الخميس، 27 سبتمبر 2012

الصليب


 


الصليب


    د.جورج عوض ابراهيم

الصليب - خشبة

ليس هو من الذهب أو الفضة

الصليب  مصنوع  من الخشب ، لكن يزن في قيمته ما هو أكثر من كل ماس وكل ذهب العالم.

 المادة الأولى التي صُنع منها الإنسان هو الطين . والمادة الأولى لإعادة خِلقة الإنسان هي الخشب . 

في الخِلقة الأولى  الطين شُكِلَ بواسطة يدي الخالق . في إعادة الخلق خشب الصليب رُويّ بدم البريء والذي بلا خطية يسوع المسيح ، وأعاد تشكيل الإنسان .

الصليب ......خشبة يا لها من قيمةٍ !!!

نقطة واحدة من الدم المقدس في بورصة القيم الروحية تستحق الكثير ، العالم كله لا يستحقها

لقد سأل مرةً الرب : " مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟" مر 37:8

هل توجد  عُملات تشتري نفس الإنسان ؟

هل يوجد بديل للقلب الخاطيء الذي تعطل ؟

 نعم يوجد بديل واحد فقط : الدم!

شكل الصليب ليس هو ذات تصميم فني كبير.

رفعوا الصليب مثبتاً على الأرض ، والمسيح عليه ،إنه مشهد  مدهش.

لكن البشر لم يتأثروا من هذا المنظر ولا سجدوا له .

شكل الصليب بسيط . خشبتين مسمرتين . لكن هذا الشكل قد مَلَكَ على كل البشر.

إنه الشكل الذي يعبر عن محبة الله غير المحدودة . لقد نزل من السماء وحَضَنَ كل الأرض

 عَبّر المرنم عن محبة الله غير المحدودة على شكل الصليب ، قائلاً : " لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه . كبُعد المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا " مز11:103-12.

هذا الشكل حُدد كأنه رمز النصرة.

الصليب – الشمس

الشمس الطبيعية هي مخلوقة من مخلوقات الله . الصليب هو عرش الله . يلمع  بلا حدود بأكثر قوة.

الشمس الطبيعة لا تتدنس من قذارة الأرض ، هي أخفت شعاعها  تأثراً من منظر المصلوب. لم تتحمل ان ترى خالق العالم معلقاً  من جحود العالم . لمدة ثلاث ساعات حيث ظل المصلوب على الصليب مغمور في آلامه ، أحتجبت الشمس : " فكانت ظلمة على الارض كلها إلى الساعة التاسعة وأظلمت الشمس " لو 44:23-45

الشمس إحتجبت يوم الجمعة العظيمة أيضاً لسبب آخر .  لأنه حينما تشرق الشمس في الصباح ،  تختفي نجوم الليل  . وفي الحقيقة لم تنطفيء هذه النجوم ، بل بهاء الشمس غطى لمعانهم .

و نفس الأمر ، عندما رُفِعَ  الصليب أختفت الشمس الطبيعية . وفي الحقيقة لمعان الصليب غطى على لمعان الشمس : " تلألأ الصليب وظهر بهاءه بأكثر قوة من الشمس والقمر " ق.يوحنا ذهبي الفم.

لصوص الليل يكسرون لمبات الطريق ، لكن لا يستطيعون ان يطفئوا الشمس . هكذا العالم يستطيع ان يشتم المسيحيين ويستطيع قتلهم ،  لكن بهاء الصليب ألفين عام لم يتمكنوا من إطفائه . إنهم يرفعون رموز بل نجوم أخرى ويلقون عليها مصابيحهم ، المصابيح يُحتاج إليها في الليل أما في الشمس فلا حاجة للمصابيح . إنها لا تحتاج لأحد ينيرها بل هي تنير . لا تقترض نورا بل تهب النور. أنوار البشر المقترضة سوف تنطفيء . أما الصليب فسوف ينير في الدهور ، ينير خطواتنا " والظلمة لم تدركه " يو 35:12

الصليب – سلاح

 

الشعب المهووس أتى بسكاكين وعُصي للقبض على يسوع المسيح.

كانوا يمسكون عُصي من الخشب لكي يمسكوا ذاك الذي بالسلاح الخشبي سينتصر على الشيطان .

 ألم يستخدم الشيطان سلاح خشبي لكي يأسر الأنسان بقيود الخطية والموت؟

ثلاثة أشياء رموز هزيمتنا من جانب الشيطان : عذراء وخشبة وموت.

عذراء هي حواء التي لم تكن قد عرفت العلاقة الجسدية.

الخشبة ، الشجرة التي مَدَ إليها يده الإنسان الأول العاصي لكي يذوق ثمرة الخطية.

الموت هو بالضبط ثمرة الخطية .

هذه الثلاثة أشياء قد إستخدمها الله لكي ينتصر على الشيطان:

إستخدم العذراء مريم إبنة الطاعة

إستخدم خشبة الصليب

إستخدم موت جسده كمثل طُعم لكي يجرد الموت من سلاحه ( القديس ذهبي الفم Ε.Π.Ε. 36,74)

نحن أمام خشبتين ، شجرة الفردوس وخشبة الصليب :

الأولى كانت مزروعة في الفردوس ، لكن أخرجت الإنسان من الفردوس.

الثانية ، خشبة الصليب كانت في الأرض ، لكن أدخلت الإنسان إلى الفردوس.

أسفل شجرة الفردوس إنتصر الشيطان على آدم ، وفوق خشبة الصليب إنتصر آدم الجديد ( المسيح ) على الشيطان.

بسلاح الصليب حققنا نصراً عظيماً : " من الموت صِرنا غير أموات ، من السقوط صِرنا قيام ، من الهزيمة صِرنا منتصرين " ( القديس ذهبي الفم Ε. Π.Ε. 36,76 ) .

