الثلاثاء، 31 يوليو 2012

الزمن في العبادة المسيحية




الزمن في العبادة المسيحية


                 د. جورج عوض إبراهيم



أ ـ مفهوم الزمن عند اليونانيين :

            لقد كان الزمن عند اليونانيين دائريًا فى علاقته بالفساد والموت، إذ كان الزمن فى نظرهم دورانًا مستمرًا وعودة أزلية[1]، لذا كانت المعادلة المسيطرة: " فساد ـ موت ـ ولادة ثانية ". وفى هذا الإطار فإن أصحاب الديانات القديمة البدائية كان لديهم اشتياق دائم إلى عالم المثاليات، عالم الآلهة، عالم الخلود، اشتياق إلى الزمن المقدس الذى له قيمة حقيقية. لأن العالم الحاضر، فى نظرهم، هو فاسد ونجس. يسيطر عليه الدوران أو التكرار "فساد ـ موت ـ ولادة ثانية"، لذلك فإن الإنسان البدائى كان يشتاق دائمًا لماضى الآلهة والأبطال. إذ أن العالم الحاضر  لا يملك أى إمكانية للتغيير والقداسة. والديانة عندهم بطقوسها المقدسة تقدم الإمكانية لمسيرة تجديدية بواسطة الهروب من العالم. بالطقوس المقدسة يتحقق التشبّه بالنماذج أو الأمثلة الأصيلة، وانتقال الإنسان إلى الماضى المجيد. إذن داخل العبادة، لدى العالم الوثنى، تبطل قوة الزمن النجس والتاريخ الفاسد، وكانت العبادة، فى نظرهم، هى الرجاء الوحيد لإيجاد مخرج من الدوران اللانهائى للزمن النجس، زمن الحياة الحاضرة.

            لقد دعم الفلاسفة اليونانيون هذا المعتقد، خاصة أفلاطون وأعطوا محتوى فلسفى لهذه الخبرة الدينية الأسطورية مما قاد الإنسان للاعتقاد بالمناداة برفض التاريخ وإلغاء الزمن العالمى.

ب ـ الزمن فى المسيحية :

            أما الاختلاف الجذرى للمسيحية عن هذه الأفكار بالنسبة للزمن والتاريخ يرجع إلى مفهوم الخلاص المسيحى. فالخلاص فى المسيحية ليس هروبًا من الزمن والعالم، بل هو انتصار على الشر الموجود فى العالم. إن العالم كخليقة الله ليس هو شرًا فى حد ذاته، بل سيادة الخطية فيه هى الشر بعينه. فالعالم والتاريخ لا يُلغيان فى المسيحية بل يتجددان. العالم والزمن هم فى المسيحية، خليقة الله الثالوث، من العدم. فالعالم والزمن لهما بداية ونهاية ومعينين أن يكونا فى حالة ملء " لما جاء ملء الزمان " (غلا4:4)، لهما مسيرة خَطِّية طولية وليست دائرية، مسيرتهما ليست بها حوادث متكررة بل فريدة وحقيقية، خلاصية "مرة واحدة". ومركز هذه المسيرة الطولية الخَطِّية هو المسيح، الذى يعطى لكل لحظة زمنية أهمية خلاصية  (2كو2:6). " الآن وقت قبول " " اليوم هو يوم خلاص". بمجيء المسيح بدأت بداية النهاية، والدخول إلى الأمور الأخروية. يقول الأب جورج فلورفسكى [اقترب ملكوت السموات والنهاية الحاسمة ستأتى فى المجيء الثانى. الكلمة المتجسد حاضر باستمرار فى الكنيسة وفى عبادتها لكى يوّجه "جسده" نحو المستقبل، نحو الآتى ثانية بالمجد ليدين الأحياء والأموات][2].

            إن التطلع المسيحى هو دائمًا أخروى أى نحو النهاية، وموقف الكنيسة تجاه الزمن يستقى محتواه من هذه الحقيقة. فالخليقة الجديدة لن تكون واقعًا بلا زمن، بل ستكون تجليًا للعالم الحاضر الذى خلقه الله " فى البدء"، أى فى بدء الزمن والتاريخ. فى الكنيسة يتم تجاوز المفهوم الخطى الطولى للزمن، لأن الزمن الكنسى يصبح فيها متقاطعًا مع الزمن الأبدى، وهكذا يأخذ الزمن بعدًا أسمى، من فوق. فنحن لا نقود أنفسنا نحو ملكوت الله، بل المسيح وملكوته قد أتيا "من فوق" إلينا، لقد اقترب منا ملكوت الله. المسيح، كمخلص، يأتى ليقابلنا فى كل لحظة من حياتنا. لذا فهو يجعل زمننا يلبس الأبدية فى كل لحظة. لقد أتت الأبدية "فى المسيح" فى التاريخ. المسيح بمجيئه إلى العالم منح لنا القيامة والحياة (يو23:11). إن ملكوت الله يمثل معايشة الله لنا هنا فى هذه الحياة.

