الجمعة، 28 يونيو 2013

المسيح فى رسالة بطرس الأولى


المسيح فى رسالة بطرس الأولى

د. جورج عوض

مقدمة

        هذه الرسالة لها أهمية كبيرة للمؤمنين لأنها تحمل تعليمًا رسوليًا واضحًا عن الكنيسة ولأن ظروف كتابتها تتناسب مع أوضاع المؤمنين اليوم ، وذلك لعدة أسباب منها :

        1 ـ أن الرسول بطرس يوجّه رسالته إلى كنائس ناشئة فى بيئة وثنية وتواجه صعوبات، وهو لا يرد مباشرة على مشكلة محددة ، لكن ينطلق من بداية دخول المؤمنين إلى الكنيسة عن طريق العماد أى بعد قبول الكرازة الإنجيلية . إن علاج المشاكل اليومية للمؤمن مرهون بإلتفافه المستمر حول المسيح المخلص والفادى، والإيمان بالإنجيل الحقيقى أى بالبشارة المفرحة عن المسيح. وذلك لأن ضلالات كثيرة بدأت تظهر فى عصر الرسل ، بدايةً من تأليه الإمبراطور الذى يمثل القوة الحاكمة حينذاك إلى الديانات السرية الوثنية المختلفة والتى تعد الإنسان بحلول سحرية. إن الأنبياء والرسل الكذبة قد دعوا الناس لحلول سحرية كاذبة عن طريق طقوس غريبة أو نُظم اجتماعية معينة أو فلسفية . هذه الديانات لا تطالب الإنسان بذبائح ولا بالانقطاع عن الانضمام لنظم اجتماعية سياسية ظالمة . لكن المسيحية فقط هى التى خلّفت مشاكل لكل من يريد أن يتبع آثار المسيح . فالمسيحى يستفز بإيمانه وسلوكه ردود فعل العالم الوثنى .

        2 ـ بحسب القديس بطرس ، فإن التشديد على عمل المسيح الخلاصى يصير داخل إطار كنسى، فنجد فى الرسالة تذكير مستمر للمعمودية والتسابيح المسيحية والتعليم عن الكنيسة المتغربة والنزيلة، "غرباء ونزلاء" فى العالم . والخلاص هنا هو الانضمام إلى شعب الله الجديد أى كنيسة المسيح .

        3 ـ يظهر الخلاص المُعاش فى الكنيسة كشركة لأعضائها وعلاقتهم بالعالم، والتى تتجدد على أساس أن الكنيسة هى جماعة المؤمنين الذين هم " متغربين ونزلاء " فى العالم ، وأيضًا يقين الرجاء فى قرب المجيء الثانى للرب .

المسيح هو المخلص ومصدر الرجاء : 3:1ـ12

        أ ـ (ص3:1ـ5) الله الآب يمنح الخلاص والرجاء للحياة الأبدية.

        ب ـ (6:1ـ9) يسوع المسيح هو أساس الإيمان والرجاء للمؤمنين .

        ج ـ (10:1ـ12) الروح القدس يعلن خطة الله الخلاصية من عصر الأنبياء إلى الآن.

        هنا نجد المسيح المخلص ورجاء المؤمنين داخل عمل الثالوث ، وكأن المقطع (3:1ـ12) هو شرح مُسهب للعدد (2) " بمقتضى علم الله الآب السابق فى تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح " .

        إن الآيات (3ـ5) على الأغلب هى نشيد عمادى وذلك بحسب رأى Boismard ، فالمؤمنين ينتمون إلى عائلة الله عن طريق الولادة الثانية لرجاء حىّ بقيامة المسيح من الأموات .

ألقاب المسيح فى الرسالة

        + المسيح مختار من الله كريم (4:2).

        + المسيح هو رأس الزاوية (6:2).

        + المسيح هو حجر صدمة وصخرة عثرة (8:2).

