الخميس، 23 ديسمبر 2010




الله والعالم ( تسونامى اليابان )
د. جورج عوض إبراهيم
يتسائل أحد الكُتَّاب قائلاً:
أليس الله كلي القدرة؟ وكلي الخير؟ لماذا لا يصلح من ذات خليقته حتى تصبح دليل عليه وعلى كماله؟ لماذا
يتركها تعاني وتتألم وتموت جوعًا وجهلاً؟
ويستطرد قائلاً: البشر لم يخلقوا هذا العالم ولم يخلقوا أنفسهم. هم لا يستطيعون لأنفسهم فكاك مما هم فيه على مر العصور مهما إختلفت طرق حكمهم أو التحكم فيهم ومهما غيروا من أديان وأنبياء ورسل وكتب مقدسة وشعائر وتعاليم، بل ومهما تقدموا وغزوا الفضاء، وإخترعوا الكمبيوتر... هم لم يخلقوا أنفسهم وليس ذنبهم ما هم فيه وليس في إستطاعتهم الخلاص منه، ولو كانت وجدت الطريقة لذهبوا إليها بكل قوتهم . كما يقول الكاتب ـ حقًا يمر العالم بكثير من الضيقات والشدائد والكوارث، وبعضها يكون من القسوة والألم حتى أنه يوصف بأنه ضد الإنسانية، ضد حق الحياة الطبيعي، فالعالم مليء في كل أنحاءه بالجوع والمجاعات والعوز والحروب الإضطهادات والمذابح والأمراض والأسقام، أنه مليء بالظلم والكراهية وكل شيء شرير.
لقد تعرض القديس باسيليوس الكبير لهذه المسألة حين حدثت عدة نكبات في عصره وتسائل الناس في حيرة: هل الله مسببًا للشرور؟ وأجاب القديس بكتابة مقالة تحمل نفس السؤال: هل الله مسببًا للشرور، ونحاول الآن أن نرى محتوى هذه المقالة بإيجاز لنعرف كيف عالج هذا الموضوع.
ينصحنا القديس باسيليوس بأننا ينبغي علينا أن نضع في تصورنا هذا الأمر: إننا نحن خليقة الله الصالح وإننا محفوظون بواسطة الله الذي يدبر الأمور الصغيرة والكبيرة في حياتنا. ويستنتج بعد ذلك نتيجة هامة قائلاً: لذا فإننا لن نعاني شيئًا دون أن يكون لله إرادة في ذلك. ثم ينصحنا أيضًا بأن شيئًا مما نعاني منه لا يعتبر ضارًا لنا، بل يكون أفضل، لأننا عندما نتأمل في ذلك نستطيع أن نقترب من الله خالقنا. ويميز القديس باسيليوس بين النكبات التي نحن
سببًا مباشرًا لها، وأخرى يسمح بها الله لفائدتنا:
"هناك من الشرور ما يتوقف علينا نحن مثل الظلم، والخلاعة، والإنحلال الخلقي والجُبن والجسد والقتل والدسائس وكل ما يترتب عليها من أفعال تلوث النفس التي خُلِقت بحسب صورة الله خالقنا. إن هذه الأفعال تشوه بالطبع جمال النفس".
ثم يستعرض تجارب أخرى تأتي من الله، قائلاً:
"عندما يأخذ الله المال من الذين يستخدمونه بطريقة سيئة، فإنه يريد أن يدمر ـ بهذه الطريقة ـ الأداة التي بها يظلمون الناس. وأحيانًا يتسبب الله في مرضٍ للذين يكون في صالحهم أن تتقيد أعضائهم ويلازمون فِراش المرض أفضل من أن يكونوا معافين وأحرار في إرتكاب الخطية. والموت يأتي إلى البشر في الوقت المناسب، أي عندما يصلون إلى نهاية حياتهم التي حددها حكم الله العادل منذ البداية، الله الذي قد رأى مسبقًا ما يفيد كل واحد منا. كذلك فإن المجاعات والسيول هي أيضًا نكبات عامة تأتي على المدن والأمم لكي توقف وتحجم فعل الشر المتفاقم".
يجب علينا لكي نفهم ما يقوله القديس باسيليوس أن تكون لنا قناعة وقبول لترتيب الأمور كما رتبها في مقالة، فأولاً علينا أن نؤمن بأننا خليقة الله، وأن هذا الله هو صالح. وهذا الإله هو ضابط الكل أي يدبر كل الأمور في حياتنا سواء كانت صغيرة أم كبيرة. ثانيًا: علينا أن نعيد النظر في رؤيتنا للنكبات. فقد نحكم على أمر بأنه نكبة وكارثة لكن علينا أن نميز بين ما نصنعه بأنفسنا وكان في إمكاننا عدم فعله والأمور التي تبدو أنها بسماح من الله والتي نقرأ فيها رسالة الله لنا.