ونص القديس يوحنا ذهبى الفم الذي يشرح  فيه هذه الأمور-  بكل وضوح - فى عظته عن "الصليب"  ، هو : [إذا عرفت بأي طريقة انتصر المسيح، سوف يصير إعجابك أعظم. فبنفس الأسلحة التي غلب الشيطان بها الإنسان، انتصر المسيح عليه. واسمع كيف؟ عذراء وخشبة وموت هي رموز هزيمتنا. العذراء كانت حواء، لأنها لم تكن قد عرفت رجلها. الخشبة كانت الشجرة (التي أوصى الله آدم بألاّ يأكل منها) والموت كان عقاب آدم. لكن العذراء والخشبة والموت التى كانت رموزًا لهزيمتنا، صارت رموزًا للانتصار. لأن لدينا مريم العذراء بدلاً من حواء، ولدينا خشبة الصليب بدلاً من شجرة معرفة الخير والشر، ولدينا موت المسيح بدلا من موت آدم. هل رأيت، فالشيطان هُزم بنفس الأسلحة التي انتصر بها قديمًا؟!] انظر كتاب "الصليب" عظتان للقديس يوحنا ذهبى الفم، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس، ود. جورج عوض إبراهيم، المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، ابريل 2004، العظة الثانية، ص 28و29.

أيضًا القديس كيرلس الأورشليمى يقول عن أبوينا الأولين: [ وإن كانا قد طُردا من الفردوس بسبب أكلهما من شجرته ، أفلا يكون أسهل على المؤمنين الآن أن يدخلوا الفردوس بسبب شجرة يسوع] عظات للموعوظين 2:13، ΒΕΠΕΣ 39, 153.

الصليب – ذبيحة


الصليب هو مذبح . الله في العهد القديم أعطى وصية لإبرام ان يقدم ابنه الوحيد ، إسحق.

 إنه أمر قاسي . لكن أطاع إبرآم . مضى لكي يقدم إسحق ذبيحة. لكن في النهاية لم ينفذ الأمر ( أنظر تك10:22-12) .  لقد أعطاه وصية ، ليس لكي تُنفذ بل لكي يصور  لنا ذبيحة أخرى. لم يترك الله إبرآم يقدم إبنه الوحيد ذبيحة.

الله لا يطلب من الإنسان ان ينفذ أموراً قاسية بل  من ذاته يطلبها.

عندما أمسك ملاك الله يد إبرآم حيث كان متأهباً ليذبح إبنه ، نظر إبرام بعينه فرأى كبش ممسكاً في الغابة بقرنيه ( أنظر تك13:22) . ربط الكبش من قرنيه في الغابة مشكّلاً هيئة الصليب.

صورة من الذبيحة العظيمة .

المسيح هو الكبش ، الخروف ، حمل الله ، الذبيحة التي بلا عيب .

الصليب هو المذبح الذي قُدم عليه بكونه الذبيحة المقدسة ، إبن العذراء مريم.

 يقدم ويُقّدم.  هو الذبيحة والكاهن ، ذبيحة بحسب بحسب الجسد ، كاهن بحسب الروح ( ق. ذهبي الفم ).

ذبيحة المسيح فريدة . في نفس الوقت المسيح هو الجاني والضحية والقائم على الخدمة وهو الخدمة ذاتها.

ذبيحة فريدة لأن الذي ذُبح هو بريء  بلا خطية . ذبيحة فريدة لأن الذي ذُبح سال منه دم محرر .

 ذبيحة فريدة لأن الذي ذُبح ذُبح لأجل خطايا آخرين ، او  بالحري لأجل خطايا الكل .

ذبيحة فريدة لسبب آخر : لأنها ذبيحة جامعة . تألم المسيح خارج سور أورشليم لكي يبين انه لم يقدم ذاته ذبيحة لأجل اليهود بل للجميع ( ق. ذهبي الفم ΕΠΕ36,12) .

المصلوب ينتظر

 بالرغم من أن ذاك قدم حياته . إلا أننا  نريد حياة لأجل الراحة والرفاهية

نقول للمسيح أننا نتبعه ، وفي نفس الوقت  نمقت صليبه ،  ونرفض حياة الصليب !

إنأي تضحية في الحياة لا نفعلها .

شيء ينتظره منا الرب المصلوب

ماذا تطلب مِنا  يا رب ؟ 

هل تطلب مِنا ورود وعطور وتيجان  في جُمعة آلامك؟

 لا .

إنه يريد شيء آخر

ينتظر دموعنا ، لأن كل يوم ننكره .

أنكره تلميذه وبكى بكاءً مراً .

أما نحن لم نبكِ أبداً

ينتظر منا ان نطلب منه الصفح لأننا كل يوم نُسمره بخطايانا

ينتظر ان نقول له مثلما قال اللص : " أذكرني ، يا رب " . اللص قالها لأنه آمن بملكوته

ينتظر توبتنا

ينتظر ان نتعهد له قائلين :

يا رب ، بقوتك ونعمتك سوف نتبع  - في حياتنا  - صليبك

الأحد، 16 سبتمبر 2012

أموات وأحياء


أموات أحياء:
                 د.جورج عوض

 ” كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَاِ” (رو11:6).

يجب أن نموت لكي نحيا. طالما أيضًا ذاك مات لكي نحيا نحن, فالحياة تمر من الموت.
الطفل لكي يُولَّد يمر من قبر البطن الأمومي.
الشمس لكي تشرق تمر من الغرب.
الماء لكي يتدفق يمر من قبر
 في أحشاء الأرض.
الورد لكي تزدهر تمر من موت البذرة.
هكذا أيضًا المسيحي. لكي يحيا مع المسيح يجب أن يموت أولاً مع المسيح: «σὺν Χριστῷ».

