الأحد، 14 أكتوبر 2012

طبيعة وفعل الكلمة الكتابية عند الآباء


طبيعة وفعل الكلمة الكتابية عند الآباء
                               د.جورج عوض إبراهيم

لا نتعرف ـ في كتابات الآباء[1] ـ على الرأي الذي يتبناه البعض بأن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد الذي يحتوى على وصف دقيق للحقائق الأزلية الإلهية وللوصايا والعقائد التي تشمل كل الإعلان الإلهى، أى ما يُسمى بكفاية الكتاب المقدس الذي يحتوى على كل الإعلان الإلهى للبشر. هذا الرأى يحول الكتاب المقدس إلى نص له كفاية في حد ذاته، وإلى "أرشيف" محفوظ فيه كل شئ ومعيار وحيد صارم للمعرفة، ويهمش التقليد الكنسى. والأمر المؤكد هو أن الكتاب المقدس يحتوي على رسالة الخلاص كاملة، أي ما يُسميه الآباء: تدبير الخلاص، لكن الأمر الذي يتساوى في الأهمية هو تفسير النصوص تفسيرًا صحيحًا، نحن نتحدث عن تفسير النص الكتابي وكيفية تحقيق ما يخبرنا عنه هذا النص من عطايا خلاصية.

يجمع كل الكُتاّب الكنسيين على أن وحي الكتاب المقدس يخص جوهريًا الأمور المعلنة والحوادث الشاهدة على التدبير الإلهى والتي قد أتمها الله، وأيضًا على الصياغة الكتابية الشاهدة للإعلان الإلهى. إن الصياغة الكتابية هى متوافقة تمامًا مع هذه الحوادث، ولكن هى أيضًا تعبير بشري وتاريخى للإعلان الإلهى، والذي بالتأكيد يتجاوب بطريقة إمتثالية مع الإلهام الإلهى في هذه الحوادث التي تعلنها هذه الصياغة الكتابية. هذا "التوافق" بين الحرف والأمر المعلن يمثل طبيعة الكتاب المقدس الملهمة وبالطبع يحدد طريقة تفسيره. نتيجة لذلك فإن الكتاب يسرى على الكنيسة كـ "كتاب مقدس" بسبب أنه يهدف إلى "الفائدة" أى إلى امتثال حياة المؤمنين بالمسيح. هذه "الفائدة" هى هدف الكتاب المقدس وليس فقط مجرد الإنباء عن حوادث أو أشخاص يؤرخ لهم. بهذا المفهوم، ينبغى أن نفهم التقليد المعتاد عند كليمندس وأوريجينوس وفيما بعد الآباء الذين أتوا بعدهما ـ بأن لا يوجد حرف في الكتاب المقدس بلا فائدة. لذا فإن الكُتاب الكنسيين قد استخدموا كل المناهج التفسيرية اللغوية المعروفة في عصرهم، وكما كانت موجودة في الأسكندرية وغيرها قبل الأزمنة المسيحية.
 ونذكر شهادة القديس باسيليوس الكبير والتي تعبر عن مبدأ ثابت للتفسير الآبائى للكتاب: "وإذا كان صمت الغبي يعتبر حكمة" (أم28:17) فما أعظم جائزة المستمع الحكيم الذي أشار إليه النبى في نفس العبارة بالمشير العجيب (إش3:3). مثل هذا المستمع يستحق كل ثقة بل يستحق أن ندفعه إلى الأمام لكى يحقق تقدمًا أكبر، متكاتفين معه في الأتعاب لكى يمضى سائرًا نحو الكمال. والاهتمام بالمصطلحات التي تستخدم في اللاهوت هو أمر يفوق غيره، والمعاناة في سبيل الوصول إلى المعانى الخفية في كل عبارة وكلمة هى الفضيلة التي لا وجود لها في حياة المتكاسلين عن التقوى، بينما هى ما تميز الذين يسعون وراء الجعالة العليا لدعوتنا (في14:3). لأن الغاية التي علينا أن نصل إليها هى أن نتشبه بالله على قدر احتمال الطبيعة الإنسانية. ولكن التشبه بالله لا يكون بدون معرفة والمعرفة لا تأتى بدون دراسة، وبداية الدراسة هى التعليم، والتعليم بالكلمة وأقسام الكلمة هى الألفاظ والحروف، إذن التدقيق في الحروف ليس انحرافًا عن القصد.. "[2].

