بل بالحري إن إحتياجك إلي معونة الأسفار الإلهية يفوق إحتياجهم إليها. إن الرهبان, الذين تحرروا من جلبة السوق والأزعاج وبنوا أكواخهم في الصحراء, الذين ليست لهم معاملات مع أي إنسان, إنما يماريون حياة النسك بدون خوف في سكون تلك الحياة الهادئة, و كأنهم رسوا في الميناء, يتمتعون بحصانة عظيمة, أما نحن, وكأن الأمواج تتقاذفنا في عرض البحر, و تتجاذبنا خطايا عديدة, نحتاج علي الدوام إلي المعونة المستمرة التي نستمدها من الكتاب المقدس. هؤلاء ( أي الرهبان ) رسوا بعيداً عن أرض المعركة, ولذلك فأن الطعنات لا تصيبهم بكثرة, أما أنت فتقف بأستمرار علي الجبهة, وتتلقي الضربات بدون إنقطاع. لذلك فأنت في حاجة إلي أدوية أكثر. إن زوجتك تغيظك, مثلاً, وإبنك يحزنك, وخادمك يغضبك, وعدوّك يدبر الخطط ضدك, وصديقك يحسدك, وجارك يلعنك, والجندي رفيقك يضايقك, وكثيراً ما تهددك المحكمة, ويزعجك الفقر, ويحزنك ضياع ممتلكاتك, والرخاء يجعلك تتكبر وتنتفخ, وسوء الحظ يجعلك تكتئب, وكم من أسباب كثيرة والتزامات تدفعك إلي الأحباط والأسي, أو إلي الوهم واليأس, وكم من قذائف لا حصر لها تسقط نحوك من كل ناحية. لأجل كل ذلك, فنحن في إحتياج مستمر للتسلح بالكامل بأسلحة الكتاب المقدس. إذ لاحظ أنه مكتوب, إنك تسير وسط الفخاخ وتمشي علي أسوار المدينة ( قارن سيراخ 13:9 ) فمثلاً, إن شهوات الجسد تهاجم بشراسة أعظم الذين يعيشون وسط العالم: الوجه الجميل, والجسم الرائع يبهر أعيننا, الجملة القبيحة تخترق آذاننا فتربك ذهننا, وكثيراً ما تضعف الأغنية المبتذلة إحتشام نفوسنا. ولكم لماذا أقول كل الكلام ؟ في حين أن مجرد رائحة عطر إحدي الخاطئات وهي تمر بجانبنا تأسرنا في الحال, وهذه تعتبر هجمة من أخف الهجمات التي تواجهنا. كما أن هناك أشياء أخري كثيرة مثل هذه تحاصر أنفسنا. فنحن نحتاج إلي الأدوية والعلاجات الإلهية لنشفي الجراحات التي أصابتنا, ولكي تحمينا وتحرسنا من الجراحات التي لم تصبنا بعد ولكنها سوف تصيبنا. يجب علينا أن نطفئ تماماً سهام إبليس و نطردها بإستمرار بقراءة الأسفار الإلهية. إذ يستحيل, يستحيل علي إنسان أن يخلص بدون الاستفادة المستمرة من المطالعات الروحية. ففي الحقيقة, يجب أن نكون مقتنعيين بصعوبة الجهاد لنوال الخلاص, حتي بالرغم من الاستعمال المستمر لهذا الدواء. ولكن إذا كنا نتلقي الضربات كل يوم ونحن لا نستخدم أي علاج أو وقاية طبية, فأي رجاء لنا في الخلاص؟

[ يستمر القديس يوحنا في مدح قراءة الأسفار الإلهية ]
قراءة الأسفار الإلهية هي وسيلة ضمان عظيمة ضد الخطيئة أما الجهل بالأسفار فهو منحدر خطير وهوة عميقة جداً, عدم معرفة القوانين الإلهية هو خيانة عظمي للخلاص. هذا الجهل ولّدَ الهرطقات, وأدخل حياة فاسدة, وقلب الأمور رأساً علي عقب. إذ يستحيل, يستحيل علي أي إنسان أن لا ينال فائدة إذا هو قرأ بإستمرار وبأنتباه. أنظروا: أية معونة نلناها من مثل واحد! وأي تحسن أدخله علي نفوسنا ! أنا متأكد أن كثيرين إنصرفوا وقد نالوا منفعة عظمي ودائمة من الأستماع, ولكن إذا وجد البعض لم يجنوا هذه الثمار, فمع ذلك لا بد وأنهم في اليوم الواحد الذي إستمعوا فيه, قد تحسنت أحوالهم بكل تأكيد. أنه أمر لا يُستهان به أن تقضي يوماً واحداً في الندم علي الخطيئة, وفي النظر إلي الفلسفة السمائية, وأن تعطي نفسك بعض الراحة علي الأقل من إهتمامات العالم. وإذا فعلنا هكذا في خدمة دون أن يفوتنا أي شيء سوف يحقق الاستماع المستمر صلاحاً عظيماً جداً في داخلنا."
[10]





[1] عن جورج مكورفسكي, آباء القرن الرابع, مجلد4 باللغة اليونانية
[2] القديس يوحنا ذهبي الفم, المخلع, ترجمة عن اليونانية د. جورج عوض إبراهيم مراجعة د. نصحي عبد الشهيد, مارس 2006 ص18
[3] الغني و الفقير عظات يوحنا ذهبي الفم ـ ترجمة نيافة الأنبا سارافيم أسقف الإسماعيلية وتوابعها, الناشر: مكتبة مارجرجس شيكولاني شبرا مصر, دار نوبار للطباعة 2005م, ص19
[4] القديس يوحنا ذهبي الفم, السامرية, ترجمة د جورج عوض إبراهيم, مراجعة د. نصحي عبد الشهيد مارس 2006 ص8
[5] السامرية, المرجع السلبق, ص8
[6] ذهبي الفم, السامرية، المرجع السابق, ص38
[7] القديس ذهبي الفم, السامرية, المرجع السابق, ص14
[8] السامرية, المرجع السابق, ص35,52
[9] السامرية, المرجع السابق,ص54,53
[10] الغنى والفقير, مجموعة عظات للقديس ذهبي الفم عن مثل الغني لعاذر ( لو 16 : 19ـ 31 ), ترجمة نيافة الأنبا سارافيم أسقف الأسماعيليه وتوابعها, ص59,57

الأحد، 29 أغسطس 2010

المصالحة في الإطار المسكونى
ودور الكنائس الشرقية فيها
د. جورج عوض ابراهيم
مفهوم المصالحة

