الثلاثاء، 31 يناير 2012

التبني عند القديس أنطونيوس الكبير - د.جورج عوض ابراهيم


التبني

 عند القديس أنطونيوس الكبير

د. جورج عوض إبراهيم



مقدمة : 

          عندما يتكلم الآباء الشيوخ عن موضوع مثل التبني ، نراهم مُنشغلين بترجمة خبراتهم الداخلية التى ذاقوها واختبروها لفائدة المؤمنين وكأن لسان حالهم ما قاله يوحنا الإنجيلى " الذى رأيناه .. سمعناه .. لمسته أيدينا.. ".

          لم يقصدوا هؤلاء الآباء أن يؤسسوا تعليمًا يدافعوا به ضد محاولات الهراطقة المستمرة فى تزييف التعليم الأرثوذكسى المُسلم مرة للقديسين ولكن خبراتهم وتفاعلهم مع عطايا النعمة الإلهية خير شاهد على صحة إيمانهم الأقدس ، فجاءت عظاتهم خُلاصة خبرة مُعاشة مؤسسة على الحق الكتابى .

          لذلك نجد فى كتابات القديس أنطونيوس والقديس مقاريوس كنوزًا للمعرفة الحقيقية النابعة من الخبرة الوجودية لحياة النفس البشرية مع الله ، لم ينشغلوا ببراهين كتابية ( مع أنهم كانوا على دراية عميقة بالكتاب المقدس بعهديه ) ليشرحوا العلاقة الحية بينهم وبين الله فى شخص يسوع المسيح ، بل العكس حياتهم صارت مفسرة وشارحة وشاهدة للحق الكتابى.

          النفس فى علاقتها مع الله هى الشُغل الشاغل للآباء النُساك والتميز واضح بين كتاباتهم وكتابات الآباء المعلمين مثل ( ايريناؤس ـ أثناسيوس ـ كيرلس ... ) الذين لهم دور بارز فى تحديد التعاليم المسيحية الأصيلة ضد خيالات وانحرافات الهراطقة .

      لذلك

 عندما نتناول موضوعًا مثل ( التبني ) نجد أن الآباء المعلمين يركزون على هذه العطية الإلهية كحقيقة اعلنها الوحى الإلهى فى الكتب المقدسة والتقليد بينما ينشغل الآباء الشيوخ        ( النُساك ) بكيفية حفاظ النفس على هذه العطية وكشف كل المُعطلات والحروب الشيطانية التى تهدف إلى فقدان النفس لهذه العطية وعدم الاستمتاع الحقيقى بعطية التبني ، الآباء المعلمون يؤكدون لنا محبة الله  الفائقة الوصف والتى صيرتنا أولادًا لله ، بينما هدف الآباء النُساك كيف نسلك كأولاد لله وكيف نجهض ونحارب كل القوات الشريرة التى تريدنا أن نفقد هذه النعمة .



التبني فى فكر القديس أنطونيوس :

مبادرة محبة الله :



          يُشبّه القديس أنطونيوس سقوط الإنسان أوبحسب تعبيره سقوط الجوهر العقلى ( الكيان الروحى أو العقلى أو القلبى أو نفسه الحقيقية ) بالجرح الغير قابل للشفاء  ( رسالة 6 ) وأن الله أفتقد البشرية برحمته وذلك عن طريق موسى مُعطى الناموس والأنبياء الذين مهّدوا الطريق للطبيب الأعظم " لكن الله فى محبته الفياضة والتى لازيف فيها ، جاء إلينا"        ( رسالة 2 ) . آخذًا صورة عبد ( فى7:2،8 ) لقد أخذ جسدنا وبذل نفسه لأجل خطايانا وسُحق بآثامنا وبجراحاته شُفينا جميعًا ( أش5:53 ) .



يسوع المسيح هو البر الذى يقود إلى التبني :

          يؤكد القديس أنطونيوس أنه لايوجد تبنى بدون الابن الحقيقى يسوع المسيح ففى الرسالة ( 2 ) :

[ ويجب على كل واحد من الخلائق العاقلة التى جاء المخلص أساسًا لأجلها، أن يفحص حياته ، وأن يعرف عقله وأن يميز بين الخير والشر ، لكى ما يتحرر ( يخلص ) بمجئ ( يسوع ) لأن كثيرين تحرروا ( خلصوا) بتدبيره ودعوا ( عبيد) خدام الله . إلا أن هذا ليس هو الكمال بعد ، وإنما فى وقته الخاص كان هو البر ، وهو يقود إلى تبنى البنين ] .

          وفى رسالته الرابعة يقولها بأكثر وضوح أنه بالمسيح صار لنا التبنى وأيضًا يشدد على دور الروح القدس .

[ لأنه إذا اقترب إنسان من النعمة فإن يسوع سيقول له "سوف لاأدعوكم عبيدًا ، بل أدعوكم أصدقائى وأخوتى لأن كل الأشياء التى سمعتها من أبى أخبرتكم بها ( يو15:15 ) فإن كل الذين اقتربوا من النعمة وتعلموا من الروح القدس قد عرفوا أنفسهم حسب جوهرهم العقلى . وفى معرفتهم لأنفسهم صرخوا قائلين " لأننا لم نأخذ روح العبودية للخوف ولكن روح التبنى الذى به نصرخ يا أبا الآب " ( رو 15:8 ) حتى نعرف ماذا أعطانا الله " إن كنا أبناء فإننا ورثة ، ورثة الله ، ووارثون مع المسيح "          ( رو17:8 ) ] .

