الثلاثاء، 25 يناير 2011

الإنسان في عصر التكنولوجيا - رؤية مسيحية




الإنسان في عصر التكنولوجيا -  رؤية مسيحية
د. جورج عوض إبراهيم
يخبرنا الإعلان الكتابي في سفر التكوين أن الإنسان مخلوق بحسب صورة الله ومثاله (انظر تك27:1). وهذا يعني أن الإنسان هو مخلوق إلهي، أي هو منتج إلهي يتمتع بإمكانيات ليست موجودة في أي مخلوق آخر. والطلبة التي تصليها الكنيسة في صلاة الحميم تشير إلى هذه الإمكانيات، إذ يصلي الكاهن قائلاً: " يا الله العظيم الأبدي، الرب الضابط الكل، الذي من قِبَل كلمتك، ربنا يسوع المسيح، الكائن منذ البدء وإلى الأبد، خلقت العالم بحكمتك التي لا تستقصي، وكونت الإنسان مثل صورتك ومثالك. وملأته من رحمة صلاحك، وزينته بكل بهاء، وأعطيته روح حكمة وفهمًا عقليًا، وسلطته على كل شيء وتركته ليعمل كل النهار ويباركك".

هنا نجد عدة حقائق في غاية الأهمية، هي:1ـ إن الله خلق العالم والإنسان بحكمة بواسطة ربنا يسوع المسيح. 2ـ إن الله كوَّن الإنسان مثل صورته ومثاله.3ـ لقد ملأ الله الإنسان من رحمة صلاحه، وزينَّه بكل بهاء، وأعطاه روح حكمة وفهمًا عقليًا.4ـ أعطى الله الإنسان السيادة على كل شيء.5ـ تركه يعمل كل النهار.
6ـ ثم سمح له أن يشكره ويباركه.
لقد منح الله الإنسان أمرين في غاية الأهمية، الأولى: هي أن يكون ملك الخليقة: "وسلطته على كل شيء"، والثانية: هي أن يكون كاهن الخليقة: "ويباركك".

هكذا مُهمة الإنسان ليست هي أن يعيش داخل العالم قانعًا بالأشياء التي حوله كما هي، لكن أيضًا عليه أن يُشِّكل العالم ويطوره، ولا يكتفي بهذا فقط بل عليه أن يرى العالم كعطية من الله، لذا يقدم مرة أخرى هذه العطية الإلهية إلى الله العاطي كذبيحة شكر.
ومشكلة الإنسان في مجتمعنا المعاصر هو أنه نفذ الأمر الأول وهو العمل فأصبح يعمل ليس كل النهار بل وكل الليل، ونقصد أن الإنسان إنشغل كثيرًا بالعمل للدرجة التي فيها أهمل علاقته بالله وذبيحة الشكر التي يجب أن يقدمها إلى الله. وكذلك مشكلة الإنسان المعاصر هو سيطرة التكنولوجيا عليه لدرجة أنه أصبح كما لو كان عبدًا خاضعًا لها تمامًا ومسلوب الإرادة أمام سطوتها. والتكنولوجيا هنا ليس المقصود منها فقط الآلات والأجهزة وغيرها من المنجزات بل أيضًا التوجه الذهني الذي تفرزه التكنولوجيا تجاه مشكلات الحياة والفرد والمجتمع للدرجة التي فيها أصبح الإنسان المعاصر مجرد ألعوبه في يد هذه التكنولوجيات الجديدة والدائمة التغير.
إن إهمال الإنسان للأمر الثاني الهام وهو صلته بالله وعلاقته التي يسودها الشكر والعرفان للخالق أدى إلى تضاءل قدراته وإمكانياته على التحكم في نتائج أفعاله. هالحياة اليومية تمنعه من رؤية العالم رؤية صحيحة.

هكذا تراجع الإنسان المعاصر وتقلص دوره ومسئوليته تجاه المجتمع وتضاءلت حريته وصار عبدًا أمام سطوة التكنولوجيا. إن مشكلتنا الحقيقية هي البحث عن معنى الحياة وفك القيود التي تكبل إنطلاقنا الحُر لتحقيق ذواتنا. فالتحديات التي تواجهنا في الحياة اليومية تمنعنا
من رؤية العالم رؤية صحيحة.
لقد إختلت المبادئ والقيم بفعل التغيرات التكنولوجية، لذا يجد الإنسان المعاصر نفسه في مفترق الطرق. إذن الحل الجذري لمشكلة إنسان التكنولوجيا أن يبقى في حالة إتزان بين صلته بالله وإدراك هدفه الأساسي في الكون وعمله الذي يعكس قدراته وإمكانياته التي مُنحت له من قِبَل الله.


السبت، 1 يناير 2011

المسيحي والاصولية الدينية


المسيحي والأصولية الدينية د. جورج عوض إبراهيم

نقدم هذة المقالة فى أول يوم فى عام2011 حيث نفذ الإرهابيون عملية إرهابية دنيئة أمام كنيسة القديسيين فى مدينة الإسكندرية استشهد فيها حتى موعد نشر هذا المقال 21شهيدا زُفوا إلى السماء أثناء خروجهم من الكنيسة ليلة رأس السنة ونحن نثق فى تعزية الروح القدس لأهالى الشهداء وللكنيسة كلها ولكل مصرى صدمتة افعال هؤلاء العميان . والجدير بالذكر ان هذة المقالة نُشرت من ضمن اعمال مؤتمر خاص بالمركز الأرثوذوكسي عن المسيحى والقضايا المعاصرة . تعريف كلمة أصولية: الكلمة باللغة اليونانية هي φανταμενταλισμός وهي من الكلمة الإنجليزية fundamentalism وتعني (الأصولية) أو العودة إلى "الأصول" الخاصة بتقليد سابق في الماضي. إذًا فالأصولية هي الإصرار على بنود إيمانية والدفاع المستميت عن عناصر أصولية لميراث ديني. هناك ثلاثة ملامح تُكَون الأصولية: 1ـ النزعة المحافظة التقليدية. 2ـ النزعة التدينية . 3ـ النزعة الجهادية. النزعة المحافظة التقليدية تظل هي النزعة السائدة المميزة للأصولية عن "النزعة المعاصرة"، فهي تعارض النزعة التحررية أو الاجتماعية أو التنويرية والحداثة. هكذا فهي تعني الحفاظ على تقليد "الأصول" بدون تجديد وبدون تطبيق معاصر. كما وأن الإيمان بحسب الحرف والتطبيق الأعمى لأوامر الميراث السلفي ومعارضة كل ما هو حديث، وغربي (أوروبي أو أمريكي). يعد نواة الحركة الأصولية. فالأصولي يمارس حياته اليومية وفقًا لنظرة تاريخية قديمة مرتبطة بالماضي، إلا أنه يستخدم بعض وسائل الحداثة، مثل الوسائل الحديثة في النقل والعلاج والبناء"، بيد أنه عندما تتحدث معه عن الأسس الحديثة لنظريات الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والنفسية فإنه يرفضها بشدة، لأنها تتعارض مع فهمه للحياة من خلال موروث سلفي لا يصلح للإنسان المخلوق بحسب صورة الله ومثاله، تاج الخليقة. وعندما يدعو الأصولي إلى التسامح ـ لتمرير خطابه المتزمت ـ فإنه يقصد التسامح من زاوية أصولية تاريخية ضيقة لا تمت بصلة بموضوع التسامح في إطاره الإنساني الذي يحتضن الإنسان أيًا كان مذهبه أو هويته. والدليل على ذلك هو أن الأصولي يتهرب من إعلان موقفه من قضايا الحريات العامة في المجتمع: مثل حرية العقيدة للجماعات المختلفة عنه، وحرية الرأي والتعبير بشكل عام، وقضايا الإرتداد الديني، والمساواة، والمرأة، والإلحاد، وغيرها من القضايا. إن الذي يُحرك الأصولي هو خطابه الديني المتزمت والسلفي وليس الخطاب المتجدد الذي يضع كرامة الإنسان المخلوق الإلهي في المرتبة الأولى. 