 

آلام المسيح لأجلنا وعلاقتها بآلام المؤمنين : (13:3ـ22)

        إن آلام لأجلنا تدخل من ضمن الإطار الخلاصى لحياة الكنيسة ، وتمثل تشبه بآلام المسيح، فحياة المسيحى اليومية وآلامه ترتبط بآلام المسيح لأجلنا . لذلك لكى تكون سيرتنا صالحة لابد أن تكون فى المسيح (أنظر 19:3) ليس بالمفهوم السرى فقط بل والتاريخى ، بمعنى أن المسيح كآدم الجديد هو جذر البشرية الجديدة ، وكرأس الكنيسة صار كل مؤمن مرتبط سرًا بالمسيح .

 

الخميس، 20 يونيو 2013

على هامش الجدل الحادث بسبب تعبير " دم يسوع يغرق كل شوارع مص "


       على هامش الجدل الحادث بسبب تعبير " دم يسوع يغرق كل شوارع مصر "


                                                                                                                  د.جورج عوض إبراهيم

 الإنسان كائن رمزي


يتميّز الإنسان وحده بقدرته على العمل فى الحياة مستخدمًا الرموز، بينما يتعذر ذلك بالنسبة للحيوان. فالإنسان وحده هو الذى يتواصل مع غيره من الناس عن طريق اللغة، وهو وحده الذى يصوغ القوانين ويراعى قواعد السلوك العامة، ويمارس طقوسًا معينة، فى حالة الولادة والزواج والموت، مملوءة بالرموز والدلالات والمعانى. فالرمز هو أحد السمات الأساسية للجنس البشرى. فالسلوك الإنسانى هو سلوك رمزى فى جوهره، كما أن السلوك الرمزى هو بالضرورة سلوك إنسانى[1].

       ليس غريبًا ـ فى هذا الإطار ـ أن يكون الوعظ الديني  مملوء بالرموز، ولا توجد صلاة تعبدية فى الكنيسة بدون استخدام رموز معينة.

لكن ما هو مفهوم الرمزية Symbolism ؟

 


المفهوم العام للرمزية Symbolism:


الرمز Symbol فى معناه العام هو أى شئ يحيل إلى شئ آخر، أو يقوم مقامه أو يدل عليه. فهو من ناحية ما يرتبط بالموضوع الذى نود الكشف عن فكرته، ومن ناحية أخرى هو مصطلح يُطلق على موضوع مرئى يمثل تشابهًا مع ما هو غير مرئى. وقد تؤدى كلمة علامة sign أو إشارة signal أو معنى meaning نفس دلالة الرموز. وتعتبر اللغة أو الكلام رموزًا لأنها وسيلة لتسهيل واختصار التعامل ونقل المعانى[2].

       الرمزية إذن هى شيئًا ما يقف بديلاً عن شئ آخر أو يحل محله أو يمثله بحيث تكون العلاقة بين الاثنين هى علامة الملموس بالمجرد، وذلك على اعتبار أن الرمز هو شئ له وجود محسوس ولكنه يرمز إلى فكرة أو معنى مجرد. فالميزان مثلاً يرمز إلى العدالة، والحمامة ترمز إلى السلام، والصليب يرمز إلى المسيحية. بينما الصليب المعقوف يشير إلى النازية. وقد تستخدم بعض الأفعال والحركات والإشارات كرموز.. وهذا ما نراه فى العبادة؛ فرفع الذراعين إلى أعلى فى الصلاة يشير إلى التماس المعونة من الله والتضرع إليه، ايضًا السجود وانحناء الرأس، كلها لها دلالات تعبّر عن التقوى والخشوع فى حضرة الله.

هكذا فإن الرمز هو كل ما يحل محل شئ آخر فى الدلالة عليه، لا بطريق المطابقة التامة وإنما بوجود علامة عرضية أو متعارف عليها من الجماعة البشرية التى تستخدم هذا الرمز، هكذا الرمز لا يتطابق تمامًا مع الحقيقة المُعلنة من خلاله، وفى نفس الوقت هناك تشابه بين الرمز والحقيقة، فالرمز ليس غريبًا تمامًا عن الحقيقة التى يُعلنها.