إن مصطلح مصالحة في اللغة اليونانية هو καταλαγη]
[1] ويتكون من:allag») + (kataأى التغيير التام أو الكامل.
والتغيير في هذا السياق يعنى التجديد, خليقة جديدة (2كو17:5)، هذا التجديد كمنهج جديد للوجود يقوم على علاقة جديدة للإنسان مع الله، ومع ذاته، ومع أخيه الإنسان وأيضًا مع كل الخليقة. فالمصالحة هى طريقة الوجود الجديدة التي يمنحها لنا الله، وفي الرسالة إلى تيطس نجد توضيح موجز لمحتوى هذه المصالحة: " لأننا كُنا نحن أيضًا قبلاً أغبياء غير طائعين ضالين مُستعبدين لشهوات ولذات مختلفة عائشين في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف الله وإحسانه خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلّصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية " (تيطس 3:3ـ7).
أن التجديد يأتى من الله لأن " الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح " (2كو18:5). إذ أن " الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو19:5).
هكذا فإن " فاعل " المصالحة هو الله و" موضوع " المصالحة هو الإنسان الخاطئ. فالرسول بولس هنا لم يقل أن الله قد صُلح مع الخاطئ أو أن المسيح صالح الله معنا أو أن الله صالح نفسه معنا، لكن قال إن الله قد صالحنا لنفسه، صالح مع نفسه كل العداوة التي للبشرية (2كو18:5 وما بعده). ومن جانبه فإن الله نفسه قد أبطل عداوة الإنسان الخاطئ بالصليب، ووضعه في علاقة صحيحة معه، في حالة " سلام " كما ذُكر في (رو1:5). المصالحة تعنى إبطال العلاقة السلبية مع الله والتي أعاقت وجود الخاطئ أمام الله. فالله لم يتصالح مع الإنسان بل العكس الإنسان تصالح مع الله. المصالحة هى عطية الله ومصدرًا للحياة الجديدة: " إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا. ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة. أى أن الله كان في المسيح مُصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو17:5ـ19). فالإنسان مدعو لأن يرد إيجابيًا على نداء المصالحة: " تصالحوا مع الله " (2كو21:5)، وأن يشترك أيضًا مع الله في بناء ملكوته: " فإننا نحن عاملان مع الله " (1كو9:3، كو11:4، 3يو8)، ويتصرف تجاه العالم كإنسان جديد خلاق ويمارس خدمة المصالحة.
المصالحة هى عطية الله المُغيرة للإنسان التي تدفعه في مسيرة الحياة الجديدة. في هذه الحياة الجديدة يكون الروح القدس بمثابة قوة وديناميكية هذا التغيير: " ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآه نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح " (2كو18:3). التغيير هنا هو حدث دينامي وليس استاتي، إنه حدث مستمر " تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة " (رو2:12). عندئذٍ نكتشف أن المصالحة الأصيلة تقودنا إلى قبول الآخر: " حيث ليس يونانى ويهودى، ختان وغرلة بربرى وسكثينى عبد حر بل المسيح الكل وفي الكل " (كو11:3) " ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعًا واحد في المسح يسوع " (غلا28:3).
ولقد لخص الرسول بولس في النشيد الخريستولوجى لرسالته إلى أهل كولوسى (15:1ـ20) الرؤية الصحيحة للكنيسة والعالم في إطار المصالحة قائلاً: " الذي (المسيح) هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شئ وفيه يقوم الكل. وهو رأس الجسد الكنيسة. الذي هو البداءة بكر من الأموات لكى يكون هو متقدمًا في كل شئ. لأنه فيه سُر أن يحل كل الملء. وأن يُصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السموات ".
الكنيسة هنا تحتضن كل الخليقة، وأوشية السلام في الطقس القبطى تعبر بوضوح عن هذه الحقيقة. يقول الشماس: صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله.
يقول الشعب: يا رب ارحم.
يقول الكاهن: هذه الكائنة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها. ومن هنا نستطيع أن نُعرّف مصطلح المسكونية على أنه ليس مرادف للعالمية universal بل مرادف لمصطلح الكنيسة الجامعة kaqolik» Ekklhs…a .
إن أول مَن وصف الكنيسة " بالكاثوليكية " هو القديس اغناطيوس الانطاكى. والمصطلح يتكون من مقطعين olo + k£qe " كاث، أولو " أى الكل معًا في وحدة، وقد ذكرها اغناطيوس في رسالته إلى " سميرنا ". وهذه الكلمة مستخدمة في الليتورجيات الشرقية كما رأينا في أوشية السلام حسب الطقس القبطى: " صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة (الكاثوليكية) الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله ". والمؤمن الكاثوليكى هو الذي يجتمع مع اخوته في سر الإفخارستيا، سر الوحدة والشركة، لذا يؤكد القديس اغناطيوس في رسالته إلى فيلادلفيا 1:4 على أن اشتراك المؤمنيين في إفخارستيا واحدة " لأنه ليس لربنا سوى جسد واحد، وكأس واحدة توحدنا بدمه، ومذبح واحد، وأسقف واحد مع القساوسة والشمامسة … ". هكذا تتحقق الوحدة في الافخارستيا. هذه الوحدة هى وحدة في العمل والصلاة والفكر لذا ينصحنا القديس اغناطيوس : " لا تحاولوا أن تدعموا بالبرهان ما تنفردون بعمله بل اعملوا عملكم حسب الشركة وهى صلاة واحدة .. فكر واحد .. هذا هو يسوع المسيح " (مغنسيا 1:7). علينا إذن أن نتمسك بالسلوك الذي يؤدى إلى الوحدة لكى تتحقق كاثوليكية الكنيسة. هكذا فالمسكونية أو الكاثوليكية لها محتوى وجودى روحى وليس جغرافى بالنسبة للكنيسة. من أجل هذا نجد في رسائل اغناطيوس التأكيد على الوحدة الروحية للكنيسة والتي تتمثل في وحدة الأسقف والشعب " حيثما يكون الأسقف فهناك يجب أن تكون الجماعة (أى الكنيسة) " (أزمير 2:8) ووجود الأسقف يعنى عدم وجود انقسام ووجود المسيح معناه وجود الوحدة " لازموا الأسقف ملازمة المسيح لأبيه " (أزمير 1:8). أن وحدة الكنيسة الروحية تحفظ العالم من الفساد: "لا تجعلوا شيئًا يفرق بينكم بل اتحدوا بالأسقف والرؤساء كمثال ودرس لعدم الفساد" (مغنسيا 2:6). فالكنيسة الكاثوليكية هى الكنيسة الكائنة في المسكونة (إيرينيوس، ضد الهرطقات 10:1). هنا الكنيسة ليست عالمية بالمعنى الجغرافى ولكن هى "جسد المسيح" لا رأس لها سوى المسيح، إذ أن كاثوليكيتها تأتى من المسيح الذي " يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد " (يو52:11). وهذا ما شرحه اغناطيوس عندما قال: " اجتمعوا في هيكل واحد لله، حول مذبح واحد، في يسوع المسيح الوحيد، الذي خرج من آب واحد، وكان معه واحدًا، وإليه عاد وهو واحد " (مغنسيا2:7).

ركائز المصالحة
1 ـ ملكوت الله:
تتبنى الكنيسة القضية الأساسية التي جاهد المسيح لأجلها طوال فترة نشاطه العلنى: " ينبغى لى أن أبشر أيضًا بملكوت الله لأنى لهذا قد أرسلت " (لو43:4).
أن ملكوت الله يمثل الركيزة الأولى لخدمة المصالحة، إنه الأمر الضرورى والهام: إنه الكنز الثمين (مر44:3)، واللؤلؤة كثيرة الثمن (مر45:3ـ46) التي يجب أن نكتسبها مزدرين بأى حب شهوانى وأى أطماع مادية وتطلعات طبقية. فليتراجع كل شئ أمام الهدف والمقصد الأسمى وهو ملكوت الله وهذا هو سر تسمية المسيح للملكوت بأنه الكنز الثمين واللؤلؤة كثيرة الثمن. والمسيح نفسه حدد طبيعة وجوهر الملكوت في مجمع الناصرة عندما دُفع إليه سفر إشعياء: " روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى المأسورين بالاطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية .. اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم " (إش1:61، لو18:4ـ19).
هكذا تنادى الكنيسة بأن المسيح هو المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء (لو23:10ـ24). والفادى المحرر الذي تطلعت إليه البشرية. وتعمل الكنيسة عمل المسيح بتحرير الإنسان من سلطان إبليس وتفعيل فداء المسيح الذي تممه من أجل الفقراء والمسجونين والمقهورين والمظلومين. هذه الرسالة بالنسبة للكنيسة هى رسالة مسكونية وتمثل هدف تلتف حوله الكنائس، وهذا ما عبرت عنه اللجنة المشتركة للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية
[2]:
يجب أن نفكر سويًا في أفضل وسيلة لتنسيق خططنا الحالية من أجل النهوض بمشروعاتنا الإنسانية في المجال الاجتماعى القومى لشعوبنا وللعالم أجمع. وهذا يتضمن مواجهتنا المشتركة لتلك المشاكل مثل:
أ ـ الجوع والفقر
ب ـ المرض والمعاناة
ج ـ التفرقة السياسية والدينية والاجتماعية
د ـ لاجئ وضحايا الحرب
هـ الشباب والمخدات والبطالة
و ـ المعوقين بدنيًا وعقليًا
ى ـ المسنين
إن نمو الملكوت هو في الأساس عمل الله، ولكنه يتطلب من جهة أخرى مشاركة الإنسان. وبناء الملكوت سوف يلاقى متاعب ومعطلات وردود أفعال مضادة وهذا ما نفهمه من مثل الزارع (مر1:4ـ20) لكن المسيح في هذا المثل يؤكد على أنه بالرغم من وجود هذه القوات المضادة لملكوت الله فإنه سوف يصل إلى كماله كما وُصف في سفر الرؤيا: " ثم رأيت سماء جديدة وأرض جديدة والموت لا يكون في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت " (رؤ1:21ـ4). بالطبع تَكَّمُلْ وكمال ملكوت الله هو قضية اسخاتولوجية تمامًا أى في الدهر الآتى. هكذا تهدف خدمة المصالحة إلى تدمير القوات الشيطانية تحت أشكال القهر والظلم والمرض والجهل والضعف التي تلتصق بالإنسان والمسببة لكل الآفات الاجتماعية، أيضًا تهدف المصالحة إلى تأسيس وبناء عالم جديد يسوده العدل والحياة الفُضلى. هذا العالم الجديد قد بدأ في التحقيق بمجىء المسيح نفسه وكماله وهذه قضية أخروية، أى تتم وتكمل داخل إطار الحياة الأبدية.

