الأحد، 18 ديسمبر 2011

اللاهوت الآبائي والفلسفة - المطران يوحنا زيزيولاس

حوار مع المطران يوحنا زيزيولاس

Ορθόδοξος Τύπος» 4/8/200" ترجمة د.جورج عوض ابراهيم                                                                       سمعت البعض يتهمون اللاهوتيين المعاصريين ، بأنهم يقدمون الآباء كفلاسفة وجوديين . هل هذا الاتهام هو حقيقي ؟

هذا السؤال يضع امامنا مسألة علاقة اللاهوت الآبائي بالفلسفة . من جهة هذا الموضوع ، نقول بإختصار الآتي :
أ‌-        آباء الكنيسة ، لكي يعبروا بكلمات بشرية مخلوقة عن خبرة التأله ، إستخدموا مصطلحات فلسفية كثيرة ومناهج من الفلسفة القديمة وبالأخص الفلسفة اليونانية . هكذا ، في أعمال الآباء المختلفة سوف نجد مصطلحات فلسفية كثيرة ( أساليب إيجابية وسلبية ، أفلاطونية ، رواقية ، ...الخ )  بطريقة مماثلة ، الآباء . بعض المرات يستخدموا المنهج التاريخي اللغوي ليفسروا الكتاب المقدس ، بينما آخرون مرات أخرى يستخدموا المنهج الرمزي او التيبولوجي .لكن  بالرغم من أعتمادهم الظاهري على تيارات عصرهم الفلسفية ، إلا أنهم عرفوا ، ان خبرة التأله، كشركة الانسان المخلوق في الوجود غير المخلوق وغير المبتدأ للثالوث القدوس ، يتخطى كثيراً اي واقع مخلوق ، وبالتالي لا يخضع لأي مصطلح ومنهج فلسفي ، وكذلك لأي دراسة وتحليل علمي ، ولا لأي تفسير منطقي و ضرورة منطقية. هكذا الآباء  ، وهم لديهم ضمير واضح للحقيقة السامية ، استخدموا إنتقائياً تلك المصطلحات الفلسفية ، وتلك المناهج الفلسفية ، لكي يعبروا عن تعليم الكنيسة ، لكن أبداً لم يخضعوا هم أنفسهم لأي مصطلحات ومناهج فلسفية . ببساطة ، بالنسبة لآباء الكنيسة أي مصطلح ومنهج فلسفي صار أداة مناسبة بواسطته  عُبر عن التعليم الارثوذوكسي بدون أبدا ان يصيروا آباء الكنيسة ذاتهم أفلاطونيون ، أو أتباع أرسطو ، أو رواقيون ، ...الخ .
ب‌-    كثيرون من اللاهوتيين المعاصرين – خاصةً الأكادميين – يحاولون ، ان ينسخوا تعليم الآباء السامي ويربطون تعليم الكنيسة بتيارات مختلفة فلسفية وأفكار عصرنا العلمية ( على سبيل المثال يحاول البعض ان يربط التعليم الآبائي بالوجودية ) . ويزعمون بأنهم يستمرون في عمل آباء الكنيسة ، متمشين مع إحتياجات عصرنا والمسائل الميتافيزيقية للأنسان المعاصر ، لكن بالرغم من النيات الحسنة التي لا يوجد أدنى شك فيها ، المحاولات هي – بحسب رأيي – خطيرة ، عندما يشرع اللاهوتي في المضي في هذا العمل بدون ان يكون في حالة التأله الروحية ( عندئذٍ إجبارياً يتبع مسيرة التفكير العقلي والفلسفي المجرد ) ، وليس لديه وعي واضح مطلق لحقيقة ان خبرة التأله تفوق أي واقع مخلوق ، وبالتالي لا تخضع لأي ضرورة عقلية ، ولأي مصطلح ومنهج فلسفي . لأجل هذة الأسباب نحن متحفظون تجاه محاولة الذين يشرعون في ربط الحركة الوجودية الفلسفية بتعليم الكنيسة ، لأنه يوجد دائماً خطر الأخطاء اللاهوتية التي تمثل النهاية الطبيعية لإنعزالنا وإنحصارنا في مناهج ومصطلحات فلسفية ، وكذلك لأن الأنشغال بهذة الانواع من الأعمال هو عمل الآباء ، طالما فقط القديسون يستطيعون ان يتحركوا بأمان لاهوتي داخل تيارات عصرهم الفلسفية . الحالة الكلاسيكية لمثل هذا الانسان ، في أيامنا ، هو المطوب الاب صفرونيوس زاخاروف إنسان – وفق نموذج الآباء – يربط بطريقة ممتازة القداسة بالتربية الفلسفية لعصرنا .
وفق ما قلناه  ، إن محاولة الذين يشرعون في ربط تعليم الكنيسة بحركة الوجودية الفلسفية يجب ان تصير دائماً بتحفظ وحرص شديد . لأنه دائماً يوجد خطر الخطأ الذي يتبعه تغير في التعليم والعُرف الكنسي . الأمور ستكون أفضل لو أعترفنا نحن المدعون لاهوتيون بتواضع بعدم كفاية ومحدودية قدراتنا ونتجنب الإنشغال بمسائل تفوق قدراتنا التفكرية ، وفي التحليل النهائي ولا تخدم خلاص أخوتنا ، بحسب القول الإنجيلي : "  لاَ يَنْفَعُ شَيْئاً بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ " مت24:27