 وقد سبق للعلامة أوريجينوس توضيح هذه الحقيقة في عظته الأولى على سفر الخروج: "أعتقد أن كل كلمة في الكتاب المقدس تشبه بذرة من طبيعتها أن تنتشر وتتغلغل وتتكاثر، ويُعاد ولادتها ـ أي تثمر سنبلة حنطة أو أي نوع من جنسها، إذا ما أُلقيت في الأرض. وكلما بُذل الجهد والعرق في إنباتها كلما كان تكاثرها سريعًا خاصةً إن كان الزارع نشطًا ومتحمسًا دؤوبًا أو كانت الأرض خصبةً. لهذا حين يكون الزارع نشيطًا فإن "حبة الخردل" الصغيرة مثلاً "التي هي أصغر الحبوب جميعًا، قد تصير أكبر من كل الأعشاب وتصير شجرة تأتي إليها طيور السماء وتسكن بين أغصانها" (أنظر مت31:13ـ32). هكذا الأمر أيضًا مع الكلمة التي قُرئت على مسامعنا الآن من الأسفار الإلهية. وبالرغم مِن أنها تبدو لنا من أول وهلة صغيرة حين ندنو منها، فإنها إن وجدت مزارعًا دؤوبًا نشطًا وحاذقًا، يبدأ في زراعتها وإستصلاحها وتناولها بالمهارة الروحية، فهي تنمو شجرة يافعة تطرح أغصانها وأوراقها النضرة. ويمكن أن يأتي إليها مباحثو هذا الدهر وحكماؤه ومناظروه (1كو20:1) ومثل "طيور السماء" على أجنحة النسور الخفيفة يطلبون الأفكار العالية العسرة بتدفق الكلمات وحدها. وإذ تأسرهم المباحثات، يرغبون أن "يسكنوا في تلك الأغصان" (مت32:13) حيث لا بلاغة في اللغة بل نظام حياة"[3]. 

هكذا فإن المفهوم الحقيقى للكتاب لا يُعرف دائمًا بسهولة من الكل. لأن الحقيقة الإلهية تُصاغ بمساعدة اللغة البشرية والتي تعبر دائمًا عن أمور مخلوقة ومحدودة، وليس إطلاقًا عن الجوهر الإلهى، لذا ينبغى أن يُعتبر الكتاب كـ "إظهار" وإعلان" للإرادة الإلهية[4]. إن الكتاب هو الشهادة الملهمة بالروح القدس عن الإعلان الإلهى، وهو في نفس الوقت المرشد الأمين نحو هذا الإعلان، وبهذا المفهوم هو ـ لدى القديس كيرلس الأسكندرى ـ " الفردوس العقلى"، وعند القديس ذهبى الفم "الكنز" و"النور" الذي يكشف ـ بواسطة أسس روحية للإيمان ـ الإرادة الإلهية وتفعيلها في حياة المؤمنين.

إن الآباء لم يعتبروا أبدًا الكتاب المقدس نصًا عاديًا، لكن بالنسبة لهم هو الظهور الصادق لأمور تخص فائدة الإنسان. أى كل ما كُتب كُتب لفائدة الإنسان في حياته اليومية، وهدف الكتاب هو تفعيل كل الأمور المكتوبة لفائدة المؤمنين فى حياتهم، وهذا يحدث بواسطة أسس روحية إيمانية من جانب المؤمنين وليس تفعيل آلى لمجرد قراءة الصياغة المكتوبة .

هكذا بعض الأسس الآبائية التي سوف نكتشفها من خلال تفاسير الآباء هي الآتي:

1ـ جوهر الإعلان الإلهي هو في حد ذاته غير مدرك ولا توجد كلمة بشرية تعبر عن جوهر الإعلان الإلهي بدقة. بالتالي جوهر الله هو غير مدرك للبشر في كماله ، ومحاولة التعبير عن عمل الله عبر تاريخ الخلاص باللغة البشرية بإلهام الروح القدس هو ما فعله كُتاب الأسفار الإلهية.

2ـ التفسير اللغوي ليس له المرتبة الأولى في عملية التفسير بل الإيمان هو أساس التفسير الصحيح وتأتي بعد ذلك الأهمية اللغوية والتاريخية. والكلمات البشرية هي أيضًا الوسيلة التي نعبر بها عن التفسير الصحيح.

3ـ كلمة الكتاب المقدس تُعلن الفعل التاريخي لمحبة الله للبشر.

