الخميس، 26 سبتمبر 2013

القديس إغناطيوس


أوراق تحضيرية 

 

 


القديس إغناطيوس

حامل الإله

    د. جورج عوض إبراهيم

حياته:

   إن رسائل إغناطيوس هي بمثابة المصادر الوحيدة لمعرفة سيرة حياته. ولأن هذه النصوص ليست تاريخية وسيرة ذاتية له فإننا نعرف القليل عن كتابتها من يوسابيوس المؤرخ. كان إغناطيوس ثاني أسقف على أنطاكية. بدأت أسقفيته من سنة 70م. معرفته بالرسل هي مؤكدة. المناخ الذي وُلِدَ فيه وترعرع هو يوناني، كما تشهد بذلك فصاحة لغته في رسائله. نصوص إغناطيوس لا تبين فقط مدى تربيته الحسنة بل وموهبته القيمة في الكتابة والشعر. في أنطاكية، كانت في وقت ذاك بلد ليس لها أهمية كبيرة تقع على الحدود بين تركيا وسوريا وتخضع الآن لتركيا، وتعَرف إغناطيوس على تيارات عصره الثقافية والدينية. في أي سنة صار أسقفًا؟ لا نعرف. لكن بالتأكيد سيادته الروحية وتأثيره تخطى حدود أنطاكية وإمتد إلى كل سوريا. وهذا يبدو من الثقة العظيمة والإحترام المتناهي الذي أظهره في آسيا الصغرى وروما تجاهه. نحن إذن أمام أسقف له مصداقية مسكونية.

   قُبض على إغناطيوس أثناء الإضطهاد في عصر الإمبراطور تراجان (107ـ117م)، أُقتيد إغناطيوس إلى روما بصُحبة جنود قد وصفهم في رسالته إلى رومية، قائلاً: { من سوريا حتى رومية، في البر والبحر، في الليل والنهار، وأنا أصارع الوحوش، ضد عشرة فهود كانت تقيدني بقيودها، أي ضد جنود كانت ضراوتهم تزداد شراسة كلما أزدادت ملاطفتنا لهم. إن معاملتهم السيئة كانت مدرسة أتتلمذ عليها "لست لهذا أتبرر" 1كو4:4} إلى رومية1:5.

   ويعلن إغناطيوس أنه غير خائف من الإستشهاد صارخًا: " لا شيء يمنعني عن المسيح" ويترجى المؤمنين بأن يتركوه وشأنه، قائلاً: " أرجوكم أن تتركوني وشأني أني أعرف ما يوافقني، لقد إبتدأت أن أكون تلميذًا للمسيح. لا يحاولن أحد من المنظورين أو غير المنظورين أن يمنعني من الحظوة بالمسيح. لا شيء يمنعني. فلتسقط النار، ولتعملوا فيَّ تمزيقًا وليقطعوني قطعًا وليشتتوا عظامي ويبتروا أعضائي وليطعنوا جسدي ولتزحف قطعان الوحوش وعذابات الشيطان الشريرة" (رومية 3:5).

   يؤكد إغناطيوس على رغبته الشديدة للإستشهاد (استشهد في روما في 21ديسمبر سنة107م). لكي يقدم جسده قربانًا لله: " إتركوني فريسة للوحوش. إنها هي التي توصلني سريعًا إلى الله. أنا قمح الله أُطحن تحت أضراس الوحوش لأخبز خبزًا نقيًا للمسيح. أغروا الوحوش لتصير قبرًا لي فلا تترك شيئًا من جسدي. حتى إذا مُت لا أكون ثقلاً على أحد إذ ذاك أصبح تلميذًا ليسوع المسيح أي عندما يختفي جسدي ولا يراه العالم. أضرعوا إلى المسيح حتى يجعل من الوحوش واسطة لأكون قربانًا لله" (إلى رومية 1:4ـ2).

 