الخميس، 8 ديسمبر 2011

بشارة والدة الإله


بشارة والدة الإله
                                د. ج.باترونس- استاذ العهد الجديد- كلية اللاهوت جامعة أثينا-ترجمة د جورج عوض
1ـ ناصرة الجليل
كانت الناصرة قرية صغيرة وفقيرة في شمال فلسطين مبنية في وادي علي مسافة حوالي 140كم من مدينة أورشليم, إنها قرية لم تلفت نظر أي أحد. لقد كانت غير معروفة ومجهولة من الجميع في زمن العهد الجديد كذلك لم تكن جديرة لأن يُذكر إسمها ولا مرة واحدة في كل تاريخ الشعب الإسرائيلي الطويل. إن إسم "الناصرة" لم يُشار إليه أبدًا لا في العهد القديم ولا في التقليد اليهودي المُسمي "التلمود", ولا في النصوص التاريخية للمؤرخ يوسابيوس فلافيوس بالرغم من أننا نجد في هذه النصوص قصص نادرة وتفاصيل جغرافية. لكن ها هي "الناصرة" المهمشة والمجهولة سوف تلعب دورًا هامًا في خلاص العالم وفي الوقائع التي حدثت في العهد الجديد, مع أن هذا الإسم ذُكِر بإحتقار شديد "أمِنْ الناصرة يأتي شيءُ صالحُ" (يو46:1).
كانت الناصرة ـ بحسب نصوص العهد الجديد ـ وطن يواقيم وحِنة اللذين أنجبا العذراء مريم, خطيبة "يوسف النجار" الذي من الناصرة ولأنه كان إنسان "بارًا" وصالح إستحق من الله أن يلعب دورًا هامًا في تطور أحداث التاريخ المقدس, حتى أنه قام بحماية الطفل الإلهي وأمه مريم.
هكذا كُرِمت "الناصرة" تاريخيًا, إذ صارت موطن يسوع المسيح, لذا سُمي "الناصري". عاش يسوع هناك مع عائلته أيام الطفولة وفترة طويلة صَمَّت كُتَّاب العهد الجديد في إخبارنا بها حتى اللحظة التي بدأ نشاطه العلني عندما جاء ملء الزمان وكان عمره وقتذاك حوالي ثلاثون عامًا.
نصوص العهد الجديد لا تذكر شيئًا عن والِدَّي العذراء مريم ولا عن طفولتها ولا عن بعض الأحداث المصاحبة لحياتها الشخصية. لكن التقليد الكنسي ونصوص الأبوكريفا تشير إلي هذه المواضيع وتحفظ لنا بعض الأحداث التي صاحبت طفولة فتاة الناصرة. لقد عاشت مريم في منزل فقير ومتواضع في الناصرة مثل كل فتيات سنها وعاشت نفس ظروف الحياة التي عاشتها أغلب العائلات في هذه القرية الصغيرة, وداخل هذا الواقع المتواضع لم يستطع أحد أن يتوقع المستقبل العظيم الذي ينتظر هذه الفتاة الفاضلة والمتواضعة. لقد كانت لمريم إنشغالات روحية إذ كانت مخلصه ووافية للتقليد الديني لآبائها مثل المواظبة علي الصلاة في ساعات اليوم المختلفة, ودراسة الكتب المقدسة وحضور شعائر المجمع التعبدية. لقد ساهم كل هذا في فِلاحة حياتها الروحية وفي التعمق والتأمل وفي تطلعاتها المستمرة لتحقيق النبوات الخاصة بمجيء المسيا المنتظر.
2ـ بشارة والدة الإله في إنجيل لوقا
لقد أشار القديس لوقا الإنجيلي إلي حدث بشارة الملاك لمريم, مشددًا علي أن بحضورها الشخصي وقبولها للبشارة ساهمت في أن نصل إلي "ملء الزمان" لتحقيق نبوات العهد القديم التي تخص مجيء يسوع المسيح المخلص: "وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ:«سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ:«مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!» فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ" (لو26:1ـ32). هذا النص غني بالصياغات اللاهوتية التي بها أيضًا نتعرف علي فتاة الناصرة. كانت مريم "منعم عليها", مليئة بالنعمة والروح ومزينة بعطايا الله الغنية. وبسبب مواهبها هذه دُعيت من الله لتصر أُم لإبنه, لتصر "والدة الإله" في عالمنا هذا وذلك لأجل خلاص البشر. كان لسلام الملاك مغزي خاص:
(أ) أستخدمت من اللغة اليونانية كلمة سلام "χαίρε" الكلاسكية.  
(ب) وفي الغالب أُستخدمت الصيغة القديمة الآرامية "سلام لك". وهذه الصيغة تذكرنا بسلام الرب القائم لتلاميذه ورسله "لو36:24, يو9:2,..الخ". أيضًا تستخدم هذه الصيغة اليوم في بلاد الشرق, فتحية السلام العبرية "شالوم" تعني سلام. لكن هناك إضافة في تحية الملاك وهي عبارة: "الرب معك" إشارة إلي أن السلام الحقيقي لا يتحقق بدون حضور الله. وهكذا إكتسب السلام الإجتماعي الملمح الخلاصي. وبالتالي تحية الملاك "سلام لك" أو "سلام" لا تمثل مجرد سلام عادي بل تعبر عن الحالة المنعمة التي أكدتها زيارة الله إلي عالمنا. إن تجسد الكلمة هو الضمان العظيم لتحقيق الشركة والسلام بين البشر والله. "إضطربت" فتاة الناصرة من زيارة الملاك, إذ سببت لها التحية الملائكية في لحظة "بشارتها" حشد من التساؤلات وأفكار كثيرة وبدأت تتسائل في نفسها "ما عسي أن تكون هذه التحية". إن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تستوعب "عظمة السر" الذي بدأ يُعلَّن أمام أعين البشر. العذراء مريم ومعها كل البشرية وُجدت أمام معجزة غير قابلة للتفسير, وقول الملاك لها "لا تخافي يا مريم" تؤكد حقيقة إستحالة التفسير. كل مرة لدينا في العهد الجديد ولوج إلي الحقيقة الخلاصية سواء من جانب شخص معين أو مجموعة من البشر فإن هذه الحقيقة تُصارع بتعبيرات مثل "لا تخف" أو "لا تخافوا" والتي نجدها دائمًا في النصوص المقدسة (أنظر مت21:1, 20:1, مر36:5. لو12:1, 30:1, 10:2, 10:5,...الخ).
والحوار مستمر بين الملاك والعذراء: "فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك وقال لها الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعي إبن الله" (لو34:1ـ35). عبارة "وأنا لست أعرف رجلاً" تعني بالغة الدارجة لهذا العصر "هذا لا يمكن أن يحدث" أو "هذا لا يمكن أن يحدث حيث ليست لي علاقة أو لم يكن لي علاقة بتاتًا مع رجل" أو كما في بعض الترجمات الحديثة "كيف سيصير هذا حيث أني عذراء؟" 
بالرغم من رد فعل العذراء مريم فإن الملاك إستمر في قوله هذا وشرح لها قائلاً: "الروح القدس يحل عليك.... لأنه ليس شيء غير ممكن لدي الله". إن حدث "الحبل بلا دنس" لا يمكن أن يُفهم بلغة ومصطلحات عالمنا الطبيعي لكن بلغة الإيمان والمعجزة, بمصطلحات لاهوتية. لأن هذا الحدث هو من ضمن الإعلان الإلهي ولا يقع من ضمن الأحداث الطبيعية لعالمنا الساقط. هكذا العذراء مريم التي لم تستوعب في البداية ماذا تعني أقوال رئيس الملائكة جبرائيل, وبالرغم من ضعفها في أن تفسر وتفهم محتوي "البشارة" قدمت طاعة وإمتثال للإرادة الإلهية: "هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك"  (لو38:1). والفهم الضعيف لحدث ما لا يجب أن يعني في نفس الوقت رفضه. وفي حالة العذراء, الطاعة والخضوع لسر الله كان هو العمل الروحي الأكثر برهانًا من تفسير وفهم الإعلان الإلهي الذي يتوق إليه دائمًا الإنسان. معايشة المعجزة وحضور الله هو بلا شك عمل حقيقي وأساسي من هذا الذي ندعوه اليوم "محاولة تفسير الإعلان الإلهي".
3ـ رسالة البشارة في نور التعاليم اللاهوتية لتجسد الكلمة
لدينا بتجسد الكلمة حدث إلهي فوق طبيعي دخل إلي عالمنا الطبيعي والساقط ولا يُدرج من ضمن الأفعال البشرية. بحسب ظروف ونواميس العالم الساقط لهو أمر مستحيل أن يحدث حمل وولادة بدون الخضوع للقوانين الفسيولوجية "لتكاثر النوع" لكن تجسد الكلمة ـ بحسب النصوص المقدسة ـ ليس له مفهوم بقاء آدم الساقط المولود لم يأتي لكي يكمل سلسلة (أبناء الهلاك) لكن جاء بصفته "إبن الله" ولذلك هو بداية الدعوة المقدسة, حيث أنه "ثمرة" "قوة العلي" ـ بحسب النص ـ وبالتحديد "حلول الروح القدس". كلمة (عليكِ) تجعل الحدث هو محدد وشخصي داخل الزمن التاريخي (واقع الحياة). هكذا يسوع المسيح لم يكن ثمرة ووليد آدم الأول والإنسان الساقط. جاء إلي التاريخ بصفته "آدم الثاني والأخير" وصار "بكر" لبشرية جديدة, لنسل جديد لشعب الله أي الكنيسة. لدينا في حوار الملاك مع مريم وفي بشارة ميلاد يسوع المسيح تأكيد من رئيس الملائكة بأن "ليس شيء غير ممكن لدي الله". في كل مرة يتسائل الإنسان غير ممكن أن يحدث هذا؟ تأتي الإجابة "ليس شيء غير ممكن لدي الله". هنا "غير الممكن" التي للطبيعة البشرية "وغير المفهوم" للحدث التاريخي يتُخطون جوهريًا داخل "المنطق الجديد" للمعجزة. هناك الكل يُفهم فقط بفعل القبول وعندما نتحدث هنا عن "المعجزة" لا نعني أي "إبطال" لطبيعة عالمنا ونواميسه حتى إن تخطت بالتحديد "النظام الطبيعي". لأن المعجزة توجد جوهريًا في طبيعة الأشياء.
بالمعجزة لدينا صعود حقيقي للخليقة إلي حقيقتها بحسب الطبيعة, إلي حالة إستعادة ما فُقِد, أي إلي التجديد "الولادة الثانية" للخليقة من التغرب, والفساد, والموت أي السقوط إلي الحالة الأولي الجديدة لملكوت الله.
الكلمة أخذ "جسدًا" بالبشارة ("الكلمة صار جسدًا" يو14:1), وُلِد إنسان, أتي إلي التاريخ وإلي عالم الفساد, مات فوق الصليب لكن لم يكن من العالم الساقط أي "جسد", وفساد, وموت. بجسده وموته أبطل الفساد والموت اللذان جوهريًا مِن خصائص الطبيعة البشرية. هكذا, الشر هُزم وليس له صفة الديمومة. 