الإماتة والحياة في المستوي الروحي يشدد عليه بولس الرسول في (رو11:6):
 "كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَاِ".

يوجد أناس يُعتبروا أحياء ولكن هم أموات, يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "كثيرون من هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يتنفسون ويسيرون هم في حالة أتعس جدًا من الأموات"  (ΕΠΕ17,64).

يذكر القديس يوحنا ذهبي الفم أربع أنواع من الأموات:

1.      أموات جسديًا: أموات لأن الجسد مات بينما النفس تحيا.

2.     أموات نفسيًا: لا يحسون ولا يشعرون ولا يتحركون لفعل الصلاح. أموات ولم يدفنوا.

3.     أموات من جهة الخطية: الذين يجاهدون لكي يُميتوا الشهوات.

4.     أموات من جهة الإنسان العتيق: الذين بالمعمودية ومواهب الله يحيون إماتة المسيح (أنظر (ΕΠΕ17,64-66.

الذين يستحقون الرثاء هم الأموات روحيًا.
يحيون لكن هم أموات.
 هم ظلال متحركة.
كثيرون اليوم هم أموات غير مدفونون.
إنهم أولئك الذين يحيون حياة الضعف والإستسلام حيث
 لا يملكون قوة المقاومة ويعتمدون دائمًا علي الآخرين. هم موجودات ميته. وهم أيضًا يحيون كحيوانات بطريقة مادية. نفوسهم لا تحيا. بدون مشاعر بدون محبة بدون أهدف سامية بدون نهوض وصعود.

الجدير بالإعجاب هم الذين حققوا ما قاله بولس الرسول: "كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَاِ "(رو11:6). ماذا يعني أن أحسب ذاتي ميت من جهة الخطية؟ يعني ذاك الذي كما يقول بولس الرسول في رسالة غلاطية: " وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ " (غلا24:5).  

لا يوثر فيه عالم الخطية. ميت لا يتأثر بشئ. لا يمد يديه لكي يسرق أموالاً, مهما كانت هذه الأموال إمامه ولا يفتح أعينه لينظر ويشتهي. لا يتأثر من أي شهوة. عدم التأثر هذا ἀπάθεια هو هدف المسيحي في جهاده الروحي. فالميت من جهة الخطية يحيا مع الله. كل مَنْ هو ميت عن العالم, هو حي لله: ""كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَاِ "(رو11:6).

الشركة في حياة الله ليست هي فقط إنجاز بشري. إنها عمل مشترك بين الإرادة البشرية ونعمة المسيح: "في يسوع المسيح ربنا". هذه الحياة مع الله تهدف للسمو بواسطة ممارسة الفضيلة والنعمة مع المسيح معيننا.    

الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

ماذا نحن فاعلون أمام الحالة الراهنة ؟


ماذا نحن فاعلون أمام الحالة الراهنة  ؟                             
 د. جورج عوض            

 توجد ثلاثة اجابات :

1- إجابة شائعة فى الحياة اليومية.

2- إجابة تدينية .

3- إجابة مسيحية كنسية .

 الإجابة الاولى  الشائعة عند الانسان اليومى هى الإرتضاء والإستسلام للأمر الواقع . فالحالة الراهنة وفق هذة الاجابة لا يمكن تقويمها او مواجهتها ، إذ تتبنى هذة الاجابة  عبارات مثل : هكذا كان ، هكذا يكون وسيكون ، الانسان لن يغير شيئاً ...... والامر الوحيد الذى نفعلة هو أن نتكيف مع كل شىء بأن نُجّمِل ونستعذب المرض والموت ونتحمل الاستغلال بشتى المجالات سواء مالية واجتماعية وسياسية. هذا الموقف الذى تتبناه هذة الاجابة هو مضاد للمسيحية وغير مقبول.

 نفس الامر مع الاجابة الثانية التدينية والتى تتبنى تغييب الانسان ليصل لمرحلة عدم الاحساس تجاه المعاناه ، إنطلاقاَ من الرضى التام بمبدأ ان الطبيعة البشرية غير قابلة للشفاء والانظمة الاجتماعية والسياسية العلمانية هى فاسدة وغير قابلة للأصلاح . الانسان المتدين يطلب ملجأة من التاريخ ، يتحصن بتعاطية الافيون الدينى او الميتافيزيقى لكى ينسى ألمه ويظل فى حالة غيبوبة تامة لا ينفعل ولا يشعر بمعاناة اخيه فى الانسانية وجاهل تماما لمآسى التاريخ حتى يبقى هذا التاريخ الماضيوى فردوس يلجأ اليه دائماً.

أما الاجابة الثالثة المسيحية والكنسية تختلف جذريا عن الاجابتين السابقتين . فالكنيسة بايمانها المستقيم ترفض الرضى بالامر الواقع وترفض التعاطى مع التدين كتغييب عن الواقع . الكنيسة ليس لديها هدف أن تسود على عالم الفساد بل أن تُغيره وتقوده إلى عدم الفساد. ليس مهمتها هو صيانة وحفظ العالم كما هو عليه بل مهمتها هي تجديده. الكنيسة هي المكان الذي فيه يتجدد كل العالم بنعمة الروح القدس. الكنيسة هي العالم الجديد، الخليقة الجديدة والمجتمع الجديد.

الكنيسة لا تخلص العالم فارضة عليه مبادئها ، بل تأخذه إلى الخليقة الجديدة . إن دورها ليس تجريدي وترميمي بل تغييري وتجديدي . إنها لا تقدم نظام سياسي خاص بها ولا تعليم إجتماعي تتبناه ولا تنحاز لنظام أخلاقي معين بل تقدم الإنسان الجديد ، تقدم المسيح والمحبة التي أعلنها بمجيئه إلى العالم لكي يجد كل واحد ذاته وحياته الحقيقية . روح وفكر الكنيسة وحياة أعضائها الروحية هي قوة يمكن أن تغير العالم كله .