ج ـ الزمن الليتورجى :

إن المفهوم الليتورجى للزمن يُعاش كحاضر مستمر وممتد نحو المستقبل، إنه زمن الخلاص. الزمن ـ فى الخبرة التعبدية الكنسية ـ لا يعمل كماضى وحاضر ومستقبل، لكن كـ"الآن" وهو "حاضر" خلاص، فالزمن والطبيعة يتجددان فى الكنيسة. فالكنيسة تعيش تجلى الخليقة والإنسان فى المكان والزمان "الليتورجى". هذا، بالضبط، ما صوّره حدث تجلى المسيح على جبل طابور، إذ لدينا فى تجلى المسيح على جبل طابور صورة للزمن الليتورجى. الزمن الليتورجى يُعاش كإدغام للماضى والحاضر والمستقبل، داخل حاضر الاشتراك فى مجد الله.

            إن الاستخدامات المستمرة، فى العبادة لصيغة المضارع مثل: [ هذا هو اليوم الذى صنعه الرب فلنفرح ونبتهج فيه ]، تشير إلى معايشة ملء الحاضر الليتورجى لحوادث التدبير الإلهى. والكلام هنا ليس على التكرار التاريخى لحوادث التدبير الإلهى، لأنها حدثت "مرة واحدة" فى سياق تاريخى معين ولا يتكرر. لكن " صيرورتها فى الحاضر " تعنى أن نعمة الله تمنح إمكانية للمؤمنين بأن يحيوا هذه الأحداث كما لو كانوا حاضرين وقت حدوث هذه الأحداث. هذه الحوادث لها فاعلية ليس فقط فى المستقبل ولكن لأبرار العهد القديم " فى الماضى" بنزول المسيح إلى الجحيم، وذلك لأن المسيح هو مركز التاريخ وفى الوقت نفسه هو سيد التاريخ فى كل فتراته الزمنية. أيضًا يُسمع الإنجيل فى الكنيسة ويُعاش بالنعمة ليس على أساس أنه كُتب لأُناس فى الماضى ولكن على أنه موجّه للذين يسمعونه فى الحاضر. إن الزمن الليتورجى للكنيسة هو حاضر يجمع الماضى والمستقبل بالاشتراك المباشر للحضور الإلهى. وهكذا فلا تحدث فقط وحدة بين الأبعاد الثلاثة للزمن " الماضى والحاضر والمستقبل " بل الأحرى تتم وحدة المؤمنين فى خبرة الارتفاع فوق الزمن. وهكذا أيضًا يتحول الزمن العالمى إلى زمن ليتورجى كنسى، زمن خلاص. لذلك فإن "الذكرى" هى عنصر جوهرى للإفخارستيا، أى حضور المسيح الفعلى والذى يعطى ديناميكية متفائلة للتاريخ، " ارتقاء وشفاء وخلاص ". وهذا يظهر واضحًا فى صلاة التقدمة: [ أيها السيد الرب يسوع المسيح الشريك الذاتى وكلمة الآب غير الدنس المساوى له مع الروح القدس، أنت هو الخبز الحي الذى نزل من السماء. سبقت أن تجعل ذاتك حملاً بلا عيب عن حياة العالم. نسألك ونطلب من صلاحك يا محب البشر اظهر وجهك على هذا الخبز وهذا الكأس، هذين اللذين وضعناهما على هذه المائدة الكهنوتية التى لك]. ثم يرشمهما: [ باركهما، قدسهما، طهرهما، وانقلهما لكى يصير هذا الخبز جسدك المقدس وهذا المزيج الذى فى هذه الكأس يصير دمك الكريم، وليكونا لنا جميعًا "ارتقاء وشفاء وخلاص" لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا لأنك أنت إلهنا الذى يليق لك المجد ...][3].

            إن الكنيسة العابدة كجسد المسيح توّحد أبعاد الزمن الثلاثة فى الزمن الحاضر " الآنى" لحضور الله داخل الكنيسة. فإن ذكرى الماضى تصبح ذكرى فى المسيح ورجاء المستقبل يصبح رجاء فى المسيح، إذ يقول الأسقف يوحنا زيزيولاس إن "لا شئ يكون ساكنًا" فى العبادة الكنسية، "بل الكل يتحرك نحو الأمام ".

            إن الصلوات الليتورجية تلفت الانتباه دائمًا إلى الرجاء نحو ملء ملكوت الله فى الدهر الآتى. وهكذا تكون الكنيسة "شركة خروج" سائرة دائمًا نحو الملكوت. فالإفخارستيا "كذكرى" ليست مجرد رجوع إلى الماضى بالمعنى الأفلاطونى. لقد بَطُل الموت، والمستقبل اكتسب كيانًا جديدًا، وحياة الدهر الآتى أصبحت شركة فى النعمة: " وأما الإيمان فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى " (عب1:11). واتجاه الكنيسة ناحية الشرق أثناء الصلاة ليس فقط ذكرى للفردوس الأول ولكنه التفاتة نحو الاتجاه الذى منه ننتظر مجيء الرب ثانية فى مجده (مت27:24).