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

ماذا عن القديس أغسطينوس وتعليمة؟ المطران يوحنا زيزيولاس- ترجمة د جورج عوض

ماذا عن القديس أغسطينوس وتعليمة؟ المطران يوحنا زيزيولاس

«Ορθόδοξος Τύπος» 4/8/2006 ترجمة د.جورج عوض ابراهيم                          
بعض اللاهوتيون يعتبرون القديس أغسطينوس هرطوقي زاعمين ان تعليمه عن الله هو تعليم غير آبائي. هكذا بحسب رأيهم ، بينما التعليم الآبائي هو أرثوذوكسي ، إلا أن  - في نظرهم - تعليم أغسطينوس هو هرطوقي. لكن لو ان الامور هي هكذا حقاً ، لماذا لم يتهمه أي أحد من الآباء بأنه هرطوقي. لأنه لم يُدان أبداً من المجامع المسكونية بأن تعليمه عن الله هرطوقي. أيضاً ، آباء الكنيسة بأنفسهم لم يدينوا أبداً تعليم القديس أغسطينوس ، إذن بأي منطق يزعم اللاهوتيون المعاصرون بأن تعليمه في مجمله هرطوقي ، هل هم أكثر حكمة من الآباء ويدركون أكثر منهم تعليمه الهرطوقي ؟ 
على هذا الموضوع – بحسب رأيّي – يسري الآتي : أي مسيحي ليس هو معصوم من الخطأ. من هذا القانون العام لا يُستثنى أحد ، لا الرسل ولا آباء ومعلمي الكنيسة ، ولا – بالأكثر – الكُتاب الكنسيين المتنوعين واللاهوتيون الأكاديميون. القديس ايرينيوس أسقف ليون ، بالرغم من أنه سحق بتعليمه هرطقة الغنوسيين المرعبة كان معضداً لأفكار المُلك الألفي. وبالمثل ، القديس غريغوريوس النيصي ، بالرغم من أنه ساهم جوهرياً في إدانة أتباع أريوس ، إلا أنه عضد تعليم " النار المطهره " و" رد كل شييء" واللذين رُفضا من التعليم الأرثوذوكسي . في هذة الحالات ، تختار الكنيسة فقط ، بتمييز شديد داخل عمل الآباء والكتاب الكنسيين ، التعاليم الآتية من استنارة الروح القدس ، أو تعبر عن أصالة إيمانها بأصالة ودقة. هذة التعاليم تقبلها وتعرفها كتعاليم أرثوذكسية وآبائية ومُلهمة وتضمها إلى تقليدها. لكن عندما تتحقق الكنيسة من أخطاء في أعمال الآباء والكتاب الكنسيين ، لا تسير في إدانة الذين أخطأوا كهراطقة ( فيما عدا التطرف الشديد والخاص بخلاص المؤمنين ) ، ايضا تحاول ان لا تتبع أخطائهم .
إذن لأجل هذة الأسباب تعليم القديس أغسطينوس – بينما من الواضح ، انها تحتوي كثيراً من الأخطاء – أبداً لم تعتبرها الكنيسة في مجملها كتعليم هرطوقي ، بينما القديس أغسطينوس لم يُدان من الآباء كهرطوقي ولا من الكنيسة . على النقيض ، أعماله ، بالرغم من أخطائها ، صارت محبوبة من المسيحيين عبر الأزمنة ، وتمثل حتى اليوم قراءات مفيدة ( خاصةً في الغرب ) . على هذا الأساس فالرأي القائل بأن تعليم القديس أغسطينوس تعليم هرطوقي هو رأي خاطيء .
دعونا في هذا الموضوع نأخذ مثال من الآباء الكبادوك ( باسليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ) ، بالرغم من انهم كانوا يعرفون أخطاء أوريجينوس اللاهوتية ، إلا أنهم درسوا أعماله وكانوا يقدرونه كرجل كنسي عظيم ومفسر ويعتبرونه اب روحي لهم ( جدة باسليوس الكبير ، ماكرينا كانت تلميذة القديس غريغوريوس العجائبي الذي كان تلميذ أوريجينوس ) ، وعرفوا النقاط  الارثوذكسية في تعليمه.