2 ـ المحبة:
المحبة هى الوصية العظمى للناموس بحسب رأى المسيح: " فقال له يسوع تحت الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك؛ بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء " (مت37:22ـ40). لقد أخبرنا القديس يوحنا الإنجيلى أن المسيح قبل آلامه اعتبر وصية المحبة ليست فقط وصية جديدة بل ملمح أساسى للمسيحى: " وصية جديدة أنا أعطيتكم أن تحبوا بعضكم بعضًا بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي أن كان لكم حب بعضنا لبعض " (يو34:13ـ35). هذا ما أكده قداسة البابا شنودة الثالث في كلمته في مؤتمر اللاهوتيين بالمقر البابوى بدير الأنبا بيشوى
[3] 15ـ20 سبتمبر 1987م قائلاً: " أمور الشقاق التي بيننا في العقيدة والتي ترسبت على مدى قرون، لا تمنع إطلاقًا وجود نقطة بيضاء مضيئة فيها، وهى إننا نحب بعضنا بعضًا. ومن خلال هذا الحب نود أن ننتصر على هذه الخلافات وعلى هذا الشقاق. وبدلاً من أن نتبارى في عد الخلافات. نتبارى في التخلص منها ". وهذا ما أكد عليه أيضًا القس رياض جرجور[4]: " علينا من جهة، أن نتوب عن خطايانا، إذ أن خطايانا هى التي سببت انقساماتنا. المصالحة مع الله تقودنا حتميًا إلى المصالحة مع الآخر. والمصالحة مع الآخر لا تعنى شيئًا إلاّ إذا قادتنا إلى محبة الآخر وقبوله. المحبة إذن هى الطريق الأسلم للقاء الآخر وهى الوصية الكبرى في المسيحية. فالمحبة هى العلامة المميزة لمعرفة تلاميذ المسيح الحقيقتين. وهكذا " تكون رعية واحدة وراع واحد " (يو14:10ـ16).
أن هؤلاء الذين سمعوا المسيح يكرز بالمحبة نحو القريب قد أدركوا كيف أن القريب له معنى مسكونى أشمل وأعم عن ما كان ينادوا به الإسرائيليون، فالقريب عندهم هو الإنسان الذي من جنسهم ومن دينهم. فإن أى إنسان غير يهودى لا يمكن أن يعتبر أى إنسان مستحق المحبة ولكن المسيح أعطى مفهوم رائع للقريب. لقد سأله أحد الناموسيين عن مَن هو قريبى فأجابه بطريقة غير مباشرة وطرح مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37).
هل أراد المسيح أن يشدد على التزام وواجب أن نساعد ونقف بجانب الإنسان المتألم، والمحتاج؟ الإجابة ليس هذا فقط بل أراد المسيح أيضًا أن يجيب على سؤال: مَن هو قريبى؟ أى أراد أن يوضح محتوى مفهوم " القريب "، لذا قال للناموسى: " اذهب وافعل أنت نفس الشىء " أى افعل ما فعله السامرى الصالح. ساعد الإنسان المتألم بدون أن تفحص هويته أى قوميته التي ينتمى إليها، أو أى مذهب دينى يعتقد فطالما هو إنسان فهو قريب، هو أخيك بغض النظر عن القومية التي ينتمى إليها ولا الديانة التي يتبعها ولا اللغة التي يتكلمها ولا حتى اللون الذي لجلده ولا حتى الطبقة الاجتماعية التي هو منها.
لذلك فهو عن قصد قد سرد هذا المثل، وعن قصد ووعى أيضًا ذكر الكاهن واللاوى لكى يعلّم أن "القريب" هو أى إنسان. فمع مسكونية الحب نحو القريب تصير كل القيود الطبيعية للإنسان مع أسرته وشعبه قيود نسبية، وهكذا نزع المسيح عنصر القومية والدين من محتوى مفهوم القريب، فعند المسيح قريبنا هو كل إنسان فقط من المنظور الحقيقى الواقعى أنه إنسان.
أن قبول ومحبة " الآخر " هو أساس خدمة المصالحة، فدعوة المسيح للمحبة والتسامح تمثل احتياجًا مُلِحًا على مستوى الحركة المسكونية. هذه الدعوة لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس (ذكرًا أم أنثى) أو اللون (أسود أو ابيض) أو القوام الجسمانى (سليم أم معاق) ولكن تتطلب المحبة نحو العدو، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصة في الموعظة على الجبل: " سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم .. باركوا لأعينكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لكى تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات … " (مت43:5ـ48).
المسيح هنا يطلب شئ أكثر من الذي فعله السامرى الصالح، لأن ذاك انتصر على العصبيات القومية والاختلاف الديني وعلى الخلفية المتراكمة التي كانت تفصل بين السامريين واليهود وساعد إنسان كان يعانى من الألم. لكن هذا الإنسان الجريح لم يكن عدو شخصى له. أما هنا فالمسيح يطلب المحبة تجاه العدو! المحبة نحو العدو سواء العدو الشخصى أو العائلى أو القومى أو الدينى، المحبة نحو العدو الذي يكرهنا ويطردنا.
المحبة نحو الله تتطابق مع المحبة نحو القريب (الشريك في الإنسانية) خاصةً المتألم والمقهور والمظلوم. هذا التطابق يصبغ كل تعاليم المسيح، ففي مت 25 يشجع المسيح هؤلاء الذين وقفوا بجانب اخوتهم المتألمين المقهورين قائلاً: " بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى فعلتم " (مت40:25). بينما الذين تجاهلوا اخوتهم المتألمين يقول:" الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبى لم تفعلوا " (مت45:25). وهكذا تتطابق المحبة نحو الله مع المحبة نحو الشريك في الإنسانية، خاصة المتألم ومن المدهش أن محبة الآخر هو تعبير محدد للمحبة نحو الله. وهذا يعنى أن برهان محبة أحد هى فقط محبته للآخر: " لأنه مَن لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره " (يو20:4). وهذا يعنى أن كل ادعاء محبة نحو الله لا يكون دائمًا محبة نحو القريب الآخر " والعكس صحيح. فالمحبة للآخر عندما تتحقق بدرجة عظيمة من الشفافية والصدق هى حتميًا محبة نحو الله.
إن العالم ينتظر رؤية هذه المحبة في علاقة كنائسنا بعضها ببعض، وذلك بتفعيل هذه المحبة لكى تأتى بثمار على أرض الواقع. فالمسيح لا يُعلّم ولا يكرز بمحبة عاطفية رومانسية ولكن بالمحبة العاملة، لذلك يشدد على ذلك في الموعظة على الجبل قائلاً: " ليس كل مَن يقول لى يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبى الذي في السموات. كثيرون يقولون في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك وأخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذٍ أصرخ لهم إنى لم أعرفكم قط فاذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. فكل مَن يسمع أقوالى هذه يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الصخر ... وكل مَن يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الرمل ... " (مت21:7ـ27). واضح من هذا النص أن المسيح يُعطى الأولوية ليس لاعتراف الإيمان النظرى المستقيم لكن للعمل والفعل وإتيان الثمار.