 فالانسان المسيحى ينبغى علية أن يقاوم الشر لأن العالم يمكن أن يتغير وينبغى ان يتغير ، أن يمر من حالة العدم الى حالة الوجود الحسن ، من حالة الفوضى الى الخليقة الجديدة . هذا يعنى ان الانسان المسيحى يتغير ويتجدد داخلياً وجوهرياً ثم يغير الانسانية المحيطه به ، يحول الظروف وينير الاذهان والضمائر ويشارك اخوته فى الانسانية فى آلامهم ومشاكلهم وقلائقهم مترفقاً بضحايا التاريخ مجاهداً معهم ليستردوا حقوقهم وحريتهم وسلامهم وحياتهم . لكن كيف يحقق الانسان المسيحى هذا الامر؟ تطرح علينا الكنيسة حلا : تُظهِر لنا الكنيسة حياة شخص تاريخى معين ، شخص المسيح . المسيح الذى تألم اكثر من أي أحد منا فى كل حياته : وُلِدَ فى ظروف بائسة ، عاش حياة متواضعة جدا ، مات بأسوء طريقة ، أُسىء فهمه من اقرب الناس اليه ، عانى الامرين من السلطة الدينية اليهودية والسلطة السياسية الرومانية ، إلتف حولة كل المهمشين والمنبوذين فى مجتمعه : الزناة والعشارين ومات على الصليب مع لصوص ، لكن فى النهاية قام من بين الاموات وانتصر على الموت بالموت .

ماذا يعنى كل هذا ؟؟؟

هذا يعنى ان الانسان ليس بعد بمفردة فى آلامه بل له رفيق : الانسان الاله المتألم . وبفضل المسيح ليس لدى الانسان واحد فقد بل رفقاء كثيرين هم الكنيسة التى هى جماعة المتألمين والشهداء والقديسيين والمعترفين والنساك . والسؤال الذى يفرض نفسه ايضا هو متى ينتصر الانسان المسيحى على الشر انتصاراً نهائياَ ؟؟؟؟ هذا الانتصار النهائى سيتم فى نهاية التاريخ بمجىء المسيح الثانى ، لذلك آخر عبارة فى سفر الرؤيا هى : " تعال ايها الرب يسوع " وهى صرخة رجاء وليست صرخة يأس . المسيح فى مجيئه الثانى سوف يأتى لكى يدين ويخلص خلاصا نهائيا ، لن يخلص ان لم يدين ، ويدين فقط لكى يخلص . سيدين ليس لمجرد ان ينتقم ولكن لكى يُنصف ضحايا التاريخ ، هكذا لن يفوز الجلاد بضحيته . الانسان المسيحى يعرف جيدا انه سيموت مثل كل اخوته فى الانسانية ، لكنه يعرف ايضا انه فى النهاية سيحيا البار والذى غالبا يكون ضحية من  ضحايا التاريخ . المسيحى يدرك جيدا مسألة سيطرة الشر فى العالم وان الشر يبدو انه يكسب كل المعارك ، الا انه سوف يخسر المعركة الاخيرة ، فالنصرة للحياة على الموت . الايمان المسيحى هو تاريخى اى ايمان يجتاز الواقع ويتخطاة أٌ خرويا ، فهو يفسر الحاضر تحت نور المستقبل الآتى . هذا التخطى للتاريخ لا يعنى رفض الواقع أو إلغاءة بل تجلى الواقع وتغيرة وتجديدة . هذة هى رسالة المسيحية التى لا تلجأ للماضى لتتحصن به ولا لديها تشريعات لتفاصيل الحياة اليومية تطبقها بطريقة حرفية وعمياء لكن هى رسالة تجديدية للحياة والتاريخ ، رسالة ابداعية وخلاقة . غير ذلك تظل هذة الرسالة مجرد أحد مقتنيات الآثار.    

 