أ ـ الزمن في الخبرة الليتورجية للكنيسة هو العيد:

            الزمن في العبادة يصبح عيدًا، كذكرى ليتورجية لعطايا الله ومحبته للبشر. العيد يحوّل الزمن إلى زمن الله ويبطل التمييز بين الزمن المقدس والزمن النجس. إنه ملء الحياة الجديدة في الكنيسة، إنه يجعلنا نعيش الحدث الخلاصى وخبرة الملكوت الآتى. العيد هو بمثابة "تذكر" للحدث الخلاصى و"ذكر" أى إعادة حضور فعلى لهذا الحدث، وهذا لا يعنى مجرد تفكر بالذهن للحدث الخلاصى بل هو شركة اختبارية حياتية لحدث العيد. لذا يربط القديس غريغوريوس اللاهوتى "تذكر الله" بالاستنارة القلبية وحضور فعلي لنعمة القداسة الروحية في القلب[4].

            العيد عند المسيحيين الأولين لم يكن مجرد "ذكرى تاريخية" بل كان دخولاً مستمرًا إلى الواقع الحقيقى الجديد الذي أوجده المسيح بموته وقيامته. وهذا يظهر في تحديد يوم الأحد، كأول يوم لإعادة الخلق "الخليقة الجديدة"، يوم الدخول إلى الملكوت الآتى. لكن في القرن الرابع، حدث عدم تكيف للإدراك والوعى الاسخاتولوجى لمفهوم العيد، وهذا أثر على المفهوم الحقيقى للعيد. والذي ساعد على عدم التكيف هذا ظهور ضرورات تبشيرية جديدة، والتي تتطلب ضرورة إحلال أو استبدال للأعياد الأممية لجموع المسيحيين الجدد. وأصبح كل عيد يُحتفل به بطريقة خاصة منفصلة عن المفهوم الليتورجى للسنة الطقسية ككل أى عن وحدة الحياة الليتورجية. هكذا صار كل عيد له "هدف ذاتى" لم يعد يرتبط حقيقة بالزمن كملء له، كدهر جديد وظهور ملء الملكوت في العالم. أصبحت الأعياد تُعاش، كما يقول الأب ألكسندر شميمن كمجموعة من “break-Throughs” أى هى أحداث عاجلة لها أهمية منفصلة داخل عالم من نوع آخر، وذلك كشركة مع واقع لا يرتبط بهذا العالم[5]. وكنيستنا القبطية الوارثة الأمينة للكنيسة الأولى قد احتفظت بالفكر الأول عن العيد الذي يرتبط بوعى الكنيسة بأنها هى نفسها العيد، كتحقيق للنهاية أى للبعد الأخروى داخل العالم. إن الوعى الأخروى القوى لا يُدمر الزمن العالمى، بل يُغيره إلى " زمن الكنيسة " إلى "زمن الخلاص". إن عبادة الكنيسة مؤسسة على النظرة اللاهوتية للزمن، بمفهوم ارتباط زمن هذا العالم مع زمن الملكوت. لذلك فالكنيسة لا تميز بين "أيام مقدسة" و"أيام عالمية"، مثل "يوم الأحد المقدس" و"يوم العمل الغير مقدس"، بل على العكس تؤمن بأن "يوم الأحد" يقدس كل أيام الأسبوع، فكل يوم هو عيد في الكنيسة. وهذا يعنى خضوعًا مستمرًا من الزمن العالمى لزمن الملكوت. فكما قال بولس الرسول " إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل صار جديدًا"(2كو17:5). العيد أصبح دعوة للروحانية والنعمة والفرح المستمر: " وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب" (أع46:2). إن الإفخارستيا هى قمة العيد الكنسى، هى الأساس والإطار الذي نرى فيه العيد، فهى تحول كل يوم إلى عيد. وهذا يؤدى بنا إلى الحديث عن أعياد القديسين



أعياد القديسين :

أعياد القديسين اليومية تساهم في تجلى الزمن العالمى وتحويله إلى زمن مقدس، مثالاً للدهر الآتى. وكل يوم يصير عيد "ذكرى" للقديسين وللأحداث الخلاصية. إنها معايشة مستمرة لحضور الله في العالم وإمكانية تقديس الإنسان. لقد نُظمت الأعياد الكنسية في القرن الرابع كما يقول ديكس[6] Dix. لكن الأعياد الكنسية لم تبتدع في القرن الرابع، بل منذ القرن الأول حُددت الأعياد المسيحية بتأثير قوى من تقويم الأعياد اليهودية. والأعياد الكبيرة الأولى للكنيسة لم توضع فقط لذكرى حوادث تاريخية مقدسة ولكن أيضًا بدرجة كبيرة كتعبير عن حقائق الإيمان العظيمة واعتراف بها. إن محتوى كل عيد هو في التحليل الأخير محتوى لاهوتى يشمل "الخريستولوجيا" أى التعليم عن المسيح، و"الاكلسيولوجيا" أى التعليم عن الكنيسة، و"الاسخاتولوجى" أى الكلام عن الأمور المنتظرة التي ستحدث في النهاية. وهذا المحتوى نستطيع أن نلاحظه بوضوح في الترتيب الطقسى لكل عيد، وأيضًا في نصوص التسابيح التي تحتوى على عناصر غنية عقيدية توضح المعنى اللاهوتى للعيد. لذلك اُعتبرت هذه النصوص مصادر للتقليد العقيدى للكنيسة.