ملامح خدمة المصالحة:
1 ـ خدمة يتواصل مؤمنيها مع المجتمع ومع العالم، تكون نور للعالم وملح للأرض. والإنسان اليوم ليس هو الهمو بوليتك (الإنس ـ سياسى) ولا هو الهمو إيكونوميك (الإنس ـ اقتصادى) بل هو الهمو كومينيكيك (الإنس ـ اتصالى). وبالأولى تتواصل كل كنيسة مع الكنائس الأخرى مؤمنة بالوحدة في التنوع على مثال الثالوث القدوس. يقول الأسقف يوحنا زيزيولاس في كتابه " الوجود شركة ": [ إن الآباء من رعاة الكنيسة كان لاهوتهم رعائى وهؤلاء مثل إغناطيوس الإنطاكى وإيريناؤس وأثناسيوس قد استوعبوا حقيقة وجود الله وجوهره من خلال الاختبار الكنسى أى الوجود الكنسى أو من خلال اختبار الحياة الجديدة في المسيح التي تؤهل الإنسان لأن ينال الكيان الكنسى. وأدرك هؤلاء الآباء من خلال هذا الاختبار حقيقة هامة وهى أن كيان الله ووجوده إنما يُعرف من خلال العلاقة الشخصية والمحبة الشخصية. فالوجود يعنى حياة والحياة تعنى شركة]
[5].
إن عقيدة الثالوث ـ كما يشرحها فلاديمير لوسكى
[6] ـ التي تضعنا أما مضادة " السمة الشخصية المطلقة " مع " سمة التعددية المطلقة " إنما تعرفنا بأن هناك فرق بين " الطبيعة " و " الأقانيم ". ففي الثالوث الأقدس كل أقنوم يوجد ليس (كما في الطبيعة البشرية الساقطة) باستبعاد الأقانيم الأخرى. فالوجود الأقنومى يفترض الصلة بالآخر: " والكلمة كان نحو الله " كما يقول إنجيل يوحنا بالترجمة الحرفية لكلمة prÒj . إذن علينا أن نطبق هذا على كنيسة المصالحة فهى لكى تبرهن على أنها كنيسة تعكس أيقونة الثالوث، عليها أن لا تعمل لمصلحتها فقط مستبعدة بذلك الكنائس الأخرى وإلاّ تصير كنيسة منعزلة بذاتها ولذاتها. فكنيسة المصالحة ليست كائنة بمفردها، ولا هى جزءًا من الكل بل هى تتضمن الكل في داخلها، وتحوى في نفسها الكل فهى تتبنى الوحدة في التعدد. فالكنيسة كيان متعدد أكثر من كونه شمولية متجمعة. الذي يمثل وحدة الكنيسة ليس هو آدم القديم باعتباره رأس الجنس البشرى، لكن آدم الجديد " أقنوم " ابن الله الذي صار إنسانًا.
إن طبائعنا البشرية قد تحررت من حدودها الوهمية " ليس يهودى ولا يونانى، ليس عبد ولا حر " (غلا28) و" الفرد " الذي كان يشعر بأن وجوده متضاد مع ما لا يخصه أى مع " ما ليس أنا "، قد دُعى لكى يختفى بأن يصير عضوًا في الجسد الواحد، أى يصير " شخصًا ".
إن كانت طبائعنا الفردية قد اتحدت ببشرية المسيح الممجد وإن كانت قد دخلت في وحدة جسده المقدس بالمعمودية وقد طوعت ذاتها لموت المسيح وقيامته، فإن أشخاصنا تحتاج إلى أن تتثبت في دعوتها الشخصية بالروح القدس حتى يعى كل واحد بمحض حريته اتحاده الشخصى مع الله. لذلك، فإن سر المعمودية هو سر الوحدة في المسيح يلزم أن يكتمل بحسب الطقس الكنسى بسر المسحة المقدسة الذي هو سر التعددية في الروح القدس، أى سر منح المواهب لكل واحد حسب موهبته الخاصة " لكل واحد منا أعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح " (أف7:4).
والقديس كيرلس الاسكندرى في كتابه " العبادة بالروح والحق " يؤكد على أن الكنائس مربوطة بعضها ببعض بحسب الوحدة التي في المسيح، إذ يقول: [ فإنه يقول: " وتصنع المسكن عشر شقق من بوص مبروم وأسمانجونى وأرجوان وقرمز خمس شقق تكون موصولة بعضها ببعض الواحدة بالأخرى وخمس شقق تكون موصولة الواحدة بالأخرى " (خر1:26،3). فالشقق إذًا عشرة وماسكة بعضها ببعض بإحكام لأن هناك منازل كثيرة لدى الآب (يو2:14)، وهدف جميع الساكنين فيها هو ـ ولابد ـ واحد مقدس، لأن معرفة الله هى واحدة، لأن " الله دعانا في السلام " كما هو مكتوب (1كو15:7). فأنت ستقّر ـ إن تراءى لك ـ بأن العشر الشقق هى ـ كما تتوقع ـ ملء الكنائس التي في العالم، التي ليست مفترقة باختلاف الرأى ولا بتعارض المعتقد ولكنها متحدة في الروح وكأنها بنوع ما مربوطة معًا إلى واحد بحسب الوحدة التي في المسيح بالإيمان. فإنه في جميعها وفي كل مكان رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة (أف5:4) ].

2 ـ خدمة تستوعب المتغيرات
[7]
لابد لرسالة الكنيسة أن تكون لديها القدرة على استيعاب متغيرات العصر، فالتكنولوجيا اليوم لها دورًا حاسمًا في تشكيل المجتمع، فهناك علاقة تبادلية بين التكنولوجيا والمجتمع. والمشكلة أن العلاقة التبادلية بين التكنولوجية والمجتمع قد فقدت قدرًا كبيرًا من توازنها، وذلك نتيجة للمعدل السريع لتطور تكنولوجيا المعلومات التي تنطلق بأقصى سرعة يلهث ورائها المجتمع ويسعى جاهدًا للحاق بها. وتلوح في الأفق فجوة تزداد اتساعًا بين سرعة تطور التكنولوجيا المعلوماتية وقدرة المجتمع الإنسانى على استيعابها. فنحن في أمس الحاجة إلى أن تتبعنا التكنولوجيا لا أن نلهث وراءها، لتصطبغ بصفاتنا نحن لا أن تدمغنا هى بصفاتها. نحن نريد تكنولوجيا إنسانية تعيد إلى الإنسان إنسانيته، وتكنولوجيا اجتماعية تعيد للمجتمع الإنسانى توازنه وعقلانيته.
أيضًا لابد للرسالة الكنسية أن تحدد موقفها من ثقافة الإنترنت، فهناك اتجاهان:
1 ـ الاتجاه الأول:
يرى أن ثقافة عصر الإنترنت هى المدخل لتحقيق حلم البشرية الذي طال انتظاره في إرساء ثقافة تمهد لسلام حقيقى ودائم تنعم في ظله البشرية. وأن في تنوع الثقافات وحدة كافية من القيم والمعانى تسمح بوجود أخلاقيات عالمية، فليس هناك إنسان لا يرغب في تخفيض المعاناة، ولا يرفض الممارسات غير الإنسانية من قبيل وأد البنات واستغلال عمالة الأطفال والسخرة الجنسية والعبودية وما شابه ذلك.
2 ـ الاتجاه الثانى: يرى استحالة الوفاق العالمى والاجتماعى وأن الثقافة ستظل نسبية متشبثة بخصوصيتها المحلية، بل هناك مَن يؤكد أن الإنترنت سيؤدى إلى جرف حاد يفصل، سواء بين الثقافات أو ما بين الفئات الاجتماعية، وستعيد فرز المجتمعات الإنسانية وفقًا لمعايير عصر المعلومات، وأن العالم سيشهد " دارونية ثقافية " شرسة تلتهم فيها الثقافات الأقوى ـ والثقافة الأمريكية تحديدًا ـ ما دونها من الثقافات.
وفي رأينا أن الكنيسة تستطيع أن تستخدم تكنولوجيا المعلومات في تحقيق هدف الوحدة والتواصل مع الكنائس الأخرى، مع التحفظ على التفاؤل المطلق لدى الذين ينادون بأن التقدم التكنولوجى بمفرده قادر أن يحقق سلام البشرية
[8].