0 أيضًا النزعة التدينية وهي نزعة تصبغ الأصولية وتحدد النزعة المحافظة التقليدية. فالتدين يكون بمثابة العنصر المثبت للنزعة المحافظة التقليدية، والمادة المتماسكة والقوية لأصول التقليد في الدين التي تُخضع كل ما هو علماني (الدولة، المجتمع، الاقتصاد) لكل ما هو ديني، وتُخضع الخاص (الحياة الشخصية للفرد) إلى العام (القيم الأخلاقية الدينية "الشرع المقدس"). هكذا الأصولية الدينية تتخذ مواقف متشددة وغير متفهمة للسلوك البشرى وترفض المرونة الاجتماعية في التعامل مع هذا السلوك. فهي دائمًا تتصلب في فهمها لكل مجالات الحياة. فالفنون والموسيقى تُعد بالنسبة للأصولية مفسدات، إلا إذا كانت تساعد على نشر رسالة الجماعة الأصولية. كما يغلب عليها التشدد وعدم ترجيح العقل المعاصر في أحكامها. وجميع الحركات الأصولية تعطي لنفسها دور الوكيل لسلطة مقدسة ستهيمن على الأرض، وبالتالي ترى أفكارها كاملة وغير قابلة للنقاش. أحد أسباب أنتشار النزعة الدينية يتمثل في فقدان تفسير طبيعة الحياة الحديثة، لذا نجد أن مؤسسي الأصوليات الدينية يبحثون عن وجهات نظر متكاملة من أمهات الكتب التراثية، واستلهام ما قام به السلف الصالح لتريحهم من البحث عن أسئلة لا يملكون الإجابة عليها. النزعة الجهادية وإن كانت تمثل الملمح الثالث، إلا إنها العنصر الأكثر إثارة للأصولية. إن استخدام العنف باسم النزعة المحافظة في خدمة كل ما هو مقدس هو ما يلخص الحركة الأصولية. فاستخدام السلاح وسفك الدماء، والقتل الجماعي، بتر الأعضاء كعقاب، طرد وعزل الأقليات، التمييزات القبلية، التطهير العرقي والإرهاب، كل هذا يندرج في بنود الأجندة اليومية للأصوليين في كل العالم وفي كل عصر. ويشهد العالم الآن في كل أرجائه ارتدادًا، يصل إلى حد التطرف والإرهاب، إلى الأصولية الدينية بجميع طوائفها (الهندوسية والإسلامية واليهودية والمسيحية والبوذية). ويبشر الأصوليون كل من يلتزم بتعاليمهم، بالنجاة. ولا مجال في عالمهم لإثارة تساؤلات تنم عن حالة من الحيرة والقلق. أما مَنْ لا يتبع التعاليم، فيستحق العذاب. أمثلة للأصولية المتطرفة: وتعلن الأصولية الإسلامية المتطرفة في الجزائر، عن سقوط قتلى تتراوح أعدادهم من ألف إلى40 ألف قتيل، مع إعلان الحرب على الأجانب كافة (ومنهم فرنسيون من أصل جزائري). وفي إسرائيل، يربط شباب المتطرفين من الأصوليين المسلمين المتفجرات حول أجسادهم ويفجرونها في محطات الأتوبيسات، وفي الأسواق بقلب تل أبيب. أما في الخليل، فيفتح يهودي أمريكي من المتطرفين النار على المصلين المسلمين في أحد المساجد فيقتل 29 منهم، ثم يتحول قبره بعد ذلك إلي مزار يحج إلية أمثاله من المتطرفين اليهود. وهناك حاخام يهودي يصدر فتوى يبيح فيها دم رئيس بلاده. وفي الهند، يهدم المتطرفون الهندوس مسجدا ظلت تقام فيه الشعائر طيلة أربعمائة عام،وينهبون ممتلكات جيرانهم المسلمين في بومباى. وفي كشمير والبنجاب، تستعر نيران الحروب الدينية بلا توقف. وفي اليابان يخلط الأصوليين البوذيون الهندوسية مع البوذية تكريما للإله "شيفا" ، اله الدمار عند الهندوس، ليبرروا لأنفسهم إطلاق غاز الأعصاب على الركاب في محطات مترو الأنفاق في طوكيو مما أدى إلى مصرع 12 وإصابة 5500 شخص. وهم يؤمنون بأن نهاية العالم في متناول يد أي فرد، وليس هم بعينهم. وفي الولايات المتحدة، يطلق المتطرفون النار على الأطباء الذين يجرون عمليات الإجهاض، ويخربون السكك الحديدية متسببين بذلك في وقوع حوادث للقطارات، ويطالبون بإقامة شعائر دينية في المدارس لأطفال جيرانهم، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، ويفجرون المبنى الفيدرالي بمدينة أوكلاهوما مما يؤدي إلى مصرع 167 شخصا من بينهم 19 طفلا. ويؤمن القس البروتستانتي الذي قتل طبيبا يجري عمليات الإجهاض، بأنة قد فعل الصواب، وبأنة كُلف من الرب ليقتل، وبأنه في النهاية من الشهداء. انه وسائر الأصوليين الدينيين يؤمنون بأن جزاء صنيعهم هو الجنة. التربة المُغذية للأصولية *الفقر: تحت عنوان:" أزمات الحداثة العالمية والحركات الاجتماعية الراديكالية: اليابان ومصر[1]". قدم الباحث الياباني "ايجي ناجا ساوا" بحثًا في مؤتمر نظمه "معهد اقتصاديات الدول النامية" في طوكيو، وكان موضوع المؤتمر " الحركات الاجتماعية والحيوية السياسية في الشرق الأوسط في عصر العولمة". وعقد الباحث مقارنة بين الحركات الدينية في مصر والحركات الراديكالية لليمين المتطرف في اليابان قبل الحرب العالمية في الثلاثينيات. وتساءل في البداية: هل مشكلة الفقر هي السبب في ظهور الحركات المتطرفة ؟ وبرغم من أنه قرر أن للفقر علاقة بالتطرف، بيد أنه تحفظ على اختزال هذه الظاهرة في الفقر. وبحسب رأيه إن أعضاء الجماعات المتطرفة في كلتا الحالتين، يشخصون أزمة مجتمعهم باعتبارها أزمة ثقافية في المقام الأول. إن كلمة ثقافة هنا، لا تعني مجرد اكتساب معلومات أو معارف معلوماتية بل تعبر عن طريقة حياة مجتمع ما وطريقة تفكيره وبالتالي سلوكه وتصرفاته. هناك ثلاث أزمات تلخص حالة المجتمعات الحاضنة للأصولية[2]: 1ـ أزمة الشرعية: تتمثل هذه الأزمة في فشل الدولة في الحفاظ على الاستقلال الوطني وفي مواجهة تهديدات الأمن، وكذلك فشلها في التنمية، وعجزها عن تحقيق قيم الديمقراطية والمشاركة السياسية. أسفرت هذه الأزمة عن مجموعة من الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية أبرزها: ـ شيوع اللامبالاة السياسية بين الجماهير المُقمعة، وبروز ظاهرة الاغتراب على المستوى المجتمعي والفردي. ـ ظهور الثقافات المضادة للدولة التسلطية، وتزايد حركتها السياسية، والممثل البارز لها في منطقتنا هي حركات الإسلام الاحتجاجي، التي تدعو إلى الرفض القاطع للدولة العلمانية الوضعية والعمل على قلبها لإنشاء الدولة الدينية، ومهاجمة النموذج الغربي، والعمل على فرصة سيادة نموذج ديني في الثقافة والاقتصاد والسياسة. 2ـ أزمة الهوية: من مسببات هذه الأزمة: إن نمط النظام السياسي والاقتصادي قد فرض قيوداً شديدة على حركة الفرد في المجتمع، مما أدى إلى نتائج سلبية. فزادت حالة الإحباط الانفعالية العميقة الجذور، مما أدى إلى عدم الاستقرار النفسي لأعداد متزايدة من الناس، وإحساسهم بعدم اليقين. أيضاً من أسباب أزمة الهوية هو وجود الشباب كعامل اجتماعي واقتصادي وسياسي مستقل بذاته. تُسبب طول فترة التعليم ـ التي لا يعبر فيها الشاب عن نفسه كمشارك في المجتمع ـ في وجود وقت فراغ طويل المدى لا يكون فيه الشاب مسئولاً تجاه المجتمع الذي يعيش فيه. هذه الحالة تؤدي إلى ما أطلق علية إركسون " تشتت الهوية ". وتتبلور أزمة الهوية في المجتمع حين تتحول إلى حركات سياسية واجتماعية احتجاجية. 3 ـ أزمة العقلانية العلمية (التخطيط العلمي): إن النظم السياسية في منطقتنا العربية حين أرادت أن تقوم بعمليات تنمية بطريقة ثورية لم تتبنى نموذجًا عقلانيًا معينًا بل مقتطفات من النموذج الغربي والاشتراكي. على سبيل المثال، عندما تبنت الدولة النموذج الغربي في التصنيع ضاعت آلاف الأفدنة الصالحة للزراعة نتيجة استخدامها في التشييد والبناء، في الوقت الذي فيه أصدرت قرارات لاستصلاح الأراضي الصحراوية التي تتكلف بلايين الجنيهات. أيضاً حين تُصدر القرارات تكون لها صبغة فردية( سواء كانت هذه القرارات نتيجة قرار فرد أو حزب واحد) وبعيدة عن رقابة الصحافة والرأي العام. النتيجة هي إفقار الشعب بتنمية مشوهة، وسقوط الاقتصاد تحت طائلة ديون لا حصر لها. حالة الانحدار والانحطاط الاجتماعي، وتأزم المجتمع اقتصاديا وسياسياً، هي عوامل تلعب دورها في دفع الشباب نحو الفكر الأصولي. الخِطاب المسيحي: والآن نحاول استعراض الخطاب المسيحي وعرض محتواه المتعلق بالثلاث أزمات من خلال تعليم الرب يسوع المسيح. مكانة الإنسان: نستعرض الآن مكانة الإنسان في المسيحية إيمانًا مِنا بكرامة الإنسان التي أهدرت في مجتمعاتنا حيث أصبح الإنسان مهمشًا وأداة في النظام الرأسمالي العالمي الجديد الذي حوَّل المجتمع الإنساني إلى مجتمع إستهلاكي يخدم مصالحه. 1 ـ إن الإيمان بأن الله خلق الإنسان "بحسب صورة الله ومثاله" (تك27:1) هو حجر الزاوية للأنثربولوجية المسيحية. وفوق هذا الأساس ينبني أي تعليم سليم عن الإنسان. ويشدد العهد الجديد أيضًا على أن الإنسان هو مخلوق إلهي، فالمسيح نفسه يقول لليهود الفريسيين " أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى" (مت4:19، انظر أع28:17ـ29)، وأن الإنسان خُلق بحسب صورة الله (كو10:3) "وبحسب مثاله" (يع9:3). الله يُعلن ليس كمجرد "كائن أعلى" لكن كـ "إله محبة". واحد مثلث الأقانيم، أي شركة محبة بين الأقانيم الثلاثة في جوهر واحد. والخلق بحسب "المثال" أي مثال الله أُعطى للإنسان كإمكانية وليس كأمر تام قد اكتمل، إذ أن الاكتمال يتحقق بقوة الروح القدس أثناء مسيرة الإنسان في طريق الشركة والمحبة بين الله وبين إخوته في الإنسانية. هكذا كل البشر بغض النظر عن الانتماء القومي، واللون، واللغة، والشكل هم محاطون بكرامة إلهية متساوية. وبينما الفكر الغربي شدّد تشديدًا كبيرًا على تأليه العقل، نجد أن الشرق المسيحي شدّد بالأكثر على عنصر الحرية والمحبة واضعًا نموذج شركة أقانيم الثالوث منبعًا للحرية والمحبة. 2 ـ أيضًا تنادى المسيحية بأن الله ليس خالقًا فقط بل هو بالأحرى أب لكل البشر وهذا الرأي يُشدّد عليه مرارًا في الكتاب المقدس وخاصة في العهد الجديد (على سبيل المثال مت9:6، رو7:1). فجميع البشر هم أولاد الله وبالتالي فهم أخوة. أن اشتراك البشر جميعًا في حياة أساسها نفخة الله قد أكد عليه بولس الرسول في آريوس باغوس في أثينا " الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادى... وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض وحتم بالأوقات المعنية وبحدود مسكنهم" (أع24:17ـ26). هكذا تظل البشرية كلها وحدة عظيمة بلا تفتيت مركزها الله الثالوث الحيّ: " إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم" (أف6:4). وهذا ما أكده قداسة البابا شنودة الثالث في تأملاته لصلاة "أبانا" قائلاً: [ إن كلمة "أبانا" هنا تضيع منها الذاتية والفردية.. إننى أكلم "أبانا" كعضو في أسرة كبيرة، كجزء من الأسرة البشرية كلها، من الكنيسة الجامعة الرسولية، إنك لست أبًا لى وحدى بل أب العالم كله.. أب الناس الذين يعرفونك والذين لا يعرفونك.. إنك أب لى وللعاجزين والمنطرحين الذين لا يذكرهم أحد.. إنك أب لى في الكنيسة، وأب لنا كلنا وأطلب منك أن ترعى الجميع ليتقدس اسمك. هذا هو شعورنا حينما نصلى، إننا جزء لا يتجزأ من الكنيسة كلها... في صلواتنا نذكر العالم كله][3]. 