الجمعة، 18 نوفمبر 2011

هل من الضرورة الاستشهاد بنصوص كثيرة من أعمال الآباء لكي يحمل البحث الملامح الارثوذكسية ؟

 هل من الضرورة الاستشهاد بنصوص كثيرة من أعمال الآباء لكي يحمل البحث الملامح الارثوذوكسية ؟ المطران يوحنا زيزيولاس - ترجمة د جورج عوض

Ορθόδοξος Τύπος» 4/8/2006
بالتأكيد ، لا . لكي يُوصف النص بأنه أرثوذوكسي أو آبائي يجب ان يعبر عن أصالة ودقة روح تقليدنا الارثوذوكسي. هذا بحسب رأينا هو المعيار الوحيد الأكيد . من هناك وصاعداً ، كل لاهوتي ينبغي  ان يُظهِر استقامة وأصالة آرائه ، يمكن  عن قصد ، ان يذكر شواهد مكتوبة قليلة أو كثيرة من أعمال الآباء . لكن هذا زاد ومؤن تساعِد في عمله. لكن لو نصه لا يمثل تعبير دقيق وأصيل لروح تعليم القديسيين ، عندئذٍ ، حتى لو المكتوب مصاحب بشواهد كتابية وآبائية كثيرة ، تظل آرائه خاطئة.
على سبيل المِثال ، نصوص لاهوتية لشهود يهوة تحتوي على كثير من الشواهد الكتابية. لكن هذا لا يبرهن بمفرده بأنها تعبر عن أصالة ودقة تعليم الكتاب المقدس عن الله. على النقيض ، نصوص القديس سلوانس الأثونيتي ، على سبيل المثال ، والأب يوسف الهدوئي يستشهدون قليلاً من شواهد الكتاب أو الآباء. لكن بالرغم من ذلك ، هذة النصوص تعبر بأصالة ودقة عن روح التعليم الارثوذوكسي . لا يحتاج القديسون الاستشهاد بنصوص الكتاب المقدس او اعمال الاباء لكي يعلموا بتعليم الكنيسة لأنهم يعرفون التعليم اللاهوتي داخل خبرة الشركة ومعاينة الله .

الجمعة، 4 نوفمبر 2011

حوار مع المطران يوحنا زيزيولاس – 2 - الشخص وعقيدة الثالوث القدوس

حوار مع المطران يوحنا زيزيولاس – 2 - الشخص وعقيدة الثالوث القدوس
«Ορθόδοξος Τύπος» 4/8/2006 ترجمة د.جورج عوض ابراهيم                                         مفهوم الشخص هل هو نتاج التعليم الآبائي ؟