3 ـ خدمة متحررة من الفكر العقيم
أ ـ فكر غير خطىّ:
إن فكر إنسان اليوم لا يتسم بالطابع الخطى للإنسان الماضى الذي يرى معظم الظواهر في هيئة سلاسل متلاحقة متدرجة، تتحرك من نقطة بداية صوب غايات محددة مسبقًا، من التفكير الحسى الغريزى إلى إدراك المحسوسات ثم التعامل مع المجردات. ومعرفة المجتمعات ـ في نظر البعض ـ ترتقى هى الأخرى خطيًا، من الأسطورة إلى السحر إلى الميتافيزيقية إلى العلم، وعلى صعيد علاقة التكنولوجيا بالمجتمع، فقد طرحها فكر الماضى في خطية صارمة مؤداها: العلم يكتشف، والتكنولوجيا تطبق، والمجتمع عليه أن يتكيف معها. أما خطية الفكر التاريخى فسافرة في أحداثه المتعاقبة وسرده ذى التتالى الزمنى والمتسلل، وتأتى فلسفة هيجل لتضيف الغائية إلى الخطية، حيث أحالت التاريخ إلى مسار جدلى متصل يتحرك خطيًا نحو غايات مطلقة. إنها النزعة الخطية التي سادت فكر الماضى، والتي يرجعها البعض إلى طبيعة تكنولوجيا الطباعة، ونصوصها ذات التتباع الخطى الصارم: من الحروف إلى الكلمات ومن الكلمات إلى الجمل فالفقرات فالنص الكامل.
أما معظم ظواهر الواقع اليومى فهى ذات طابع غير خطى، حيث النقلات الفجائية ومسارات التفكير المتوازية والمتداخلة. إن تكنولوجيا المعلومات قادرة على تخليص الفكر الإنسانى من ميكانيكية التفكير الخطى، فهى لا تتعامل مع النصوص فقط، بل مع الصور والأشكال أيضًا والتي هى ـ بحكم طبيعتها ـ غير خطية، علاوة على ذلك توفر نظم معالجة النصوص آليًا وسائل عدة يمكن من خلالها القفز فوق خطية النصوص، مثل حلقات التشعب النصى hyper text التي تسمح بالتنقل الحر من أى موضع في النص إلى أى موضع آخر.
هكذا على الكنيسة أن تتبنى هذا التفكير التشعبى والمسارات التفكيرية المتوازية والمتداخلة لتواجه بمرونة وسرعة تحقيق التواصل والاتحاد والشركة مع الآخرين، بدلاً من تبنى المسار الخطى الذي يأخذ فترة أطول وخطورته في أن أى عطل في أى مرحلة تُعيق المسيرة كلها.

ب ـ فكر ديناميكي:
تتبنى الكنيسة أيضًا فكرًا سريع التكيف مع ديناميكيات الواقع، قادر على استيعاب ظواهر الأزمنة، بصورة مرنة، يرى التاريخ من منظور الحاضر، ويحاصر المستقبل بسيناريوهاته وبدائل احتمالاته، ويمكنه إضافة إلى ذلك استيعاب مفهوم " الخلط الزمنى " الذي يخلط بين السابق والراهن والمرتقب. يمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تخلّصنا من الفكر ذي الطابع الاستاتيكي، بعد أن صار عنصر الزمن طوع بنانها. فباستطاعتها أن تسحقه في وحدات زمنية متناهية الصغر، وأن تكمشه وتطيله وتمزجه من خلال نماذج المحاكاة.

ج ـ فكر غير ثنائى:
يرى الظواهر في مسار متصل، يستطيع أن يميز مناطق التدرج بين أطراف الثنائيات التي رسخت في أذهاننا، من قبيل ثنائية المثالية والمادية، ثنائية الذات والموضوعية، ثنائية العلوم والفنون. تكنولوجيا المعلومات تكمن قدرتها الفائقة على تحطيم كثير من الثنائيات الراسخة مثل:
ثناثية المادى وغير المادى
ثنائية العضوى وغير العضوى
ثنائية الواقعى والخيالى
ثنائية الانتاج والاستهلاك
ثنائية الرمز والمدلول
ثنائية المجازى والحرفى
ثنائية المكتوب والمنطوق
ثنائية البشرى والآلى
ثنائية التعليم والتعلّم
ثنائية الفرد والجماعة
لقد كان لهذه الثنائيات أثرها البالغ في صياغة غايتنا، وتوجيه أدائنا، وتشكيل علاقتنا وتصوراتنا عن ذاتنا وعن عالمنا. إن هذه الثنائيات ذات قدرة اختزالية خادعة، تحصر التفكير بين بديلين لا ثالث لهما، تطمس الطيف المعرفى الذي يربط طرفيها ليتعذر بالتالى فهم طبيعة العلاقة الجدلية بينهما.

د ـ فكر يعبر الحواجز المعرفية:

إن تكنولوجيا المعلومات تعمل بلا هوادة على تحطيم الحواجز المعرفية. ويمكن إرجاع ذلك إلى أن المعالجة الآلية لفصائل المعارف المختلفة تتطلب مستويات أعلى من التجريد، وكلما تصاعد التجريد تلاشت الفوارق بين المعارف المتخصصة وأصبحت هذه المعارف بالتالى أكثر قابلية للتلاقى. لذا كما قال المطران جورج خضر: [ أن نعف عن المساجلة والمناظرة ودعم مواقف تقليدية موروثة عند هذا الفريق أو ذاك في بساطة المسيح وصفائه. هذه هى الروح المسكونية الحرة من الظفرية وعبادة التاريخ والمذهبية المنغلقة المقدسة لكل صيغة مكتوبة وكل النظم الكنسية القانونية. إن قراءة نقدية للتاريخ بغية التفاهم والانتقال إلى عقل الإنسان المعاصر لمن الأشياء التي تجعلنا نميز بين الحقيقة الإلهية والكلاّنية الطائفية. هناك أصالة وينابيع نستقى منها تجعلنا نفرق بين ما صدر عن قلب الله في الرسالة المحيية وبين الغلاف البشرى الذي اصطنعه لسلف عندما كان يتوارث لاهوتًا متأخرًا لا لاهوت البناة الأوائل. هناك العقيدة مع التعليم النورانى الحى الذي يفسرها وهناك تعاليم بشرية تغرّبنا فيها عن البهاء الأول وظنناها أصيلة ولكنها من السقط ]
[9].

الإنسان وتربية المصالحة
التربية في إطار المصالحة هى التعليم والتعلّم وتنمية الشخصية وتأهيل المؤمن من أجل تلبية مطالب وهدف كنيسته ومجتمعه وعالمه آخذًا في الاعتبار أنه سفير من أجل المصالحة كما يخبرنا بولس الرسول: " نسعى عنه كسفراء كأن الله يعظ بنا تصالحوا مع الله "
أ ـ تصالح لتعرف
ب ـ تصالح لتعمل
ج ـ تصالح لتكون
د ـ تصالح لتشارك الآخرين

التوجّه المسكوني للأقباط في التراث العربى المسيحى
[10]
1 ـ لقد كتب ساويرس ابن المقفع أسقف الأشمونين (القرن العاشر الميلادى) مقالات حول هذا الموضوع، على سبيل المثال:
+ رسالة طويلة إلى الوزير ابى اليُمن قزمان بن مينا (في مذاهب النصارى)، و " مقالة في اختلاف الملل " والفصلان التاسع والحادى عشر من " كتاب البيان المختصر في الإيمان ".
2 ـ صفى الدولة ابو الفضائل ماجد ابن العسال، في القرن الثالث عشر: " فصول مختصرة في التثليث والاتحاد " 1242م.
3 ـ مؤتمن الدولة ابو اسحق ابراهيم ابن العسّال، صاحب الموسوعة اللاهوتية الشهيرة المعروفة بـ " مجموع أصول الدين، ومسموع محصول اليقين " وقد أتمها نحو سنة 1263. والباب الثامن منها، هو عبارة عن كتاب خاص بموضوعنا عنوانه: " في ذكر مذاهب النصارى ".
4 ـ مقالة لميخائيل، أسقف أتريب ومليج في القرن الثالث عشر " في أصول المذهب المسيحى، وما اتفقت عليه كل فرقة من فرق النصارى، وما تخالفت فيه ".
5 ـ فصول لشمس الرئاسة ابى البركات ابن كبر في الباب الأول من موسوعته: مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة " التي أتمها سنة 1320.
6 ـ مقالة لمؤلف مجهول عاش في نهاية القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر.
7 ـ قد وُجدت مخطوطتين من مخطوطات دير ابى مقار ببرية شيهيت بها مجموعة من المقالات التي تحث على المحبة والاتفاق عنوانها: " مختصر في أن الكنيسة المقدسة واحدة، والإيمان الأرثوذكسى ولحد، والمسيحيين أجمعين كلهم واحد في المسيح، ولا فرق بينهم في الإيمان الحقيقى.
من قول أحد شمامسة الكنيسة المرقسية " والقرائن تدل على أن المؤلف عاش في منتصف القرن الثامن عشر.