الأحد، 9 سبتمبر 2012

المسيحية ليست ديانة












10ـ الأرثوذكسية ( المسيحية ) ليست ديانة
الاب رومانيدس عن كتاب أصدره بعد نياحته الأب جورجيوس ميتالينوس بعنوان: اللاهوت الآبائي، وهو بمثابة مجموعة مقالات قد تركها الأب رومانيدس في مكتبه – ترجمة عن اليونانية  د جورج عوض إبراهيم
                 كثيرون يعتقدون أن الأرثوذكسية هي ديانة مثلها مثل ديانات كثيرة والتي لها إهتمام أساسي هو إعداد أعضاء الكنيسة للحياة بعد الموت, أي تضمن مكان الفردوس لكل مسيحي أرثوذكسي. هكذا أُعتبر أن العقيدة الأرثوذكسية تقدم ضمان للمنضمين إليها, لأنها أرثوذكسية وعلى النقيض المرء الذي لا يؤمن بالعقيدة الأرثوذكسية, سوف يذهب إلي الجحيم, فيما عدا لو أرسلته خطاياه الشخصية إلي هناك.
             إن الأرثوذكس المسيحيين الذين يؤمنون بأن هذا هو مفهومهم عن  الأرثوذكسية, هؤلاء يربطون إرتباطاً حصرياً بين الأرثوذكسية والحياة بعد الموت. وهؤلاء لا يفعلون أموراً كثيرة في هذه الحياة, بل ينتظرون الموت, لكي يذهبوا إلي الفردوس مستندين على أنهم كانوا على قيد الحياة مسيحيين أرثوذكس!
توجد مجموعة أخري من الأرثوذكس نشيطة في الكنيسة ومهتمة ليس بالحياة الأخري بل تنشغل بالأساس بهذه الحياة الحاضرة. أي عن كيف سوف تساعدهم الأرثوذكسية لكي يحيوا حياة حسنة في هذه الحياة. مثل هؤلاء المسيحيين الأرثوذكس يصلون لله ويلحون علي الكهنة لكي يصلوا ويقدموا توسلات وطلبات لكي يساعدهم الله علي أن يقضوا حياتهم الحاضرة على ما يرام, حتى لا يمرضوا, ولكي يصير أولادهم صالحين وأن يدبر لبناتهم زيجات سعيدة وحسنة, وأولادهم الذكور يجدون فتيات جميلات ومن أُسر غنية للزواج, وكذلك أعمالهم تسير كما يجب والتجارة التي يعملون بها تسير بطريقة حسنة, وأيضًا صناعاتهم أو البورصة التي يودعون فيها أموالهم تكون على ما يرام. هنا نري أن هؤلاء المسيحيين لا يختلفون كثيرًا عن مؤمني الديانات الأخري الذين يفعلون نفس هذه الأمور.
هكذا يري المرء ـ من كل ما سبق ـ أن النظرة التدينية  -  لديها علامتين "مشتركتين " مع الديانات الأخري:
الأولي: إعداد المؤمنين للحياة بعد الموت, حتى يذهبوا إلي الفردوس, كما يعتقد كل واحد, الثانية: تحرص علي أن لا يمر المسيحيين في ضيقات وإضطرابات وأمراض وحروب...الخ. في هذه الحياة, فالله ينظم كل شيء حسنًا، كل إحتياجاتهم أو رغباتهم. هكذا بالنسبة لهؤلاء, الديانة تلعب دورًا عظيمًا في هذه الحياة وحسنًا في حياتهم اليومية.
أيضًا مَنْ مِن كل المسيحيين يبالي بمسالة أن الله موجود أو غير موجود؟ 

 بالنسبة لهؤلاء لم يفترض موضوع هل يوجد الله أم لا, طالما من الأفضل أن يوجد الله لكي نستطيع أن نستدعية ونطلب منه أن يرضي إحتياجاتنا حتى تصير أشغالنا على ما يرام ونوفق في هذه الحياة.
هنا نري أن الإنسان لديه إتجاه قوي لأن يوجد الله وان يؤمن الانسان بأن الله موجود, لأنه فقط في إحتياج لوجود الله, لكي يضمن له كل ما قلناه. وبما أن الإنسان يحتاج لأن يوجد الله, إذن الله موجود!
لو أن الإنسان ليس لدية إحتياج لله وكان في إستطاعته توفير كل ما يحتاجه في هذه الحياة بطريقة أخرى, عندئذٍ لا يعرف المرء كم من الناس سوف تؤمن بالله.
هكذا نري, أناس كثيرين, بينما قبلاً كانوا غير مبالين بالديانة, وبنهاية حياتهم, يتدينون, بعد أن حدث أمر ما أخافهم. لأنه لم يكن في إستطاعتهم أن يحيوا بدون أن يستدعوا إله لكي يساعدهم من إعتقاد خرافي. لأجل هذه الأسباب, طبيعة الإنسان تساعدة أن يتدين. هذا لا يسري فقط علي المسيحيين الأرثوذكس, يسري علي المتدينين في كل الأديان. دائمًا طبيعة الإنسان هي هي. هكذا الإنسان بعد سقوطه ـ بحسب الطبيعة هو مظلم ـ بخلاف الطبيعة يميل تجاه الخرافة.
الآن السؤال الذي يتبع هذا, هو: أين تتوقف الخرافة وأين يبدأ الإيمان الحقيقي؟
للآباء مواقف وتعاليم واضحة علي هذه المواضيع.

 الإنسان الذي يعتقد أنه يتبع تعليم المسيح بمجرد الذهاب كل أحد إلي الكنيسة, ويتناول بإنتظام ويستخدم الكهنة لكي يعملوا له تقديس وصلوات...الخ بدون أن يتعمق في كل هذا باقيًا علي حرف الناموس وليس علي روح الناموس, هل  يستفيد بالحري من الأرثوذكسية؟
 ايضا واحد آخر يصلي حصريًا للحياة الاخرى لأجل ذاته وللآخرين ولا يبالي تمامًا بهذه الحياة, هل هذا أيضًا يستفيد بالحري من الأرثوذكسية؟ 
ربما الإتجاه الأول يمثله كاهن الكنيسة وكل الذين يجتمعون حوله بالروح السابقة وإتجاه آخر يمثله شيخ في دير, عادةً أرشمندريت علي المعاش وينتظر الموت, مع بعض الرهبان حوله.
طالما الإتجاهين ليس هما متمركزين حول التطهير والإستنارة, من منظور آبائي, هما إتجاهان خاطئان من جهة الهدف. لكن طالما هما متمركزين حول التطهير والإستنارة ويطبقا التربية النسكية الأرثوذكسية الآبائية للصلاة الذهنية, عندئذٍ فقط الأمور تُوضع فوق قاعدة مستقيمة. هذان الإتجاهان هما مبالغ فيهما إلى حد التطرف. ليسا لديهما محور. المحورالمشترك الذي يميز الأرثوذكسية ويحفظ إستمراريتها, المحور الواحد والفريد فوق كل المواضيع التي تنشغل بها والذي يضعها دائمًا فوق قاعدة مستقيمة, هو: تطهير ـ إستنارة ـ تأله.
الآباء لم ينشغلوا عن ماذا سوف يحدث للإنسان بعد الموت, لكن ذاك بالحري الذي كان يشغلهم هو ماذا سيصير الإنسان في هذه الحياة. بعد الموت لا يوجد شفاء للذهن, عندئذٍ يجب في هذه الحياة يبدأ الشفاء لأنه "في الجحيم لا تكون توبة". لأجل هذا، التعليم الأرثوذكسي لا هو يتعالي علي هذا العالم ولا هو عِلم الإنشغال بالمستقبليات ولا بالأخرويات, بل هو تمامًا يخص هذا العالم الحاضر. لأن إهتمام الأرثوذكسية هو الإنسان في هذا العالم, في هذه الحياة, ليس بعد الموت.
الآن التطهير والإستنارة لأي سبب نحتاجهما؟