3 ـ كذلك هدف الوجود البشرى والذي وضعه الله يربط البشر في عائلة واحدة: إن هدف وجود البشر هو تفعيل إمكانياتهم الإلهية بنعمة الله للتحرك نحو تحقيق التشبه بالله. أى أن نرتفع من مجرد الوجود البيولوجى إلى شركة أشخاص، إلى انسجام وتوافق مع كل المخلوقات وكل الخليقة وذلك بالمحبة التي تنبع من الثالوث القدوس وتنسكب في قلوبنا. 4 ـ أيضًا يوجد عنصر آخر أساسى تشترك فيه كل البشرية وهو سقوط الإنسان فالإنسان بدلاً من أن يتجه ناحية الله ليشترك في شركة محبة الأقانيم الإلهية لكى يحقق الهدف من وجوده وهو التشبه بالله، التصق بذاته الفردية ورفض محبة الله وطلب أن يمضى على أساس معاييره الخاصة وغواية "الشيطان" بأن يصير كالله عن طريق مخالفة وصايا الله (انظر تك5:3). ويشرح القدس أثناسيوس الرسولى قصة سقوط الإنسان بأسلوب رائع مبتدئًا بالخلق أولاً، فيقول [الله صالح بل هو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بأى شئ وهو لا يحسد أحدًا حتى على الوجود، ولذلك خلق كل الأشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا، وبنوع خاص تحنن على جنس البشر. ولأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائمًا على الحالة التي خُلق فيها، أعطاه نعمة إضافية، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقى الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته حتى يستطيعوا بطريقة ما، ولهم بعض من ظل (الكلمة) وقد صاروا عقلاء، أن يبقوا في سعادة ويحيوا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس][4]. ويستمر القديس أثناسيوس في الكلام عن الوصية التي أعطيت للإنسان قائلاً: [ولكن لعلمه أيضًا إن إرادة البشر يمكن أن تميل إلى أحد الاتجاهين (الخير والشر) سبق فأمن النعمة المعطاة لهم بوصية ومكان. فأدخلهم في فردوسه وأعطاهم وصية حتى إذا حفظوا النعمة واستمروا صالحين عاشوا في الفردوس بغير حزن ولا ألم ولا هم، بالإضافة إلى الوعد بالخلود في السماء. أما إذا تعدوا الوصية وارتدوا (عن الخير) وصاروا أشرارًا فليعلموا أنهم سيجلبون الموت على أنفسهم حسب طبيعتهم، ولن يحيوا بعد في الفردوس، بل يموتون خارجًا عنه ويبقون إلى الأبد في الفساد والموت][5]. واضح أن سقوط الإنسان له علاقة "بحريته"، لقد كان حرًا في أن يرفض المحبة الإلهية، فقد رفضها بالفعل ليرتبط بمحبته لذاته. وعلى الرغم من تغربه إلا أنه مازال يحتفظ بهويته وميراث الأصل الإلهى وأيضًا الاشتياق إلى الفردوس المفقود. كذلك يحدّثنا القديس يوحنا ذهبى الفم عن مكانة الإنسان فى نور قيامة المسيح، مبرهنًا على أن البشر متساوون فى الكرامة أمام الله. فالمائدة السماوية (الإفخارستيا) هى مُقدمَّة للجميع بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية ومستواهم المادي والمناصب التي يتقلدونها، قائلاً: [توجد مائدة واحدة مشتركة للجميع، للغني وللفقير، ولا يستطيع الغني أن يضيف شيئًا لهذه المائدة، كما أن الفقير لا يُحرم بسبب فقره من الشركة فى هذه المائدة الإلهية، لأن النعمة الإلهية تُقدم هنا للكل. ولماذا يبدو لك أنه أمر غريب أن تُقدم مائدة واحدة للغني وللفقير معًا، فإن الملك نفسه الذي يلبس الثياب الملوكية ويضع التاج على رأسه، والذي له سلطة عظيمة على كل الأرض، يشارك الفقير، الذي يطلب إحسانًا، نفس المائدة] ويستمر ذهبى الفم موضحًا لنا مصدر هذه المساواة وعدم التفرقة العنصرية، قائلاً: [وهذه هي العطايا التي يقدمها لنا الرب. إنه لا يقسّم المجتمع إلى طبقات وفقًا للمكانة الاجتماعية، لكنه يعامل كل واحد بحسب استعداده الشخصى وإيمانه][6]. لقد أوضح القديس يوحنا ذهبى الفم أن البشر أمام مائدة الله متساوون فى الكرامة وهى تتحقق فعلاً أثناء التناول من الأسرار المقدسة، لكن التمتع بهذه المساواة وهذه الكرامة مرهون بنوال الإنسان نعمة الولادة الجديدة لأنه يقول بوضوح: [مرات كثيرة يأتي إلى الكنيسة الغني والفقير وعندما يأتي وقت تقديس الأسرار المقدسة، يضطر الغني لأن يخرج خارج الكنيسة، لأنه مازال في عداد الموعوظين، بينما يظل الفقير داخل الكنيسة (أى الذى نال المعمودية)، وهذا لا يسبب غضبًا للغَنى، لأنه يعرف أنه مازال بعيدًا عن التقدم الأسرار الإلهية. آه كم عظيمة هي نعمة الله! إن نعمة الله تجعل كل الذين هم داخل الكنيسة ليسوا فقط متساوين، بل مرات كثيرة يتفوق الفقير على الغني في التقوى، لأن الغني الذى لا يعيش بالتقوى لا ينتفع إطلاقًا بما يملكه، كما أن الفقر لا يسبب ضررًا للمؤمن الذي يقف بتقوى وخوف أمام المذبح المقدس][7]. التبشير بملكوت الله كعنصر مضاد لجميع أوجه الفساد: لقد بشر المسيح بملكوت الله كعنصر جديد حقيقي، يأتي مضادًا لجميع أشكال الفساد في أي مجتمع[8] فهو لا يمكن أن يتكيف مع الروابط الظالمة العتيقة للمجتمع. وهذا ما كان يعنيه المسيح بكلامه للفريسيين : " ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق. لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمراً جديدة في زجاج عتيقة. لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمراً جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعاً" (مت16:9ـ17). واضح من كلام المسيح أنه لا يوجد أية تكيف بين ملكوت الله والمجتمع اللاإنساني. إن مطلب المسيح لتغيير المجتمع نجده واضحاً في التطويبات : " طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون طوباكم أيها الباكون لأنكم ستضحكون، طوباكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيروكم وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. أفرحوا في ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم في السماء لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء" (20:6ـ23). لم يرد