الجمعة، 29 يونيو 2012

الإنسان في الإيمان المسيحي







      د. جورج عوض ابراهيم

أ)ـ خلق الإنسان:

كما ذكر سفر التكوين، خلق الله في البداية الكائنات الحسية المادية وغير العاقلة بكلمة واحدة: " قال الله ليكن نور فكان نور" (تك3:1)، " وقال الله لتجمتع المياه تحت السماء إلي مكان واحد ولتظهر اليابسة. وكان ذلك" (تك9:1). كذلك أنظر (تك20:1-24).

وعن خلق الإنسان يعلن الكتاب المقدس: " وقال الله نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا" (تك26:1). هذه الخصوصية التي في إطارها خلق الله الإنسان تُظِهر أن كل الكائنات المخلوقة هي "حسنة" بكونها مخلوقات الله الصالحة، أما الإنسان يمثل قمة خليقته الممتازة والضرورية. لأجل هذا أيضًا يذكر النص المقدس أن الخالق ذاته، بعد خلق الإنسان وصف خليقته. بـ "حسن جدًا".

ب)ـ تحديد نموذج الإنسان τοῦ Αρχἑτυπου”:

بحسب الفكر الكتابي لم يتقرر فقط خلق الإنسان بل حُدِد أيضًا غايته «λόγος»  أو نموذجة الأصلي «ΑΡχἑτυπο»  حسنًا، وفق تقليد الكنيسة التفسيري، تضمن القرار الذي أخُذ قبل الأزمنة بأن الأقنوم الثاني للثالوث، الإبن وكلمة الله المتأنس، المسيح حُدد كنموذج للإنسان ὡς"  "ἀρχετυπικός λόγος τοῦ ἀνθρώπου. ويعلق القديس ذهبي الفم علي هذا الأمر، قائلاً: "أولاً صَّور كل ما للمسيح بحسب الجسد (كإله متأنس) وبعد ذلك خُلِق آدم (بحسب صورة نموذجة)"[1].

ج)ـ خلق العالم:

استلزام آخر لخلق الإنسان كان خلق العالم الذهني (الملائكة) والعالم الحسي (الكائنات غير العاقلة). استباق خلق العالم الذهني والحسي كان شرط لخلق الإنسان الذي، كمخلوق مركب، حسي وذهني (جسد ونفس)، ينبغي عليه أن يكون عامل رابط لكل المخلوقات، ك"عالم صغير" أو بالحري ك"عالم كبير". وبتعبير القديس غريغوريوس اللاهوتي "كعالم ثاني في الصغر عظيم"[2].

بالإضافة إلي ذلك، خُلِق العالم المادي ك"طعام" للإنسان المادي الروحي. ومن الواضح الإشارة الموجودة في نص سفر التكوين عن إهتمام الإنسان الخالق لإطعام الإنسان: وَقَالَ اللهُ: "إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْل يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا" (تك 29:1)، "وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً" (تك16:2).

بهذا المفهوم، اعتنى الله بإطعام الإنسان وضمان سلامته. هكذا خلق العالم المادي قبل أن يخلق الإنسان، لم يحرص الله فقط بأن يُطعِم الإنسان، بل أيضًا حرص علي حمايته وتأمينه. بهذه الطريقة، ظهر الله كمدبر صالح للإنسان، جهَّز له "عشاء عظيم" (لو16:14)، "منذ تأسيس العالم" (مت34:25).

1ـ طبيعة وملمح وهدف خلق الإنسان "بحسب الصورة":

أ)ـ منح الإنسان خواص الطبيعة الإلهية:

يؤكد سفر التكوين أن الإنسان خلقة الله "بحسب صورته"، التي تعني أن الإنسان يكون شبيه بالله, أى مثل أصله. هذا التماثل لا يمكن أن يكون تماثل جسدي، أي لا يخص ملامح جسدية لله، لأن الله بكونة غير مادي وغير جسدي ليست لديه مثل هذه الملامح الجسدية[3]. بالتالي، التماثل بين الإنسان والله يخص خواص الطبيعة الإلهية غير المادية التي مُنحت للإنسان أثناء خلقه. أمثال هذه الخواص هي الإدراك، حرية الإرادة، السيادة، الإبداع، عدم الموت...إلخ. بمثل هذه الخواص التي تتصف بها الطبيعة الإلهية غير المخلوقة، زيّن الخالق الطبيعة البشرية طبعًا بدرجة وقياس نسبي. هذه الخواص هي بمثابة التاج الذي توّج به الله الإنسان قمة خليقته، حتي يكون بالحق صورته وإبنه الأصيل "بحسب النعمة" "κατά χάριν".

بسبب أن قائمة الخواص والخيرات الروحية التي منحها الله للإنسان هي كبيرة، لأجل هذا أيضًا الكتاب المقدس أوجزها كلها في عبارة "بحسب صورة الله", معلنًا بذلك أن الإنسان خُلِق وفق صورة الله. هذا يعني أن طبيعة الإنسان المخلوقة "بحسب صورة الله" تتماثل وتتآلف مع كل ما هو حسن[4]. وكون أن الصورة تخص الخواص الإلهية يبرهنه التقليد التفسيري الأرثوذكسي من إختلاف الفعل الذي يستخدمه الكتاب المقدس أثناء وصف خلق الإنسان. بالنسبة لخلق الجسد المادي يقول الكتاب، إن الله: "ἔπλασεν": جَبَلَ، بينما بالنسبة لإعطاء الصورة الإلهية في الإنسان يقول، إن الله: "ἐποίησεν":خَلق أو أبدع.