 لكي يذهب الإنسان إلي الفردوس ويهرب من الجحيم؟
لأجل هذا نحتاجهما؟
 في ماذا يتآلف التطهير والإستنارة ولأي سبب يهتم بهما الأرثوذكس؟
 لكي يعطي المرء إجابة علي هذا السؤال, يجب أن يملك المفتاح الأساسي الذي هو الآتي: كل الناس علي الأرض لديهم نفس النهاية من المنظور اللاهوتي الأرثوذكسي. سواء هو ارثوذكسى أو بوذى أو أي إنسان علي الأرض, هو مُعَيّن مسبقًا لرؤية مجد الله. سوف يري مجد الله أثناء النهاية العامة للبشرية في مجيء المسيح الثاني. كل البشر سوف يرون مجد الله, ومن هذا المنظور لهم نفس النهاية. الكل سوف يرى مجد الله, لكن بإختلاف: المخلَّصون سوف يرون مجد الله كنور حلو ورائع, أما الأشرار سوف يرون مجد الله ذاته كنار سوف تحرقهم. الكل سوف يري مجد الله, أنه حدث حقيقي ومرعب. سوف يرى المرء الله, أي مجده, ونوره, هذا هو الشيء الذي سوف يصير سواء اردنا أم لا. لكن معايشة هذا النور سوف تكون مختلفة عند هؤلاء عن أولئك، عندئذٍ عمل الكنيسة والكهنة ليس أن يساعدوننا لكي نري هذا المجد, لأن هذا سوف يصير علي أي حال. عمل الكنيسة هو كيف سيرى كل إنسان الله. ليس ما إذًا كان سيري الله, بمعني عمل الكنيسة هو أن تكرز للناس بأنه يوجد الله الحقيقي, أن الله يُعلَّن سواء كنور أو كنار حارقة, أن كل البشر في المجيء الثاني للمسيح سوف يرون الله, وعليها أن تُهيء أعضائها, لكي يروا الله ليس مثل نار بل مثل نور.
إعداد أعضاء الكنيسة هذا, كذلك أيضًا كل الناس الذين يريدون أن يروا الله كنور, هو رسالة تتطلب في جوهرها تربية شفائية والتي يجب تبدأ في هذه الحياة. يجب في هذه الحياة يصير الشفاء ويُتمم. لأنه بعد الموت لا تكون توبة. هذه التربية الشفائية هي جوهر أيضًا المحتوي الأساسي للتقليد الأرثوذكسي كإهتمام أساسي للكنيسة الأرثوذكسية. يتآلف ويتكون من المراحل الثلاثة الروحية: التطهير من الشهوات والإستنارة بواسطة نعمة الروح القدس والتآله بواسطة نعمة الروح القدس. يحدث أيضًا الآتي: لو لم يصل المرء علي الأقل لحالة إستنارة جزئية في هذه الحياة, فإنه لن يستطيع أن يري الله كنور ولا في هذه الحياة وأيضًا ولا في الحياة الأخري.
هكذا من الواضح أن آباء الكنيسة يهتمون بالإنسان . وذاك الذي يحتاج للشفاء هو كل إنسان، فكل إنسان لديه أيضًا المسئولية أمام الله أن يبدأ هذا العمل اليوم, في هذه الحياة, لأنه في هذه الحياة يستطيع وليس بعد الموت وهذا الإنسان ذاته هو ذاك الذي سوف يقرر إن كان سيتبع طريق الشفاء هذا أم لا.
قال المسيح "أنا هو الطريق" (يو6:14). الطريق تجاه ماذا؟ ليس فقط تجاه الحياة الأخري. المسيح هو اولا الطريق في هذه الحياة. المسيح هو الطريق تجاه أبيه وأبونا، المسيح يُعلّن للإنسان أولاً في هذه الحياة ويُظهِر له الطريق إلي الآب. هذا الطريق هو المسيح ذاته. لو أن الإنسان لا يرى المسيح في هذه الحياة علي الأقل بالإحساس الذهني, سوف لا يرى الآب, أي نور الله ولا في الحياة الأخرى.