المسيح بهذا الكلام أن يقول للفقراء احتملوا فقركم هذا وسأعدكم بسعادة في الحياة الأخرى. النص هنا يمثل رفضًا وإدانة للظلم الموجود في المجتمع. هذا الكلام موجه لجميع المقهورين في كل عصر، المسيح لا يُطوٌب المسئوليين عن السلطة الدينية أو الذين لهم مكانة سياسية (إذا كانوا بعيدين عن الله)، لكن الفقراء والحزانى والجوعى والمظلومين والمجاهدون لأجل إحقاق العدالة. لقد كشف المسيح زيف معايير هذا العالم وزيف الأنظمة غير الإنسانية. وفى نفس الوقت بشرَّ بأن ملكوت الله لم يُعين للذين في المرتبة الأولى بحسب معايير هذا العالم بل للذين هم آخر الكل، للمقهورين. والتطويبات لا تعنى بدون شك أن الفقر والجوع والألم في حد ذاتها تمثل تصاريحًا لدخول ملكوت الله. ولكنه يعبر عن إدانة واستنكار للمعايير والقيم الخاطئة في هذا العالم، فهي تُبشر بإتيان عالم جديد، عالم ملكوت الله الذي يهدف إلى تحرر الإنسان من روابط الخطية والظلم والقهر. ومن الجدير بالذكر أن طلب تغيير المجتمع له بعد أُخروى (اسخاتولوجى) لأن المسيحيين لا يعيشون فقط لأجل الحاضر، لأجل التاريخ فقط، بل هم شاخصون للحياة الأبدية، حيث يتحرر الإنسان تمامًا وتكون سعادته كاملة. والبعد الأخروي هذا لا يضعف الاهتمام بالحاضر والتاريخ، ولكنه على العكس من ذلك يدعو الإنسان أن يجاهد لكي يُغير الحاضر تحت قيادة النور المستقبلي. والبعد الأخروي (التفكر في الحياة الأبدية) لا يلغى التاريخ والعالم بل يعمل على تجليهما وتكميلهما. لأجل ذلك فإن نهاية العالم التي تكلم عنها المسيح (مت1:24ـ45 ، مر1:13ـ31 ، لو5:21ـ37) لا تعنى زوال هذا العالم بل تجليه. المسيح نفسه تكلم عن الميلاد الثاني (مت28:19)، عن الخلق الجديد والرسول بطرس تكلم عن أزمنة رد كل شئ أى رد مجد الخليقة الأولى : " الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شئ التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" وذلك بإتيان المسيح، بحلول ملكوت الله خاصة بنور البعد الأخروي. إن تاريخ سقوط الإنسان ينسحب ويترك مكانه لتاريخ الفداء. في هذا الإطار فإن ملكوت الله يُعطى للعالم والتاريخ معنى، وكمالاً ووحدة. إن دور ملكوت الله في بعده الأخروي هو دور تجديدي، إعادة خلق للواقع التاريخي، "هو ثورة من فوق" تتطلب خلق عالم جديد، عالم ينقاد بنور ملكوت الله ويتجه دائماً للحياة الفضلى، الحياة الجديدة داخل الإنسان وهي بالتأكيد الأكثر الإنسانية. هكذا فإن الأخلاق التي يدعو إليها ملكوت الله، والتي كرز بها المسيح لا تهدف إلى تثبيت ومساندة الأنظمة الفاسدة والغير إنسانية في المجتمع، إنها أخلاق التغيير. والتغيير سمة من سمات مجتمع الألفية الثالثة ويعنى التعديل المستمر لبلوغ حياة أفضل على المستوى الشخصي، وعلى مستويات المؤسسات والأنظمة، فإن تجمد الأوضاع لفترات طويلة هو ضد سرعة الحركة والتطور، الأمر الذي يسبب عقمًا فى الفكر والإبداع والخلق، التي هي من سمات خلق الإنسان "على صورة الله ومثاله". على الجانب الآخر فإن التغيير المستمر من أجل التطوير للأفضل يحول دون قيام الإمبراطوريات وتأليه الأفراد ويزيد الأمل والطموح عند الشباب قبل الكبار. لذلك فإن "أخلاق التغيير" أو "الأخلاق التي ينادي بها ملكوت الله" تتطلب من المسيحي أن يجاهد ويعمل لكي يواجه المشاكل الاجتماعية حتى يساهم في بناء عالم أفضل من الآن فصاعداً، أي داخل التاريخ. هذا الجهاد يجب أن يكون مستمرًا وغير متوقف. ولكن علينا أن نأخذ في الاعتبار أن حالة الكمال التام للعالم الجديد، عالم ملكوت الله، لن يتحقق في الحاضر، لأن هذه الحالة ليست قضية هذا العالم الحاضر. فالكمال التام سيتحقق في الحياة الأبدية. هذا التشديد على تحقيق الكمال في الأبدية لا يسبب إحباطًا في مسيرة الجهاد لأجل الأفضل، لأن المسيحي يعلم جيداً أن الإمكانيات والقدرات في هذا الاتجاه غير محدودة، وأن الذي يعمل فينا هو روح الله، روح الرجاء والتفاؤل. ومن جهة أخرى هذا التشديد يجعل المسيحي يتجنب أي تطبيع بين عالم ملكوت الله وبين أي نظام اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو أي تطلع قومي، كما حدث في زمن المسيح، إذ أن آفاق ملكوت الله كانت ضد الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية من حيث عدم إحقاقهم للعدل بل كان ضد التطلع القومي لليهود، أي فكرة "المسيا السياسي". وعلى هذا الأساس سيظل هناك صراعًا بين عالم ملكوت الله (النور) وكل الأنظمة والمؤسسات التي تسعى إلى قهر الإنسان وتحويله إلى "ترس" في آلة (الظلمة) لتحقيق أغراضها الدنيئة. مما سبق نجد أن أخلاق التغيير لا تخص الحالة الروحية للإنسان فقط، بل تشمل كل حياة الإنسان بعلاقاتها المتعددة. المحبة هي الطريق المؤدى إلى ملكوت الله وأساس للسلوك الأخلاقي: لو أن ملكوت الله ـ كما رأينا ـ هو القمة التي يدعونا إليها المسيح فإن المحبة هي الطريق المؤدى إلى إحتلال هذه القمة. إنها الوصية العظمى للناموس بحسب رأى المسيح في رده على أحد الناموسيين في سؤاله عن الوصية العظمى للناموس؟ " فقال له يسوع تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت37:22ـ40). المسيح نفسه لخص في العظة على الجبل الناموس والأنبياء في"القانون الذهبي" المعروف للسلوك الإنساني : " فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت12:7). هذا القانون في شكله الإيجابي يرفع من شأن الإنسان الآخر وهو عند المسيح بمثابة تعبير لمحبة نحو القريب وهذا يعنى أن وصية المحبة بهذه الثنائية (الله والقريب) تظل هي القانون السامي للحياة الأخلاقية للإنسان في تعاليمه. لقد أخبرنا القديس يوحنا الإنجيلي أن المسيح قبل آلامه اعتبر وصية المحبة ليست فقط وصية جديدة بل ملمح أساسي للمسيحي : " وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض" (يو34:13ـ35). شمولية وصية المحبة : إن هؤلاء الذين سمعوا المسيح يكرز بالمحبة نحو القريب قد أدركوا كيف أن القريب له معنى أشمل وأعم عما كان ينادى به اليهود. فالقريب بالنسبة لليهود هو الإنسان الذي ينتمي إلى جنسهم ودينهم. وأي إنسان غير يهودي لا يمكن أن يُعتبر في نظرهم إنسان يستحق المحبة. ولكن المسيح أعطى مفهومًا جميلاً جداً للقريب. لقد سأله أحد الناموسيين عن مَنْ هو قريبي فأجابه بطريقة غير مباشرة وطرح مثل السامري الصالح (لو30:10ـ37). هل أراد أن يشدد على إلتزامنا وواجبنا نحو مساعدة ومساندة الإنسان المتألم، والمحتاج؟ الإجابة ليس هذا فقط بل أراد المسيح أن يجيب على سؤال الناموسي عن مَنْ هو قريبي. فهو أراد أن يوضح محتوى مفهوم "القريب" قائلاً للناموسي "اذهب وافعل أنت نفس الشىء" افعل ما فعله السامري الصالح، الذي عندما وجد أمامه إنسانًا متألمًا قرر أن يساعده بدون أن يفحص قوميته أو ديانته، هكذا لابد أن يفعل مثلما فعل السامري الصالح: أن يساعد دون أن يفحص هوية المحتاج أي لا تفحص أي قومية ينتمي إليها أو أي مذهب ديني يُعتنق فطالما هو إنسان فهو قريبك، هو أخوك بغض النظر عن القومية التى ينتمي إليها أو الديانة التي يتبعها واللغة التي يتكلم بها وحتى لون بشرته والطبقة الاجتماعية التي ينحدر منها. هذا المفهوم كان يمثل صدمة للفكر اليهودي آنذاك لأنه يختلف اختلافًا جذريًا عن ما نادى به اليهود في زمانه، فاليهود كانوا يعتبرون الذين هم من غير الأمم اليهودية نجسين والمكان الذي يعيشون فيه أيضاً نجسًا، وعلى ذلك فأي اتصال معهم كان مرفوضًا تماماً (عاموس13:7، هوشع3:2). هكذا كان القريب لدى الإسرائيلي هو فقط من يتفق معه فى الجنس والدين (لاويين18:19)، أيضاً كانت هناك هوة فاصلة وكراهية قومية ودينية شديدة تفصل بين اليهودية والسامريين. لقد اختلط السامريون بالأجانب (الأمم) خاصة عندما جلب الآشوريون هؤلاء الأمم ليعيشوا معهم، بينما الإسرائيليون رفضوا بشدة أي اتصال معهم لأنهم في نظرهم نجسون والمسافة الفاصلة بين السامريين واليهود قد زادت وصارت أكبر عندما أسس السامريون حوالى سنة 320 ق.م. هيكلاً خاصًا بهم على جبل "جرزيم" واستمرت هذه الهوة الفاصلة حتى زمن المسيح. هذا ما يفسر ما قالته السامرية للسيد المسيح : " كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (يو9:4). لذلك عن قصد سرد المسيح مثل السامرى الصالح وعن قصد ووعى أيضاً ذكر الكاهن واللاوى لكى يُعِلَم أن (القريب) عند الإنسان هو أي إنسان، فمع حب القريب الذي يتعدى حدود القرابة ليتخذ سمة الشمولية تصير كل القيود الطبيعية للإنسان مع أسرته وشعبه، نسبية. وهكذا جعل المسيح تحديد من هو القريب لا يقوم على عنصري القومية والدين، فأصبح قريبنا ـ طبقًا لتعليم السيد المسيح ـ هو كل إنسان فقط من المنظور الحقيقي الواقعي أنه إنسان. لقد نشر المسيح ثقافة "قبول الآخر"[9] التي تتجاوز الهوية الدينية والقومية والمستوى الاجتماعي الطبقي ونوع الجنس ذكراً أم أنثى وملامح الوجه أو البنية الجسمية (فلا ترفض المعاقين أو المرضى)..الخ. إن "قبول الآخر" هو أساس قواعد التمدن والحضارة، كما أن دعوة المسيح للمحبة والتسامح الثقافي تجاه من يختلفون ديناً وثقافة وسلوكاً هي الاحتياج الملح على مستوى الوطن الواحد وعلى المستوى الدولي. فالإرهاب ومشاكل التعصب الديني والعرقي هي آفات عصرنا الحالي. إن "ثقافة المحبة والتسامح" التي نادى بها المسيح لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس ذكراً أم أنثى أو اللون أو البنية الجسمية سليم أم معاق بل تتطلب محبة الأعداء، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصة في الموعظة على الجبل : " سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم .. باركوا لاعنيكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لكى تكونوا أبناء الذي في السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم. أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون. أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت43:5ـ48). محبة الأعداء: المسيح هنا يطلب شيئًا يفوق ما فعله السامري الصالح، لأن ذاك انتصر على تعصب القومية والدين وعلى الخلفية المتراكمة التي كانت تفصل بين السامريين واليهود، وساعد إنسانًا كان يعانى من الألم. هذا الإنسان الجريح لم يكن عدوًا شخصيًا له. إلا أن المسيح يطلب المحبة نحو العدو! محبة العدو الشخصي والقومي والعدو الديني، والمحبة نحو العدو الذي يكرهنا ويطردنا. لقد أراد المسيح أن يحذرنا من خطوة تقسيم الناس إلى أصدقاء وأعداء بل نحب الكل دون استثناء مثلما يشرق هو على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. إنها أخلاق "الكمال". فلابد أن نسعى للكمال كما أن أبانا السماوي هو كامل. إذن فالمعيار هو الله نفسه في محبته للكل. تطابق المحبة نحو الله بالمحبة نحو القريب: هذه المحبة نحو الله تتطابق مع محبة القريب (الأخ في الإنسانية). خاصة المتألم والمقهور والمظلوم. هذا التطابق يتميز به تعاليم المسيح كافة فى إصحاح 25 من إنجيل متى حيث المسيح يمدح بشدة هؤلاء الذين ساعدوا ووقفوا وساندوا إخوتهم المتألمين والمقهورين " بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي الأصاغر فبي قد فعلتم" (مت40:25). بينما هؤلاء الذين لم يقفوا بجانب إخوتهم في الإنسانية