4ـ التفسير الكتابي ينمو ويتجدد دائمًا قياسًا بنمو وتجديد الفكر الكنسي عبر الأزمنة دون مساس بمحتوي إيماننا العقيدي الأساسي   

 



[1] Ιωάννου Παναγοπουλου, Ἡ Ερμηνεία τῆς Αγίας Γραφῆς στήν Εκκλησία τῶν πατέρων, Τὁμος Α᾽, Αθῆνα 1991 σελ. 39.
[2]  الروح القدس للقديس باسيليوس (الفصل الأول: فقرة 2).
[3] The Father of the Church, Origen, Homilies on Gensis and Exodus, Translated by Ronald E. Heine, volume 71, P. 227.
[4]   القديس غريغوريوس النيصي، ضد إفنوميوس BEΠEΣ 67,193.

الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

الوحي الإلهي


30ـ  اللاهوت الآبائي : عن الوحي الإلهي περί θεοπνευστίας

           الأب يوحنا رومانيدس – ترجمة د.جورج عوض

ليتنا الآن نذهب إلي موضوع الوحي الإلهي. قد نشأ إنطباع بين البروتستانت والباباويين ( الكاثوليك ) أثر بشدة علي الفكر الأرثوذكسي الحديث, بأن الكتاب المقدس قد أعطاه الله للكنيسة. علي هذا الأمر يتفق الكل, البروتستانت والبابويون والأرثوذكس. بالإضافة إلي هذا يتفق الأرثوذكس والباباويون علي أن الله أعطي أيضًا التقليد المقدس للكنيسة. لقد قَبِلَ بعض من البروتستانت إعادة النظر في مواقفهم تجاه  موضوع التقليد.

لكن اليوم الكنيسة الأرثوذكسية تواجه ظاهرة باراذوكس: في العهد القديم وفي العهد الجديد, وأيضًا في التقليد يتقابل المرء بآراء  علي الأقل منذ 150 عام أظهرها العلم بأنها آراء خاطئة بتقدم البحوث التي كانت في حوذة العلوم الوضعية. هذا بالطبع أنشأ مشكلة خطيرة لواحد لا يدرك إدراكًا صحيحًا ماذا يقصد الآباء عندما تحدثوا عن الوحي الإلهي. هذه المشكلة تخص بالحري دراسة الكتاب المقدس.

في التقليد الغربي الذي كان يتبعه أغسطينوس, الإعلان الإلهي كان يتطابق مع إعلان المفاهيم من جانب الله للإنسان. بالتالي, ليس فقط المفاهيم بل أيضًا الأقوال, أي مصطلحات وكلمات تُصاحب هذه المفاهيم. لكن إذا قَبِلَ المرء هذا الرأي عندئذٍ لدينا وحي الكتاب المقدس بحسب الحرف, والذي فيه يظهر الله لكي يُلقن ويُملي الأقوال والمفاهيم إلي كُتَّاب الكتاب المقدس. لكن تَبني هذا الفكر يؤدي إلي أن الكاتب الجوهري (الأساسي) للكتاب المقدس هو الله ذاته وليس الأنبياء أو الإنجليون.

إذن لأن اللاهوت الغربي كان يتبع هذا الفكر, أفرز مشكلة كبيرة بظهور العلم الحديث الذي غيّر (نقد أو فند) مواقف معينة للكتاب المقدس, علي سبيل المثال عمر العالم, وحينذاك كما لو يظهر أن الله هو كاذب في تلك الأمور التي كان يمليها قديمًا.

الرأي العام الذي ساد عن الوحي الإلهي هو أنه عمل الوحي الإلهي ينحصر فقط في ما قد وُضع في الكتاب المقدس عندما نقول الوحي الإلهي, يأتي مباشرةً إلي العقل الكتاب المقدس, أي الأنبياء والرسل . ولو الآن أحد هو محافظ ( تقليدي  متشدد), سيأتي في عقله أيضًا أي مجمع مسكوني بالإضافة إلي الكتاب المقدس. لأنه بالنسبة لمثل هذا الإنسان أيضًا قرارات المجامع المسكونية هي موحى بها من الله. ولو هو محافظ أكثر, يستحضر في عقله أيضًا آباء الكنيسة. ولو أيضًا أكثر جدًا من الأخير, يستحضر في عقله أيضًا قوانين الكنيسة, حياة الكنيسة الليتورجية, وملابس الكهنوت و...الخ.  هذا الأخير هو محافظ تمامًا.