          وفى الرسالة ( 7 ) يشدد القديس على الفرق الواضح بين المسيح كابن (طبيعى) لله وبقية المخلوقات التى من طبيعة متغيرة ( ليست كاملة )       [ ... لذلك فإنه هو الآن حياة كل طبيعة عاقلة مخلوقة على مثال صورته ،  وهو نفسه ( المسيح ) عقل الآب وصورته غير المتغيرة ( الصورة الكاملة) ( عب 3:1 ) ، أما المخلوقات المصنوعة على صورته فإنها من طبيعة متغيرة ( ليست كاملة ) لأن الشر قد دخل فينا ، وبه مُتنا جميعًا ،  حيث إنه غريب عن طبيعة كياننا العقلى ( الروحى ) ] .

سلوك البنين :

          يركز القديس على السلوك الذى يجب أن يكون عليه أولاد الله :

1- قدموا أنفسكم ذبيحة لله فى القداسة :

          ويشرح ذلك مؤكدًا أن القداسة تتجلى وتظهر فى فعل الصلاح والتوبة .

رسالة (5) : [ ... قدموا أنفسكم ذبيحة لله فى كل قداسة لكيما تروه . لأنه بدون قداسة لايستطيع أحد أن يرى الرب كما يقول الرسول (عب14:12) ... وهى أن تفعلوا الصلاح وهكذا تنعشون القديسين وتعطون بهجة للطغمات الملائكية فى خدمتهم ... ] .

          [ والآن ليمزق كل واحد منكم قلبه أمام الله ويبكى أمامه قائلاً " ماذا أرد للرب من أجل كل أحساناته " ( مز12:116 ) ] .

          وهنا نجد أن التوبة عند القديس تأخذ المعنى الجوهرى وليس الشكلى بتمزيق القلب ومن ناحية أخرى تأخذ الإيجابى فالبكاء هنا سببه الأساسى هو احسان الله ومحبته الفائقة التى غمرنا بها ونحن غير مستحقين ، فماذا نرد للرب من أجل كل احساناته . ] .

2- لاتهملوا خلاصكم وتمثلوا بأعمال القديسين :

          يحذرنا القديس بجرأة المحبة من خطر اهمال خلاصنا نتيجة انشغالاتنا بهذه الحياة السريعة الزوال أو بسبب الأهواء والشهوات الجسدية من أن نفقد الميراث الأبدى الذى هو نصيب القديسين .

          ويؤكد القديس أنطونيوس أن الشر دخيل على المخلوقات لأنها نشأت من مصدر واحد وهو الثالوث كلى القداسة الآب والابن والروح القدس . وبسبب سلوك بعضهم الشرير صار من الضرورى أن يُعطى الله أسماء لكل نوع منهم طبقًا لأعمالهم . وأولئك الذين تقدموا كثيرًا أعطاهم مجدًا فائقًا .

3- محبة الأخوة :

          يؤسس القديس أنطونيوس تعاليمه على وصية المسيح العظمى التى هى المحبة " تحب الرب إلهك من كل قلبك وفكرك وقدرتك ، وتحب قريبك كنفسك " ويشدد على حب القريب كالنفس ففى رسالته السادسة يقول  إن الشياطين يعلمون أن هلاكنا هو عن طريق " بغضة " القريب وأن حياتنا أيضًا وخلاصنا هى عن طريق ( محبة ) القريب ، وأن الذى يخطئ ضد قريبه يُخطئ ضد نفسه ، والذى يفعل شرًا لقريبه فإنه يفعل شرًا بنفسه ، والذى يصنع خيرًا بقريبه يصنع خيرًا بنفسه .

          وهنا نجد أن القديس يشدد على أن العلاقة الخاصة بين الإنسان   والله تظهر فى علاقات الإنسان بأخيه ، فالذى يحب الله محبة حقيقية تظهر فى محبته لقريبه والعكس بغضة القريب تعنى أنه لاتوجد محبة فى القلب تجاه الله ، فالأخلاق عند القديس غير منفصلة عن العبادة الروحية والمحبة عنده يجب أن تترجم فى كم المعاملات اليومية مع الآخرين .

4- أهمية التمييز والتواضع :

          فى الرسالة السادسة يحث القديس المؤمنين أن يتدربوا على التمييز ويبتعدوا عن الكبرياء ويتحلوا بالتواضع ، وروح التمييز هنا لمعرفة طريق الرب من طرق الشياطين .

          [ حقًا ، يا أبنائى ، إنى أريدكم أن تعرفوا أن كثيرين قد سلكوا طريق النسك طوال حياتهم ، ولكن نقص التمييز والافراز تسبب فى موتهم، حقًا يا أبنائى ، إنكم إذا اهملتم نفوسكم ، ولم تميزوا وتمتحنوا أعمالكم فلا أظن أنه يكون أمر عجيب أن تسقطوا فى يد أبليس بينما أنتم تظنون أنكم قريبون من الله ،  ... فأى احتياج كان ليسوع حتى يمنطق نفسه بمنشفة ويغسل أرجل من هم أقل منه ... إلا لكى يعطينا مثالاً ، من جديد !( انظر يو 4:13-17 ) .

          لأن بداية حركة الشر كانت هى الكبرياء الذى حدث أولاً ... ولهذا فبدون اتضاع عظيم بكل القلب والعقل والروح والنفس والجسد ، لن تستطيعوا أن ترثوا ملكوت الله ] .

امتياز البنين :

1- مجئ الروح القدس إلينا ليسكن فينا :

          يذكرنا القديس بأن نار الروح القدس الغير مرئية هى نصيب البنين الذين يسلكون بحق كأولاد لله ، هذه النار تحرق كل الشوائب لتتطهر روحنا وعندئذ يسكن فينا الروح القدس ويمكث بذلك المسيح معنا ، وهكذا سنكون قادرين أن نسجد للآب كما يحق ، ويحذرنا القديس بأنه لوبقينا متصالحين مع طبائع العالم ، فإننا نكون أعداء لله ولملائكته ولجميع قديسيه ( رسالة 5 ) .