مساهمته التعليمية

   القديس إغناطيوس حامل الإله هو أول أب ومعلم للكنيسة، وكذلك هو أيضًا أول لاهوتي عظيم بعد الرُسل. حقيقة ويقينية أقواله المباشرة يعطون إنطباعًا بأنه حقًا رجل رسولي. مضت الكنيسة ـ بإغناطيوس ـ إلى تأسيس التعليم اللاهوتي لمسيرتها وواجهت مشاكلها بطريقة تعليمية لاهوتية. لقد دشَّن النظام التعليمي الذي سوف يسري على كل مسيرة الكنيسة: المشاكل الحياتية تُحَّل بمحاولة تعليمية لإظهار الحق الذي يتعلق بهذه المشاكل. الكنيسة في شخص إغناطيوس تتخطى مرحلة الكلام عن الأخلاق والفضيلة الذي أُثير في الإطار اليهودي واليوناني. لقد برَّهن على أن المسيحي اللاهوتي يمكن أن يستخدم لغة المناخ الفكري المعاصر (اليهودية ـ الغنوسية ـ اليونانية) بدون أن يتأثر به جوهريًا. التعليم اللاهوتي للكنيسة هو طريق خاص بشروط (بأساسيات) وتطلعات، يجب أن يفتش عنها المرء في مجال الحق الكنسي. هكذا في شخص إغناطيوس ـ إنتصرت الكنيسة على مناخ اليهودية ومضت في إنشاء تعليم لاهوتي، تعليم لا يُوصف بأنه تعليم نظامي أو مدرسي في تحليل المفاهيم والمواضيع.

   تعليم القديس إغناطيوس هو تعليم أصيل، وصار هذا التعليم بمثابة تقليد للكنيسة، لأنه تعليم رعائي يمثل تعبير وإمتداد للتقليد الرسولي، ونشأ هذا التعليم بإرشاد الروح القدس، كما يؤكد هو نفسه. هذا التعليم يتميز بثلاث محاور

   1ـ تعليم عن الأسقف القائم بالخدمة الليتورجية.

   2ـ تعليم عن وحدة الكنيسة.

   3ـ تعليم عن الإفخارستيا.

 

1ـ تعليم عن الأسقف القائم بالخدمة الليتورجية

   كثير من المؤمنين في عصره إعتبروا إنه ليس ضروريًا الإشتراك في الإفخارستيا التي يتممها أسقف كنيستهم  المحلية. أي أن المؤمنين تشككوا وترددوا في قبول فرادة وسيادة الأسقف في مكانه، لذا قد شرّعوا في تكوين مجموعات منفصلة يتم فيها تتميم الإفخارستيا. هكذا الأسقف وعمله الليتورجي في الكنيسة صار رتبة ظاهرية بدون أساس لاهوتي وخصوصية فريدة (كانت هذه المشكلة كبيرة منذ زمن كليمنضس أسقف روما). واجه إغناطيوس جذريًا ولاهوتيًا المشكلة رابطًا مصداقية الإفخارستية وأصالتها بالأسقف الذي هو "صورة الآب": " من الضروري أن تتجنبوا كل عمل لا يتفق مع إرادة الأسقف وهذا ما تصنعون، وأن تخضعوا للكهنة كخضوعكم لرسل المسيح رجائنا الذي نقاسمه الحياة الخالدة... علينا أن نُرض الشمامسة الذين هم خدام يسوع المسيح أيضًا"[1]. وأيضًا يشرح بأكثر وضوحًا نفس الفكرة بأكثر عمقًا لاهوتيًا:

   " على الجميع أيضًا أن يحترموا الشمامسة كالمسيح يسوع والأسقف كصورة للآب والكهنة كمجلس الله ومصف الرسل. بدون هؤلاء لا توجد كنيسة"[2]. هكذا الأسقف وهو نائبُ عن الله، لأنه "صورة الآب"، إنه إمتداد لعمل الرب والرُسل.

 

2ـ تعليم عن وحدة الكنيسة

   الأسقف صار علامة محسوسة وحقيقية لوحدة الكنيسة. الإرتباط بالأسقف هو شرط وحدة الإنسان بالله وفي نفس الوقت برهان لهذه الوحدة، أي برهان أن الإنسان هذا ينتمي إلى الكنيسة. إن لم يكن لدينا وحدة المؤمنين بالأسقف، لا يكن لدينا أيضًا "جامعية الكنيسة": " حيث يكون الأسقف هناك يجب أن تكون الرعية كما أنه حيث يكون المسيح هناك تكون الكنيسة الجامعة" (إلى أزمير: 8).

   إغناطيوس هو أول كاتب كنسي يستخدم مصطلح "الكنيسة الجامعة" وكذلك مصطلح "إنجيل" (إلى أزمير2:7) و "المسيحية" "Καθολικὴ Εκκλησία       " ، "Εύαγγέλιον" ، "Χριστιανισμός ".