[1] O. Cullmann, Christ and Time, Philadelphia 1964 (الترجمة اليونانية، أثينا1980).
[2] G. Florovsky, Eschatology in the Patristic Age, SPII (1957), 235-250.
[3] الخولاجى المقدس
[4] P.G. 36, 345 B.
[5] A. schmmann 6. 202
[6] G. Dix, The shape of the liturgy. 333-347

الاثنين، 9 يوليو 2012

الشعور بالذنب ورجوع أبطال ديستوفسكي


الشعور بالذنب ورجوع أبطال ديستوفسكي[1]

راسكولنيكوف, ديمتري كارامازوف, سارتس زوسيما, الأخ ماركيليوس والخاطئ الكبير ميخائيل

دكتور ميخاليس ماكراكيس ترجمة د.جورج عوض

بالرغم من أن ديستوفسكي كان يُقَدِر كثيرًا جدًا مثل الإبن الضال, حتى أنه في نهاية حياته طلب من زوجته أن تقرأ هذا المثل لأولاده, إلا أنه هو نفسه لم يكتب أبدًا رواية عن الإبن الضال. هذا يبدو غريبًا عندما نأخذ في حسابنا عُمقه الديني وتحليلاته النفسية العظيمة. هذا الكاّتب المشهور, كما كتب فريدرك هوفمان "أكثر من أي كاتب في عصره فسر طبيعة شخصيات أبطاله النفسية, العالم الداخلي لهم". إذن طبيعي أن نعتقد أن ديستوفسكي هو المناسب جدًا أن يعمل مثل هذا الموضوع, نقصد الإبن الضال خاصةً من الجانب الديني.

هذا الموضوع يمثل موضوع أساسي لعلم نفس الديانة ، هذا الفرع من عِلم الديانة لديه موضوع بحثه "ظواهر الحياة الدينية" التي تتشكل بمشاركة وظائف النفس الثلاثة (الفهم والشعور والإرادة) في علاقتهما مع العنصر الإلهي. والظاهرة الأكثر أهمية هي العلاقة التي تنشأ بين الشعور بالذنب والحاجة إلي الأعتراف. هذا ما نسميه بكلمة واحدة هي "الرجوع μεταστποφή" الذي يمثل الملمح الأساسي لمثل الإبن الضال, وأيضًا الخبرة الشخصية لديستوفسكي، تلك الخبرة التي ينقلها لكثير من أبطاله. لأجل هذا, بالرغم من أنه لم يكتب كتاب خاص عن الإبن الضال, إلا أنه كتب كُتب أخري فيها حالات مماثلة عن أبطال رواياته الذين إتبعوا حياة جديدة مثل راسكولنيكوف, وديتمتري كاراماروف وسارتس زوسيما, والأخ ماركيليوس, والخاطئ الكبير ميخائيل... الخ. دعونا ـ إذن ـ نري تحليل ديستوفسكي النفسي لكل من الأبطال, كيف تم رجوعه إلي حياة جديدة.  

رجوع راسكولنيكوف في " الجريمة والعقاب " : شعور الذنب بسبب جريمة معينة


 نجد في رواية ديستوفسكي الأولي والعظيمة : "الجريمة والعقاب", البطل المحوري, راسكولنيكوف, أحد الشباب الرائع, طالب الحقوق (القانون) الذي سحقه الفقر, إرتكب جريمة قتل إمرأة عجوز مرابيه في الستين من عمرها: أليونا إيفانوفنا. بهذا العمل إكتسبت الرواية الشكل المأسوي لأن كل تطورها يمضي إلي دمار مأسوي, في الجريمة التي تطلب تطهيرًا, حل المأساة يطلب التفكير بالعقاب, وفق عنوان الرواية: "الجريمة والعقاب".

1ـ عقاب راسكولنيكوف وإدانته بإحباطات الذنب

جريمة راسكولنيكوف, بأقل التفاصيل, قد قام بالتخطيط لها وهو في حجرته, غرفته الصغيرة حيث كان مختفيًا مثل العنكبوت تحت سقف منخفض داخل هذه الغرفة الصغيرة التي قد إستأجرها . لقد كانت نفسه محبطة وعقله مثقل . لقد كره تلك الغرفة. ولم يتحرك منها. لدرجة أنه لم يخرج أيام كاملة, لا عمل ولا أكل أي شيء. لقد فضَّل أن يظل راقدًا يفكر. وكل ما كان يفكر فيه التخطيط للجريمة بالتفصيل. وعندما إرتكب الجريمة, بالضبط كما خطط رجع ثانية إلي غرفته, وظلَّ لساعات كثيرة راقدًا ممددًا. حاول أن يتذكر كل شيء يتعلق بجريمته, لكن شيئًا لم يخطر علي باله.  كيف أن كل شيء, الذاكرة والمنطق البسيط قد هجرة, مما جعله يتسائل هل بدأ, فعلاً من الآن, العقاب.