ب)ـ الملمح الروحي المقدس لنعمة الخلق "بحسب الصورة":

لكي يعبر سفر التكوين عن طريقة منح الصورة الإلهية للإنسان يستخدم الصورة البشرية للنفخ، " نفخ في وجه نسمة حياة" (تك7:2).

هذه الصورة الرمزية تشير إلي الوظيفة البشرية للشهيق والزفير التي هي مألوفة للبشر. لكن الله ليس لديه جسد مادي ولا رئتين. بالتالي "نفخ" لا تتجاوب مع الوظيفة الجسدية المعروفة لنا، بل مع الفعل الإلهي. بحسب التقليد التفسيري الأرثوذكسي، هذه الصورة الرمزية تشير إلي الأفعال الإلهية غير المخلوقة التي مُنحت للإنسان من الروح القدس.

هذا التفسير مدعوم من شهادة العهد الجديد المتماثلة حيث يُذكرَّ أن الرب بعد قيامته نفخ في وجه تلاميذه وقال لهم: خذوا الروح القدس (أنظر يو22:20).

بالتالي نعمة الخلق "بحسب الصورة" هي الخواص التي منحها الروح القدس "نسمة الله" للإنسان أثناء الخلق كزينة إلهية للطبيعة البشرية.

ه)ـ هدف نعمة الخلق "بحسب الصورة":

سريان النعمة الإلهية في الإنسان، في اللحظة التي خُلِق فيها، له ملمح ديناميكي. من جهةٍ يهدف إلي تعضيد الإنسان لكي يتحرك تجاه التغيير الحسن لطبيعته، ومن جهةٍ أخري لكي يحقق هدفه المعين مسبقًا، الذي هو كمال طبيعته القاطع والحاسم والنهائي. أي يكون "بحسب مثال الله".

إنتقال النعمة الإلهية هو مسح الطبيعة البشرية بأفعال الله غير المخلوقة. هذا السريان أو الإنتقال لديه هدف أن يقود الإنسان إلي نموذجه ρχέτυπό του. إتحاد الإنسان بحسب النعمة مع نموذجه سيكون أيضًا إكتمال لطبيعته، لأنه عندئذٍ سوف يكتمل الإنسان كشخص. إن طبيعة الإنسان سوف تُكتَّمل عندما يتحد بالإبن إتحادًا قاطعًا ونهائيًا "بحسب النعمة: κατά χάριν" .

لأن نعمة الخلق "بحسب الصورة" أعُطِيت للطبيعة، ولا يُمكن أن تُفقَد. أما نعمة "بحسب المثال" لأنها تعتمد علي الإختيار الحُر ومسيرة الإنسان يمكن أن لا تتحقق.

و)ـ المرأة ونعمة الخلق "بحسب الصورة":

المرأة، الشخص الثاني للطبيعة البشرية لديها أيضًا نعمة الخلق "بحسب الصورة" مثل الرجل، إلا أن الإختلاف هو في الطريقة التي بها نالت نعمة الخلق "بحسب الصورة". المرأة خُلِقت ليس من "التراب" بل "من جنب آدم" (تك21:2). حواء لم تكن آخر أو مخلوق غريب بل مخلوق مثيل، الشخص الثاني للطبيعة البشرية. هكذا نالت حواء نعمة الخلق "بحسب الصورة" مِن آدم. لأجل هذا أيضًا القديس يوحنا ذهبي الفم يُسمي المرأة "صورة الصورة". بالتأكيد هذه التسمية تستند علي ما قاله بولس الرسول عن الرجل بأنه صورة ومجد الله والمرأة صورة ومجد الرجل:" فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ لِكَوْنِهِ صُورَةَ اللهِ وَمَجْدَهُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَجْدُ الرَّجُلِ. لأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنَ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ. وَلأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَجْلِ الرَّجُلِ" (اكو 7:11ـ9).

الطريقة المختلفة التي بها نالت المرأة في شخصها نعمة الخلق "بحسب الصورة" ضمنت من جهةٍ التماثل والمساواة بين الشخصين، ومن جهةٍ أخري، حددت ترتيب هيرارخي بينهما والذي أُعلِن كخضوع طبيعي للمرأة تجاه الرجل. هذه المساواة والكرامة بين الأثنين فُقدت بالسقوط، والنتيجة خضوع المرأة للرجل صار إجباريًا وإلزاميًا بواسطة الناموس اليهودي[5]. في زمن ما بعد السقوط، المساواة والكرامة بين الأثنين نالتهما المرأة في الكنيسة بواسطة سر الزواج. هذا يعني، أن المساواة والكرامة للاثنين هما حصريًا حالة مواهبيه وبدون النعمة الإلهية لسر الزواج، لكانت المرأة تزال موجودة تحت السيادة الإجبارية للرجل[6].

2ـ محتوي نعمة الخلق "بحسب الصورة":

الإنسان هو الصورة المخلوقة والمثيل المخلوق لله غير المخلوق، ليس لأنه يشبه ملامح الله الجسدية (التي هي غير موجودة، كما قلنا) بل لأنه يشترك في خواص الطبيعة الإلهية غير المخلوقة. هذا يعني، أنه أعُطيت للإنسان الخواص الإلهية، من جهةٍ بحسب النعمة ومن جهةٍ أخري بالدرجة النسبية، كما سنري:



أ)ـ الإدراك الذهني (العقل):

الله هو كائن ذهني، العقل المطلق ("مَنْ يعرف فكر (ذهن) الرب؟" رو 34:11), والإنسان يشبه الله، كصورته ومثاله، لأنه أيضًا خُلِق كموجود ذهني. بالتالي، الإنسان هو الكائن المخلوق الوحيد الذي لديه هذه الموهبة الإلهية، بدرجة نسبية. الإنسان لديه إمكانية أن يعرف وأيضًا أن يدرك، أي لديه موهبة المعرفة والحكمة. هكذا، يستطيع أن يعرف ذاته، بأن يكون لديه وعي بذاته، وأن يعرف العالم والله[7].