          هنا نجد دور الروح القدس الذى يقدس ويطهر القلب والروح والنفس ويهيئ الإنسان لمعية المسيح .

2- الحرية الحقيقية بالمسيح :

          مفتاح حريتنا الحقيقية هو المسيح نفسه الذى أخلى ذاته آخذًا صورة عبد ( فى 7:2 ) لكيما يحررنا بعبوديته .

          والتلمذة للمسيح فى نظر القديس أنطونيوس هى أن نحرر أنفسنا بواسطة مجيئ المسيح ونتشبه بتواضعه فنصير تلاميذ له ونرث معه الميراث الإلهى ( كبنين ) .



3- موهبة الافراز والتمييز ( البصيرة الروحية ) :

          فى الرسالة الحادية عشر يذكر القديس أن النظر الجديد أى البصيرة الجديدة أو موهبة الافراز والتمييز هى من نصيب أولاد الله : [ هؤلاء هم الذين صاروا أولاد الملكوت ، وحسبوا فى حالة التبنى لله ، هؤلاء يعطيهم الله هذا النظر الجديد فى كل أعمالهم ، لكى لايستطيع إنسان أو شيطان أن يخدعهم . لأن المؤمن يمكن أن يُخدع بحجة الصلاح ، وكثيرين خدعهم الشيطان بهذه الطريقة ، لأنهم لم يكونوا قد نالوا هذا النظر الجديد من الله . ولأن الرسول بولس المغبوط ، عرف أن هذا هو غنى المؤمنين الذى لاحد لعظمته ، كتب يقول " إنى احنى ركبتى لدى أبى ربنا يسوع المسيح ... لكى يعطيكم روح الحكمة والاعلان فى معرفته ، لكى تستنير عيون قلوبكم لكى تعرفوا العرض والطول والعلو والعمق ، وتعرفوا غنى ميراث القديسين . ( أف14:3،18 ـ أف 16:1-18 ) ] .


الجمعة، 27 يناير 2012

المرأة والكهنوت....رؤية لاهوتية


المرأة والكهنوت....رؤية لاهوتية


                           د. جورج عوض إبراهيم

إن مسألة كهنوت المرأة  دخلت في التعليم الأرثوذوكسي بواسطة حوارات الحركة المسكونية. لقد أعاد لاهوتيون كثيرون النظر في مواقفهم ، أما بالنسبة للأرثوذوكس  قد تمثل هذه الفكرة عائق صعب تخطيه في مسيرة الحوار والوحدة .

بالنسبة للكنيسة الأنجليكانية ، قد إنعقد مؤتمراً في lamberth في أغسطس 1988م وتقرر فيه قبول النساء في الدرجة الأسقفية مع الأعتراف بأنه ستكون هناك صعوبات سوف تنشأ في أحضان الجماعة الأنجليكانية  . فالكنيسة الأنجليكانية في مصر ،على سبيل المثال ، لم تقبل مسألة رسامة المرأة للكهنوت. لكي ندرك الأساس اللاهوتي لقبول أو رفض هذه المسألة ، علينا ان نتعرف على وجهة نظر الكنيسة الأنجليكانية من خلال الحوار الذي تم بين روما وكانتربري ، نقصد البابا بولس الثاني من خلال الكاردينال جوهانس ويليبراندس Johannes willebrands رئيس سكرتارية الفاتيكان عن وحدة المسيحيين وبين Robert Cantuar  رئيس أساقفة كانتربري cantarbury .

لقد أنطلق رئيس أساقفة كانتربري من طبيعة جسد الكنيسة ، على أساس الكهنوت العام من خلال ما ورد في 1بط5:2-6: "كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. لِذَلِكَ يُتَضَمَّنُ أَيْضاً فِي الْكِتَابِ: «هَئَنَذَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ زَاوِيَةٍ مُخْتَاراً كَرِيماً، وَالَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لَنْ يُخْزَى».

وكذلك نص رؤ6:1 :" وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ"

هكذا الكاهن يقبل بالرسامة رسالة الكنيسة لكي يمثل المؤمنين الذين هم رجال ونساء ، بالتالي يمكن للكهنوت السرائري ان يُمارس أيضا بواسطة النساء. بالمثل ينادي أستاذ اللاهوت النظامي paul k.Jewett  : " الكاهن عندما يخدم لا يخدم بأسمه – in persona propria – بل بإسم الجماعة التي تنتمي إلى الله " وقد دعم رأيه بشهادة من توما الأكويني حين قال ان الكاهن يوجه صلوات الخدمات الليتورجية بإسم الكنيسة – in persona Ecclesiae -  هذا الطرح يقود إلى نظرية الكهنوت العام لكل المؤمنين الوارد في نصوص الكتاب مثل نص 1بط9:2 : "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ". وكذلك نص تيطس 5:3 : "لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ -خَلَّصَنَا بِغَسْلِ \لْمِيلاَدِ \لثَّانِي وَتَجْدِيدِ \لرُّوحِ \لْقُدُسِ". بالتالي المرأة يمكن ان تكون قائمة على الليتورجيا أمام المذبح[1]. وطالما كل مؤمن ينال قوة المسيح في حياته ويجب ان ينقلها إلى الآخرين ، بالتالي – بحسب رأي الأب جون ريشس John Riches – الرجال والنساء من المؤمنين بدون تمييز ينقلون قوة المسيح للآخرين إذ يمثلون المسيح للآخرين[2].