لكن العقاب, عقابه الحقيقي, بدأ عندما شعر بالدم الذي سُفِكَ وصار ثقيلاً فوقه. إنتفض وقام وبدأ فجأة يفتش فوقه ظانًا كيف أن كل ملابسه ملطخة بالدماء,  من الممكن أن توجد بقع كثيرة لم يكن قد رآها ، هكذا تسائل في نفسه . ولكي يتحقق من الأمر, خلع ملابسه وألقاها علي المائدة فاحصًا إياها ربما يكتشف أي آثار للدماء. لكن لم يجد أي دماء سواء بقعة صغيرة علي جورابه, وعلي بنطلونه وفي جيب بنطلونه حيث قد أخفي فيه المحفظة التي سرقها. وبالرغم من أنه أزال بحرص أي أثر للدم, إلا أن الدم مازال يوجد. الدم الذي كان في داخله. كان هو الذي جعله يتخيل كيف سمع صرخةً مرعبةً, صرخة صاحبة منزله, مثل شخص قد ضربها بوحشية. وأحيانًا كان لديه إنطباع كيف رأي أحد, رجل قصير, بكاب علي رأسه ينظر إليه محدَقًا عينيه داعيًا إياه "يا قاتل" !

نفس هذا الإنسان قد رآه بعد ذلك في نومه. رآه أثناء حلمه كيف كان يتمشي في الطريق. وقد رآه راسكولنيكوف من الخلف. وفجأة دخل هذا المجهول ممرًا. وعندما وصل راسكولنيكوف هناك, سمع خطوات شخص ما يصعد - بدون أي إستعجال - سُلم لبيتٍ. يا للغرابة ! كما لو كان يعرف هذا البيت. دخل في الداخل. خطوات الإنسان الذي دخل لا تُسمع بعد. في حجرة ما يبدو أنه توقف هناك وإختفي.

بدأ راسكولينكوف يبحث عنه, فجأة وجد نفسه أمام بالطو نسائي معلق علي الحائط. إرتاب كيف كان خلف هذا البالطو شخص معلق، فتش بدقة البالطو بيديه ورأي كيف يوجد خلفه كرسي وعلي الكرسي في ركن تجلس إمرأة عجوز بجسد مكوم ومنكسة الرأس . هكذا لم يستطع بأي طريقة أن يري وجهها. لكن سقط تقريبًا علي الأرض ونظر إليها من أسفل, تجمد من الرعب .  في وجهها عرفِ المرأة المرابية التي قتلها. والتي تجلس الآن علي كُرسيها وضحكت, ضحكت, إرتعب كله من الضحك. إندفع ليرحل,  وكل الإحباطات تصطاده. هناك في المكان الذي يذهب ليختفي فيه لم يستطع أن ينسي شكلها. هذا الذي إعتقدَ كيف أنه فقد ذاكرته ولم يكن في حالة أن يتذكر أي شيء صغير من جريمته, الآن كل شيء يأتي لكي يُذكِّره. يُذكّره بشكل العجوز الجاحظة العينين والتي قد ضُربت علي رأسها ببلطه. ملاحقة ضحيته لم تتركه لكي يهدأ ولا لحظة واحدة. لقد توقف عن الإنشغال بأي شيء. حتى المحفظة والأشياء (السلاسل وجواهر الذهب) التي قد أخذها من صندوق العجوز. ولكي يتخلص, في النهاية من كل هذا, أُجبر أن يخفيها تحت حجر كبير في مكان صحراوي. لكن إذًا كان لم يهتم بكل تلك الأشياء التي بسببها قد فعل جريمته, لماذا إرتكبها إذن؟

2ـ تخطي الحرية والإذلال

حقًا, لماذا فعل راسكولنيكوف جريمته؟ هذا الأمر كان محل حيرة بالنسبة له. في إعترافه لسونيا مارميلاندوف بجريمته, يقول: "لقد أدركت, يا سونيا, كيف أن السلطة تُعطي فقط لذاك الذي تجرأ أن يُنقب ويسرقها . أمر واحد فقط تكون الحاجة إليه, أمر واحد فقط: ان تتجرأي !... أنا أردت أن أتجرأ....... أردت فقط أن أتجرأ, يا سونيا ! هذا كان  السبب الوحيد"

إستحوذت علي راسكولنيكوف فكرة النابليونية. يريد أن يصير مثل نابليونداس. الزعيم الذي لكي يأخذ السلطة في يديه, لم يتردد في أن يرتكب حزمة من الجرائم. حتى أنه كان يفكر في الأيام السابقة انه سوف يرتكب جريمه بما أن هذا سوف يجعله مثل نابليونداس . لكن عرف, لأنه فقط يفكر, انه لم يكن في إستطاعته أن يكون نابليونداس. لأنه, لو كان حقًا, كان عليه أن يمضي مباشرةً إلي هدفه. إذن لم يكن هذا هو السبب الذي  دفعه إلي الجريمة،  ولا رغبته أن يساعد أمه بالأموال التي سوف يأخذها من ضحيته أو لكي يعيق أخته من زواج غير مرغوب تريد أن تتممه لأجله. ولكي يساعد أيضًا نفسه ذاتها بهذه الأموال, لكي يمضي في دراساته. ويصير  بعد الغنى والقوة التي سوف يكتسبها مُحسِن علي البشرية, كما يظن.