لكي ندرك إجابة السؤال ينبغي أولاً أن نرى بإيجاز الأفكار الهامة ، على الأقل الأفكار الدينية والاعترافات المسيحية الخاصة بهذا الموضوع . نستطيع ان نقسم هذة الافكار إلى ثلاثة مستويات ، كالآتي :
1-   الكائن الالهي المطلق والأول هو ليس شخص. الذين ينادوا بهذا الفكر هم أتباع الديانات الشرقية . في هذة الديانات نستطيع ان نُدخِل على سبيل المثال تعليم الهندوسية ، البوذية وديانتي الصين المعروفة : الكونفوشيوسية والتاواسموس. كل هذة الديانات تزعم بأنه بسبب أن مفهوم الشخص يمثل واحدة من صفات الوجود البشري ، وله ،بحسب النتيجة المنطقية ، ملمح نسبي ، لذا غير مناسب أن يُعطى هذا المفهوم للكائن الالهي المطلق. هكذا نُزع مفهوم الشخص عن وجود الله ويقدمون الله في تعاليمهم على أنه اله عالمي غير مشخصن وقاسي بلا شفقة " ناموس للعالم " والذي ينظم حياة البشر وتاريخ العالم . هذا الناموس الكوني غير المشخصن يعتبر بداية وغاية كل شييء ، تصف الهندوسية بتعليمهم عن " البراهما وآتمان " . البوذية بتعليمها عن " كارما سامسارا " ، وديانة الصينيين ( الصيني المسكوني ) بتعليمهم عن " تاين (السماء) وتاو (الطريق) . من الواضح ان هذة التعاليم تُجد في تضاد تام مع تعليم الكنيسة عن الله والشخص .
2-   الله هو شخص مطلق بمفهوم للشخص مفاده هو مجرد وعي ذاتي لكائن . المعضدين لهذة الفكرة هم على سبيل المثال اتباع اليهودية  . ايضا، من الأعترافات المسيحية ممكن ان ينضم فرق بروستانتية متطرفة مثل شهود يهوة ، بالرغم من ان هذة الديانات والفِرق - يقبلون وحدانية الله وفرادته ووجود الله الشخصي – يدركون المفهوم اللاهوتي للشخص كمجرد وعي ذاتي لكائن إلهي مطلق . على النقيض مع الديانات الشرقية ، إله الديانات اليهودية والاسلام وإعترافات شهود يهوة لديه وعي بوجوده ، والصفات الشخصية في علاقته بالانسان والعالم ( على سبيل المثال ، يسمع ، يرى ، ينظر ، يحب ، يدين بالعدل ، يصبر ...الخ ).
النقص الأساسي لهذا الفكر اللاهوتي ، هو ان الله لا يستطيع ان يعلن صفاته الشخصية في وجوده الأزلي ( أي في وجوده قبل خلق العالم والانسان ) ، بل مخلوقاته في حاجة لكي يعلنها. هكذا ، إذن ، على سبيل المثال ، لو أن الله يوجد كشخص يحب ( " الله محبة " 1يو16:4 ) ، عندئذٍ مَنْ أحبه الله قبل خلق العالم والانسان ؟ ولو أن الله في وجوده الازلي أحب ذاته أو نفسه ، عندئذٍ لماذا أعطانا المسيح وصية أن نحب ليس أنفسنا ( مثل الله ذاته للتشبه به ) بل قريبنا مثل ذواتنا ( لو27:10-28 ، لاو18:19) ؟ لو أيضا الله يسمع وينظر ، عندئذٍ لمَنْ يسمع ، مَنْ كان يراه قبل خلق العالم والانسان؟ بالتالي ، تعليم هذة الديانات والفرق عن الله كشخص مقارنةً بما يماثلها في تعليم الكنيسة نحكم عليه انه صحيح جزئياً لكنه تعليم ناقص لأنه يستقي مفهوم الشخص في حدود ضيقة لوعي الله الكائن ، ولأن هذا المفهوم لا يستطيع ان يفسر كمال مفهوم الشخص في أبدية وجود الله ( أزلياً ، بلا بداية ، بلا زمن ) .
3-   الله هو شخص مطلق ، بمفهوم الشخص ، ان يُحَدد كعلاقة. أتباع هذا الفكر اللاهوتي بحسب المفهوم العام ، هم أتباع التعليم اللاهوتي للكنيسة (اللاهوت الارثوذكسي) ، كذلك التعاليم المماثلة للأعترافات المسيحية الذين يقبلون ،على الأقل كأساس في تعليمهم  عن الله الشخص ، التعليم عن العقيدة الثالوثية . الله يوجد كثلاثة أشخاص في جوهر واحد ، أي الثالوث القدوس .
عقيدة الكنيسة عن الثالوث يمكن ان نلخصها في الآتي :
أ‌-       كل شخص في الثالوث لدية أسماءة الخاصة . يُدرّك بأن هذة الأسماء تُعطّى من جانبنا في محاولتنا ان نصف بكلمات مخلوقة وجود الله الأزلي. أي ليست هذة الأسماء هي غير مخلوقة أو أزلية . أسماء أشخاص الثالوث القدوس هي الآتي :
الشخص الأول : الآب
الشخص الثاني : الإبن ، الكلمة ، الحكمة ، القوة
الشخص الثالث : الروح القدس ، المعزي
ب‌- كل شخص من الثالوث القدوس لديه أقنومه الخاص أو خاصيته الأقنومية  والتي لا يشاركه فيها أي من الشخصين الآخرين وتميزه عنهما. أشخاص الثالوث لديهم كل شييء مشترك بينهم فيما عدا الخاصية الاقنومية لكل شخص على حده لأن هذه الخاصية هي التي تميز الواحد عن الآخر وتسمح لهم بأن يوجدوا كأشخاص حقيقيين ( أي كأقانيم مختلفة تؤقنم بطريقة فريدة مطلقة الجوهر أو الطبيعة الإلهية. الخواص الأقنومية للثالوث القدوس هي الآتي :
الشخص الأول : غير المولود ( لأن الآب ليس مولوداً من أي كائن آخر)            الشخص الثاني : مولود ( لأن الابن – الكلمة وُلِدَ من الآب )
الشخص الثالث : منبثق ( لأن الروح القدس هو منبثق فقط من الآب )
ت‌- من جهة علاقتهم مع الطبيعة الالهية ، كل أقنوم من الثالوث هو حامل كل الجوهر الالهي وفي نفس الوقت هو بمفرده  الله. أي الجوهر الالهي ينتمي بالكامل " في نفس الوقت " لأقانيم الثالوث القدوس .بالتالي الأقانيم الثلاثة ليسوا هم ثلاثة آلهة مختلفين ( أي ثلاثة جواهر منفصلة كما يزعم أتباع المونارخية و أتباع آريوس بل ولا ثلاثة طرق لظهور أقنوم الآب في التاريخ وفي حياة الكنيسة أي ثلاثة " أقنعة " بواسطتها الله الواحد يلعب أدوار مختلفة كما زعم سابليوس .
ث‌- أقانيم الثالوث تُوجد كإله واحد لأن بينهم لا يتوسط المكان والزمان . تحليلياً ، المكان والزمان هما أبعاد مخلوقة خُلقت من الله في بداية خلق العالم. بالتالي في الوجود الأزلي للثالوث ( قبل بداية العالم والانسان ) لم يكن يوجد لا مكان ولا زمان . كان يوجد فقط  الثالوث غير المخلوق وغير الزمني والذي لا بداية له ، حيث غاب أي مفهوم للمكان والزمان ، والزمان والمكان كأبعاد مخلوقة  تُحتّوي بين المخلوقات وتخلق "مسافات" بينهم . هكذا  ثلاثة أشخاص من البشر يمكن ان يوجدوا داخل أبعاد المكان والزمان كثلاثة من البشر مختلفين عن بعضهم . على سبيل المثال ، بركليس واسكندر الكبير والامبراطور الروماني نيرون هم ثلاثة أشخاص واحد فى الجوهر او لهم نفس الجوهر ولأن بُعد الزمن يتوسط بينهم  يُمكن ان يُدركوا كثلاثة أشخاص مختلفين . بنفس الطريقة ،" يني" الذي يعيش في أمريكا ، و"كوستا" الذي يعيش في اليونان ، و"نيكوس" الذي يعيش في إستراليا هم ثلاثة  أشخاص  من البشر لهم نفس الجوهر الواحد ، ولأن بُعد المكان يتوسط بينهم يمكن ان يُدركوا كثلاثة أشخاص من البشر مختلفين . ما الذي كان سيحدث لو ان المكان والزمان لم يتوسطا بين بيركليس وأسكندر الأكبر والامبراطور نيرون ، وكوستا ويني ونيكوس ؟ عندئذِ الستة أشخاص هؤلاء المختلفين عن بعض سوف يوجدوا كأنسان واحد بستة أشخاص . هذا يحدث في الثالوث القدوس غير المخلوق والأزلي . لأن في وجود الله الأزلي لا يوجد زمان ومكان ، أي " مسافة " لا تُفرض بين الآب والابن والروح القدس وهكذا الثلاثة أشخاص يوجدوا بكونهم إله واحد .
ج‌-    من جهة العلاقة بينهم ، أقانيم الثالوث لها وحدة مطلقة للجوهر ، للأفعال وللإرادة. هذة الوحدة تُعبر لاهوتياً بمصطلح " الأحتواء المتبادل " . وحدة الارادة هي التعبير الوجودي " الأنطولوجي" للمحبة المطلقة التي تربط أقانيم الثالوث القدوس . الثالوث القدوس هو في الأساس شركة محبة ، شركة محبة لأقانيم الطبيعة الالهية المساوية في الجوهر. ببساطة ، المحبة التي توحد الثالوث القدوس هي محبة كاملة ومطلقة ، لدرجة أنه من المستحيل ان لا يتفقوا معاً . وحدة إرادة الثلاثة أقانيم للثالوث القدوس كتعبير للمحبة المطلقة التي تربط فيما بينهم  وكذلك كتعبير وجودي لطريقة حياة المحبة التي بها أقانيم الثالوث أختاروا بحرية ان يوجدوا مؤقنمين الطبيعة الالهية ( المحبة هي الطريقة التي بها يوجد الشخص ) تمثل بحسب رأييّ النقطة الأساسية لتعليم الكنيسة عن الله والشخص ، الشخص حُدِدَ – للمرة الأولى في التاريخ – كعلاقة . بالتالي مفهوم الشخص حُدِدَ كعلاقة ( أي كشركة محبة لأقانيم الثالوث المساوي في الجوهر ) إنه نتاج وحصاد التعليم اللاهوتي الأرثوذوكسي ، لأن هذا التعليم هو الذي يميز تعليم الكنيسة عن الله والشخص عن التعاليم المماثلة لكل الديانات الأخرى والمجموعات المسيحية التي لا تقبل عقيدة الثالوث القدوس  . بالتالي تعاليم اعترافات الايمان المسيحية التي تقبل عقيدة الثالوث القدوس كذلك تعاليم الآباء والكُتاب الكنسيين هي صحيحة بقدر ما ترتبط بتعليم الكنيسة عن الله والشخص وتصيغها بأصالة ودقة .