إذن صار مدركاً كيف ان الكهنوت  - بالنسبة إلى الكنيسة الأنجليكانية – هو ممكن لكل المؤمنين ، كذلك المعمد هو كاهن طالما بواسطة نوال الميلاد الثاني أخذ رسالة تجاه الجماعة الكنسية . من الواضح ان مفهوم الكهنوت يختلف تماما عن مفهومه في الكنيسة الأرثوذوكسية . في التعليم البروتستانتي مصطلح رسامة χειροτονια يقترب من مفهوم مصطلح : إختيار εκλογη أو مصطلح  : وضع اليد  للمباركة χειροθεσια لتتميم خدمات كنسية خاصة في سياق كهنوت المؤمنين العام ، بينما في الكنيسة الأرثوذوكسية مصطلح رسامة χειροτονια يتطابق مع الرسامة السرائرية الخاصة بالسلطان الكهنوتي . الكهنوت تراه الأرثوذوكسية على أساس ان مركزه المسيح وليس  جسد الكنيسة المكون من أعضائها الرجال والنساء . إن جذور الكهنوت نراه في كهنوت المسيح وليس في طبيعة الكنيسة . فالكهنوت يكون في الكنيسة لأجل الكنيسة لكن لا يعتمد عليها ، بل فقط على المسيح ذاته الذي هو رئيس الكهنة الأعظم ، هنا نرى ان الكنيسة الأنجليكانية شأنها مثل البروتستانت يخلطون بين الكهنوت العام للمؤمنين وبين الكهنوت الخاص الذي يقوم بالخدمة السرائرية  ، لذلك ليس صدفة ان لا نرى في الكنيسة البروتستانتية استخدام مصطلح مذبح وذبيحة اثناء تتميم ذكرى عشاء الرب ولا تُسمي القائم على الخدمة بلقب كاهن .  بالنسبة للكنيسة الأرثوذوكسية ، الكهنة ينتمون الى الكنيسة كأشخاص مؤمنين لكن مصدر الكهنوت السرائري لا يُوجد في الكنيسة بل في المسيح ذاته . نفس الأمر الرسل قد أُختيروا من بين التلاميذ لكن رتبتهم الرسولية ليس لها مصدرها من تلاميذ آخرين بل من المسيح ذاته . كذلك إبن الله أخذ جسد وطبيعة بشرية لكن لقب رئيس كهنه لم يأخذه من الطبيعة البشرية بل من الله أبيه : ( " كَذَلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضاً لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ، بَلِ الَّذِي قَالَ لَهُ: «أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ». كَمَا يَقُولُ أَيْضاً فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ» ) عب 5:5-6 . إذن الكهنوت السرائري لم يُؤسس على الكهنوت العام بل على كهنوت المسيح .

السؤال الذي يفرض نفسه هنا ، هو : هل أُثير هذا الموضوع في الكنيسة الأولى ؟ وإذا كانت الإجابة : نعم ، ما هو موقف الكنيسة وقتذاك ؟

الإجابة على السؤال الأول ، نعم قد أُثير هذا الموضوع من جانب الغنوسيين والمونتانيين المنشقين وكذلك أتباع بعض الهراطقة مثل ماركيون وغيره . بالتالي ، ما هو موقف الكنيسة وقتذاك ؟ الإجابة : لم تقبل الكنيسة رسامة المرأة في الخدمة الكهنوتية لكن أكدت على مكانة المرأة العظيمة في الكنيسة ، ونرى هذه التعاليم في كتاب تعاليم الرسل  المكتوب في النصف الثاني من القرن الثاني في ترجمته السيريانية: Αποστολικαι Διαταγαι , ΙΙΙ,6,1-6 9,1-4 . أساس هذه النصوص هو تعليم بولس الرسول الذي يؤكد على مكانة المرأة في الكنيسة : ( أنظر 1كو14:6-19. 1:7-17 . 3:11-14. 34:14-35. غلا 26:3-29. أفس22:5-23.....الخ ).

وفق الكتاب المقدس رسالة المرأة لا تحتوي على الرسالة الكهنوتية السرائرية . فنحن أما غياب تام لنصوص كتابية تشير إلى دخول المرأة في سر الكهنوت ، وكذلك غياب النصوص الآبائية يؤكد موقف الكنيسة. المرأة قد تكون نبية ، قديسة لكن ليست كاهنة . لقد أسس الرب يسوع إرارخية حيث أختار ودعا الرسل الأثنى عشر بدون ان يتوجه إلى أُمه أو أي إمرأة لكن سمح لهن ان يتبعنه ( أنظر لو13:6) . أيضاً دعا بطرس قائلاً " أرع خرافي "  ( يو15:21-17) ، أثناء العشاء السري دعا فقط الأثنى عشر تلميذاً لكي يؤسس الإفخارستيا وطلب منهم " إفعلوا هذا لذكري " ( لو 19:22) بعد قيامته وقبل يوم الخمسين نفخ فيهم الروح القدس ، قائلاً : «ﭐقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ». وفي رسالته هذه لم يدعو المسيح أمه ولا أي إمرأة . والرسل أنفسهم بعد ذلك لم يرسموا أبدا إمرأة للكهنوت . لدينا شهادة واضحة من القديس إبيفانيوس أسقف سالاميس ضد الهراطقة الذين ينادون برسامة المرأة للكهنوت السرائري ، إذ يقول : "  من الأزمنة الأولى لا نجد إمرأة خدمت خدمة كهنوتية ، بالرغم من اننا نرى في العهد الجديد نساء نبيات أو من الأنبياء ( أنظر لو 36:2.أع9:21 ) ، ولا إمرأة واحدة  نجدها من الرسل ، ومن الكهنة . كانت نساء كثيرات يتبعن المسيح : مريم أُمه ، سالومي وأُخريات من الجليل ، لكن من بينهن لم يجعل واحدة منهن رسول ولا كاهن . كان يوجد في الكنيسة طقس الشماسات ، هذا مؤكد . لكن هذه الوظيفة تختلف عن وظيفة الكاهن . بالأضافة إلى الشماسات ، لدى الكنيسة الأرامل والعذارى لكن أبدا لا نجد نساء في رتبة الكهنوت . بعد هذه الأجيال الكثيرة التي حملت هذا التقليد لا نستطيع نحن أن نرسم نساء للكهنوت " [ Επιφανιου , Παναριον lxxix,3  ]. نكتفي بهذا القدر على وعد بأننا سوف نرجع إلى هذا الموضوع بأكثر تفصيلاً لتعميق الأساس اللاهوتي له  ولكي نرى ردود كنيستنا القبطية الرسمي  على الحوار الذي تم بين الكنائس بشأن هذا الموضوع ا.