نماذج من نصوتحتوى على التوّجه المسكوني
ص 1 ـ ساويرس ابن المقفع
[11]:
" في الفرق بين القبط والملكية " وهو الباب الأخير من مقالة " في اختلاف الملل "
يذكر ساويرس أن هناك فرقًا واحدًا أساسيًا، لا غير، وهو في الاتحاد (أى في اتحاد اللاهوت بالناسوت). ثم يذكر ثلاثة عشر فرقًا ثانويًا، هى مجرد اختلاف في العوائد والتقاليد. وبعد ذكر هذه الفروق، ينهى كتابه بدعاء في سبيل الوحدة: " الرب الإله يُرشدنا نحن وإياهم إلى طريق الخلاص ويقينًا نحن وإياهم من حدّ القصاص.
ويجمع البيعة المقدسة الواحدة الجامعة الرسولية من هذا التفريق، ويُظهر لنا ولهم السلوك في الطريق، ويُظهر الحق ويُبعد الضلالة، ويمنع الشيطان عنا وعنهم من الاستطالة. بفضله ومنه وكرمه، كما شفى نفوسنا أولاً بجراحات ألمه. تم القول في الخلف في الفروع والأصول، والرب الإله يجعل عمل الفريقين مقبول آمين ".

ملاحظات على هذا الدعاء:

+ نلاحظ أن ساويرس أظهر تواضعًا ومحبة وذلك يظهر من التعبيرات التي تفوه بها: " نحن وإياهم "، " لنا ولهم"، " عنا وعنهم "، وفي نفس الوقت أكد على أن السبيل للوحدة هو الشركة الحية بالرب، فالوحدة هى هبة من الله، لذا علينا بحسب رأيه أن نعترف بأخطائنا ونقدّس أنفسنا ونطلب من الرب أن يُرشدنا إلى الحق ويهدينا الصراط المستقيم.
قال ساويرس:
" فأما ما بين طوائف ملة النصارى من الاختلاف في العقيدة، كما يُظن بهم. فليس بينهم (في أصول المذهب التي الرجوع إليها في العقائد) اختلاف من توحيد الإله (سبحانه)، وإثبات أقانيمه، واتحاد كلمته بالجسد، وظهوره لخليقته، بل إنما اختلفوا في التأويلات والتفاسير المنقولة عن أشياء منهم، وكون كل منهم استصوب رأيًا وافق عقله. ولعمرى، كما من مِلة من الملل إلاّ وفيها طوائف. بينهم اختلاف يطول شرحه، وكلٌ معتقد أن الحق بيده. وبالجملة، فلما تأملت طائفة اليعاقبة من النصارى صحة اعتقادهم، بالعقل الراجح والقياس الواضح، قطعوا مَن يعتقد سوى ذلك من أهل ملتهم من الكهنوت، ونفوه من البيعة. فقصد كل من الطائفتين الأخريين الانتصار لرأيه ومقالته، بأن مجمع على ذلك جموعًا وأتباعًا، فصارت ملة. ولو ردّوا جميع ما بأيديهم، باتفاق منهم، إلى قواعد أصول المذهب، لارتفع الخلف بينهم ".
يؤكد ساويرس في هذا النص بأنه لا يوجد أى اختلاف في العقائد وفي أصول المذهب بين هذه الطوائف، بل أنه يؤكد أن الاتفاق ممكن بين الطوائف، " لو ردّوا جميع ما بأيديهم إلى قواعد أصول المذهب ".

2 ـ الصفى بن العسال:
الفصل الثامن من " الفصول المختصرة " نلاحظ أن الصفى مثل ساويرس لا يركز على نقط الاختلاف بل على نقط الاتفاق بينه وبين غيره، لذلك يفتتح البحث بقوله: " اعلم أن النصارى متفقون... ":
1 اعلم أن النصارى متفقون على كل ما تضمّنه الإنجيل والرسائل والأمانة الجامعة
2 وعلى أن المسيح إله متأنس
3 وعلى وصفه بالإلهية والإنسانية وأوصافهما، كما ورد الإنجيل والرسائل والأمانة
4 وعلى أنه رب واحد، كما تضمّنت الأمانة
5 واختلفوا بعد تلك في ألفاظ فلسفية
نلاحظ هنا أن الصفى يُرجع الاختلاف إلى الألفاظ الفلسفية: فكلهم متفقون ـ كما رأينا ـ على كل ما تضمّنه الإنجيل والرسائل والأمانة الجامعة وعلى أن المسيح إله متأنس وعلى وصفه بالإلهية والإنسانية وأوصافهما وعلى أنه رب واحد.
ويوضح بعد ذلك الصفى رأى كل مذهب من المذاهب الثلاثة بدون أن يتهم أحدهم بأنه مخطئ بينما يعلق على رأى الملكية بقول: والقولان ضعيفان " (رقم19). والصفى يبرر موقف المذاهب المسيحية المختلف قائلاً:
+ " مَن قال بالوحدة ... استند إلى حفظ الاتحاد " (رقم 21،22).
+ " ومَن قال بالأثنينية ... قصد حفظ الطبائع على حقائقها، وابتعد من تهمة وقوع الاستحالة بينهما " (رقم22).
ويبرر موقفه؛ موقف مَن قال بالوحدة، من تهمة وقوع الاستحالة والتغيير على الإله المتجسد (رقم24ـ29)
لكن علينا أن نتعلم من طريقة الصفى للنظر إلى الأمور، إذ يوضح بفهم أن لكل طائفة مبررًا، وأن لكل مذهب قصدًا. ويؤكد في نفس الوقت على أن هذه الاختلافات لا تمس جوهر الإيمان، بل لا يزعزع وحدة الإيمان، إنما هى اختلافات " في ألفاظ فلسفية " (رقم5).
وبذلك يعطى الصيفى مثلاً رائعًا للحوار الحقيقى الذي يحاول يفهم قصد مخالفة ويبرره لا أن يتصيد أخطاؤه.
إن الوثيقة الأولى التي انبثقت من اجتماع اللجنة المشتركة الرسمية للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية في يونيو1989 بدير الأنبا بيشوى وكذلك الوثيقة الثانية في "شامبيزى جنيف" ديسمبر 1990م. تؤكد على ما أقره
مفكرى الأقباط في التراث العربى المسيحى. وإليكم بعض المقتطفات من الوثيقتين:
الوثيقة الأولى: " .... إن الأحوال الأربعة المستخدمة في وصف سر الاتحاد الأقنومى بغير اختلاط، بغير تغيير، ولا افتراق ولا انفصال، ينتمى إلى تقليدنا المشترك فالذين بيننا يتحدثون عن طبيعتين في المسيح لا ينكرون أن اتحاد الطبيعتين فيه تم بغير افتراق ولا انقسام والذين بيننا يتحدثون عن طبيعة واحدة إلهية بشرية متحدة في المسيح لا ينكرون الحضور الفعال المستمر للاهوت والناسوت في المسيح بغير تغيير وبغير اختلاط".
الوثيقة الثانية: " في ضوء وثيقة الاتفاق (الأول) بخصوص عقيدة طبيعة السيد المسيح (الخريستولوجى) … فإننا الآن نتفهم بوضوح أن العائلتين قد حفظتا دائمًا وبإخلاص نفس الإيمان الأرثوذكسى الأصيل فيما يتعلق بعقيدة السيد المسيح والاستمرارية غير المنقطعة للتقليد الرسولى بالرغم من أنهما قد يكونا قد استخدما المصطلحات الخريستولوجية بطرق مختلفة، والولاء المتصل للتقليد الرسولى هو الأساس لوحدتنا وشركتنا ".

3 ـ مقالة في أن المحبة والتواضع يحققان الوحدة:
هذه المقالة موجودة في مخطوطتين في دير ابى مقار ببرية شيهيت: أحدهما منسوخ في القرن الثامن عشر (رقم لاهوت27)، والأخرى منسوخ سنة 1854 (رقم لاهوت4).