لكن الذي له الأهمية هو الآتي: الوحي الإلهي قد أُعتبر بأنه يغطي جزء كبير للحياة الكنيسة, إذ لم يكن كل الحياة الكنيسة. بالنسبة للاهوت الأرثوذكسي الحديث يوجد لخبطة شديدة بخصوص هذا الموضوع في ماذا يكون, أي ماذا يعني الوحي الإلهي وأين يكون الوحي الإلهي.

هناك حيث يتفق الجميع ، المسيحيون والأرثوذكس والهراطقة هو أن الكتاب المقدس هو موحى به من الله. أيضًا لم نفحص ماذا يكون الوحي الإلهي, أي إلي أي مدي الكتاب المقدس هو حقًا موحى به من الله. الآن دعونا نتمسك بهذه العبارة: "الكتاب المقدس هو موحى به من الله".

إذن على هذا الأساس يسري هذا المبدأ على كل ما هو مذكور داخل الكتاب المقدس, على سبيل المثال : المسيح وَعَدَ الرسل بأنه سوف يرسل الروح القدس الذي يقودهم "إلي كل الحق" (يو13:16). بالتالي المسيح هو ذاك الذي يرسل الروح القدس وذاك الذي يقود إلي كل الحق.

لكن الآن يفرض سؤال: لمَنْ أعطى المسيح الروح القدس ولمَنْ بالضبط يقود إلي ملء الحق ؟

الباباويون يجيبون ويقولون إن الروح القدس أُعطي منذ البداية للرسل وبواسطة الرسل ونالوه أيضًا كل الأساقفة, عندما يُرسموا وأيضًا فيه يشتركون والكهنة بطريقة ما. هذه القناعة بالنسبة للباباويين تبدو بوضوح في طريقة رسامة أساقفتهم والتي فيها يقولون الأساقفة الراسمون للمرسوم: خذ الروح القدس ! هذا يعطي إنطباع بأن المرسوم قد عاش كل حياته حتى وقت الرسامة بدون الروح القدس الذي يأخذه في تلك اللحظة التي يُرسَّم فيها.

العمل التفسيري للكتاب المقدس هو بلا شك عمل الروح القدس. الروح القدس هو ذاك الذي يقود المفسرين إلي التفسير المستقيم للكتاب المقدس  ، لكن كيف يصير هذا الأمر؟

عادةً في العِلم الطبي, عندما يقولون أن دواء ما يشفي مرض ما, يعرفون, من الأبحاث السابقة كيف يعمل الدواء شفائيًا في داخل المنظومة العضوية. لكل عِلم ،عندما يقولون شيء يحدث, هذا الشيء عادةً يمكن أن يُحدد بدقة.

لكن هنا لينا سؤال: كيف يقود الروح القدس, مَنْ يقودهم وبماذا تتآلف هذه القيادة؟ ذلك الذي يقوله البعض, عندما يقرر مجمع مسكوني شيء, هذا يكون معصوم من الخطأ, لأن المجمع المسكوني هو موحى به من الله...الخ, كما لو أنهم يجبروننا أن نقبل ما يقرره المجمع المسكوني ويكرز به كتعليم معصوم من الخطأ هذا هو الإعتقاد عن عصِمة البابا.

بالتأكيد من الصواب أن مجمع مسكوني هو معصوم, ما يعمله بدون خطأ, وأنه يفيد لإيماننا...الخ. نعم, لكن كيف يصير أيضًا معصوم؟ لماذا هو معصوم؟ لماذا قراراته هي معصومة؟

التعليم اللاهوتي الأرثوذكسي الحديث يتحدث كثيرًا عن الوحي الإلهي. مما قرأته, أرى أنه يتحدث عن الوحي الإلهي, لكن لم يجد وصف لذلك الوحي الإلهي الذي يتحدث عنه. قلنا إن الأرثوذكس والباباويون والبروتستانت يتفقون علي أن الكتاب المقدس هو موحى به من الله. لكن ماذا يعني الوحي الإلهي؟ ولو حُفظ, أين حُفظ؟ لكن سيقول أحد. حسنًا, هل الملهمين بروح الله كانوا فقط الأنبياء والرسل؟ هل بعد الرسل ليس لدينا أناس ملهمين بروح الله؟ ليس لدينا كتابات موحي بها من الله فيما عدا الكتاب المقدس؟ ولو الإجابة بنعم, مَنْ هم هؤلاء الناس الملهمين؟ ولو هم موجودون, كيف نعرف أنهم ملهمين بالروح؟ نحن نعرف أن الأنبياء هم ملهمين بالروح. وكذلك الرسل كانوا ملهمين بالروح. لكن فيما عدا هؤلاء, مَنْ كانوا أو يكونوا الآخرين الملهمين؟ أيضًا ما هي المراحل المختلفة للإلهام, وكيف يُميزوا؟ كيف يُلهمَّ الإنسان من الله وكيف يعرف أن الواحد هو ملهم من الله وليس من الشيطان أو من خيالات؟