تأتي أيضًا الكلمة (النطق) في علاقة مباشرة مع العقل، الكلمة المنطوقة والمغروسة. الإنسان هو الوحيد المخلوق المادي الذي لديه نطق، يفكر ويتفوه ويتلفظ. أيضًا منطقيه الإنسان ترجع إلي إبداعه، كذلك أعماله وتطور العلم والحضارة[8].  الإنسان كمخلوق عاقل يشترك في أربع خصائص إلهية:

ـ في الوجود: " كائن τό ὄν" له وجودة.

ـ في الحياة: "كائن دائمًا ἀεί όν" مخلوق علي غير فساد.

ـ في الصلاح: " المحبة ἀγάπη" كائن مُحِب.

ـ في الحكمة: " σοφία" كائن حكيم متعقل.

الإنسان الأول كان لديه، منذ البداية، معرفة ذاته وقدراته. ثم بعد ذلك كان يعرف طبيعة وهدف التعيين السابق لكل الحواس والكائنات غير العاقلة. ظهور هذه الخاصية المعرفية وتطبيقها كانت في إعطاءة أسماء للحيوانات التي أشار إليها سفر التكوين. هذه التسمية لم يفعلها الله بنفسه كخالق لكل المخلوقات بل ألقاها علي عاتق الإنسان (أنظر تك 19:2ـ20). نستطيع، هكذا، أن نقول بأن تسمية الحيوانات كان إنشغال الإنسان العلمي الأول (بداية المعرفة العلمية).

علي الجانب الآخر، الإنسان الأول كان لديه قدرات التمييز، أي كان يستطيع أن يميز بين الخير والشر. هنا، يجب أن نتحدث عن "شجرة معرفة الخير والشر" (تك17:2).

يوجد فكر خاطئ بأن وصية الله "وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها" (تك17:2) تمثل برهان علي أن الله ليس فقط لم يعطي للإنسان موهبة المعرفة بل حَّرم عليه أي إمكانية للمعرفة. من هذا الفكر الخاطئ أتت العبارة المعروفة "آمن ولا تبحث" تلك العبارة التي لا توجد في الكتاب المقدس.

المفهوم الصحيح لوصية الله هي الآتي:  

يبدو من تسمية الحيوانات منذ البداية أن الإنسان ليس فقط لم يكن محرومًا من المعرفة بل أيضًا قدرته المعرفية كانت متسعة. ثم بعد ذلك، وصية تحريم المعرفة (الخير والشر) ليست لديها مفهوم المعرفة النظرية أو مفهوم التمييز بين الخير والشر. لأن الإنسان لديه من طبيعته إمكانية هذا التمييز، إذ أنه خُلِق "بحسب صورة الله ومثاله". النفس العاقلة أو العقل هو موهبة قد أعطيت منذ البداية للإنسان لكي يميز القيمة الأخلاقية للأشياء، كما قلنا. إذن، الله بالوصية لا يحرم الإنسان من أن يكتسب المعرفة أو بأكثر دقة، أن يعرف الخير والشر. هي "أن يعرف" في الكتاب المقدس عادةً تعني مفهوم خبرة العمل. بالتالي، التحريم بأن يعرف الإنسان "الخير والشر" يشير إلي رغبة الله الصالح أن لا يكتسب الإنسان خبرة الخير والشر معًا، فاعلاً الخير والشر.

كان لدي الإنسان الأول إمكانية معرفة الله (موهبة المعرفة الإلهية). الإنسان يعرف الله ليس نظريًا بل عمليًا ومباشرة، أي خبرة شخصية وحيَّة. فالإنسان الأول لم يكن يؤمن بالله بل كان يعرف شخصيًا الله، فكان يصنع شركة وعلاقة معه يوميًا. علي الجانب الآخر، الإنسان الأول كان يعرف الله ليس فقط من خلال الخبرة الشخصية المباشرة بل أيضًا من حقيقة أن الله أعلن تدريجيًا ذاته للإنسان. الإنسان كمخلوق، لم يكن بالطبع يمكن أن يعرف ويدرك إدراكًا مطلقًا خالقه. الله يُظهر ذاته فقط لهذا المخلوق العاقل والمحسوس، بقدر ما كان يستطيع أن يعرف وأن يدرك.





ب)ـ السلطة السيادية:

الموهبة الثانية لنعمة الخلق "بحسب الصورة" تأتي كنتيجة للموهبة الأولي: الإنسان هو قائد وملك علي ذاته وعلي الخليقة، لأنه أعُطي له العقل. لن يكون آدم رئيسًا للخليقة إن كان ليس لديه العقل والحكمة، لأن غير ذلك لن يعرف كيف يقود[9]. سفر التكوين يذكر الرئاسة τό ἀρχικόν كموهبة الإنسان الأولي والأساسية: " وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ". (تك 26:1). ينبغي أن نؤكد علي أن الله هو فقط سيد وله السيادة علي الخليقة المخلوقة. الله ليس لديه بداية أخري فوقه إنه الأول [ أنظر " أنا الألف والياء، الأول والأخير، البداية والنهاية" رؤ13:22], هو الوحيد الذي يسود علي هذا الكون. أما الإنسان يسود علي الأرض كصورة وممثل عن الله[10]. بالتالي الإنسان يشترك في سيادة الله القيادية، فسيادته هي بالمشاركة. الإنسان هو الرئيس المخلوق للكائنات المخلوقة، فهو ممثل ومدبر ورئيس عن الله. والمخلوقات تقدم الطاعة للإنسان. القديس يوحنا ذهبي الفم يَصِر علي أن عظمة نعمة الخلق "بحسب الصورة" تُوجد في "موهبة السيادة".