الفكرة الأساسية للمقالة:
أن الانقسام من عمل الشيطان الذي يزرع في قلب الإنسان الكبرياء والافتخار، وبالتالى، فالوحدة من عمل الروح القدس، وهو ثمرة المحبة والتواضع: " انظروا، يا محبى التعليم الروحانى الإلهى أى تعليم هو جيد: التعليم الذي يُثبت المحبة الروحانية والألفة الصالحة، الذي بها رباط الكمال. وكل تعليم يكون بافتخار وفأس لقطع المحبة الروحانية والألفة والصلح، فهو غير جيد، وأساسه من عدو الخير الذي يلقى العداوة بين المؤمنين.
فإن الإيمان والأعمال الجيدة المرضية لله لا تتم إلاّ بالمحبة. كما يقول لسان العطر بولس الرسول: " أن حلّت علىَّ النبوة حتى أعرف السرائر والعلم كله، ولو صار فىّ جميع الإيمان حتى أنقل الجبال، ولم تكن فىّ محبة، فلست بشيء. ولو أنى أُطعم المساكين كل شئ، وأبذل جسدى بحريق النار، ولم يكن فىّ مودة، لست أربح شيئًا". وقوله أيضًا: " ثلاث خصال هذه الباقيات: الإيمان والرجاء والمحبة، وأعظمهن كلهن المحبة". وله أقوال كثيرة في شرف فضل المحبة الروحانية.
" فإذا كان المؤمنون يعدمون فضل المحبة بينهم، فكيف يثبت إيمانهم؟ أو كيف يجب المؤمنين أن يكونوا ثابتين في الإيمان، بغير محبة الاخوة التي هى أساس الإيمان؟ وكيف يكون مؤمنًا بالله الذي لا يراه، ومُبغضًا لأخيه الذي يراه، كما يقول يوحنا الرسول. وقال الرسول يعقوب في القثاليقون هكذا: " ألعل العين الواحدة تنبع ماءً عذبًا وماءً مالحًا؟ " وبطرس الرسول يقول: " بالإيمان حبوا بعضكم بعضًا محبة الاخوة، من غير محاباة، بقلب صادق ". والقديس يوحنا حبيب الرب يُعلن هكذا قائلاً: " فمَن زعم أنه في النور وهو يبغض أخاه، فإنه في الظلمة وفي الظلمة يسلك ولا يدرى أين يتوجه، من أجل أن الظلمة قد غشيت عينيه " فحققوا هؤلاء الرسل أن الإيمان لا يثبت إلاّ بالمحبة الروحانية، وأن نور الإيمان هو المحبة. وإذا لم يكن محبة فليس يكون نور الإيمان، ويصير الإيمان باطلاً.
" وسبب هذه الأقوال أن طوائف من المؤمنين متمسكين بالإيمان جيدًا، ولم يستضيئوا بنور الإيمان بينهم، التي هى المحبة. وسبب عدم المحبة من الشرير، وتنافس العباد. وإذا استضاءوا بنور المحبة، ولبسوا التواضع، فحينئذٍ الشرير لا يجد موضعًا ليزرع فيه زؤان العداوة. " ومع هذا، أن طوائف المؤمنين متمسكون بالإيمان جيدًا بسيدنا يسوع المسيح (له المجد)، ومعترفون بأنه إله متأنس، ومُقّريين بوحدانية أقنومه (رب واحد، ابن واحد، مسيح واحد، شخص واحد)، ومُقّريين أنه إله واحد على الكل. والجميع في الاعتقاد واحد. إلاّ أنهم متنافسون مختلفون في لفظات لا تنقض الإيمان "
" فمنهم مَن يقول في المسيح طبيعتين (أى: لاهوت تام، وناسوت تام ما خلا الخطية). ومنهم مَن يقول طبيعة واحدة (أى: اتحاد اللاهوت بالناسوت بالسر العجيب). وتلك الأقوال لا تنقض الاعتقاد والإيمان، مع وجود المحبة والتواضع، إذا كان الاعتراف بوحدانية الأقنوم الإلهى، وتأنسه من الطاهرة مريم بالسر الذي لا تدركه العقول البشرية، والإقرار بتجسد أقنوم الكلمة وتأنسه. (فهو) إله متأنس، واحد من اثنين، من غير اختلاط، ولا افتراق، ولا امتزاج، ولا استحالة. رب واحد، ابن واحد، مسيح واحد، أقنوم واحد. فإذا كان الاعتقاد هكذا، فليس اللفظ والمعنى ينقض الإيمان ".
واضح من النص أن المحبة هى ركيزة أساسية للمصالحة بيننا وبين الكنائس الأخرى. لذا لابد أن يكون تعليمنا مؤسس على المحبة والألفة الصالحة، وأن التفرقة والانقسام هى من عدو الخير. وإذ كنا ننادى بحوار المحبة ثم بعد ذلك بحوار الإيمان، فإننا لدينا قناعة أنه لا يمكن أن نبدأ حوار الإيمان بدون حوار المحبة، وأن حوار المحبة هو الوقود الذي يغذى قاطرة الوحدة، بدونه يتوقف حوار الإيمان.