السبت، 29 أكتوبر 2011

ما هو مفهوم "الخبرة الكنسية" ؟ - 1 - المطران يوحنا زيزيولاس - ترجمة د جورج عوض ابراهيم


حوار مع المطران يوحنا زيزيولاس


«Ορθόδοξος Τύπος» 4/8/2006 ترجمة د.جورج عوض ابراهيم





ما هو مفهوم "الخبرة الكنسية" ؟ - 1 -
           

ينبغي ، لكي ندرك المفهوم الحقيقي لهذا المصطلح ، أول كل شييء ، أن نستعرض بإيجاز التعليم الارثوذوكسي الخاص بالتمييز بين جوهر الله وأفعاله . هذا التمييز بدأ من الآباء الكبادوك ( باسليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ) وتوسع في هذا التعليم الاب غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر ) . بالحري وفق تعليم الكنيسة جوهر الله أو طبيعة الله هي مجهولة تماما . الجوهر الالهي يمثل الوجود الحقيقي لله ( το οντως «ειναι») والانسان يستحيل ان يعرفه لأن الطبيعة البشرية لا تتحمل الشركة ( التواصل ) معها . القديس بولس حين يتحدث عن ضعف الانسان في ان يعرف جوهر الله ، يقول إن الله " نور لا يُدنى منه.....الذي لم يره أحد من الناس ...." 1تيمو16:6 ، بينما في العهد القديم يقول الله لموسى : " ... لا تقدران ترى وجهي لأن الانسان لايرى وجهي ويعيش " خر20:33 . سنستطيع ان نُشبه جوهر الله بجوهر الشمس . مثلما الانسان لا يستطيع ، حتى لو أراد ، ان يدخل إلى نواة الشمس ، لأن جسده لا يتحمل أشعة الشمس وحرارتها ، هكذا ، انه مستحيل ان يأتي الانسان في إتصال مع جوهر الله ويعيش .



لكن ، بينما ان جوهر الله او طبيعة الله هي غير معروفة تماما ، إلا ان ما يُسمى " الأفعال الالهية " أو " النعمة الإلهية " أو " "أفعال الله " هي معروفة وتقبل الاتحاد وقريبة للإنسان ، أفعال الله الطبيعية هي " غير مخلوقة " ( بمعنى أبدية ، لا بداية لها ، توجد في الله قبل خلق العالم ، قبل بداية المكان والزمان ) ، لديها كل خواص الطبيعة الإلهية وتنقل معرفة هذة الخواص للإنسان . ببساطة مثلما طبيعة الله هي على سبيل المثال نور ، ومحبة وتواضع وحياة أبدية ....الخ ، هكذا أيضاً أفعال الله هي على سبيل المثال نور ، محبة وتواضع وحياة أبدية ....الخ.

الانسان حين يشارك في أفعال الله يستطيع ان " يعرف " خصائص الطبيعة الالهية ، ان يصير ، بحسب الرسول بطرس " شركاء الطبيعة الالهية " 2بط4:1 . ان يعرف – إذن – داخل شركته في أفعال الله - ليس في جوهر الله أو طبيعته - خواص طبيعة الله . سنستطيع ان نُشبه أفعال  طبيعة الله بأفعال طبيعة الشمس ، أي مثلما ان أفعال الشمس لديها خواص الطبيعة الشمسية ( على سبيل المثال نور، حرارة ) وتنقل هذة الخواص إلى الانسان ، وليست الطبيعة الشمسية التي لا يُدنى منها ولا يستطيع الانسان ان يشترك فيها ، هكذا ايضا الافعال الالهية لديها الخواص الالهية ( على سبيل المثال، نور ومحبة وتواضع وحياة ابدية ) ، وتنقل لنا هذة الخواص ، معرفه إيانا ليست الطبيعة الالهية التي لا يُدنى منها بل خواص طبيعة الله . والمسيح وهو يتحدث عن قدرة الانسان ان يعرف الله مشتركا في أفعاله ، قال " طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله " مت 8:5 .



البشر والملائكة هم الوحيدون من مخلوقات الله لديهم المقدرة على الشركة في أفعال طبيعة الله . هذة الشركة تُوصف في لغة اللاهوت الارثوذكسي "رؤية الله" أو "تأله" أو " معاينة الله" وتمثل الهدف الفريد لخلق الانسان ، ومفهوم الحياة البشرية الأول والأخروي ، والغاية الحقيقية ، التي من أجلها أحضر الانسان من العدم إلى الوجود.

بشركته في الأفعال الالهية يحقق الانسان أمرين :



.

 أ‌-       يتشكل الانسان ويصير شبيه بالله ( إله بحسب النعمة ) لأنه وهو يشارك أفعال الله يتآلف مع خصائص الطبيعة الالهية ومع الطريقة الشخصية لوجود الله . نستطيع ان نشبه أُلفة خصائص الطبيعة الالهية من جانب الانسان بالحديد المحمى بالنار. أي كما ان الحديد الذي يشترك في النار يتحد معها ويتآلف مع خصائصها الطبيعية ( على سبيل المثال يصير متوهج ومحمر ويشع حرارة ) ، هكذا أيضاً الانسان الذي يتحد بالله ويتآلف مع خصائص الطبيعة الالهية ( على سبيل المثال يصير نور ومحبة وتواضع وحياة أبدية ) .

ب‌-  يحصل على معرفة الله الحقيقية . أي يعرف حقا الله أنطولوجياً اي وجودياً، وهكذا يتحدث عنه للناس. على النقيض ، مع الفلاسفة والهراطقة ، القديسون تعرفوا حقا على الله مشتركين في أفعال طبيعته وبعد ذلك عبّروا باللغة البشرية عن خبرة معاينة الله التي منحها لهم الله. بالتالي تعليم الكنيسة عن الله الثالوث ليس هو تلفيق وصناعة بشرية بل إعلان أُعطي من الله كعطية للقديسيين.

ت‌-  على أساس ما قيل نصل إلى تحديد مصطلح " الخبرة الكنسية " بأنه شركة الانسان في أفعال الثالوث القدوس ، تلك الأفعال غير المخلوقة ، والتي فيها يصير الانسان شبيه بالله ( إله بحسب النعمة ) ، ويحصل على التأله ومعاينة الله .  أي إتحاد الانسان ، حقاً وليس رمزياً أو خيالياً ، بوجود الله غير المخلوق والذي ليس له بداية .

الجدير بالملاحظة هو اننا بمصطلح " الخبرة الكنسية " لا يقصد به الصياغة اللغوية لخبرة التأله ، بل خبرة التأله ذاتها. نشدد على هذا الشرح لأننا لو قبلنا هذا الرأي بأن مصطلح " الخبرة الكنسية " هو الصياغة المكتوبة في أعمال الآباء وقرارات المجامع المسكونية وخبرة الكنيسة المستنيرة ، عندئذٍ :

أ‌-       كل الناس لديهم قدرة الأقتراب إلى " الخبرة الكنسية " وبالتالي يستطيعون أن يعرفونها ويقرأون كتب لكي يدركوا هذة الخبرة عقلياً ويفسرونها ( الامر الذي هو عبث طالما نحن خطاه ليس لدينا خبرة رؤية ومعرفة الله وبناء على ذلك نجهل ما هي حقاً " الخبرة الكنسية ".

المسيحيون الأُميون يكون لديهم إمكانية قليلة للأقتراب إلى " الخبرة الكنسية " وبالتالي يتأخرون مقارنةً بالمتعلمين طالما يجهلون الصياغة اللغوية وبناء على ذلك لا يستطيعوا ان يعرفونها عن طريق قراءة الكتب لكي يدركوها عقلياً ويفسروها ( الامر الذي هو أيضاً عبث حيث ان الناس الأُميين – على سبيل المثال يوحنا المعمدان – إستطاعوا ان يصلوا إلى التأله ويعرفونه حقاً ك"خبرة كنسية" ).