       تكمن الخطورة فى استخدام الرموز فى الجهل بما ترمز إليه ، مرات كثيرة نشرح الرمز لنصل إلى مفهوم وحقيقة بعيدة جدًا عن الرمز. وقد يكون هذا المفهوم مضاد لما أراد الرمز أن يعلنه. وهذا الخطأ يقودنا إلى عشوائية  تفسير العبارات اللغوية ، ففي حالة دم المسيح هو تعبير له دلالة عند المسيحيين ويُدرك بشكل صحيح في النطاق المسيحي بحيث خارج هذا النطاق قد يُفهم بشكل خاطيء تماما . هكذا دم المسيح لدى المسيحي يعني تطهير ، يعني حماية من أي خطر ،  يعني هروب الشياطين أي يعني مفاهيم كثيرة حسب سياق الحديث . هكذا اللغة الدينية لغة مشفرة ومتاح فقط للموجودين في نطاق الدين المعني بالحديث فهمها وإدراكها. أيضاً نجد هذا الأمر في الشعر ، على سبيل المثال أغنية عبد الحليم حافظ عن المسيح مليئة باللغة الرمزية والدلالات التي بدونها  لا نستطيع فِهم هذه الأغنية المشفرة :
" يا كلمتي لفي ولفي الدنيا طولها وعرضها

وفتحي عيون البشر للي حصل على أرضها

على أرضها طبع المسيح قدم

على أرضها نزف المسيح ألم

في القدس في طريق الالام

وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس

وفي الخلا صبح الوجود إنجيل

تفضل تضيع فيك الحقوق لامتى لامتى

يا طريق الالام .... يا طريق الالام .........يا طريق الالام

وينطفي النور في الضمير وتنطفي نجوم السلام

يا طريق الالام

ولامتى يمشي فيك جريح

ولامتى فيك يفضل يصيح

مسيح وراه مسيح وراه مسيح

على أرضها

تاج الشوق فوق جبينه وفوق كتفه الصليب

دلوقت يا قدس ابنك زي المسيح غريب غريب

تاج الشوق فوق جبينه وفوق كتفه الصليب

خانوه خانوه نفس اليهود

ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود

على أرضها "

الأمر الجدير بالذكر هنا أننا بفضل القنوات الفضائية أصبح خطابنا الديني متاح للجميع بغض النظر عن الإنتماء الديني أو المذهبي ، وفي هذه الحالة يجب على الخطاب المذاع على الهواء وبالحري حين يتناول هذا الخطاب وقائع تخص قضايا  المجتمع  أن يراعي بقدر الإمكان المتلقي وثقافته وأنتمائه وخصوصاً شركاء الوطن منعاً للعثرة وسوء الفهم أو يتم التنبيه في بداية البث بأن ما يقال يحتاج لمعرفة خاصة يعرفها جيدا المعنيين بهذا الحديث ونأسف لغموض بعض المصطلحات الخاصة . المهم يجب أن تكون هناك حلول من شأنها تخفف التوتر الذي قد ينشأ من عبارات معينة لها دلالات في سياق معين ومحدد .

 

 

 



[1] أ.د. عادل كمال خضر، مفهوم الرمزية فى التحليل النفسى، مجلة علم النفس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد التاسع والخمسون، يوليو ـ أغسطس ـ سبتمبر 2001، ص 17.
[2] المرجع السابق، ص18.