ولا ننسى أن هذا الكلام يوجهه القديس باسيليوس للمؤمنين. فهو هنا لا يناقش مسألة فلسفية وجدلية. بل هنا هو الراعي الحريص على رعيته والعارف لهموم ومشاكل مجتمعه. فالذي لا يؤمن بأن الله صالح وأنه أب يعتني به ويدبر أموره، لا يستطيع أن يفهم ما يقوله القديس باسيليوس بخصوص هذا الموضوع. وما يقوله القديس يعبر عن تعليم الكنيسة الذي يستند على الكتب المقدسة.
الإنسان مسئول مسئولية كاملة عن نكبات يعاني منها هو ومجتمعه مثل الظلم. فالإنسان عليه أن ينحاز ناحية العدل وإحترام حقوق الآخرين ولا يتطاول على ممتلكات غيره ولا يتفنن لكي يغتصب الحقوق ويجور على الفقراء والمهمشين والضعفاء بل عليه أن يجاهد في سبيل العدالة ومحاربة كل أشكال الظلم. أيضًا الإنحلال الخلقي وإرتكاب الفحشاء من صنع البشر. هذه نكبات من صنع البشر، وكان في إمكانهم عدم فعل هذه الشرور إلا أنهم إختاروا طريق الشر. والرسالة المسيحية لا تكتفي بأن تنصح البشر بعدم إرتكاب الشر بل تمنح بالمسيح إمكانية أن لا يفعل الشر، وهذا هو الجانب السلبي. أما الجانب الإيجابي لهذه الإمكانية هو فعل الصلاح والخير. هذه الإمكانية تُدعى في خطابنا المسيحي: النعمة المغيرة، التجديد، الميلاد الثاني. ففي المسيحية يمتلك الإنسان القدرة على فعل الخير والصلاح ورفض كل ما هو شر وغير إنساني.
ونرى أن المشكلة في هذه المقالة هو النوع الثاني من النكبات والتي يؤكد لنا القديس باسيليوس أنها تأتي من الله لفائدتنا. والقراءة السطحية تعطي إنطباعًا بأن الزلازل والبراكين وكذلك الأمراض وبعض النكبات هي من الله، وبالتالي فالله مسببًا للشرور. لكن القديس باسيليوس يشرح في نفس المقالة ما قصده من هذا التصنيف ضاربًا لنا مثالاً رائعة نراه في حياتنا اليومية: "مثلما نصف الطبيب بأنه محسن وكريم حتى لو تسبب في إيلام الجسد أو النفس (لأنه يحارب المرض وليس المريض)، هكذا الله هو صالح يدبر الخلاص من خلال محصلة من العقوبات. ونحن لا نتهم الطبيب بأي إتهام عندما يقوم ببتر جزء من أعضاء الجسد أو يكوي آخر، بل نعطيه أجرًا وندعوه مخلصًا لأنه يوقف المرض عندما يظهر في جزء صغير من الجسد قبل أن ينتشر في كل الجسد. ولكنك عندما ترى مدينة تنهار على ساكنيها بسبب زلزال، أو سفينة تتكسر وتغرق في البحر مع كل ركابها، لا تتردد في التجديف على الله الطبيب الحقيقي والمخلص" ويستمر قائلاً: "فكما أن الطبيب ليس هو السبب في إجراء الجراحة أو الكي، بل المرض نفسه، هكذا فالخطايا هي التي تسبب دمار المدن، وليس الله المنزه عن أي إتهام".