دور الكنائس الشرقية بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأوسط
أهم الإنجازات التي حدثت في إطار التعاون المسكوني بين كنائسنا:
+ الاتفاق الرسمي على الإيمان بين الكنائس الأرثوذكسية والشرقية الأرثوذكسية (شامبيزى1990).
+ الاتفاق الرعوي بين بطريركيات الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس التابعين لإنطاكية (دمشق1991).
وقد جاء في الاتفاق: " إننا ننتمي إلى إيمان واحد، وإن كان التاريخ قد أبرز وجه انقسامنا أكثر من وجه وحدتنا" .
+ تناغم بين الكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية حول الإعلانات المسيحانية المشتركة بين البطريرك شنودة الثالث والبابا بولس السادس (1973) ثم يوحنا بولس الثاني (1987)، وبين البطريرك زكا الأول ويوحنا بولس الثاني (1983)، وأخيرًا بين الكاثوليكوس كاراكين الأول ويوحنا بولس الثاني (1996).
+ أيضًا بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية:
وثائق حول أسرار الكنيسة (ميونخ 1982)، إيمان ، وحدة، وأسرار (باري، إيطاليا 1987)، سر الكهنوت والخلافة الرسولية (فالامو، فنلندا1988)، طول الاتحادية (فريزينغ، ألمانيا 1990، وخاصة البلمند 1993 عن اللجنة اللاهوتية الدولية المختلطة بين الأرثوذكس والكاثوليك، وبخاصة ما جاء في الوثيقة بأن " الأونياتية " uniatism (أي انضمام بعض الكنائس الشرقية إلى روما) سبيل للوحدة مر عليه الزمن. وقد نتج عن هذه الوثيقة تغيير مسلك الكنائس الكاثوليكية بخاصة، قام بالكف عن ممارسة ما سمي " بالاقتناص " أي كثلكة الأرثوذكس.
+ اتفاق بطاركة الشرق الكاثوليك والأرثوذكس في 14/10/1996 دير الشرفة في لبنان حول ثلاث مسائل رعوية مهمة في حياة المؤمنين:
أ ـ الزواج المختلط (بين الأثوذكس والكاثوليك)
ب ـ كتاب التعليم المسيحي المشترك لطلاب المدارس الرسمية.
ج ـ المناولة الأولي.
هناك العديد من الوسائل التي تسهّل تحقيق الوحدة في إطار العمل المشترك رعويًا وثقافيًا واجتماعيًا، ومن الأمثلة: لقاءات رؤساء الكنائس على مستوى الشرق الأوسط، أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس الذي يُقام سنويًا تحت إشراف مجلس كنائس الشرق الأوسط، وأيضًا لقاءات خدام الرعايا في مناطق معينة وباشتراك كل الكنائس.
هناك تفاهم مشترك بين رؤساء الكنائس ظهر في لقاءاتهم منذ عام 1985 لتحقيق الوحدة بين الكنائس حيث قالوا: " نلتقي ودوافعنا تتجاوز كل الاعتبارات البشرية الصرف.نحن معًا، لا رغبة في التكتل بل لأننا كتلميذي عمواس نلاقي المسيح الآتي إلينا، إليه ننطلق وهو يجمعنا وفيه نُوجد... لنواجه أولاً قضية الشركة في الإيمان الذي تسلمناه من الرسل. هناك تباين في مواقف كنائسنا تسعى الحوارات اللاهوتية القائمة على المستوى العالمي والتي تشارك فيها أغلبية كنائسنا لأن نتجاوزه. أما نحن، هنا في منطقتنا، فمدعوون إلى المزيد من التقدم في شركة المحبة انطلاقًا من خبرة كنائسنا الفريدة، مذللين العقبات التي مازالت تعترضنا، وواعين، في الوقت عينه، أن سر الكنيسة هو الوحدة في التنوع. كلنا، نحن وأنتم، نتحمل مسئولية خلق مناخ التواضع والثقة والذي من شأنه أن يجعل المحبة بين كنائسنا فعّالة...".
أيضًا في لقائهم عام 1998 يكررون حرصهم أداء الشهادة المسيحية في المنطقة من خلال التعاون والمحبة فيقولون: " نحن نؤمن راسخي الإيمان بأن الرب يسوع المسيح حمّلنا، نحن وإياكم رسالة لهذا الشرق، وهي الشهادة للقيم الإنجيلية. ولكن القيام بهذه الرسالة لا يستقيم، لكي لا نقول يستحيل، إذ كنا لا نعطى مثلاً حيًا في توثيق روابط المحبة والتعاون في ما بيننا، ونحن جميعًا مسؤولون عن الوديعة التي ائتمننا الرب يسوع المسيح عليها: وديعة الإيمان مولّد الرجاء والباعث على المحبة...".
أخيرًا في لقائهم في تشرين الثاني 2000 في لبنان شدد رؤساء الكنائس في الشرق على أن الشهادة المسيحية لا تكتمل والكنائس في فرقة وانقسام قائلين: " إننا نعي اليوم، في بداية الألفية الثالثة، ضرورة الاستمرار في السعي إلى شفاء الجراح والتلاقي والتضامن. ولا يحقق هذا المسعى المسكوني مرتجاه من غير أن تتجدد كنائسنا روحًا وفكرًا. إن بذور النهضة الروحية تنبت في كنائسنا وهي ضمانة أمانتها والطريق إلى وحدتها. وما لقاؤنا هذا إلاّ علامة على أن التزامنا المسكوني هو خيار اليوم والمستقبل، استجابة لمشيئة المسيح في صلاته من أجل وحدة المؤمنين به ... نحن ندرك إن شهادتنا المسيحية لا تكتمل ونحن في فرقة وانقسام. وندرك أيضًا أن الطريق أمامنا طويل وأن مصاعب شتى تعترضنا... لكننا نؤكد عزمنا على إسراع الخطى على طريق الوحدة. لقد قطعنا بهدى من الروح القدس، خطوات في سبيل التآلف والتقارب بين كنائسنا، وتحققت بقوة المسيح إنجازات لا يمكن إغفالها... إننا نرى في مجلس كنائس الشرق الأوسط تعبيرًا ملموسًا لهذا التوجه، ففيه نلتئم وبواسطته نعمل معًا في سبيل الوحدة. كما نحرص أن يبقى المجلس ملتقى الكنائس، فاعلاً في كلٍ منها، وألاّ يبعد ع واقعها ولا يشيخ، بل يكون دائم الحيوية والتجدد. ولقد قامت بين كنائسنا مبادرات عدة أدى بعضها إلى اتفاقيات رعائية، ومن شأن تطبيقها أن يكون حافزًا إلى جهود أوسع فتأتي شهادتنا المشتركة مؤثرة على الصعيد المسكوني..".
تفعيل دور كل من:
1 ـ الوحدة 2 ـ التربية 3 ـ الدياكونية
دفع حوار المحبة وحوار الإيمان إنسان يعرف الخدمة في كنيستى
تجديد الالتزام بالرؤية إنسان يكون الخدمة في الوسط المسيحى
إنسان يعمل
المسكونية الواحدة إنسان يشارك الآخرين الخدمة في المجتمع

وعلى مجلس كنائس الشرق الأوسط أن يبحث مع ممثلى الكنائس إعادة تقويم وضع الحركة المسكونية في المنطقة لتجديد النواقص والانجازات، الآفاق والمخاطر، المشكلات والتحديات كما دعى الكاثوليكوس آرام الأول
[12].
أ ـ على البرامج التي يضعها المجلس أن تتجاوب مع أولويات كنائسنا واحتياجاتها.
ب ـ مساعدة المجلس لكنائسنا لكى تتعامل مع المتغيرات والتطورات الحادثة في العالم.
ج ـ مشاريع مشتركة تحث على الوحدة المسكونية بين الكنائس.
د ـ لقاء مشترك: + لقاءات من خلال المؤتمرات
+ لقاءات المودة وتبادل الزيارات
هـ ـ تثقيف الشعب لاهوتيًا ورعائيًا وتربويًا.
ى ـ تفعيل الحركة المسكونية على مستوى كنائس المهجر.
[1] أيضًا هناك مصطلحات أخرى تحمل نفس المحتوى مثل: " وأن يصالح apokatal£ssein به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه … " (كو20:1)، " فاترك قربانك قُدام المذبح واذهب أولاً اصطلح diall£sseqai مع أخيك " (مت24:5)، " وفي اليوم الثانى ظهر (موسى) لهم وهم يتخاصمون فساقهم إلى المصالحة (sunall£ssein) … " (أع26:7).
[2] جنيف 23ـ28 سبتمبر 1990).
[3] أنظر ملف وحدة الكنائس الأرثوذكسية، الصادر من وحدة العمل المسكونى بالمركز القبطى للدراسات الاجتماعية، 1995.
[4] القس رياض جرجور، الحركة المسكونية في الشرق: آفاق مستقبلية من كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط، سنة 2001، ص905.
[5] الأسقف يوحنا زيزيولاس، الوجود شركة، ترجمة مركز دراسات الآباء، مايو 1989، ص3.
[6] Vladimir Lossky, The Imaye and Likeness عن مجلة مرقس، يناير 1989، ص 8ـ13، 10، 11.
[7] إستفدنا من كتاب: الثقافة العربية وعصر المعلومات، تأليف د. نبيل على، عالم المعرفة، ديسمبر 2001.
[8] انظر البيان الصادر عن اجتماع بطاركة ورؤساء الكنائس الشرقية في العالم المنعقد في المقر البطريركى المسكونى في اسطنبول (15 مارس 1992)، إذ قال رؤساء الكنائس الأرثوذكسية إنهم يرغبون في أن يواجهوا المتغيرات التي يجتازها العالم " كجسد واحد " متطلعين إلى الألف الثالثة من العصر المسيحى. ويقول الرؤساء، لقد اتضح في القرن العشرين أن التقدم الإنسانى في مجال العلوم والتكنولوجيا " لم يكن ليؤدى بالضرورة إلى السعادة وكمال الحياة اللتين ينشدهما الإنسان المعاصر ". والدليل على ذلك يكمن، ليس فقط في انهيار الشيوعية، بل وأيضًا في فشل الأيدولوجيات القائمة على التمركز حول الإنسان “ anthropocentric “. وقد نتج عن ذلك " هذا الفراغ الروحى وعدم الأمان الوجودى " الذي أدى بالكثيرين إلى أن " يبحثوا عن الخلاص " في " الحركات الدينية الجديدة " أو في " الارتباط الوثنى بالقيم المادية ". عن مجلو مرقس، أبريل 1992، ص3.
[9] المطران جورج خضر، المفاهيم الكنسية التي يقوم عليها التعاون بين الكنائس أو المتضمنة الرؤية المسكونية، أعمال مؤتمر اللاهوتيين بدير الأنبا بيشوى 15ـ20/9 سنة 1987.
[10] اعتمدنا على بحث الأب سمير خليل: " المفكرون الأقباط القدامى والوحدة المسيحية "، مجلة المنارة 28 (1987)، ص 283ـ308.
[11] من كتاب " البيان المختصر في الإيمان " لساويرس ابن المقفع نذكر هنا بداية الباب الحادى عشر، وعنوانه: " في اختلاف ثلاث طوائف النصارى.
[12] أنظر الكاثوليكوس آرام الأول، الحركة المسكونية على عتبة الألف الثالث، من كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، ص913.