السبت، 29 أكتوبر 2011

ما هو مفهوم "الخبرة الكنسية" ؟ - 1 - المطران يوحنا زيزيولاس - ترجمة د جورج عوض ابراهيم


حوار مع المطران يوحنا زيزيولاس


«Ορθόδοξος Τύπος» 4/8/2006 ترجمة د.جورج عوض ابراهيم





ما هو مفهوم "الخبرة الكنسية" ؟ - 1 -
           

ينبغي ، لكي ندرك المفهوم الحقيقي لهذا المصطلح ، أول كل شييء ، أن نستعرض بإيجاز التعليم الارثوذوكسي الخاص بالتمييز بين جوهر الله وأفعاله . هذا التمييز بدأ من الآباء الكبادوك ( باسليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ) وتوسع في هذا التعليم الاب غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر ) . بالحري وفق تعليم الكنيسة جوهر الله أو طبيعة الله هي مجهولة تماما . الجوهر الالهي يمثل الوجود الحقيقي لله ( το οντως «ειναι») والانسان يستحيل ان يعرفه لأن الطبيعة البشرية لا تتحمل الشركة ( التواصل ) معها . القديس بولس حين يتحدث عن ضعف الانسان في ان يعرف جوهر الله ، يقول إن الله " نور لا يُدنى منه.....الذي لم يره أحد من الناس ...." 1تيمو16:6 ، بينما في العهد القديم يقول الله لموسى : " ... لا تقدران ترى وجهي لأن الانسان لايرى وجهي ويعيش " خر20:33 . سنستطيع ان نُشبه جوهر الله بجوهر الشمس . مثلما الانسان لا يستطيع ، حتى لو أراد ، ان يدخل إلى نواة الشمس ، لأن جسده لا يتحمل أشعة الشمس وحرارتها ، هكذا ، انه مستحيل ان يأتي الانسان في إتصال مع جوهر الله ويعيش .



لكن ، بينما ان جوهر الله او طبيعة الله هي غير معروفة تماما ، إلا ان ما يُسمى " الأفعال الالهية " أو " النعمة الإلهية " أو " "أفعال الله " هي معروفة وتقبل الاتحاد وقريبة للإنسان ، أفعال الله الطبيعية هي " غير مخلوقة " ( بمعنى أبدية ، لا بداية لها ، توجد في الله قبل خلق العالم ، قبل بداية المكان والزمان ) ، لديها كل خواص الطبيعة الإلهية وتنقل معرفة هذة الخواص للإنسان . ببساطة مثلما طبيعة الله هي على سبيل المثال نور ، ومحبة وتواضع وحياة أبدية ....الخ ، هكذا أيضاً أفعال الله هي على سبيل المثال نور ، محبة وتواضع وحياة أبدية ....الخ.

الانسان حين يشارك في أفعال الله يستطيع ان " يعرف " خصائص الطبيعة الالهية ، ان يصير ، بحسب الرسول بطرس " شركاء الطبيعة الالهية " 2بط4:1 . ان يعرف – إذن – داخل شركته في أفعال الله - ليس في جوهر الله أو طبيعته - خواص طبيعة الله . سنستطيع ان نُشبه أفعال  طبيعة الله بأفعال طبيعة الشمس ، أي مثلما ان أفعال الشمس لديها خواص الطبيعة الشمسية ( على سبيل المثال نور، حرارة ) وتنقل هذة الخواص إلى الانسان ، وليست الطبيعة الشمسية التي لا يُدنى منها ولا يستطيع الانسان ان يشترك فيها ، هكذا ايضا الافعال الالهية لديها الخواص الالهية ( على سبيل المثال، نور ومحبة وتواضع وحياة ابدية ) ، وتنقل لنا هذة الخواص ، معرفه إيانا ليست الطبيعة الالهية التي لا يُدنى منها بل خواص طبيعة الله . والمسيح وهو يتحدث عن قدرة الانسان ان يعرف الله مشتركا في أفعاله ، قال " طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله " مت 8:5 .