وقد يتسائل أحد متعجبًا: أليس هذا التفسير يزيح المسئولية عن الإنسان بخصوص حدوث الزلازل وكذلك غرق سفينة أو إحتراق مبنى أو حوادث الطرق، طالما هي من الله. الإجابة: لا، لأنك لم تفهم جيدًا ما يقوله القديس باسيليوس. إرجع إلى مثل الطبيب لكي تدرك جيدًا تفسيره. الطبيب ليس هو السبب في حدوث المرض، أي الله ليس هو السبب في حدوث هذه الكوارث بل الإنسان حين يرتكب الخطايا. فالنتيجة الطبيعية لإهمال عوامل الأمان في سفينة تبحر هي الغرق. ما هي مسئولية الله في ذلك، أليس على الإنسان أن يكون حريصًا على تزويد السفينة بكل الأشياء التي تجعلها آمنة وهي تبحر، أيضًا أليس عليه لو حدثت وغرقت هذه السفينة لسبب خارج عن سيطرته مثل العواصف الفجائية أو ما شابه ذلك أن يكون لديه قوارب نجاة وسترات نجاة وجهاز يصدر إشارات إستغاثة. عليه أن يفعل ما في إستطاعته. أليس التراخي والإهمال والتواكل هي خطايا من فعل الإنسان. وبالرغم من أننا نقر بمسئولية الإنسان وبأننا ننادي بالحرص على معرفة وتطبيق وسائل علمية حديثة في كافة مجالات حياتنا لأنها جزء من مهام الإنسان المبدع والمفكر والمخلوق بحسب صورة الله في السيادة والإبداع والتفكير والإنحياز للخير والصلاح، إلا أنه حين تحدث مثل هذه الكوارث ويسمح بها الله لإحترامه لحرية الإنسان ولأنه ليس هو الكائن الذي يتدخل في اللحظة الأخيرة عنوةً مثل إله الأساطير لكي يعطي حلاً لكل ما يواجهه الإنسان، بل الإله الذي نعبده، لا يغتصب الله شيئًا عنوةً بل يحترم حريتنا ولكنه يحول كل شيء لفائدتنا. هذا ما يريد أن يخبرنا عنه القديس باسيليوس أن مثل هذه الكوارث تأتي من الله أي بسماح منه، إذ لا يتدخل عنوةً لإيقافها بل يترك النتيجة الطبيعية لأفعال الإنسان يواجهها الإنسان بنفسه ويتحمل مسئولية أفعاله. لكن الله يدبر كل الأمور، بمعنى أنه يحول كل صغيرة وكبيرة يواجهها الإنسان لصالح الإنسان. وهذا الأمر يتطلب من الإنسان أن يثق في صلاح الله، مثلما يثق في الطبيب الذي يسمح ببتر عضو من أعضاءه لكي يشفي بقية الأعضاء. فالطبيب لم يكن مسببًا للمرض بل قام بدور الشافي لجسم إعتل بالفعل. هكذا الله مدبر هذا الكون يترك الإنسان يواجه نتائج أفعاله أيًا كانت هذه الأفعال ولكن تدخل الله ينحصر في جعل هذه النتائج لفائدة الإنسان. وقد يتسائل أحد: هل الزلازل والكوارث الطبيعية هي من نتائج فعل الإنسان؟ نقول نعم لأن الكتاب يعلمنا بأنه بسقوط الإنسان وتنصله عن دوره الإعتنائي بالكون تسبب في إصابة الخليقة بتشوهات كثيرة. فهي تئن وتتمخض إلى الآن من جراء أفعال الإنسان مثل إهدار الموارد الطبيعية لفائدته دون مراعاة البيئة المحيطة، التفجيرات النووية التي تحدث في باطن الأرض، التلوث البيئي المستمر بفعل الإنسان. كل هذا يجلب كوارث ويخترق النظام والتوازن الطبيعي. إلا أن نعمة الله تسند الكون وتحول النتائج الوخيمة إلى فائدة الإنسان. وهناك عبارة رائعة في القداس الغريغوري تلخص هذه الحقيقة: "حولت ليَّ العقوبة خلاصًا".
هذه الرؤية ـ كما قلنا ـ هي رؤية الأبناء تجاه الأب الحنون الذي يحب أبناءه، الواثقون في صلاحه ومحبته. أما الذين لا يؤمنون بهذا المحب تظل بالنسبة لهم الكوارث والنكبات والشرور والأمراض معضلة يصعب البحث عن
إجابة لها.
نحن هنا لا نتبنى رؤية دينية ضيقة لتسهيل تفسير مشاكلنا وهمومنا التي نواجهها بل رؤية تؤمن بالله والإنسان. تؤمن بالإله المحب والراعي الصالح وضابط الكل والذي يسعى لتحرير الإنسان من ضعفاته ويمنح للإنسان نعمة تجعله يحيا حياة كريمة غير مكبلة بقيود الضعف واليأس والخنوع بل على النقيض هذه النعمة تعطيه القدرة أن يحيا كإنسان يقوم بدوره الفعال تجاه الكون وأخيه في الإنسانية والمجتمع. إنسان يتسلح بكل الإمكانيات التي أودعها الله فيه ليُفعّلها ويرتقي بنفسه وبالآخرين. لكن هذا الرقي والتقدم ليس بإنتهاج أساليب وتبني مفاهيم فيها يُستخدم البشر وتهدر كرامتهم. بل بأسلوب يكون الإنسان في مكانة عظيمة تليق به كمخلوق إلهي.