ج)ـ حرية الإرادة "τό αὐτεξούσιον":

الكلام هنا عن موهبة الحرية الأخلاقية التي زود بها الله الإنسان. والحرية هي واحدة من الملامح الأساسية لنعمة الخلق "بحسب الصورة".

وفق الفلسفة اليونانية القديمة، تحديد الإرادة لكل من الآلهة وللبشر هي من أعمال النصيب أو القدر ἡ Μοῖρα. الآلهة والبشر كانوا خاضعين للحتمية. لكن وفق الفكر المسيحي، الكائنات العاقلة لديها إرادة حُرة. إرادة الطبيعة لا تخضع للإحتياج أو الحتمية. الإرادة هي قوة الجوهر التي تجعلها موجودة ومعروفة، وموجودة وجود فعَّال ونشط. الإرادة، علي الجانب الآخر، هي رغبة الإنسان الشخصية والعميقة لإنفتاح طبيعته علي الوجود الكامل. فالإنسان خُلِق لكي يكون حُر, ولا يخضع لأي حتمية طبيعية. هكذا الإنسان هو الذات الحُرة لأفعاله ولفكره ولإرادته ولقدرته الحسية ولنشاطه[11].  

كان من الممكن لآدم أن يعمل أي شئ يفكر فيه بحُرية. وكان لديه القوة والقدرة أن يفحص ذاته، أفكارة ورغباته وأعماله. هكذا كان لديه القدرة علي الإختيار وعمل الخير والشر[12].



د)ـ الميل الطبيعي للإرادة تجاه الصلاح (عدم فعل الخطية):

خلق الله إرادة الإنسان حُرة لكن ليست هذه الإرادة أخلاقيًا محايدة. علي النقيض، خَلقَ من البداية الإرادة ولديها ميل طبيعي تجاه الصلاح. هذا يعني، من جهةٍ، لم يكن أن الإنسان لديه من طبيعته الشر ولا الميل أيضًا تجاه الشر. ومن جهةٍ أخري، إرادة الإنسان كانت متجهة ومنسقة بالإرادة الإلهية (الإرادة الصالحة لله).

(هـ) عدم الفساد:

طبيعة ـ جوهر الله هو عديم الفساد وعديم التغير: (أنظر مز25:102) "مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ". (عب11:1ـ12) "هِيَ تَبِيدُ وَلكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيَّرُ. وَلكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى". لكن كان لدي الإنسان الأول إمكانية عدم الفساد بينما كل الكائنات المخلوقة غير العاقلة كانت قابلة للفساد, لقد أعطي الله لطبيعة الإنسان (النفس والجسد) إمكانية عدم الفساد.

(و) الخلود: (عدم الموت):

الله هو فقط له عدم الموت, إنه خالد, ليس لديه بداية, وهكذا ليس لديه نهاية.

إذن كل المخلوقات لديها ميل طبيعي للرجوع إلي العدم. هذا يعني أن كل المخلوقات توجد في حالة فناء. بالتالي, الفناء هو خاصية كل المخلوقات. علي الجانب الآخر، إعلان الكتاب المقدس بأن: "الله خلق الإنسان علي غير فساد" (حكمة سليمان 23:2)، ليس لديه مفهوم أن الإنسان خُلِق منذ البداية غير فاسد، لأنه لو خُلِق بطبيعة خالدة فإنه كان لا يمكن له أن يموت، لكن كان قابلاً للخلود وهذا مرهون أو يعتمد علي إستخدامه الحسن لحرية إرادته. آدم كان لديه الرجاء في عدم الموت، أي ُوعِد بعدم الموت والخلود. علي الجانب الآخر، الحياة هي عطية الفعل الإلهي غير المخلوق المحيَّ، كنتيجة شركة الإنسان بالله غير المائت "بحسب النعمة". في سفر التكوين، هذه الحالة رُمِز إليها ب"شجرة الحياة" (تك22:3)، التي كانت توجد في الفردوس والتي منها تناول الإنسان. عنصر آخر ينبغي أن نذكره هو ان الله ليس هو مسبب للموت الذي بعد السقوط كان يسري علي كل البشر. الإعلان الذي أعلنه الله للأبوين الآولين " وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (تك17:2).

كان لدي هذا الإعلان ملمح إخباري مسبق ويُظهِر بأن الإنسان سوف يظَّل غير مائت لو لم يُخطئ (أنظر حكمة سليمان 13:1 , 23:2ـ24).

إن حامل عدم الموت ليس هو الجسد الفاني (التراب) بل النفس كحامل للحياة: " إذ ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسره. لأنه إنما خلق الجميع للبقاء فمواليد العالم إنما كّونت معافاة وليس فيها سم مهلك ولا ولاية للجحيم علي الأرض" (حكمة سليمان 13:1ـ14). النفس هي غير مائتة لأن تكوينها غير المادي يرتبط بفعل الله المحيَّ، كما قلنا. لأن النفس لديها الحياة في طبيعتها وجوهرها، لأجل هذا، عندما ينحل الجسد، فالنفس لا تنحل معه بل تظَّل غير مائتة.