البشر والملائكة هم الوحيدون من مخلوقات الله لديهم المقدرة على الشركة في أفعال طبيعة الله . هذة الشركة تُوصف في لغة اللاهوت الارثوذكسي "رؤية الله" أو "تأله" أو " معاينة الله" وتمثل الهدف الفريد لخلق الانسان ، ومفهوم الحياة البشرية الأول والأخروي ، والغاية الحقيقية ، التي من أجلها أحضر الانسان من العدم إلى الوجود.

بشركته في الأفعال الالهية يحقق الانسان أمرين :



.

 أ‌-       يتشكل الانسان ويصير شبيه بالله ( إله بحسب النعمة ) لأنه وهو يشارك أفعال الله يتآلف مع خصائص الطبيعة الالهية ومع الطريقة الشخصية لوجود الله . نستطيع ان نشبه أُلفة خصائص الطبيعة الالهية من جانب الانسان بالحديد المحمى بالنار. أي كما ان الحديد الذي يشترك في النار يتحد معها ويتآلف مع خصائصها الطبيعية ( على سبيل المثال يصير متوهج ومحمر ويشع حرارة ) ، هكذا أيضاً الانسان الذي يتحد بالله ويتآلف مع خصائص الطبيعة الالهية ( على سبيل المثال يصير نور ومحبة وتواضع وحياة أبدية ) .

ب‌-  يحصل على معرفة الله الحقيقية . أي يعرف حقا الله أنطولوجياً اي وجودياً، وهكذا يتحدث عنه للناس. على النقيض ، مع الفلاسفة والهراطقة ، القديسون تعرفوا حقا على الله مشتركين في أفعال طبيعته وبعد ذلك عبّروا باللغة البشرية عن خبرة معاينة الله التي منحها لهم الله. بالتالي تعليم الكنيسة عن الله الثالوث ليس هو تلفيق وصناعة بشرية بل إعلان أُعطي من الله كعطية للقديسيين.

ت‌-  على أساس ما قيل نصل إلى تحديد مصطلح " الخبرة الكنسية " بأنه شركة الانسان في أفعال الثالوث القدوس ، تلك الأفعال غير المخلوقة ، والتي فيها يصير الانسان شبيه بالله ( إله بحسب النعمة ) ، ويحصل على التأله ومعاينة الله .  أي إتحاد الانسان ، حقاً وليس رمزياً أو خيالياً ، بوجود الله غير المخلوق والذي ليس له بداية .

الجدير بالملاحظة هو اننا بمصطلح " الخبرة الكنسية " لا يقصد به الصياغة اللغوية لخبرة التأله ، بل خبرة التأله ذاتها. نشدد على هذا الشرح لأننا لو قبلنا هذا الرأي بأن مصطلح " الخبرة الكنسية " هو الصياغة المكتوبة في أعمال الآباء وقرارات المجامع المسكونية وخبرة الكنيسة المستنيرة ، عندئذٍ :

أ‌-       كل الناس لديهم قدرة الأقتراب إلى " الخبرة الكنسية " وبالتالي يستطيعون أن يعرفونها ويقرأون كتب لكي يدركوا هذة الخبرة عقلياً ويفسرونها ( الامر الذي هو عبث طالما نحن خطاه ليس لدينا خبرة رؤية ومعرفة الله وبناء على ذلك نجهل ما هي حقاً " الخبرة الكنسية ".

المسيحيون الأُميون يكون لديهم إمكانية قليلة للأقتراب إلى " الخبرة الكنسية " وبالتالي يتأخرون مقارنةً بالمتعلمين طالما يجهلون الصياغة اللغوية وبناء على ذلك لا يستطيعوا ان يعرفونها عن طريق قراءة الكتب لكي يدركوها عقلياً ويفسروها ( الامر الذي هو أيضاً عبث حيث ان الناس الأُميين – على سبيل المثال يوحنا المعمدان – إستطاعوا ان يصلوا إلى التأله ويعرفونه حقاً ك"خبرة كنسية" ).


إذن لأن " الخبرة الكنسية " هي خبرة التأله ذاتها ، وليست الصياغة اللغوية ، حتى لو إختفت كل نصوص التعليم الارثوذكسي ( الكتاب المقدس ، أعمال الآباء ، قرارات المجامع المسكونية ، .....الخ ) ، " الخبرة الكنسية " ستكون أيضاً حاضرة  في حياة الكنيسة.