[1] Paul k. Jewett , the ordination of women, Michigan1980,p79-80
[2] John Riches,” Anglican Orthodox joint Doctrinal Discussions – the case of ordination of women to the priesthood” ( Ad/DD1985),p26-27

الأربعاء، 18 يناير 2012

سر المِسحة - الأب رومانيدس - ترجمة د جورج عوض


26ـ عن سر المِسحة

الأب رومانيدس – ترجمة د. جورج عوض



يبدو في الكنيسة الأولي بأنه لا يُتمّم سر المسحة  مع سر المعمودية. سر المعمودية يُتمّم لغفران الخطايا, أما سر المسحة يُتمم للذين بالفعل قد صاروا أعضاء لجسد المسيح.  يُفترض أنه لهؤلاء قد أتي بالفعل وصلي الروح القدس في قلوبهم, أي كانوا مدعوون من الله. لذا سر المِسحة يُتمم كختم لهذا الحدث. لأجل هذا أثناء إتمام السر يقول الكاهن "ختم عطية الروح القدس" عندما يُمسَح المسيحي. هذا الختم وقتذاك كان تأكيد من الكنيسة أن ذاك المسيحي الذي للتو قد مُسِح, هو موجود في حالة الإستنارة. لأجل هذا في التقليد اللاتيني المسحة تُسمي Confirmatio, أي التأكيد. التأكيد بأن ذاك المسيحي, طالما مرَّ من التطهير, قد وصل إلي حالة الإستنارة. بالتالي تأتي الكنيسة أيضًا لتختمة ويُعتبَّر بعد ذلك عضو لجسد المسيح.

هكذا في الكنيسة الأولي فقط بعد المسحة يُعتبر المعمد عضو للكنيسة. بالمعمودية ينال غفران الخطايا وبالمسحة يصير عضو للكنيسة.  اما اليوم المسحة تُتمم للأطفال مباشرةً بعد المعمودية.

الجمعة، 6 يناير 2012

موقف المسيح من الفقراء والأغنياء - بمناسبة عيد مجىء المسيح إلينا - نقرأ هذا المقال القديم الجديد


موقف المسيح من الفقراء والأغنياء


                                                                                                          د جورج   عوض ابراهيم

                                                                                                        (أ) المسيح ـ بلا تحفظ ـ كان بجانب الفقراء


          إن اهتمام المسيح الكبير للفقراء قد عبر عنه منذ بداية نشاطه العلنى فقد تكلم فى الناصرة كاشفاً مكرراً كلمة نبوة إشعياء (ص61) مبرهناً أن رسالته هى رسالة تحررية للفقراء والمتألمين. "روح الرب على لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية" (لو18:4).

نفس الكلام قد قاله تقريباً لتلاميذ يوحنا المعمدان عندما سألوه عن هل هو المسيا؟ "اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمى يبصرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (مت4:11ـ5).

لقد التفت المسيح ووضع كل اهتمامه وحنانه نحو الإنسان المتألم. لقد ركز متى الإنجيلى على نشاط المسيح المحب للبشر فى منطقة الجليل " وكان يسوع يطوف فى كل الجليل يعلم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب فذاع خبره فى جميع سورية فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين شفاهم" (مت23:3ـ24).

هنا نجد علاقة متينة بين ملكوت الله ومعجزات المسيح التى أتمها، أى أن معجزات المسيح تمثل برهان على أن عصر الفداء (التحرر) قد بدأ فعلاً. وهذا يعنى دخول المستقبل الاسخاتولوجى فى الحاضر. إن المعجزات وخصوصاً التى تخض إشباع الجياع وشفاء المرضى يظهرون مدى اهتمام المسيح ليس فقط بالنفس ولكن بجسد الإنسان كوحدة واحدة جسد ونفس.

          إن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين نجده أيضاً واضحاً فى التطويبات "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو20:6ـ21).

لكن المسيح لا يكتفى بمساندة الفقراء والمجربين فى هذه الحياة بل هو يطابق نفسه بهم، وهذا يظهر بوضوح فى إصحاح 25 من إنجيل متى "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأنى جعت فأطعمتمونى عطشت فسيقيتمونى كنت غريباً فآويتمونى .. يا رب متى رأيناك جائعاً .. ومتى رأيناك غريباً .. الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم.." (مت23:25ـ45).

هنا يطابق المسيح نفسه بالفقراء، بالإنسان المهمش، بالأصغر، بالضعيف، لقد رفع من شأن المرأة وأظهر حباً عظيماً نحو الأطفال، على عكس المجتمع الرومانى واليهودى الذى همش الأطفال لقد أخذ المسيح موقف إيجابى مؤثر تجاههم (انظر مر36:9ـ37 ، 13:10ـ16 ، مت3:18 ،19 ، لو15:18ـ17).