يكلمهم بلغة قاسية قائلاً: " الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوا بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا" (مت45:25). ففي هذا الإصحاح الذي يتحدث عن الدينونة تتطابق المحبة نحو الله مع المحبة نحو الأخ في الإنسانية، خاصة المتألم حتى أنه لا يمكن أن تُفهَم الواحدة بدون الأخرى والذي يدعو للدهشة والإعجاب أن محبة الأخ (الآخر) هي تعبير محدد للمحبة نحو الله. وهذا يعنى أن برهان محبة أحد لله هي فقط محبته للآخر " لأنه من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره" (يو20:4). إن التشديد على قيمة الإنسان تصل هنا، بدون شك، إلى ذروتها، وهذا واضح في جميع تعاليم وأعمال المسيح. هذا التشديد على الإنسان لا يعنى رفض لله بل على العكس، فإننا نُعظم الله عندما نعظم الإنسان وننكر الله عندما ننكر الإنسان. الله الذي ظهر متجسدًا في شخص المسيح هو غريب تماماً عن الفكر اليهودي عن الله، فهو ليس فقط كلى القدرة، مُرهب، ومخيف ويعاقب بل هو أبونا (مر36:14). الحنون الذي هو رفيق رحلة الإنسان ويشاركه الألم وكل متاعب الحياة (راجع مت31:25، لو4:15ـ7،32:11 على سبيل المثال). الف إن المحبة التي نادى بها المسيح لا تُفهم إلا بارتباطها الشديد بالعمل أو بتفعيلها، فالمسيح لا يُعلّم ولا يكرز بمحبة عاطفية ولكن بالمحبة العاملة، لذلك يشدد على ذلك فى الموعظة على العل (العمل) هو معيار المحبة عند المسيح:جبل : " ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبى الذي في السموات.كثيرون يقولون في ذلك اليوم يارب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرخ لهم أنى لم أعرفكم قط فاذهبوا عنى يا فاعلي الإثم. فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبه برجل عاقل بنى بيته على الصخر ..... وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الرمل ..." (مت21:7ـ27). واضح من هذا النص أن المسيح يُعطى أولوية ليس لاعتراف الإيمان النظري المستقيم بل للعمل والفعل وإتيان الثمار. أن الأهمية العظمى ليس قبول حقائق إيمانية نظرية، ولكن في المحبة العاملة. المسيح لا يطلب فقط تغييرًا داخليًا ولكن ترجمة هذا التغيير إلى عمل وفعل. وهذا يظهر جلياً في مثل التينة غير المثمرة: " كانت لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه. فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام هوذا ثلاث سنين آتى أطلب ثمراً فى هذه التينة ولم أجد. اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً. فأجاب وقال له يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها وأضع ذبلاً. فإن صنعت ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها" (لو6:13ـ9). لقد أكد أيضاً يعقوب أخو الرب في رسالته على الضرورة المطلقة للعمل: " ولكن كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم" (يع22:1). إن الإيمان وحده لا يكفى " لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضاً بدون أعمال ميت" (يع26:2). والرسول يعقوب لا يشكك في قيمة الإيمان، ولكنه يرفض الفكر الذي يكتفي فقط بالإيمان، والفكر الذي يلقي مسئولية كل شئ على النعمة الإلهية. لا يوجد مجال للشك في أن المسيح أعطى أفضلية أو أولوية مباشرة للعمل، ولكن أي عمل هذا الذي يطلبه السيد المسيح؟ أنه يطلب العمل الذي تدعو إليه الوصية الجديدة التي هي المحبة، وهذه الوصية ليست موقفًا عاطفيًا عامًا وحسب، بل هي محبة عاملة محددة، لشخص محدد، وهذا يعنى مساندته بجانبه في احتياجاته ومشاكله التي يواجهها "هنا والآن" (راجع رو9:12ـ21). " لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً" (فيلبى4:2). هذا ما فعله المسيح إذ صار إنسانًا لأجل الإنسان، وهذا واضح في مثل السامري الصالح (لو30:10ـ37)، والإصحاح الـ25 لإنجيل متى. علينا أن نتشبه بالسامري الصالح الذي فعل كل ما عنده لكي يداوى جراحات إنسان وينقذه. وعلى العكس من ذلك فقد أدان المثل السلوك القاسي للكهنة واللاويين الذين رأوا كم كان الإنسان جريحًا وبين الحياة والموت ولكنهم عبروا عليه دون أن يفعلوا شيئاً. لقد أراد المسيح بهذا المثل أن يعلمنا بأن المحبة نحو أخينا في الإنسانية تعنى الدفاع والوقوف بجانبه حتى يستطيع أن يواجه مشاكله التي تؤرقه. أيضاً أصحاح 25من إنجيل متى وبصفة خاصة المقطع الذي يتكلم عن " الدينونة العتيدة" (مت31:25ـ46)، نجد فيه أن المعيار الذي سوف يدين به المسيح الإنسان هو موقفه إزاء مشاكل واحتياجات أخيه في الإنسانية، فالمحبة نحو الله والقريب تعنى صراعاً لا يهدأ حتى يتخلص الأخ في الإنسانية من سياط الحرمان والضعف، من المرض، من الأمية، ومن كل أشكال القهر. المحبة تعنى عند المسيح صراعًا دائمًا حتى تزال المعطلات التي تعرقل طريق سعادة الإنسان. وهنا سؤال يفرض نفسه: هل هذه المحبة العملية التي يطلبها المسيح يجب أن تمارس على مستوى الفرد أم المجتمع؟ إن الوصية الجديدة للمحبة تتطلب ليس فقط وجود إنسان جديد بل وخلق مجتمع جديد، فأخلاق المحبة وثقافة "قبول الآخر" و "ثقافة التسامح" التي علمها المسيح لها نتائج اجتماعية شاملة تطلب من الإنسان أن يغير الروابط الاجتماعية ويؤسس عالمًا يسوده العدل، عالمًا أكثر إنسانية. ومن جهة أخرى، فإن المحبة لا يمكن أن تتصالح مع عادات وروابط وبرامج اجتماعية تعتبر الإنسان مجرد شئ أو أداة لكي ترضى بها أهدافها أو أيديولوجيتها أو محبة المجد الباطل، لقد قاوم المسيح بشدة الظلم " تباعدوا عنى يا جميع فاعلي الظلم" (لو27:13)، وطالب بعالم جديد خالي من أناس مقهورين. لذلك لم يُعطى المسيح لتلاميذه بنودًا تعليمية ولكنه طلب منهم أن يكرزوا بملكوت الله وهذا له أهمية خاصة، أن يخلصوا الناس من جميع أشكال الضعف والمرض والقهر : " وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات اشفوا مرضى. طهروا برصاً. أقيموا موتى. اخرجوا شياطين. مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا" (مت7:10ـ8). خاتمة: هكذا فالكنيسة أيضًا ـ التى هى جسد المسيح وهو رأسها ـ تحتضن العالم حيث تصلى: " أبانا الذي في السموات " وفي إطارها لا يُزدرى بأحد (مت10:18)، ولا يُدان أحد (مت1:7) ولا يُهجر أو يُترك عندما يضل (مت12:18ـ14)، والأخ يغفر إلى ما لا نهاية (مت22:18). فالبشر هم أخوة لأن لهم أب واحد ومعلّم واحد. الكنيسة تنفتح على الجميع وتعطى قيمة ثمينة للطاعة لله وتهتم في نفس الوقت بكل جوانب حياة المؤمن. إن العطية المميزة للمسيحية هى شعور الجماعة إذ تمنح البشر فرصة فريدة للتمتع بالأمان والرضا واحترام الذات. إن سفر الأعمال يقدم وصفًا عجيبًا لمجتمع مثالي نشيط نجد فيه حلولاً لمشاكل البشر اليومية والتي عاقت روما ـ ومازالت تعوق المجتمع الدولي في أيامنا ـ في تحقيق أهدافها. هكذا نجد في هذا المجتمع مبادئ اجتماعية رفعت المرأة إلى مكانتها الصحيحة، واستعادة كرامة العامل وأبطلت التسول والعبودية. ثورة هذا المجتمع توجه لأجل القضاء على الأنانية والطبقية. في العشاء الإفخارستى صارت شركة المحبة هي الأساس الجديد لهذا المجتمع. لقد كان هدف المسيح تكوين مجتمع يتواصل فيه الأشخاص فيما بينهم وليس تجمع لأفراد منعزلين، وبالرغم من أن هذا المجتمع الذي ينشده المسيح هو شركة لأشخاص معينين إلاّ أنه هو منفتح ولا يتأسس على ملامح ومواصفات منغلقة. فالمجتمع الذي يريده المسيح هو مجتمع منفتح تجاه الجميع، فيما عدا هؤلاء الذين يرفضون دعوته. وهذا المجتمع الذي هو بمثابة تحقيق لما كرز به المسيح عن إعادة الشركة بين البشر والله يُرمز له بمائدة العشاء التي كان الفقراء والمهمشون يدعون إليها للتناول من خيراتها (انظر لو16:14ـ20). البشر سوف يتجمعون من كل أرجاء الأرض لكي يجلسوا في المائدة (انظر لو29:13). كما إن الولائم الكثيرة التي اشترك فيها المسيح والتي ذُكرت في الأناجيل تظهر رسالة المسيح في إعادة العلاقة بين الخطاة والله وذلك في إطار الحياة الجديدة، أي في إطار ملكوت الله. بتجسد الكلمة دخل الإنسان في مسيرة إعداد "بالروح القدس" لكي تكون له إمكانية التغيير الوجودي المطلوب للانضمام لملكوت الله. لكن هذا العمل لا يُنفذ أو يتم على المستوى الفردي بل "في شركة" " أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح " (انظر غلا27:3)، الأمر الذي يشكل إطار الكنيسة الاجتماعي. الكنيسة كشركة أشخاص لها ملامح واضحة وأهداف وطرق ووسائل حياتية وقيم تعبّر عن هذه الكنيسة، فتعليم المسيح مقدم للكل بغض النظر عن قوميته أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهدف هذا التعليم ـ كما قلنا سابقًا ـ تغيير الإنسان لكي ينضم إلى أعضاء ملكوت الله. وهذا يتطلب تربية (بحسب الله) إلى أن "يتصور المسيح" في قلوبنا (غلا19:4). إن المسيح مؤسس الكنيسة ومعلمها هو الذي وضع المبادئ التي تحكم هذه الشركة وُتَؤمِّنها. لقد صار المسيح، آدم الثاني، جذرًا للبشرية التي هى مدعوة لأن يصير لها فكر المسيح. والشركة تستلزم من العضو أن يضع "الأنا" في إطار "نحن" بحسب قول بولس الرسول: " وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (1كو27:2). وعلى النقيض، في كل الأنظمة الاجتماعية التي تنتمي للعالم نجد أن تنظيم العلاقة الاجتماعية بين الأعضاء فيها لا يعتمد على اختيارات فردية بل يخضع لإجراءات آلية محددة. أما الشركة التي تعكس صورة ملكوت الله فهي التي تؤّمن فرادة الشخص وتميزه وسط شركة المحبة، ولذا نلاحظ الآتي: 1 ـ أي نظام اجتماعي يضع سدودًا وحواجز أمام الشخصية البشرية بدافع مصلحة الجماعة. 2 ـ أي نظام اجتماعي، إنما يعتبر أفراده آلات تخدم احتياجات ومصالح المجموع. أما المجتمع الذي ينتمي لملكوت الله فهو يتبنى حرية الشخص، فهو يريد القبول الحُر للإنسان ولا يؤمن بالإجبار، وهذا نراه في قول العذراء مريم: " هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك" (لو38:1). 3ـ أي نظام اجتماعي لا يعطى اهتمامًا للعلاقات الشخصية بل يتبنى نماذج نمطية جامدة نابعة من أيديولوجية معينة. أما الانضمام إلى ملكوت الله يتحقق داخل علاقة شخصية بين الإنسان والله، وفي إطارها لا تُقدم نماذج نمطية جامدة للسلوك أو قوانين معينة للسلوك لكن مؤشرات توجه الشخصية لكي تعبر عن نفسها مسترشدة بالمسيح الذي هو النموذج المحتذى به. [1] انظر السيد ياسين، الحرب الكونية الثالثة، مكتبة الأسرة 2003م، ص73ـ74 (مرجع أساسي). [2] انظر السيد ياسين، المرجع السابق، ص79ـ96. [3] قداسة البابا شنودة الثالث، "أبانا الذي في السموات"، الطبعة الثالثة، القاهرة 1997، ص35. [4] القديس أثناسيوس الرسولى، تجسد الكلمة 3:3، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، الطبعة الرابعة سبتمبر 2006م، ص8. [5] القديس أثناسيوس الرسولى: المرجع السابق 4:3، 5 ص9. [6] الاحتفال بالقيامة، ترجمة د. جورج عوض إبراهيم، المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، القاهرة 2004، ص13. [7] المرجع السابق، ص 14. [8] يورغوس ماتزارديس ـ علم الاجتماع المسيحى ـ تسالونيكى 1990 ص176 ـ 177. [9] عن ثقافة "قبول الآخر" أنظر د/ ميلاد حنا ، الأهرام 27/4/1999 ، أيضاً طارق حجى المرجع السابق ص 17ـ25.