كل هذا, كما كان يقول لسونيا, هي حماقات ،السبب الحقيقي الذي جعله مجرمًا, لم يكن أي من هذه الغباءات (الحماقات). كان سبب آخر. "كان ـ يقول لسونيا ـ أمر آخر أردت أن أكتشفه، شيء آخر دفعني. أردت أن أكتشف, بقدر الإمكان وعلي وجه السرعة: هل كنت حشرة ( قملة ) مثل كل الآخرين أم إنسان؟ هل أستطيع أن أتخطي الصعاب أم لا؟ هل كنت مجرد مخلوق جبان أو مخلوق لديه حقوق...".

في مقال نشره قبل جريمته, قد نادى راسكولنيكوف بأن كل البشر ينقسمون إلي "عامة" و"مميزين". العامة يجب أن يحيوا طائعين وليس لديهم الحق أن يمضوا أبعد من القانون, لأنهم بالضبط هم عامة. علي النقيض الإنسان "المتميز" له الحق, أي ليس أي حق رسمي, بل لديه الحق أن يعّود ضميره أن يمر فوق موانع محددة. وهذا فقط في تلك الحالة حيث تحقيق أفكاره (التي هي بحسب ظنه أفكار خلاصية لكل البشرية) تتطلب هذا التخطي. إذن في مثل هذه الحالة يستطيع هذا الإنسان أن يعطي الحق لضميره أن يمر أيضًا ـ بلا تعقل ـ فوق جثة, لكي يرتكب جريمة.

لكن مشكلة راسكولينكوف هي أنه يتشكك إلي أي مدي هو إنسان متميز أم هو مجرد حشرة مثل كل الآخرين. لأجل هذا أيضًا جرَّب, بجريمته, إن كان لديه فعلاً الحق في أن يرتكب مثل هذه الجريمة. هذا يبدو من كل ما قاله لسونيا: "في الساعة التي ذهبت فيها إلي بيت العجوز, ذهبت بمفردي لكي أُجرب....". يريد راسكولينكوف أن يجرب إلي أي مدي يستطيع أن تصل حريته. حريته العشوائية التي لا تعترف بأي حاجز أخلاقي, حيث لا يريد أن يسمع لأي شيء مقدس, لأي تحديد أو حدود. حرية ترفض الله ذاته. راسكولنيكوف هو أحد ثوار العدم. لأجل هذا لا يوجد الله وعندما لا يوجد الله أو عندما يهدف الإنسان لأن يصنع ذاته في مكان الله بمحاوله كما يقول بردييف أثناء حدثيه عن بطل ديستوفكي: " الإنسان يختبر قدراته وسلطته ودعوته لكي يبرهن علي تأله".

مثل هذا الإنسان هو راسكولينكوف. إهتمامه هو أن يبحث عن حدود حريته, حدود الإنسان بشكل عام. كما كتبت Nina Gourfinkel,في كل روايته يلعب ديستوفسكي بالمفهوم المزدوج الذي لدي Prestupleniye (التخطي) في كتابها: "فيما عدا الجريمة أو تخطي الجريمة" باللغة الروسية. أي ذاك الذي إرتكب جريمة "يتخطي الحد" أي يتخطي الناموس البشري والمسيحي. لكن النتيجة من مثل هذا التخطي هو, بدلاً من المطلق, والحرية غير المحدودة التي يهدف إليها,  ينقاد أخيرًا إلي "عدمية ضميره, والإنحطاط والإذلال", متحققًا أخيرًا كيف هو ذاته كان مجرد حشرة (قملة). وبالتالي "مازال قذر وبذئ عن الحشرة التي قتلها".

عن العجوز المرابية التي إعتبرها "حيوان لا فائدة له, قذر ومؤذي" ولأجل هذا أراد أن يقتلها, بمحوها  أراد أن يتخلص المجتمع من مثل هذا الحيوان المتطفل. هكذا كما قال بردييف { دُمِر راسكولينكوف مع العجوز المقيتة والضارة. بعد "الجريمة" التي كانت إختبار فَقَدَ فيه الحرية وغاص في مستنقع. هكذا ضميره المتعجرف إنطفأ}. وفي مكان هذا الضمير لم يبقي إلا جلاد قاسي لنفسه الذليلة.

3ـ جحيم راسكولنيكوف

ربما لا يوجد شهادة أعظم في العالم من الإحباطات التي سببها الضمير في الإنسان بعد إرتكاب جريمة, خاصةً في حالة راسكولينكوف. لأجل هذا أيضًا تصفه سونيا كـ "أتعس إنسان في العالم". هذه الشهادة فقط يمكن أن تُقارن بعذابات الحياة الأخرى, الجحيم الأبدي. أليس الجحيم ذاته لا يكون إلا إحباطات الذنب المستمرة للأعمال الشريرة؟ لماذا لا يجب أن نظن بالحقيقة الصورة المادية عن الجحيم بشهادات تلك النفوس الجسدية. الشهادات التي إخترعها الخيال الشعبي والتي دونها دانتي في جحيمه. هذه الشهادات التي تصف الجحيم نجدها عند كثير من كُتاب العصور  الوسطي, إنها صورة رمزية للمعاناة الأزلية للإحباطات في الحياة الأخرى.