           لقد برر المسيح هؤلاء الذين أظهروا اهتمام عملى بالفقراء والمهمشين، بينما استنكر وأدان هؤلاء الذين لا يبالون بهم حتى لو كانوا كهنة ولاويين وذلك فى مثل السامرى الصالح فالمعيار الذى سوف يدانون به البشر هو موقفهم تجاه الفقير والمتألم وهكذا الذى استضافه: "وقال أيضاً للذى دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أخوتك ولا أقربائك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع والعرج والعمى" (لو12:14ـ13).

نفس الشىء والمعنى توبيخ المسيح للشاب الغنى "يعوزك شئ واحد. اذهب بع كل ما لك وأعط للفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعالى اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10) أيضاً فى مثل الغنى ولعازر يعبر عن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين بطريقة واضحة (لو19:16ـ26). لقد كشف المثل عن الهوة الكبيرة بين الغنى والفقير بين الحياة المتلذذة فى القصور وبين الحالة المحزنة الدرامية التى كانت للعازر. ونستطيع أن نقول بلغة اليوم للشمال الغنى والجنوب الفقير لقد عبر المثل عن الظلم الاجتماعى والذى يهدد دائماً الحياة الإنسانية.

والصورة التى وصفها المسيح عن التغير الجذرى الذى حدث بعد الموت لكل من لعازر والغنى، لعازر يعيش حياة سعيدة والغنى يكتوى من النار بطريقة يصعب التعبير عنها، تعبر عن موقف المسيح الاستنكارى للظلم الاجتماعى منحازاً إلى جانب الفقراء. مرة أخرى يشدد المثل على أن المعيار الذى يدين به الله الإنسان هو موقفه تجاه المتألمين فى هذه الحياة.

(ب) المسيح والأغنياء :

        لقد أدان المسيح الغنى وهذا ظاهر من التطويبات "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء. لأنكم قد نلتم عزائكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون (لو24:6ـ25) ثم بعد ذلك يشدد المسيح على أنه من الصعب على الأغنياء أن يدخلوا ملكوت الله " ما أعسر دخول المتكلين على الأموال ملكوت الله". "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (مر24:1ـ25). إن موقف المسيح السلبى ضد الأغنياء لا يعنى أن هناك خلفية طبقية أى هناك تحامل عليهم، لكن لدى المسيح يتساوى الغنى والفقير فقد قال عن زكا العشار "وهذا أيضاً ابن إبراهيم" (لو9:19). إن موقفه المضاد مرجعه العدالة الاجتماعية "ابعدوا عنى يا فاعلى الظلم" (لو9:19).

          إن عظة المسيح فى الأساس هى عظة ملكوت الله إنها رسالة تحرر وفداء، لذلك يُعطى أولوية مباشرة للمشاكل الوجودية للإنسان ومعنى الحياة الإنسانية. لدى المسيح معنى حياة الإنسان وسعادته ليست فى وفرة الخيرات المادية بل فى سلوكيات الكمال : "كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت4:4). لأن معنى الحياة المسيحية لا يوجد فى أن أتملك بل فى أن أكون[1]، لذلك المسيح يحذرنا قائلاً : "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء حيث لا يُفسِد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" (مت19:6ـ21). هذا لا يعنى أن المسيح يدعو الإنسان ليتوقف أن يعمل لكى يحصل على ضروريات الحياة. ولا مفهوم الكلام يعوق التقدم العلمى والتكنولوجى والنمو الاقتصادى ولا حتى رفاهية الإنسان. لكن المسيح أراد أن يشدد على أن مهمة الإنسان الأساسية ليست فى أن يكنز الماديات ولكن أن يدرك جيداً ما يتطلبه أصلاً (انحداره) الإلهى ومكانته وما عينه الله له. عندئذ يستطيع أن يُنظم علاقته بكل شئ بناء على ذلك، بحيث لا يُستعبد لشئ من هذه الأشياء المادية.

إن استعباد الإنسان لما يملكه له نتائج خطيرة، إذ يقود إلى الفشل الذريع كذلك يدين المسيح الطمع "انظروا وتحفظوا من الطمع، فأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12) ومثل الغنى الغبى يكشف عن مدى عدم جدوى عبادة الممتلكات فى الحياة" (لو17:12ـ21).

          إن معنى ومفهوم المثل يلخصه المسيح فى عدد 21: "هكذا الذى يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله". لأن أى إنسان يضع هدفه الأسمى فى اكتناز الأموال والممتلكات سوف تأتى لحظة الموت وسيرحل عن كل هذا الذى اكتنزه. يركز المثل أيضاً أخلاق "الفقر" أمام الله، استعباد الإنسان للطمع والبحث عن معنى حياته فى الغنى يقود إلى هوة من الإفلاس الأخلاقى والوجودى.

          لأجل ذلك لم يطلب المسيح من الإنسان فقط أن يرفض الاستعباد للماديات لكن يطلب شئ أفضل هو أن يتخلص الإنسان من القلق والصراع لأجل احتياجاته المادية محذراً "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون". الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. تأملوا الغربان.. تأملوا الزنابق كيف تنمو .. فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا. فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا أولاً ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم" (لو23:12ـ31).

هنا المسيح يطلب من الإنسان أن يتخلص من القلق والاهتمام الزائد لتدبير احتياجات الحياة. الإنسان الذى يؤمن بالله لا يستسلم لقلق الحياة، على العكس، هناك حيث يُسيطر القلق والصراع والانزعاج المبالغ فيه للغد يغيب الإيمان والثقة فى الله، فالصراع والقلق والانزعاج كلها تتمشى مع الغير مؤمنين.