عندما قال المسيح أنه سوف يعطي لنا الروح القدس, الذي سوف يقودنا إلي كل الحق, لم يتحدث عن مجامع مسكونية أي لم يقل أن هذا سوف يصير في المجامع المسكونية للكنيسة. هذا يعني أن الجديد عن عصمة المجامع المسكونية ليس موجود في الكتاب المقدس ، لقد قال المسيح ببساطة أن الروح القدس سوف يكون ذاك الذي سوف يقودنا إلي ملء الحق. لكن مسبقًا, قبل هذا, قال أنه لو لديكم محبة فيما بينكم, أنا وأبي سوف نأتي ونسكن فيكم, كذلك أيضًا قال الآن, ترونني لكن فيما بعد لن ترونني. لكن, لو لديكم محبة, أيضًا سوف ترونني. والروح سوف يأتي ليسكن فيكم وسوف يقودكم إلي كل الحق.

كل هذا الذي يقوله المسيح ويُذكَّر في إنجيل يوحنا ويقرأه الكهنة في يوم الخمسين العظيم, لهي فصول أساسية. لكن لماذا هي فصول أساسية؟ صلاة يسوع هذه, صلاة رئيس الكهنة, لماذا لها الأهمية الكبيرة؟ لماذا يصلي المسيح من أجل وحدة الرُسل؟ عن أي وحدة يصلي؟ هل عن وحدة الكنائس؟ ما هي هذه الوحدة؟ هذا "الذي يقودنا إلي كل الحق" عندما يقول المسيح, يقصد داخل إطار معين. ما هو هذا الإطار؟

تجد في فصول 14 حتى 17 من إنجيل يوحنا نمو كامل عن الحالة الروحية للرسل في علاقة مع المحبة ويشيرون إلي ماذا ستكون نتائج المحبة. لكن الشكل الكامل للمحبة يُعلَّن في خبرة التأله. التأله هو الشكل التام للمحبة. بواسطة المحبة التي تنبع من خبرة التأله يصير شفاء تام للإنسان.

هذه المحبة تبدأ في التفعيل, عندما يأتي الروح القدس ويسكن داخل الإنسان, يحمل معه أيضًا الآب والإبن. عندئذٍ يسكن في الإنسان كل الثالوث القدوس. لكن كيف يعرف الإنسان أنه صار هيكل للروح القدس؟ كيف يصير التحقق من هذا؟ الأب الروحي الحقيقي يعرف متى أخذ إبنه الروحي  الروح القدس وصار هيكل للروح القدس . لدينا معايير آبائية معينة بخصوص هذا الموضوع. ما هي هذه المعايير؟

عندما يتحدث المسيح عن إنسكاب الروح القدس علي الكنيسة وعلي المؤمنين لا يتحدث بطريقة مجردة, لا يقصد سوف يرسله إلي كل الكنيسة بشكل عام. ولا أنه بسبب أن الأساقفة والكهنة لديهم تعاقب بالرسامات, سوف تأخذ كل الكنيسة بشكل عام الروح ولا يقصد أنه بسبب رسامة الأساقفة يوجد ضمان بأن الروح القدس سوف يسكن علي الدوام في الإيرارخية. لأنه, ليس وجود الأسقف ضمان أن المجمع يحمل الروح القدس. والبرهان هو أنه كان يوجد أساقفة كثيرون في الكنيسة وأُدينوا بأنهم هراطقة. لو كان لديهم الروح القدس, لكانوا غير ساقطين في الهرطقة. إذن, ليس في رسامة أحد أسقف برهان ولا ضمان بأن الروح القدس يسكن في هذا الأسقف. بالتالي, ليست نعمة الكهنوت التي تقود الكنيسة "إلي كل الحق".