خلود النفس يمثل خلود طبيعي وبالتالي حتمي بالنسبة للإنسان. والذين في الجحيم يوجدون للأبد علي أساس خلود النفس لكن وجودهم الأبدي لأنه هو طبيعي وإجباري، إنه "موت"[13].

هكذا الموت يناسب الخطاة " مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رو12:5). أما بالنسبة للقديسين يتناسب ليس فقط الموت الطبيعي بل الموت الناتج عن الإستشهاد للمسيح وموت الشهادة للمسيح بالحياة الفاضلة. فالقديسون يستشهدون بالدم وبالحياة.

3ـ الكمال النسبي للطبيعة البشرية الأولي:

أ)ـ التمييز بين الكمال المطلق والنسبي:

الجوهر الإلهي هو غير مخلوق ويُوجد في حالة الملء والكمال المطلق.

خَلقَ الله طبيعة أو جوهر الكائنات العاقلة (الملائكة والبشر) في حالة كمال نسبي. هذا يعني أن الله، أثناء زمن خلق الملائكة والبشر، لم يصنع طريقة الشكل الكامل الوجودي لطبيعتهما. لكن خلق الله الشكل الوجودي لطبيعة الكائنات العاقلة بإمكانية الكمال.

بالتالي، الجوهر الإلهي يوجد في حالة غير متغيرة ونهائية للكمال المطلق، بينما الجوهر البشري يوجد في حالة الكمال والملء النسبي. هذا يعني أن الطبيعة البشرية لديها إمكانية التغيير تجاه حالة الملء والكمال.

ب)ـ التمييز بين الكمال النسبي للكائنات العاقلة وحالة المخلوقات الحسية غير العاقلة:

    بينما طبيعة الكائنات العاقلة (الملائكة والبشر) خُلِقت من البداية في حالة كمال نسبي، كما قلنا، إلا أن طبيعة الكائنات الحسية غير العاقلة خُلِقت من البداية، من اللحظة الأولي في حالة غير متغيرة من جهة النوع.

    هذا يعني، أن الكائنات الحسية والتي ليست لها نفس (العناصر الطبيعية والنباتات) يظلون غير متغيرين. الكائنات الحية (الحيوانات) تنمو وتتكاثر كل بحسب جنسه. لكن هذا التكاثر هو تكرار مستمر ونسخ من نفس النموذج الأول داخل إطار "النوع". إذن، نستطيع أن نقول أن طبيعة كل الكائنات الحسية وغير العاقلة هي أمر مسلم به ونهائي ليكون هكذا دائمًا.  

نسبية مواهب نعمة الخلق "بحسب الصورة":

أ)ـ المعرفة النسبية":

    الله هو الحكيم الوحيد (أنظر رو27:16) وكلُي المعرفة. الحكمة الكلية والمعرفة الكلية هي من خصائص الجوهر الإلهي. موهبة المعرفة التي أُعطيت للإنسان بنعمة الخلق "بحسب صورة الله" جعلت الإنسان قادرًا علي أن يعرف ذاته، والعالم والله. لكن هذه القدرة المعرفية للإنسان الأول لم تكن مؤمَّنة تأمينًا مطلقًا لكن كانت مؤمَّنة نسبية[14]. خُلِق الإنسان في حالة حكمة نسبية. علي الجانب الآخر، كان الإنسان الأول، لديه إمكانية لتطوير ونمو موهبة المعرفة مثل المواهب الأخرى، وهذا يُؤكَّد أيضًا من التطور العلمي ونمو الإنسان بعد السقوط.

ب)ـ الحرية النسبية:

    الله هو حُر حرية مطلقة. لكن الإنسان، كمخلوق بحسب صورة الله، هو حُر حُرية نسبية, لأن طبيعته خُلقت بواسطة الله وفي حالة نسبية. وسيكون الإنسان بعد كمال طبيعته حُرًا نهائيًا، أي بعد أن يصير من شركاء الطبيعة الإلهية.

ج)ـ سلطة سيادية نسبية:

    الله هو الوحيد الرب (أنظر اتيمو 15:6) وسيد علي الخليقة. أما الإنسان كمخلوق بحسب صورة الله يشترك في سيادة الله. فالإنسان جعله الله ملك علي الخليقة. لكن سلطته هذه هي معطاة من الله. الإنسان هو مخلوق ورئيس الكائنات المخلوقة, إنه نائب عن الرئاسة الإلهية. حين أشار يسوع المسيح لأشخاص يعملون في وظائف سيادية يصفهم ك"مدبرين" (لو42:12) بينما يدعو الله الآب "رب البيت" (لو 25:13).

د)ـ الكمال الأخلاقي النسبي:

    الله هو الوحيد الصالح كما أعلن المسيح (أنظر مت 17:19). أي بالنسبة إلي الله لا يوجد حالة تردد بين الخير والشر أو موضوع الإختيار ما بين الصلاح والشر (أنظر يع17:1). أما الإنسان خُلِق في حالة عدم فعل الخطية النسبي. هذا يعني أن الله خلق إرادة الإنسان بحيث يكون لديها ميل طبيعي تجاه الصلاح. من الجانب الآخر، إرادة الإنسان مازالت متغيرة. أي كان يستطيع أن يلتف تجاه الصلاح، لكن يستطيع أيضًا أن يختار الشر. علي الجانب الآخر، مفهوم عدم فعل الخطية النسبي هو:  إختيار وإلتفاف إرادة الإنسان تجاه الصلاح لم يكن تام ونهائي.