          سيكون خطأ كبير أن يتصور أحد أن المسيح بهذا الكلام يريد من الإنسان أن يواجه احتياجاته المادية باللامبالاة أو بالقدرية أو بكافة التواكل.

على العكس، المسيح يطلب من الإنسان أن يعمل انطلاقا من إيمانه بالله ومن إيمانه بتحقيق ملكوت الله كإطار أساسى لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما قصده المسيح عندما قال : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وكل هذا يزاد لكم" (لو15:12). وهكذا الإيمان بالله الذى يهدف قبل كل شئ إلى تحقيق ملكوت الله هو الشرط الوحيد لأى حلول عملية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وبسبب هذه الأهمية الجوهرية لاتجاه الإنسان فى الحياة، أما نحو الخيرات المادية أو نحو الله، فقد دعانا المسيح أن نختار بين المال أو الله وقال بالتحديد : "لا يقدر خادم أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (لو13:16) كلمة المال هنا (mamwnα£j) وهى آرامية وتعنى (مال، ممتلكات، غنى)، لذا يمكن أن تكون (kef£laio) رأس مال. الإنسان مطالب أن يأخذ قرار حاسم أن يختار اختيار نهائى بين الله والمال، إما أن ينتمى لله أو ينتمى للمال، أن يخدم الاثنين هذا مستحيل.

          من كل ما سبق نجد أن المسيح ضد الأغنياء والرأسمالية عامة لسببين هما: ـ

الأول :ـ الرأسمالية هى مع تقسيم الناس إلى طبقتين متضادتين، طبقة القليلين الأغنياء وطبقة الفقراء "اللعازريين" المساكين، وهم الأغلبية يُستغلون استغلالاً رهيبًا من الطبقة الأولى.

الثانى :ـ لأن روح الطمع تُغير اتجاه الإنسان نحو هدفه الأساسى أى أخلاق الكمال، وتقوده إلى إفلاس أخلاقى ووجودى. والشاهد على ذلك قيام الأغنياء من رجال الأعمال بممارسات غير مشروعة من أمثلتها الاستيلاء على قروض دون ضمانات من البنوك والهروب بها للخارج بالإضافة إلى حالات التهرب من دفع الرسوم الجمركية والضريبية، فضلاً عن السلوك الاحتكارى لبعض السلع الاستراتيجية وغيرها من سلوكيات الإفلاس الأخلاقى والوجودى.

وهنا سؤال يفرض نفسه : هل كان المسيح ضد التملك؟

          إن الأناجيل الإزائية لا تعطينا موقفًا واضحًا للمسيح إزاء التملك، فهناك مواقف كان ضد التملك وأخرى لم يكن فيها ضد التملك.

          فقد قال المسيح : "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" (مت20:8).ويطلب المسيح من تلاميذه أن يظلوا كما هو : "وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً، ولا نحاساً فى المنطقة" (مر8:6) ونفس الشئ طلبه من السبعين رسولاً : "لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية ...." (لو4:10) ومن الغنى الشاب الذى سأله كيف يصير كاملاً : طلب منه المسيح أن يوزع ماله على الفقراء. "اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10). من هذه الأقوال نستنتج أن المسيح كان ضد اكتناز الأموال والممتلكات، لكن يوجد حالات ظهر فيها المسيح غير ذلك. فالمسيح لم يطالب زكا العشار بما طلبه من الشاب الغنى. لقد أظهر المسيح سعادته ورضاه لأجل عودة العشار الغنى ولكن لم يطلب منه أن يبيع كل ما له ويعطى الفقراء : "فوقف زكا زقال للرب ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف. فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو8:19ـ10).

أيضاً لقد تبع المسيح أناس كانوا يساعدونه من أموالهم : "وعلى اثر ذلك كان يسير فى مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الإثنا عشر وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض. مريم التى تدعى المجدلية التى خرج منها سبعة شياطين، ويونا امرأة خورى وكيل هيرودس وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن" (مت1:8ـ3 أيضاً انظر مر40:15ـ41). فالمسيح لم يأخذ موقفاً سلبى تماماً ولا إيجابياً تماماً من قضية التملك، لكن الموقف الأساسى للمسيح يظل هو الاحتياج للتحرر من سيطرة المال. فالمسيحى يمكن أن يكون لديه ثروات ومال ولكن لا يمكن أن تسيطر عليه، لأن الاستخدام الأمثل للمال هو فى شفاء احتياجات الإنسان وخدمته.

المسيح يرفض أن يصير المال وسيلة للقهر وسيطرة أقلية على الأكثرية[2] وعظة (123) للقديس كيرلس لإنجيل لوقا عن كيف يخلص الغنى؟ يوضح كيف أن المسيح لم يغلق الباب تماماً أمام الأغنياء، وأنه مهد لهم طريق للخلاص إذ نجده يقول : "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله". ولا يقصد المسيح بالجمل ذلك الحيوان، إنما ذلك الحبل الغليظ لأنها كانت عادة أولئك المتمرسون أن يسموا الحبل الغليظ جملاً. لكن لاحظوا أنه لم يقطع تماماً رجاء الأغنياء بل حفظ لهم موضعاً وطريقاً للخلاص، لأنه لم يقل أنه يستحيل على الغنى أن يدخل ملكوت الله بل قال أنه يمكنه إنما بصعوبة.