إذن لأن " الخبرة الكنسية " هي خبرة التأله ذاتها ، وليست الصياغة اللغوية ، حتى لو إختفت كل نصوص التعليم الارثوذكسي ( الكتاب المقدس ، أعمال الآباء ، قرارات المجامع المسكونية ، .....الخ ) ، " الخبرة الكنسية " ستكون أيضاً حاضرة  في حياة الكنيسة.

الأحد، 25 سبتمبر 2011

25ـ من هو "النبي" في العهد الجديد


25ـ من هو "النبي" في العهد الجديد
                          الاب رومانيدس – ترجمة د جورج عوض
 يقول بولس الرسول: "فوضع الله أُناسًا في الكنيسة أولاً رُسلاً ثانيًا أنبياء ثالثًا معلمين ثم قوات وبعد ذلك مواهب شفاء أعوانًا تدابير وأنواع ألسنة" (1كو28:12). متأخرًا ساد الرأي بأن النبي عند بولس الرسول كان أسقف الكنيسة للمسيحين الأوُل. إذن لدينا: الأول: الرسل، بعد ذلك، الأساقفة ثم الكهنة الذين بحسب هذا الرأي هم معلمي الكنيسة.
لو قرأنا الآن الإصحاح الرابع للرسالة الأولي لأهل كورنثوس للرسول بولس، نري  أنه كان يوجد في كنيسة كورنثوس  أنبياء كثيرون مسيحيون لديهم موهبة الرؤية والنبوة. لأنه يقول: إنه يتحدث الأنبياء في مجموعات أثنين وثلاثة (أنظر 1كو29:14). إذن كان يوجد علي الأقل ثلاثة أنبياء وربما أكثر من سبعة. هنا أنبياء كورنثوس لم يكونوا كلهم أساقفة.
لكن ماذا تعني كلمة أنبياء عند بولس الرسول؟ ماذا يعني، تظهر من حقيقة أن في مرحلة أخري يكتب بولس الرسول أنه لم يُعلَّن بعد سر الله في أجيال سابقة، كما أُعَلِن له، أي كما قد أُعلِن: " الآن لرسُله القديسين وأنبيائه بالروح" (أفسس5:3).
هذا يعني أن المسيح لم يكن قد أُعلِن في العهد القديم مثلما أُعلِن الآن في الرسل وفي الأنبياء. أي هنا لا يتحدث عن أنبياء العهد القديم، بل عن أنبياء الكنيسة. وهذا يعني الآتي:
1ـ الرسول هو ذاك الذي قد أُعلِن له المسيح في مجدٍ. لأجل هذا في إصحاح 15 من الرسالة الأولي لأهل كورنثوس يحصي بولس الرسول كل أولئك الذين ظهر لهم المسيح بعد قيامته، وأيضًا في يوم الخميسين، لأنه لا يجد إختلافًا بين ظهورات المسيح قبل الخمسين وبعد الخمسين.
إذن الملمح الأول للرسول لم يكن فقط أنه كان تلميذ للمسيح قبل صلبه، بل حقيقة أن المسيح قد أعلن ذاته له في مجد بعد قيامته. لأجل هذا يقول الرسول بولس: "وإن كنُا عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد" (2كو16:5). لأنه لكي يعرف المسيح بحسب الجسد، يعني أنه كان ينبغي أن يكون لديه تعامل معه قبل صلبه، الأمر الذي لم يحدث مع بولس الرسول. إذن لا نعرف المسيح بعد صلبه وقبره وقيامته بحسب الجسد بل بحسب الروح. أي نري المسيح ذهنيًا (قلبيًا) بعيون النفس وكذلك في مجد بحسب خبرة الإتحاد والشركة.
2ـ النبي هو أيضاً الذي قد أُعلِن له المسيح. إذن يظهر المسيح بعد قيامته، ويظهر في مجدٍ ، وهذه هي الخبرة التي يكتسبها المرء عندما يري المسيح في مجدٍ، يجعله أوتوماتيكيًا رسول أو نبي. هذا يعني أن النبي الذي يتحدث عنه بولس الرسول هو ذاك الذي وصل إلي مرحلة الاتحاد والشركة. وهذا يبدو واضًحا من ذاك الذي قاله الرسول بولس قبل أن يقول ".... فوضع الله أناسًا في الكنيسة أولاً رسلاً ثانيًا أنبياء ثالثًا معلمين ثم قوات..."، إذ قال: "وإن كان عضو واحد يُكرَّم (يُمجَّد) فجميع الأعضاء تفرح معه" (1كو26:12).
علي الجانب الآخر، قد صار مقبولاً أن ما كتبه القديس ديونسيوس الأريوباغي عن الأساقفة، لم يبتعد عن الحقيقة. أي، كما أن النبي عند بولس الرسول هو ذاك الذي قد وصل إلي مرحلة تذوق الشركة. أيضًا من هؤلاء الأنبياء الذي تحدث عنهم بولس الرسول يأتي أساقفة الكنيسة.
القديس نيكيتاس ستيثاتوس Νικήτας Στηθᾶτος يخبرنا بأنه يوجد أناس قد رُسمِوا مباشرةً أساقفة من الله ذاته، بالرغم من أنهم غير معروفين كأساقفة من الناس. لكن هم أساقفة ولديهم سلطة الأسقف الروحية.
يبدو وقتذاك أنه كان يوجد إضطراب في كنيسة كورنثوس ، لأن بعض من الذين كانوا يتكلمون بألسنة التي هي أنواع مختلفة من صلاة القلب الذهنية إعتقدوا انهم كانوا في إستطاعتهم أن يتساووا مع الآخرين. لذلك قال بولس الرسول حاسمًا هذا الأمر، الرسل هم أولاً ثم الأنبياء وبعد ذلك المعلمون وينهي بمَنْ يتكلمون بألسنة.
في إصحاحات 13، 14، 15 من الرسالة الأولي لأهل كورنثوس يفسر بولس الرسول تفسيرًا كاملاً للإكليسيولوجيا الارثوذكسية أي لمفهوم الكنيسة . من هذا يبدو بوضوح أن في كنائس بولس الرسول، كل أعضاء جسد المسيح كانوا مدعوين من الله θεόκλητα   
 وهذا، لأن الكل قد قبِلوا حلول الروح القدس في قلوبهم. إذن كانوا مدعوين من الله، أعضاء جسد المسيح طالما قد رُسموا من الروح القدس ذاته. ومثلما الرسل وصلوا إلي التمجيد، أي إلي الشركة ، بنفس الطريقة، الأنبياء كانوا أولئك الذين أيضًا قد وصلوا  إلي الإستنارة فقط. 