المسيح يتحدث هنا عن شيء آخر ، الآباء يقولون بوضوح أن  المسيح هنا يتحدث عن حالتين. من جانب يتحدث عن الإستنارة ومن جانب آخر يتحدث عن التأله. عندما يقول المسيح ليكون الجميع واحدًا, عن مَنْ يتحدث؟ عن الرسل بالطبع. أي يتوسل إلي الآب أن يصير الرسل "كما أنا وأنت واحدًا" (أنظر يو11:17). لا يقول واحد «εῖς» بل في واحد «ὲν». لكن هل الآب والإبن والروح القدس هم «ὲν» في واحد؟ الإجابة: إنهم متحدون في واحد «ὲν», بحسب المجد (الفعل ἐνὲργειαν) وبحسب الجوهر. المشتراكات τα κοινὰ في الثالوث القدوس هو الجوهر والفعل الطبيعي للجوهر, أي المجد.

وبحسب ماذا يكون الآب والإبن والروح القدس واحد, وكذلك بحسب ماذا أيضًا نحن سنصير واحد, أي بيننا وبين الثالوث القدوس؟ ما هي هذه الصفة المشتركة؟ الإجابة: إنه الواحد بحسب المجد.

بمعني, كما أن الآب والإبن والروح القدس هم واحد بحسب المجد, لأن لديهم مجد مشترك, هكذا أيضًا نحن سنصير واحد, عندما نشترك جميعًا في مجد الله, أي عندما جميعًا, أو كل الذين مِنا صاروا جديرون, يصيرون مشاركين لنعمة الروح القدس, للنور غير المخلوق. لأنه, عندما يُمجَّد الإنسان, عندئذٍ يصير مشارك لمجد الثالوث القدوس غير المخلوق, عندئذٍ يتحد أيضًا بالثالوث القدوس, بل أيضًا بأخوته في الإنسانية هم في تلك اللحظة متحدين وأولئك بمجد الله.

بالتالي الذي يصلي من أجله المسيح في العشاء الأخير, هو أولاً لتطهيرهم, بعد ذلك لإستنارتهم وأخيرًا لأجل تألههم. بالتالي "يقودنا إلي كل الحق" تخص ليس كل الناس بشكل عام, بل بالأخص كل الذين أخذوا مكانًا في خبرة التأله. أي, عندما يصل الإنسان إلي التأله, عندئذٍ فقط ينقاد إلي كل الحق. بالتالي كل الحق (ليس عن العالم المخلوق بل عن الله) يصير معروف فقط في خبرة التأله.

لأن كل الآباء كانت لديهم هذه الخبرة أو خبرة مماثلة, لأنه سواء كانوا في حالة الإستنارة أو كانوا في حالة التأله, لأجل هذا أيضًا كلهم كان لديهم نفس الفكر عن الكتاب المقدس وجميعهم فسروا نفس التفسير في الكتاب المقدس في مراحلة الأساسية ونفس التفسير في نصوص آباء الكنيسة الآخرون.

ماذا تستنتج من كل ما ذكرناه؟ هل الذين هم موجودون في حالة الإستنارة أو التأله, هؤلاء هم الملهمين بروح الله أم غير ملهمين؟ الأجابة: هؤلاء بالطبع هم ملهمين بروح الله. لأن الوحي يعني ماذا؟ يعني أن يكون الشخص مُلهم من الله. العكس هو أن يكون الشخص مُلهم من الشيطان والشياطين.

الشكل الأسمى للإعلان الإلهي فيما يخص الوحي, كان ذاك الذي يحدث للرسل في يوم الخمسين. إذن مفتاح التعليم اللاهوتي الأرثوذكسي فيما يتعلق بالوحي هو يوم الخمسين πεντηκοστὴ η. لو أستطاع أحد أن يدرك أهمية يوم الخمسيين للتقليد الآبائي, عندئذ علي الأقل سوف يعرف ما هو التعليم اللاهوتي وماذا يكون اللاهوتي. مثلما لا يحتاج المرء لطبيب لكي يعرف ماذا يكون العِلم الطبي وماذا يكون الطبيب ، بنفس الطريقة يمكن أن يعرف ماذا يكون التعليم اللاهوتي, مَنْ هو اللاهوتي ومَنْ هو المُلهم بدون أن يكون هو ذاته لاهوتي أو مُلهم.