هكذا لا أحد من هؤلاء الكُتاَّب وأيضًا من الأدباء العالميين, أيًا كانت الصورة المرعبة التي أعطاها للجحيم أو معاناة الإحباطات, إستطاع أن يتفوق علي وصف ديستوفسكي في "الجريمة والعقاب". أيضًا شكسبير لم يستطع أن يعطي وصفًا أفضل. لأنه, إن كان في "ماكبث" الجلاد القاسي الذي يسببه الضمير  في البطل, قتل نوم المجرم, فإنه في حالة ديستوفسكي قتل المجرم ذاته، المعاناة التي سببها الضمير المذنب لراسكولنيكوف في "الجريمة والعقاب" يصل إلي الحد أن يجعله يشعر بأنه كيف بجريمته قتل في الواقع, ليس ضحيته, بل ذاته. وأقواله لسونيا واضحة عن جريمته: "دفعني الشيطان في البداية وأعطي ليَّ بعد ذلك أن أدرك كيف ليس لدي الحق أن أفعلها... بمثل هذه الطريقة يقتلون؟... وربما في الواقع قتلت العجوز المؤذية؟ قَتلتُ ذاتي وليست العجوز..".

      4ـ إنقسام (إنشقاق) راسكولنيكوف وإنقطاعه عن الجذور الإجتماعية وعن جذور الأرض

      حقًا, قتل راسكولنيكوف بجريمته نفسه ذاتها. إنشق وقُطِع من البشر. إسم راسكولنيكوف يأتي من الإسم الروسي raskol الذي يعني المسافة الفاصلة والإنشقاق والعِراك. ومن نفس الكلمة الروسية تأتي تسمية هراطقة روسيا: "المنشقين". خاصةً بالنسبة لراسكولنيكوف, بطل ديستوفسكي,المسافة الفاصلة تكونت فيه. والنتيجة أنه قُطِع من كل البشر ومن كل شيء حوله. إنه واضح ما قاله الكاتب عن بطله: "بدا له كأنه هو نفسه يقطع بسكين ذاته عن الكل وعن كل شيء". لأجل هذا أيضًا شعر ب"الإنحراف عن كل شيء". قبل الكل قُطِع من الأشخاص الأكثر حبًا, من أمه, وبلوخيريا أليكساندروفنا, ومن أخته, دونيا. هذه الأشخاص المحبوبون له كم يمقتهم الآن, إلي الحد الذي فيه يكرههم, ولا يستطيع أن يشعر بأنهم بجواره. هكذا يشعر, كما قالت له سونيا بأنه "أتعس التعساء". نفس الكُره والمُقت تجاه الآخرين وأكثر من ذلك كان يشعر به راسكولنيكوف. "كُره ليس له نهاية... قد بد له أن كل الذين يقابلهم هم مقززون (مقرفون), طلعتهم مقرفه, مشيتهم وحركاتهم..". الآن لا يستطيع أن يتحدث مع أي أحد. إنقطاعه حدث بسبب جريمته, إنقطاعه من مجتمع إخوته في الإنسانية, وأيضًا من كل المنظومة المجتمعية, والدولة التي قد إخترق قانونها.

      بحسب M. Varaut "الجريمة تتم خارج الإنسان وداخل الإنسان... خارج الإنسان, لأنه ـ وفق المعني اللغوي في اللغة الروسية للمجرم Prestupnik تعني المخالف أو المتعدي, وأن الجريمة هي عمل يهين عنوةً الضمير الجمعي". كما يقول بردييف عن راسكولنيكوف "صار متمرد وقطع ذاته عن الجذور الإجتماعية. عندئذٍ تغرب عن النظام الطبيعي...". ونقول نحن, عن الطبيعة ذاتها, عن جذور الأرض. لأجل هذا أيضًا عندما سمعت سونيا إعتراف الجريمة الرهيبة, حثته قائلة: "قم ! إذهب مباشرةً, في هذه اللحظة, إنتصب علي ناصية ميدان, قَبِل بفمك أولاً الأرض التي دنستها, وإنحني أمام كل العالم وإخبر كل البشر: " أنا قاتل" عندئذٍ سوف يرسل لك الله مرة أخرى شعلة الحياة..." عندما يتصالح راسكولنيكوف مع العالم سوف يعطي الله له مرة ثانيةً الحياة, العالم الذي أمامه أخطأ وقُطِع عنه, نازعًا الحياة الإنسانية. لكن عندما أيضًا يتصالح مع الأرض التي دنسها وقُطِع أيضًا منها ساكبًا دم بشري فوقها. عندئذٍ فقط سوف يستطيع أن يحصل مرة ثانيةً علي الحياة, أن يقوم في حياة جديدة, مثل الإبن الضال الذي "كان ميتًا فعاش". ومثل لعازر الذي قرأ عن قيامته لسونيا من الإنجيل. سونيا التي حرضّته أن يذهب إلي ناصية ميدان ويُقبَّل الأرض التي دنسها. هكذا ذهب, ذهب إلي مكان مفتوح أمام العالم "وقع علي ركبتيه وسط الميدان. إنحني وقَبَلَ بفرحٍ وحزن معًا الأرض. قام بعد ذلك وركع مرة أخرى".