الاثنين، 6 ديسمبر 2010

الشخص أم المجتمع؟




الشخص أم المجتمع

د. جورج عوض إبراهيم
حين ينتصر الإنسان على نفسة ويتطهر من شهواتة يكتسب إمكانية للشركة مع الله ومع أخوتة في الإنسانية . البعض ينظر للأمور رومانتيكياً ومظهرياً ويلقون كل العيوب والشرورليس على الأشخاص بل يضعونة على المجتمع ، لذلك يعتقدون بأن تحسن المجتمع سوف يجلب أيضاً تحسن للأشخاص . لكن الإيمان المسيحي بدون أن ينكر أهمية التأثير الإجتماعى على الأشخاص يعطي أهمية وأفضلية لتغير الشخص بواسطة التوبة والنعمة الإلهية .
إنة ضلال مُبين أن نريد تغيير المجتمع بدون أن نجاهد ونغير ذواتنا .
  من الواضح أن الرب وضع التوبة الشخصية كشرط للمشاركة في ملكوتة . أيضاً لا يجب أن نهمش الشيطان في إنحلال الأشخاص والمجتمعات وفي سيادة الشر. التبسيط البشري الساذج للمشاكل الإجتماعية يرفض وجود الشيطان. على النقيض في الإنجيل والخبرة المسيحية يظهر إمتداد الأفعال الشيطانية على الأشخاص والمجتمعات والصراع الحتمى ضد الشيطان ، وإخراج الأرواح الشريرة . عمل المواهبيين هو تمييز الأرواح حتى لا يسقط المسيحى في المصايد التى ينصبها الشرير عندما يظهر بقناع الصلاح .
نشدد على قوة القوات المضادة للمجتمعات ليس لكى نظهر تفوقهم بل نظهر حتمية أن يأخذ فى حسابة المجاهد المسيحى هذا الأمر بجدية.
المسيح أنتصر على هذة القوات والمسيحى بدورة يستطيع، بقوة المسيح وبعملة المشترك مع النعمة الإلهية ، أن يشارك في إنتصار المسيح هذا. عند هذا الحد يختلف جذرياً الجهاد المسيحي الإجتماعى عن أى جهاد آخر. المجتمعات التى تريد أن تنشىء نُظم أيدولوجية ومادية هي تعتبر الأنسان هو مركز كل شىء. مجتمع المسيحيين يتمركز حول الله والأنسان. أيضاً وسائل النُظم الأيدولوجية والمادية هى وسائل بشرية مجردة. أما وسائل المجتمع المسيحى هى إلهية إنسانية. أى في أساس المجتمع المسيحى يُوجد الأتضاع، بينما فى أساس مجتمع النُظم نجد التفاخر،والأكتفاء الذاتى والأنعزال عن الله. أى تكرار نفس خطية آدم : السعى نحو التألة بدون الله.
المجتمع البشرى بدون المسيح يفتقر لسلام النفس ، إذ يترك الأنسان غير مُصالح مع الله أبوة السماوى ، ولأجل هذا هو مجتمع بلا مأوى. ليتنا نتذكر قول أُغسطينوس الذى عَبّر عن الخبرة البشرية ، قائلاً : "لقد خلقتنا يارب لأجلك وقلوبنا لن ترتاح إلا بالقرب مِنكَ "النظم الأجتماعية تساعد فى حل بعض المشاكل الإجتماعية والإقتصادية ، لكن لا تساعد على أن نتقابل حقيقياً وجوهرياً مع الله. هذة النظم لا تجيب بأجابة شافية على تساؤلاتنا الوجودية وخاصةً على مشكلة الموت المركزية. العالم يمضى في ترتيب أوراقة بنفسة لكى يموت.  النشاط البشرى المحض هو نتيجة محاولة أن ننسى مشكلتنا الأساسية، مشكلة الموت والتحرر من القلق والفراغ والإطار الذى يوسم الحياة المنفصلة عن منبعها : الله الثالوث.
لأجل هذا أيضاً هذة النُظم بالرغم من المقاصد الصالحة والنقية لكثير من البشر الذين يجاهدون ويقدمون ذواتهم ذبيحة مِثاليتهم، في الأساس هى ضد الأنسان. فى إسم مجتمع فاضل وعادل تعيق هذه النظم الإنسان عن الشركة الإلهية الإنسانية التامة ، وتعززة ميكانيكيا فى كون مادى مغلق ، وتحرمة من عنصرة الإلهى السماوى.
ما هو مفهوم حياتنا الحقيقية لو إرتضينا أن نكون حيوانات متطورة وليست أيقونات الله ؟
ما  هومفهوم حياتنا الحقيقية لو إرتضينا أن يُحكَم علينا بالموت بدون إمكانية الإتحاد بالله فى الحياة الأبدية ؟