عندما سمع التلاميذ الطوباويين هذه الكلمات اعترضوا قائلين : فمن يستطيع أن يخلص؟ وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات لأنهم (التلاميذ) كانوا يقولون أننا نعرف أن لا أحد سيقتنع بأن يتخلى عن ثروته وغناه، فمن يستطيع أن يخلص؟ لكن بماذا أجاب الرب!! "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله". لذلك فقط احتفظ لأولئك الذين يقتنون ثروات، بالإمكانية أن يحسبوا مستحقين لملكوت الله لو أرادوا، لأنه حتى ولو كانوا يرفضون تماماً التخلى عما هو لهم، لكن يمكنهم أن يبلغوا تلك الكرامة بطريقة أخرى. والمخلص نفسه أظهر لنا كيف وبأى طريقة يمكن أن يحدث هذا إذ قال : "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم فى المظال الأبدية" (لو9:16). لأنه لا يوجد شئ يمنع الأغنياء لو أرادوا أن يجعلوا الفقراء شركاء ومقاسمين لهم فى الغنى الوافر الذى يمتلكوه. ما الذى يعيق من له مقتنيات وافرة من أن يكون رءوفاً وممتلئاً بتلك الشفقة الكريمة التى ترضى الله. إننا سوف نجد أن الحرص على تتميم هذا العمل ليس هو بلا مكافأة ولا عديم النفع، لأنه مكتوب : "الرحمة تفتخر على الحكم" (يع13:2).[3]

          هناك أيضاً سؤال يفرض نفسه : هل أدخل المسيح برنامج معين أو نظام معين لحل المشكلات الاجتماعية؟ لكى نعرف الإجابة على هذا السؤال لابد أن ننطلق مما قاله المسيح فى (لو13:12) عندما سأله أحد أن يقاسمه الميراث مع أخيه، فقال له : "يا إنسان من أقامنى عليكما قاضياً أو مقسماً" وأكمل قائلاً : "انظروا وتحفظوا من الطمع فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12).

لا يعنى هذا أن المسيح لا يبالى بالمشاكل الاجتماعية لأنه مما سبق وجدنا كيف أن المسيح أظهر اهتماماً شديداً للفقراء وللعدل الاجتماعى. البداية لفهم موقف يسوع هو ما طلبه المسيح نفسه : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت33:6) لقد أراد المسيح بهذا الطلب أن يقول أنه أتى إلى هذا العالم لكى يكرز بملكوت الله : "فقال لهم ينبغى أن أبشر المدن الأُخر أيضاً بملكوت الله لأنى لهذا قد أُرسلت" (لو43:4).

          إن الشرط المهم لحل المشكلات الاجتماعية لدى المسيح ـ هو التمسك بملكوت الله فى حياة الفرد والمجتمع الإنسانى . فالمشكلة الاجتماعية لا تُحل فقط بمتغيرات خارجية لكن الحل الأساسى والمُرضى لهذه المسألة هو ممكن بالاحتفاظ بملكوت الله فى قلوب الناس.

          فلو تكوّن هذا التغيير العظيم والثورى فى داخل الإنسان ، ولو انتزعت الكراهية من النفس وحلت محلها المحبة، عندئذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ستجد لها حلول . وهذا هو مفهوم ما قاله المسيح : " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم " (لو31:12).

          لابد أن نكرر على أن موقف المسيح هذا لا يعنى أن المسيحى يجب أن يأخذ موقف سلبى تجاه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى يواجهها الإنسان . على العكس عندما شدّد المسيح على " اطلبوا أولاً ملكوت الله " فهو يطلب موقف فعّال من جانب المسيحيين لكى تُحل المشكلة الاجتماعية. وهكذا لو أن أحدًا استلهم وانقاد بروح ملكوت الله لا يمكن إلاّ أن يسأل ويفتش ويبحث دائمًا وبطرق كثيرة مقدمًا الحل الأكثر صحة للمشاكل التى تشغل المجتمع . إذن وصية المسيح(اطلبوا أولاً ملكوت الله) لا تعنى التمنى والدعاء فى طلب ملكوت الله ولكن المحاولات العملية والمساهمة الفعّالة للمسيحيين فى تحقيق ملكوت الله الذى هو تحرر البشر من الألم والفقر والظلم والقهر والمرض مثلما كان يفعل المسيح على الأرض ، إنها رسالة الكنيسة اليوم. فالكنيسة تشجع المؤمن أن يواجه بشجاعة مشاكله الاجتماعية منطلقًا من محبته الحقيقية نحو الله ونحو أخيه الإنسان وبمساندة المنطق (العقل) والعلم والخبرة والمناهج والمؤسسات التى تجاهد لتقود المجتمع ليصبح أكثر إنسانية ، المطلوب منا أن نفحص أى نظام على هذه التعاليم فلو كانت مثلاً الرأسمالية تُقسم الناس إلى أقلية أغنياء تُسيطر على أغلبية بائسة (لعازريين جُدد) فهى مرفوضة . وإذا كانت الاشتراكية تساعد على الخمول والكسل والتواكل من الأغلبية منتظرة من الدولة الدعم والنصيب وهم غير فعّالين فى المجتمع فهى أيضًا مرفوضة .





[1]  انظر ايريك فروم ـ الإنسان بين الجوهر والمظهر ـ ترجمة سعد زهران ـ سلسلة عالم المعرفة أغسطس 1989.
[2]  انظر قداسة البابا شنودة الثالث ـ العدالة الاجتماعية ـ ص17.
8 القديس كيرلس الأسكندرى، تفسير إنجيل لوقا ـ الجزء الرابع ـ ترجمة د. نصحى عبد الشهيد بطرس ـ إصدار مركز دراسات الآباء نوفمبر 1998 ـ ص 173،172.