      5ـ حرية السجن والقيامة في حياة جديدة : التحرر بواسطة الألم

      بالرغم من أن راسكوانيكوف شعر بالذنب تجاه الأرض التي لوثها بالدم الذي سفكه وتجاه أخوته في الإنسانية الذين إنقطع عنهم بنزع حياة إنسانية, إلا أن شعوره بالذنب إنحصر في جريمته, في قتله للعجوز المرابية. حتى لو كان يعتبرها طُفيل في المجتمع, حشرة قذرة, لم تتوقف عن أن تكون مخلوق بنفس بشرية, والتي في أعين الله لها نفس القيمة التي لدي نفسه. إدراكه بأن ليس لديه الحق أن يقتل مخلوق الله, مهما كان هذا المخلوق في أعينه, أنشأ فيه بلا شفقه معاناه من الإحباطات ،عقاب فائق لا يُقارن من أي جهةٍ بجزاء الأعمال الجبرية التي سوف يمكن أن تُفرَّض عليه. وأيضًا بموته, لو كان سيُحكم عليه بمثل هذا الجزاء. لأجل هذا في النهاية, بعدما قَبَلَ الأرض, بالرغم من أنه لم يكن يوجد ضده, ليس فقط أدلة, ولا شُبهات تقريبًا لم يطيق بعد معاناة العذاب التي أنشئها فيه ضميره, قرّر أن يذهب بمفرده إلي قسم الشرطة وهناك, تحت الأعين المذهولة لإيليا بيتروفيتس وآخرين من العاملين بالشرطة, إعترف: "أنا قتلت العجوز المرابية...".

      هكذا, إكتمال رجوعه لن يصير عندما ينحني ويُقَبِل الأرض, لكن عندما يُرسّل إلي السجن , بعد إعترافه للشرطة . معجزة قيامته, كما كتب L.A. Zander "لن تكتمل قيامته في داخله في اليوم الذي ركع فيه علي الأرض.... المعجزة سوف تصير فقط في الليمان هناك حيث نفسه سوف تهرب (تنفلت) من سجنها المظلم, من عزلتها وسوف يشعر بكل ما يمثل حياة لها, وعالمها, وأرضها". بما يمثل, كما يقول أيضًا ديمتري إفانوف, "الآخر".

      أيضًا قبل أن يدخل راسكولنيكوف إلي السجن, أي حين كان يوجد خارج هذا السجن, كان محبوسًا في سجنه الخاص الذي عبثًا حاول أن يحطمه. لأنه, كان مقطوعًا من البشر, من واقع العالم, قد خلق في داخله عالم خيالي من صنعه, ظل "محبوسًا في خياله". الإعتراف بحقيقة الإنسان والبشرية خارج ذاته صار أولاً بإعترافه أمام كل الجمع, لكي يكتمل داخل سجنه وقتذاك حيث كان في إستطاعته أن يفلت من "سجن الأنا", لكي يتحرر من ذاته بأن يأتي في علاقة وإتصال بإنسان, لكي يتقابل مع آخر وبعد ذلك الإثنين معًا عند الله.

      هذا التحرر من الأنا, هو في الحقيقة ولادة جديدة, قيامة في حياة جديدة. هكذا يُدرّك لماذا راسكولنيكوف, كما كتب ديستوفسكي عنه, "بالرغم من أنه كان في السجن, شعر أنه حُر". لأن في داخل سجنه المظلم تقابل مع آخر محررًا ذاته من الأنا, إستطاع أن يري "بزوغ مستقبل جديد, لقيامة في حياة جديدة". قيامة بدأت أيام البصخة "الأسبوع الثاني بعد البصخة".

      في البداية, عندما دخل في السجن "لم يرتاب راسكولنيكوف في أن الحياة الجديدة لن تُعطَّي له بدون ثمن, سوف تُكلف ثمن غالي, سوف يدفع في المستقبل مضايقات كثيرة ومحاولات كثيرة, وأنه يجب أن تمر حياته في ألم شديد... أيضًا هنا بدأت قصة أخري, قصة إنسان جُدِد تدريجيًا وقام في حياة جديدة, حيث مرّ من عالم إلي آخر, حيث تقابل مع واقع جديد, عالم مجهول بالنسبة له تمامًا في البداية. لكن هذا سوف يمثل موضوع لقصه أخري. قصتنا إنتهت".

      بهذه الأقوال أنهى ديستوفسكي روايته. وبالرغم من أنه قال كيف كان في إستطاعته أن يكتب كتاب ثاني, لكي يسرد فيه قيامة راسكولنيكوف الروحية, إلا أنه لم يكتب أبداً هذا الكتاب . لكن كَتبَ كل الروايات العظيمة الأخرى حيث حكى فيها قيامة أبطاله الآخرين الروحية. وخاصةً روايته الأخيرة والعظيمة : الأخوة كرامازوف (Bratya karamozovy 1879-1880) حيث وصف أيضًا القيامة والرجوع إلي حياة جديدة لديمتري كرامازوف.    ( يتبع )    

  

       



[1] الذنب والرجوع. تحليل ديني لمثل الإبن الضال وبعض أبطال روايات ديستوفسكي, مذكرات جامعية, أثينا 1990, ص31-40 (باللغة اليونانية).
Μιχ.Κ. Μακρὰκη, ΕΝοχή κὰι Μεταστροφή, πανεπιστημιακὲς παραδὸσεις, Αθηνα 1990, σελ31-40.