 

3ـ تعليمه عن الإفخارستيا

   واجه إغناطيوس في تعليمه عن الإفخارستيا الأفكار الخاصة بهرطقة الخياليين الذين كانوا يزعمون بأن المسيح تألم ظاهريًا فقط. إن حقيقة آلام المسيح وقيامته هي شرط للحضور الحقيقي في الإفخارستيا. والتي يشدد إغناطيوس على الإتحاد الحقيقي للمؤمن بالمسيح في الإفخارستيا. ونظرًا لأن كتاباته كلها يغلب عليها التأكيد على حقيقة الإفخارستيا كإتحاد بين المؤمنين والمسيح جعل بعض الدارسين يتحدثون عن ما يُسمى بسرائرية إغناطيوس. لكن ليس لديه سرائرية لها مراحل ودرجات غير معروفة. لكن لديه حماس غير منقطع النظير وشوق ملتهب للإتحاد بالمسيح والذي وصَّل إلى ذروته في إستشهاده وهو سائر كما يشتاق الإيل إلى لجداول المياه. إن محبته تجاه الرب وإتحاده الحقيقي به أشعلوه وصيَّروه متجليًا حاملاً للإله. تعليم يوحنا وبولس يتقابلان في روح إغناطيوس، الذي يمضي في تعليمه عن الإتحاد بالرب وتعليمه عن الشهادة.

   أول أب ومعلم للكنيسة يعتمد في تعليمه على إستنارة وقيادة الله. إجابة إغناطيوس على المشاكل التي تخص الحق الإلهي هي نتيجة الإستنارة. يعبر "برأيه" على مواضيع حياتيه وخلاصية فقط "خصوصًا إذا كان الرب يكشف لي ذلك" (أفسس 1:20). يؤكد لأهل فيلادلفيا أن كل ما يقوله عن وحدتهم بالأسقف يظهره له الروح: " إذا كان البعض يشكون لأني أرى مسبقًا شقاقات البعض فأني أشهد لله أن اللحم لم يكشف لي ذلك. أن الروح يقول لا تفعلوا شيئًا بدون الأسقف وإحتفظوا بأجسادكم كهياكل، وأحبوا الوحدة، وتجنبوا الشقاقات، وأقتدوا بيسوع المسيح كاقتدائه بالله" (إلى فيلادلفيا2:7). إذن أساس التعليم اللاهوتي للقديس إغناطيوس ليس هو إنشغاله بمشاكل المؤمنين الحياتيه بل بإستنارة الروح القدس.

   إن مساهمة إغناطيوس التعليمية تمثل خطوة هامة وجرئية في مسيرة حياة الكنيسة. لدينا عند إغناطيوس نظام واضح للترتيب الكنسي: الأسقف والكاهن والشماس. الكتاب المقدس هو المصدر الأساسي لأعمال الكُتَّاب الكنسيين. والخريستولوجية هي واضحة عند القديس إغناطيوس كما تشهد سطوره على ذلك.

 

إلى رومية 5:7
" أريد خبز الله الذي هو جسد المسيح من نسل داود، أي أريد شرابي دمه الذي هو المحبة غير الفاسدة".
إلى بوليكاربوس 2:3
" ترجى من هو فوق الزمان، ترجى من لا زمان له، غير المنظور، الذي صار منظورًا لأجلنا، الذي لا يُلاَمس والذي لا يتألم وتألم من أجلنا وأحتمل كل شيء".
 
إلى أفسس2:7
" لا يوجد غير طبيب واحد، طبيب جسدي وروحي، مولود وغير مولود، إله متجسد وفي الموت حياة حقيقية، وُلِدَ من العذراء ومن الله، قابلاً للآلام قبلاً وغير متألم الآن، يسوع المسيح ربنا".

 

كتاباته

   وفي طريقة إلى روما لينال الاستشهاد كتب سبع رسائل: خمسة رسائل إلى الجماعات المسيحية في أفسس ومغنيسيا وترال وفيلادلفيا وسميرنا، وهي المدن التي بعثت بممثليها إليه لتحيته بينما كان يعبر أراضيها في طريقه إلى روما. ورسالة أخرى كتبها إلى أسقف سميرنا القديس بوليكاربوس وكذلك الرسالة الهامة التي أرسلها إلى كنيسة روما متوسلاً إليهم ألا يتخذوا أية إجراءات من شأنها أن تعوقه عن رغبته الحارة في أن يموت للمسيح: " أطلب فقط أن تتركوني لأقدم دمي ضحية على مذبح الرب مادام المذبح معدًا، وأن ترتلوا، وقد جمعتكم جوقة المحبة، ترتيله للآب بيسوع المسيح لأن الله إرتضى أن يأتي أسقف سورية من الشرق إلى الغرب. جميل أن نغيب عن العالم بإتجاه الله لنشرق فيه" (رومية2:2).

 

 

 



[1]  الرسالة إلى تراليان 2:2ـ3 عن كتاب الآباء الرسوليون، عربه عن اليونانية ، مطران حلب إلياس معوض، منشورات النور، صـ120.
[2]  المرجع السابق1:3.