 ه)ـ عدم الفساد النسبي:

    الإنسان خُلِق في حالة فساد نسبي. هذا يعني أن الطبيعة البشرية، كطبيعة مخلوقة كانت أيضًا فاسدة. بالتالي عدم الفساد لم يكن طبيعي، لم يكن خاصية الطبيعة البشرية، لكن موهبة النعمة الإلهية غير المخلوقة والمحيية.

و)ـ الخلود (عدم الموت) النسبي:

    الإنسان خُلِق في حالة عدم فساد نسبي. هذا يعني أن موته أو خلوده لا يعتمد علي طبيعته، بل علي حرية إرادته. هكذا خلود النفس يختلف عن خلود الله بقدر إختلاف المطلق عن النسبي والمخلوق عن الخالق[15].

نهاية حالة الإنسان الأولى (السقوط):

    الإنسان الأول كان لديه كل الأساسيات والمؤن (أجنحة النعمة الإلهية) لكي يرتفع عن الأرض ويتحرك في الإتجاه الصحيح الذي سوف يقود طبيعته إلى هدفها النهائي المُعين لها، وكمالها. لكن للأسف حدث العكس تمامًا: الإنسان إنحرف بسفينة وجوده تجاه الإتجاه المضاد. هذا الإتجاه كان مضاد ليس فقط للإتجاه الذي قد أعطاه الله لوجوده بل مضاد أيضًا لطبيعته ذاتها المزينة بالجمال الإلهي. كان إختيار خاطئ تمامًا والذي في التعليم اللاهوتي يُدعىَّ "السقوط" أو " الخطية الجدية   "Προπατρικό Αμάρτήμαأي الإخفاق الشخصي للأبوين الأولين.

    (أ) إمكانية السقوط:

     حركة الإنسان هذه تجاه السقوط كانت واردة وليست مستحيلة. وهذا لأنه كانت توجد معطيات معينة جعلت إختيار الإنسان الخاطئ وارد وممكن.

    أحد هذه المعطيات، أولاً حالة الكمال النسبي للطبيعة البشرية. هذه الحالة شملت إمكانية الإخفاق. فميوعة وعدم ثبات ونقص الطبيعة البشرية الأولى كانت عناصر جعلت حركة الإنسان الخاطئ واردة ومحتملة.

    ثانيًا: يوجد أيضًا حرية الإرادة αὐτεξούσῖο. حركة الابوين الخاطئة كانت عمليًا برهان لحريةحركة إرادته. لو أن الأبوين ليسا لديهما إمكانية الإختيار، لكان سوف لا يقدران على إختيار الخير ولا أيضًا الشر.

    ثالثًا: عنصر آخر من المعطيات كان تدخل الشيطان. بالرغم من أن الطبيعة البشرية كانت قابلة للتغيير وغير ثابتة إلا أن كان لديها الإستنارة الإلهية لكي تختار إختيارًا صحيحًا وتتحرك تجاه الإتجاه المستقيم. هذا يعني، أن السقوط يرجع إلى أسباب خارجية وكان نتيجة تدخل الشيطان، "عدو الإنسان" (مت28:13). فالشيطان كان ذاك الذي دمرَّ مركبة الإنسان من علو مجدها الأول. وبالرغم من أن السقوط لم يأت من أسباب داخلية لكن من أسباب خارجية، من هجوم الشيطان, إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن الكمال النسبي وحرية طبيعة الإنسان الأول كانتا مصحوبة بالنعمة الإلهية غير المخلوقة التي كانت تمده بالقوة الإلهية.

ب)ـ نتائج السقوط في علاقة الإنسان بالله :

أ)ـ إنقطاع المعرفة الإلهية:

    الإنسان، أثناء الفترة الفردوسية كان لديه موهبة وإمتياز المعرفة الإلهية، بمعني كان لديه الشركة الحُرة والمفرحة  مع الله. نص سفر التكوين يشير إلي هذه الشركة بطريقة رمزية: " وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار" (تك 8:3). هكذا كانت هناك إمكانية للشركة مع الله يوميًا، شركة مباشرة وجهًا لوجه.

    لكن الخطية الجدية كان لديها كنتيجة أخلاقية أولي، إنقطاع هذه الشركة. يجب، من البداية التشديد علي أن إنقطاع المعرفة الإلهية لا ترجع إلي الله ولم تكن مبادرة من الله. الإنفصال صار من جانب الإنسان وليس من جانب الله. بالتالي، إنقطاع المعرفة الإلهية لم تكن مبادرة فعل الله بل نتيجة سلبية جراء إبتعاد الإنسان عن الله.

    عند الأقدمين وأيضًا في العهد القديم يسود الفكر الذي ينادي بأن الإنسان حين يخطئ فإن الله يدير وجهة بعيدًا عنه ويهجره ويُعاديه ويمقته ويعاقبه بقسوة بدون رأفة. لكن هذا الرأي لا يتجاوب مع الحقيقة. فالحقيقة هي أن الله لا يترك فقط الإنسان الذي يخطئ بل يُحبه كثيرً جدًا ويُحَامي عنه بالأكثر. فالله لم يهجر الإنسان بل الإنسان هجر الخالق، والرفيق والمحسن وإنفصل عنه. لم يقطع الله علاقته بالإنسان، بل الإنسان ذهب بعيدًا عن الله.