الجمعة، 7 سبتمبر 2012

الله كما تعرفه الكنيسة



الله كما تعرفة الكنيسة د جورج عوض إن الله فى الإعلان الكتابى يعلن عن نفسه للبشر ، فحركة الإعلان أتت من أعلى إلى أسفل وليس العكس ، والله ليس موضوع قابل للفحص والإثبات، ولكن يعلن نفسه للإنسان ، ولو فهم الإنسان الله وتصوره بمعايير بشرية تحول الله إلى وثن وصنم ، فالله غير مصنوع من نتاج أفكارنا البشرية ، فالإنسان خُلق على صورة الله وليس العكس . الإله الحقيقى للكتاب المقدس والكنيسة هو الله (السر) أى الذى يعلن عن نفسه باستمرار للإنسان ولا يُستنزف إطلاقًا ، فكلما ظن الإنسان أنه عرفه، ينتابه شعور ويقين أنه مازال على الأبواب ولم يدخل بعد ، إنه " بحر سباحة لا يُعبر " كما رآه حزقيال ، وبهذا المعنى هو البعيد جدًا وفى نفس الوقت هو القريب الذى يملأ الكل ، وموجود فى كل مكان حولنا وداخلنا . وهو كائن ليس كغلاف جوى أو قوة غير مشخصة، ولكن بطريقة شخصية ، أى أن الله يعلن نفسه للإنسان كشخص، صانعًا علاقة محبة بينه وبين الإنسان الله لا يُقارن بأى شئ وهو فوق كل شئ ، لذلك يستخدم الكتاب صور مقربة وتعابير بشرية عن الله وهى بالتأكيد غير كافية لكى تعبر عن تنزيه الله ، إذ هو " منزه عن أى وصف بشرى " لذلك فإن اللاهوت فى أغلبه يُعبر بطريقة سلبية عن الله كما فى القداس الغريغورى : " مستحق وعادل । مستحق وعادل । مستحق وعادل । مستحق بالحقيقية وعادل । أن نسبحك ونباركك ، ونخدمك ، ونسجد لك ونمجدك ، أيها الواحد وحده الحقيقى ، الله محب البشر ، الذى لا يُنطق به ، غير المرئى، غير المحوى، غير المبتدئ ، الأبدى، غير الزمنى ، الذى لا يُحد ، غير المفحوص، غير المستحيل ، خالق الكل ، مخلص الجميع ، هذا يعنى أننا لكى نقترب من الله السر يستلزم دائمًا تغييرًا للفكر (التوبة)، الذى هو تغيير داخلى مستمر فى الفكر لكى نتجاوز كل الصور البشرية، فالاقتراب من الله يتطلب نقاوة للفكر والذهن، وهذا هو سر أوشية الإنجيل التى يصليها جهارًا الكاهن أن يعطينا الله أذانًا للسمع وعيونًا لنرى ، لنستحق أن نسمع ونعمل بالإنجيل ، وفى أوشية أخرى للإنجيل "وافتح حواس نفوسنا، ولنستحق أن نكون ليس فقط سامعين بل عاملين أيضًا بأوامرك المقدسة .. ". وفى بداية قانون الإيمان نقول " نؤمن بإله واحد "، ولا نقول " نؤمن بوجود إله واحد" فالفرق بينهما شاسعًا، كما يؤكد الأسقف الأرثوذكسى كاليستوس. فالصيغة الأولى تؤكد على أنه توجد علاقة شخصية بيننا وبين الله، فعندما أقول أؤمن بك يعنى إننى أحبك وأصنع علاقة معك كشخص ، أما (يوجد فلان) هذا لا يعنى أن هناك علاقة مؤكدة بينى وبينه . فالإيمان بالله ليس هو نتاج تأكيدات منطقية أو هو مجموعة نتائج لمشكلة حسابية ، أن نؤمن بالله ليس هو نتيجة إثباتات نظرية عن وجود الله ، ولكن هو نتاج معرفة حقيقية ومحبة وعلاقة شخصية بينك وبينه، الإيمان دعوة شركة بيننا وبين الله ، فالله يصير موضوع حبنا، وليس موضوع تفكيرنا (أى موضوع إثباتات نظرية)، الله غير قابل للتملك ولكن يصنع شركة مع كل المخلوقات لأنه هو سر حياة كل الخليقة ، والموت لأى كائن هو انقطاع العلاقة بين الكائن والله . إن كل مخلوق هو ظهور إلهى (ثيؤفانيا)، والمسيحى هو الذى يرى الله فى كل شئ ، لذلك فالمزمور يقول "السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ". إذن الكون والبيئة المحيطة والطبيعة وكل شئ حامل للإعلان الإلهى ، فكلها مقدسة لأن سر وجودها يكمن فى هذه الشركة والعلاقة بينها وبين الله، وعلى الإنسان أن يرى الخليقة فى هذا الإطار، فالخليقة حاملة للإعلان الإلهى ، هى ظهور إلهى، والتعامل معها يكون من هذا المنطلق، فهى خليقة الله وفى علاقة دائمة معه، لأنه هو سر حياتنا، فالإساءة إليها إنكار لقدسيتها وتجاهل أنها تحمل ختم الله . نستخلص من كل ما سبق أن إيماننا بالله، إنه شخص يعنى أنه يصنع علاقة معنا ومع كل الخليقة ، وانقطاع العلاقة يعنى الموت لأنه هو سر الحياة لهذا الكون ، والخليقة التى تحمل هذه العلاقة هى مقدسة بهذا المعنى، والتعامل معها دائمًا من هذا المنطلق . الله الثالوث إننا نؤمن بإله واحد، وفى نفس الوقت نؤمن بثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس . الله ليس واحد فقط ولكن وحدة بين ثلاثة أقانيم . وعبارة " الله محبة " لا تُفهم إلاّ فى إطار الثالوث، لأن الواحد لا يستطيع أن يحب ما لم يكن هناك آخر ، وهذا هو تعريف الشخص ، فالشخص يصنع علاقة ، أما الواحد والفرد فهو منعزل ومركزه الأنا. فالمحبة لا تُوجِد فى الانعزال ولكن تستلزم الآخر. فالثالوث يعلن أن الله محبة، والثالوث كما قال فلاديمير لوسكى " هو صليب لطرق التفكير البشرى " ، إذ يتطلب تغييرًا جذريًا، أى تغيير حقيقى للفكر "الذهن " والقلب ، لأن الإنسان فى سقوطه يفكر بطريقة فردية، أى بمركزية الأنا ولا يستطيع أن يستوعب ويدرك أن الله محبة، إلاّ إذا لم يكن فى حالة تغيير مستمر ذهنيًا " تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم " . إن شارلز وليامز فى روايته " النزول للجحيم " يقول إن محبة نفوسنا هى الجحيم لأن محبة نفوسنا تضع النهاية لأى فرح وأى معنى . الجحيم ليس الآخرون، كما يدعى سارتر، ولكن الجحيم هو نفوسنا عندما تكون منفصلة عن الآخرين ومحصورة فى الأنا । إذن، سلوكيات الإنسان الساقط (الفرد) دائمًا متمركزة حول الأنا ، هو لا يصنع علاقة، ولكن يريد أن يمتلك الآخر سواء كان إنسان مثله أو شئ । بهذا المعنى عندما يتعامل الفرد مع البيئة المحيطة ، يتعامل معها بأسلوب التملك ، يريد أن يمتلكها ويستغلها لنفسه بغض النظر عن الأضرار التى يسببها للبيئة وللآخرين، لأنه يعيش لنفسه । هذا الكلام يسرى على الأفراد وعلى الدول فى فرديتها وأنانيتها، والمطلوب أن يتحول الفرد إلى شخص لكى يتعامل مع الآخر صانعًا علاقة شركة حوارية وليست إحتلالية . الله الخالق لقد خلق الله العالم من عدم أى بدافع المحبة ، فلا يوجد شئ يجبر الله على خلق الإنسان والكون । والخلق لا يعنى أن الله حرك العالم بحركة أولية وترك الكون يعمل بقوانين معينة ، فالله ليس " ساعاتى" لهذا العالم ولكن الخلق ديناميكى ومتحرك ومازال الله يعمل "أبى يعمل" فالعالم يعتمد اعتمادًا كليًا على الله । لم يتوقف الله أن يكون خالق لهذا الكون ، هو موجود فى قلب كل شئ " فيه يقوم الكل " ، والقداس الكيرلسى يقول : [ يا خالق البرية ، ما يُرى وما لا يُرى ، المعتنى بكل الأشياء لأنها لك يا سيدنا محب الأنفس ॥ ] . فالله خالق كل شئ ، ولم يكتفِ بذلك بل يعتنى بكل الأشياء لأنها خليقته. فالخلق ليس حدث قد تم فى الماضى ، ولكن هو له علاقة فى الحاضر، لو أن الله لم يستمر فى الخلق ولو للحظة واحدة لصار الكون عدمًا . الخليقة لا تستطيع أن تنفصل عن خالقها ولو للحيظة (أى جزء من الثانية) لأن فيه يقوم الكل ، لذا كل خليقة الله حسنة وجيدة ولا توجد ثنائية غنوسية أو مانوية والتى تنادى بوجود إلهين، واحد للخير وآخر للشر . لا توجد عداوة بين المادة والروح أو بين الجسد والروح ، أساس ما علَّمنا به الكتاب المقدس عن طبيعة الإنسان أن الإنسان لا يمكن أن يُدعى فقط نفس ، ولا فقط جسد ، ولكن الاثنين معًا كما يشرح القديس كيرلس الأسكندرى . عندما نتكلم عن " الجسد " بطريقة سلبية أى تحط من شأنه مثل تعبير " حياة جسدية "، نقصد الإنسان فى حالة سقوط وليس الجسد فى حد ذاته . وبكلمة روحى لا نقصد النفس ولكن الإنسان " جسدًا ونفسًا " فى حالة شركة مع الله . إن صراع الإنسان المؤمن ليس ضد الجسد فى حد ذاته، ولكن ضد سلوكيات جسدية لها جذورها فى الأنا ونتائجها المدمرة للإنسان والطبيعة . الآباء كانوا ضد تعاليم الغنوسية عن الجسد الإنسانى ، الذى كان فى نظرهم نتيجة للسقوط ، متأثرين بالأفلاطونية التى كانت تعتبر أن الإنسان خلق روحًا، وعندما سقط حبس فى الجسد كعقاب له، وأيضًا المانوية التى كانت تعتبر أن الجسد أو المادة هو من خالق الشر، لكن الكنيسة تمسكت بتعاليم الكتاب لأن " الكلمة صار جسدًا" (يو1)، فاللوغوس لم يكن فكرة أو صياغة مجردة نظرية أو فلسفية ، ولكن اللوغوس هو الخالق، شخص الذى صار له وجود جسدى ومادى والذى شارك طبيعتنا ، وبهذا المعنى، لم يُعلِّم الكتاب بأن الإنسان مقسم إلى عنصر روحى وعنصر جسدى ، لكن الإنسان هو روح وجسد ، ولا يوجد بينهما انفصال ولكن وحدة ، ولا توجد أفضلية نوعية بين الروح والجسد ولا اختلاف جوهرى بينهما ، لذا المادة تقدست بالتجسد ، ونحن نتحد به بواسطة سر الإفخارستيا (الخبز والخمر يصيران جسد ودم الكلمة المتجسد). وفى المعمودية، الماء يصير وسيلة لنقاوة الجسد والنفس ، فالمادة ليست عدو لنا ، ولكن تقدست . إن بقايا أجساد القديسين تظل مصدر قداسة لنا ـ القيامة ستكون قيامة أجساد وتجلى لكل الخليقة المادية ، إن جسد الإنسان هو هيكل للروح القدس (1كو19:6) . وفى الخلق أتت الحياة من المادة ، الله أخذ ترابًا من الأرض ونفخ فيه نسمة حياة وخلق الإنسان ، وبولس الرسول يعلن أن كل خليقة الله صالحة (1تى4:4) . لقد أحب الله كل ما صنعته يداه، وبحسب الأسقف كاليستوس وير " يجب أن نتكلم عن الله لا كصانع (خالق) ولكن الله العاشق ، فهو حقًا يعشق ويحب الإنسان والكون حبًا لا حدود له " . الله هو مدبر الخليقة ، والعالم ـ بحسب الآباء ـ هو مكان الله ، لأنه المكان الذى يعلن الله فيه عمله (يوحنا الدمشقى) .