الخميس، 15 سبتمبر 2011

الوسائل البصرية والسمعية في تعليم المسيح


الوسائل البصرية والسمعية في تعليم المسيح

                                            د.جورج عوض ابراهيم
إن استخدام الوسائل البصرية والسمعية في التعليم الحديث أصبح أمر ضروري وحتمي ليس لكي يضمن فقط الترابط بين الخبرات البصرية والسمعية في تعضيد المعرفة المقدّمة وغرسها في الذاكرة بل أيضًا هي ضرورية للإدراك التام لمحتوي هذه المعرفة.
هذه الوسائل البصرية والسمعية تساهم جوهريًا في ضمان المشاركة الحيوية للتلاميذ بالإنجذاب للصورة والصوت.
إستخدم المسيح في تعليمه الوسائل البصرية والسمعية وهذه الوسائل كانت توجد بوفرة في البيئة الطبيعية ، إذ أن تعليمه صار في أماكن مفتوحة، في الخلاء عادةً حيث غني صور الطبيعة، وغني الجمال الفائق الذي قُدِّم بطريقة مباشرة. إن الحصول علي المعرفة من المجال المحسوس كوسيلة مدهشة تقود تصاعديًا وتربويًا إدراك المفاهيم السامية، لكن من الجانب اللاهوتي كان يوجد عنصر الوحدة بين العالم المحسوس والعالم فوق المحسوس داخل هذا التعليم.

نصائح يسوع للتلاميذ ولسامعيه، مثل:
·          "  ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ" (يو35:4).
·          " اُنْظُرُوا إِلَى شَجَرَةِ التِّينِ وَكُلِّ الأَشْجَارِ" (لو29:21).
·          " اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟" (مت26:6).
·          "  وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ" (مت28:6).
هذه النصائح  تدل علي أن اللجوء إلي الطبيعة لتقييم الصورة الموجودة فيها هو بمثابة إستخدام رائع للمادة البصرية والسمعية.

الظواهر الطبيعية كانت مصدر جدير للوسائل البصرية، مثل:
·          "سُحب السماء" (مت30:24)، السماء بصفاتها وعبوسها :إذًا كان المساء قلتم صحو. لأن السماء محَّمرة وفي الصباح اليوم شتاء. لأن السماء محمَّرة بعبوسةٍ. يا مراؤون تعرفون ان تميزوا وجه السماء وأما علامات الأزمنة فلا تستطعيون" (مت2:16ـ3).
·          المطر والشمس: " فأنه يُشرق شمسُه علي الأشرار والصالحين ويمطر علي الأبرار والظالمين" (مت45:5) جاءت هذه الآية في سياق: " أحبوا أعداءكم. باركوا لأعنيكم. احسنوا إلي مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت44:5).
·          البرق والزلازل: " لأنه تقوم أمةُ علي أمةٍ ومملكةُ علي مملكةٍ وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن" (مت7:24). هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان" (مت27:24).




أيضًا المهن والأعمال التي كان يعمل بها سامعيه والتي ترتبط بالطبيعة أُستخدمت كصور عملية في تعليمه، مثل:
·          عمل الزارع: " ليس أحد يضع يده علي المحراث وينظر إلي الوراء ويصلح لمكلوت الله" (لو62:9) وجاءت في سيأتي الذي أراد أن يتبع المسيح لكن قال له: " تبعك يا سيد ولكن ائذن لي أن اودع الذين في بيتي" (لو61:9).
·          جامع المحاصيل: "  أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ"  (مت11:3ـ12).
·          الخياط: "   لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْب عَتِيق، لأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّوْبِ، فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ" (مت16:9).

أنشغالات وخبرات الحياة اليومية كانت بمثابة وسائل بها عناصر تصويرية، مثل:
·          المرأة التي تلد: " اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ. فَأَنْتُمْ كَذلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ" (يو21:16ـ22).
·        جامع المحاصيل: " الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ" (مت12:3).

أهمية الصورة كوسيلة بصرية وكدور وظيفي في تعليم يسوع:
" لأن أموره غير المنظورة تُري" (رو20:1).
كان ينبغي علي المسيح أن يقدم مفاهيم سامية بسبب الملمح الفوقاني للحقائق المعلنة إلي سامعيه. هكذا القدرات الإدراكية الناقصة وعدم تقارب عمر سامعيه وثقافتهم ومعرفتهم ومراتبهم كانت بمثابة عناصر سلبية لإنتاج عمل تعليمي سهل وهادف. والنتيجة كان يجب أن يستخدم مناهج وأساليب لتخطي الصعوبات التي ذُكرَت.
فوقانية (سمو) الحقائق وغياب الأساسيات الضرورية من جانب المتلقين تلاميذه، لم يساهموا في إنتاج عمل تعليمي سلسل وفعّال. لأجل هذا الصورة كانت هي الوسيلة المناسبة لتقديم محتوي تعليم يسوع الخلاصي. مبدأ الوسيلة البصرية، الشرط الأساسي لتعليم فعَّال في التربية الحديثة، إستخدمه المسيح بطريقة مؤثرة في تعليمه.

الصورة تعرض ثلاثة أشكال:
1ـ الشكل البصري.
2ـ الشكل التعبيري اللغوي.
3ـ الشكل السمعي.
تقود الثلاثة أشكال إلي صياغة المفاهيم لكي يدركها الجميع بغض النظر عن مستوي الإدراك أو أي إختلافات أخري للمتلقين، لأن هذه الأشكال نابعة من خبرة البشر الحياتية.
الأساسية التي تجعل الصورة بأشكالها الثلاثة هي الناقل المناسب للمفاهيم الصعبة هي الآتي:
(أ)ـ الأسباب الخاصة بالصورة البصرية:
+ الشكل الذي يرتبط بمناظر عملية مادية.
+ اللون الذي يقدم الجذب والحيوية.
+ التركبية التي تقدم تعبيرها الخاص المتناسب مع العنصر المصور.
+ إمكانية المقارنة والتورية والتشبيه والمجاز للإرتفاع من المحسوسات إلي الأمور فوق المحسوسة ، من المنظورات إلي الأمور الذهنية.

(ب)ـ الأسباب الخاصة بالصورة التعبيرية:
+ وصف الأشخاص والأشياء والحالات بعناصر اللغة السائدة في المجتمع اليومي.
+ الحيوية عندما يرتبط القول الشفاهي بمستويات الصوت، وتعبير الوجه وحركات الجسد.
+ الإنجذاب الناتج ليس فقط من سحر الكلمة بل من شخصية المتحدث.
+ تجسيد المفاهيم المجردة وجعلها محسوسة.
      الصورة التعبيرية تهدف من خلال الوسائل والعناصر التعبيرية إلي إعادة خلق للصورة، حيث تتشكل بواسطة المحسوسات كتعبير لغوي لها. أي صورة لا تتشكل تمامًا لكي تصير فكرة أو مفهوم معلن بدون الإستناد علي الخبرات التي تُقدَّم للجسد والنفس. لذلك دائمًا الصورة التعبيرية وتعلَّن دائمًا بالخبرات الحسية للفرد.

(ج)ـ الأسباب الخاصة بالصورة السمعية:
+ تجانس الأصوات كمؤثرات تعبيرية نسبية.
+ النوعية (تركيب ـ بساطة ـ سهولة) التي تعبر عن أحاسيس متماثلة: (مت16:21) " من أفواه الأطفال والُرضع هيأت سُبحًا"