ب)ـ الإبتعاد عن الإتجاه الصحيح للوجود البشري:

    نتيجة أخلاقية أخرى للسقوط كانت إبتعاد الإنسان عن إتجاهه الصحيح. كلما كان الإنسان محدقًا تجاه الله، كلما كان وجوده متجهًا إتجاهًا صحيحًا. لكن بسقوط الإنسان بدأ يضل ويتوه في طرق غير معروفة ومهلكة وخطره والتي قادته إلي اللا مخرج. الخطايا التي يفعلها الإنسان بعد السقوط ليست إلا نتيجة التوجه الخاطئ لوجوده, أيضًا نتيجة أخرى لعدم توجه الإنسان الصحيح كانت عبادة الأوثان   " وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ. لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أَيْضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ. الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ" (رو23:1ـ25).

ج)ـ الجهل والنسيان وخوف الله:

    عندما إنفصل الإنسان عن الله, كان طبيعي جدًا أن ينساه. البشر بعد السقوط، عندما توقفوا أن يروا الله بأعينهم ويسمعونه بآذانهم، فقدوا تدريجيًا الإحساس بحضوره. بالنسبة لهؤلاء، الله توقف أن يوجد ( أنظر مز1:14 " قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ». فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا" )

    حقًا، بعد السقوط، الأغلبية العظمي من البشر قد فقدت الإحساس بالله كوجود حيَّ وحقيقي. هذا الجهل عن الله كان كنتيجة للخوف من الله. لقد بدأ البشر يخافون من الله ومن حضوره (أنظر تك10:3). هذا الخوف تدريجيًا تحول إلي كراهية وعداوة ضد الله.

الإجراءات التي إتخذها الله لكي يخلص الإنسان:

1)ـ الوظيفة البيولوجية للجنسين (الزواج)

    الزواج هو الإجراء الأول الذي إتخذه الله، بعد السقوط، لكي يخلص الجنس البشري : 

أ)ـ الوظيفة البيولوجية "إمكانية ἐν δυνάμει" و"تفعيل ἐν ἐνεργεία":  

    كان يتوقع الله، كعارف بكل شئ، بإخفاق الإنسان في تحقيق الهدف المعين مسبقًا (كمال طبيعته)، لذا قد خلق من البداية الوظيفة البيولوجية للجنسين. هذه الوظيفة البيولوجية في الحالة الأولي كانت موجودة فقط كإمكانية. هكذا، فإن الأبوين الأولين، في الحالة الأولي، لم يستخدما هذه الوظيفة البيولوجية.

    أما بعد السقوط فقد سمح الله لهذه الوظيفة أن تعمل بيولوجيًا. يذكر سفر التكوين رمزيًا تفعيل وإستخدام الوظيفة البيولوجية من جانب الأبوين الأولين، بعد السقوط:" فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ." (تك7:3).

    أيضًا يخبرنا الكتاب نبويًا عن أمور مستقبلية (بعد السقوط)، عن إستخدام الوظيفة البيولوجية " لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا." (تك 24:2).

ب)ـ الزواج كتشريع هام لمرحلة بعد السقوط (ترياق الموت):

    تفعيل الوظيفة البيولوجية في الطبيعة البشرية كان عمليًا أمرًا هامًا لإستمرار الجنس البشري في فترة التاريخ البشري بعد السقوط. طالما البشر فضَّلوا طريقة الحياة البيولوجية ("شجرة أخرى" وليس شجرة الحياة" أي الله)، هذه الطريقة للحياة تتضمن أيضًا الوظيفة البيولوجية للجنسين. هكذا، تحديد الزواج كتشريع هام في زمن ما بعد السقوط يتعلق بموت البشر الجسدي، الذي هو النتيجة الأساسية للسقوط.





3)ـ توبة الإنسان كعامل حاسم لكمال طبيعته:

أ)ـ ندم (رجوع) الأبوين الأولين:

    الأبوين الأولين ندما علي خطاياهما. ندمهما يتمثل في الاعتراف بإختيارهما الخاطئ.

    أعلن الأبوين الأولين بندمهما أهمية تغير الطبيعة البشرية. فالإنسان يستطيع أن يلتف تجاه العدم، لكن يستطيع أن ينحاز أيضًا تجاه الله. هكذا الإنسان لديه إمكانية إختيار طريقة الحياة. لكن لأن الإختيار هو حر، فالإنسان يشعر أنه مسئول عن إختياره. وهذا الإحساس بالمسئولية، عن الإختيارات التي يفعلها الإنسان أمام الله والبشر، تنشأ أعمال إيجابية للإرادة البشرية. ولأن الإنسان ليس هو حيوان غير عاقل ولا هو روبوت،  فإختياراته وأعماله تمسه بأكثر عمقًا, تمس الوتر الأكثر تأثرًا لوجوده: الناموس الأخلاقي المغروس، ووعية. علي هذا الفعل الداخلي  تتأسس توبة الإنسان.

ب)ـ التوبة لا تقَّوم الطبيعة:

    التوبة تصدر إشارة واضحة للإتقان الحاسم وتغير الإنسان نحو الإتجاه الصحيح، نحو الله. التوبة لديها ملمح أخلاقي. تقَّوم الإختيار الخاطئ، لكن لا تستطيع أن تُصلِح الطبيعة البشرية المتغرية بعد السقوط، كما قلنا. علي هذا الموضوع، الآباء هم واضحون: التوبة تغفر الخطية لكن لا تقَّوم الطبيعة البشرية. التوبة لا تُبطل الفساد والموت الذي أصاب الطبيعة البشرية بعد السقوط .

    بالتالي، قَبِل الله توبة الأبوين الأولين وغفر خطاياهما. لكن، تصحيح طبيعتهما المتغربة لم تكن مجرد مطلب . فالتغرب العميق للطبيعة البشرية كان في إحتياج لإعادة خلق وإعادة تغيير وإعادة تجديد.

التجسد كان يمثل الإمكانية الجديدة والدعوة التي قدمها الله للإنسان لكي يتشبه بنموذجه المنظور :

ب)ـ إتحاد النموذج بصورته:

    بالتجسد إتحدت الطبيعة البشرية ليس بالفعل غير المخلوق المحيي، أي النعمة الإلهية بل بطبيعة إبن الله الإلهية. الإتحاد الأول أثناء خلق الطبيعة البشرية كان "عربون ἀρραβών"، أما الإتحاد الٌإقنومي في التجسد كان "زواج γάμος"، أي كمال وإكتمال الطبيعة البشرية. هذا يعني أن الله الكلمة أخذ عناصر الطبيعة البشرية التكوينية وجعلها تتحد بالأقنوم الإلهي. بهذا المفهوم، التجسد كان بمثابة تطهير وتجديد للطبيعة البشرية. فالله الكلمة نزل من السماء إلي الأرض، ونقب في الطين حيث كانت صورته ملقاه ومسودة وأخذها بيده وبدأ تدريجيًا وبصبر ينظفها ويعيدها إلي جمالها الأول   "ἀρχαῖο κάλλος".

    التجسد أيضًا كان بمثابة إعادة خلق للطبيعة البشرية. الصائغ يلقي الذهب غير النقي في النار (أنظر حكمة سليمان 6:3), وداخل هذه النار يتنقي المعدن النفيس من الشوائب ثم بعد ذلك يصب الذهب الخالص في قوالب ليصنع تُحف جديدة وأواني.

    هكذا أيضًا الله الكلمة، كصائغ سماوي أخذ الطبيعة البشرية الترابية وغير النقية (الناسوت)، وألقاها في قمين نار الطبيعة الإلهية (اللاهوت) وبهذه الطريقة نقاها من دنس الخطية (السقوط). ثم بعد ذلك صبها في قالب أقنومه الأول وبهذه الطريقة طبع فوقها جمالها الأول.

    كذلك التجسد كان بمثابة شفاء للطبيعة البشرية. فالله الكلمة، كطبيب وسامري صالح (لو30:10، وما بعده) أخذ بيديه الإنسان الواقع بين يدي اللصوص (الشيطان والشهوات) ونقي جراحه (من الخطايا) وأودعه للفندق (الكنيسة).

    وصف أشعياء الحالة التي فيها وَجَدَ المسيح الطبيعة البشرية:     " كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ" (أش 5:1ـ6). لكي يصف الرسول بولس نتائج التجسد علي الطبيعة البشرية يستخدم صورة التطعيم. فالزارع يأخذ فرع من شجرة زيتون جيدة ويزرعها في شجرة زيتون برية. فينمو الفرع الجيد في الزيتونة البرية وتتحول كلها إلي زيتونة جيدة: "  فَإِنْ كَانَ قَدْ قُطِعَ بَعْضُ الأَغْصَانِ، وَأَنْتَ زَيْتُونَةٌ بَرِّيَّةٌ طُعِّمْتَ فِيهَا، فَصِرْتَ شَرِيكًا فِي أَصْلِ الزَّيْتُونَةِ وَدَسَمِهَا......"(رو17:14ـ24). ترمز الزيتونة البرية للطبيعة البشرية التي طُعمت بإتحادها الأقنومي في الزيتونة الجيدة " وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ" (أنظر أش1:11)، أي طبيعة الله الكلمة جعلها تصير زيتونة جيدة.

    هكذا الإنسان الذي نال الخليقة الجديدة من خلال الإيمان والمعمودية ومسحة الروح القدس والتناول من جسد المسيح ودمه أُعيدت له كل الإمكانيات التي فقدها جراء السقوط والإبتعاد عن الله مصدر الحياة. وأصبح له إمكانية أن يتمتع بحياة الشركة مع الله، وبالتالي حياة المصالحة مع الله وأخيه في الإنسانية والوسط المحيط، أي تذوق عربون الحياة الفردوسية.





[1] PG59,699
[2] PG 36,312D.
[3]  C. Dratsells, Man In His Original State And In The State Of Sin (αντυπον) θΕΟΛοΓΙΑ  1971,16.
[4]  أنظر المرجع السابق، ص241.
[5]  Θ. Ζήση, Ἄνθρωπος καί κόσμος, κατά τόν ἱερόν χρυσόστομον, θεσσαλονίκη 1971, 80.
[6]  المرجع السابق، ص145.
[7] C. Dratsellas, 29.
[8]  Κ. Κορνιτσέσκου, ὁ ἄνθρωπος, κατά τόν χρυσοστομον, θεσσαλονίκη 1971, 35,37.
[9]  C.Dratsellas, 24.
[10]  أنظر القديس يوحنا ذهبي الفم، العظة الثامنة علي سفر التكوين: 61B
[11]  D.Staniloae, τό ἀνθρώπινο σῶμα, στή Σύναξη 1982, τ.4,9
[12]  C. Dratsellas, 24.
[13]  Ι.Ζηζιολας, στη Σναξη 1983, τ.σ.σελ.83.
[14]  C.Dratsellas,29.
[15]  Μ. ρΦανο, ψυχ κα τ σμα το νθρπου, Εκδ. Ανάλεκτα Βλατάσων, Θεσσαλονίκη 1974, σελ. 129.