السبت، 15 يونيو 2013

حُب الوطن



حُب الوطن


Αρχιμ. Ιωήλ Κωνστάνταρος ترجمة د.جورج عوض

        

ما  هي شهادة تقليدنا عن حُب الوطن ؟ ما الذي يذكرة الكتاب المقدس بعهديه عن هذا الأمر ؟ كيف عاش أجدادنا مفهوم الوطن ؟

بالتأكيد إن آباء الكنيسة الذيت أحبوا من كل قلوبهم الرب والذين وصلوا إلى  المستوى الأسمى من الفضيلة والقداسة ، لم يُخطئوا عندما كتبوا وكرزوا بمحبة وحماية الوطن الأرضي . وبعد هذا اليقين ، كل الذين ينادون بآراء مغايرة بخصوص هذا الموضوع لا يستطيعون أن يعبروا عن أصالة الخط التقليدي الذي يريح ضمير الإنسان .

العهد القديم


سوف نجد في القسم الأول من العهد القديم شواهد كافية حيث تظهر فيها روح المحبة تجاه الوطن . بالرغم من أنها تعبر عن العصر الأول المسيحي ، إلا أنه يصير واضح التشديد على المواطنة . مزمور 136 مشهور في هذا الأمر إذ يقول : " عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضاً عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ. عَلَى الصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا. لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبُونَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحاً: [رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ].كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ تَنْسَى يَمِينِي - لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ! إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي! "

حقاً المحبة تجاه الوطن وتجاه الله صعب أن يتمكنا من الوصول إلى المستوى الأسمى . وعلى هذا المستوى سفر المزامير ، أي في المواطنة يصير لايمكن أن نتخطاه . لكن يرى المرء - من قبل داود بكثير – الشيخ البطريرك يعقوب يربط بقسم إبنه يوسف ، عندما يرحل عن هذه الحياة أن لا يدفنه في أرض غريبة بل في أرض الموعد المباركة ، في قبر آبائه .

دعونا نرى نص الكتاب : " وَلَمَّا قَرُبَتْ أَيَّامُ إِسْرَائِيلَ أَنْ يَمُوتَ دَعَا ابْنَهُ يُوسُفَ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَضَعْ يَدَكَ تَحْتَ فَخْذِي وَاصْنَعْ مَعِي مَعْرُوفاً وَأَمَانَةً. لاَ تَدْفِنِّي فِي مِصْرَ. بَلْ أَضْطَجِعُ مَعَ آبَائِي. فَتَحْمِلُنِي مِنْ مِصْرَ وَتَدْفِنُنِي فِي مَقْبَرَتِهِمْ». فَقَالَ: «أَنَا أَفْعَلُ بِحَسَبِ قَوْلِكَ». فَقَالَ: «احْلِفْ لِي». فَحَلَفَ لَهُ. فَسَجَدَ إِسْرَائِيلُ عَلَى رَأْسِ السَّرِيرِ" ( تك 29:47-31). أي عندما إقتربت أيام موت إسرائيل ( يعقوب ) أرسل ودعا إبنه يوسف وأخبره أن يدفنه في أرض الموعد وليس في أرض غريبة وأقسم يوسف أمام أبيه ، عندئذٍ آمن يعقوب بأن الله سوف يساعد إبنه لكي يُنقل رفاته إلى أرض الموعد ليُدفن هناك ، إنحنى وسجد لله وهو متكيء على عصاه . هذه الرغبة عن أرض الوطن تعبر أيضاً عن شهوة مقدسة تجاه وطن كل البطاركة وأولاد العهد القديم المختارين . البطريرك يعقوب ذاته عندما كان موجود في ما بين النهرين ، عاش وهو يحلم حُلم جميل بأن يرجع إلى أرض الموعد . والآن ، حيث عن إضطرار رحل هو وأولاده إلى مصر ولم يرى نسله يرثون أرض الموعد ، طلب بقسم ٍ ان يغطي جسده الميت بترابها المبارك . لا يستطيع المرء إلا أن يتأثر من حراء هذه الرغبة المقدسة . لقد ترك الشيخ البطريرك التأثر البالغ على أولاده . لم يستطيعوا إلا أن يتمثلوا به في محبته لأرض أبائه من كل قلوبهم .

حقاً ، أياً كان الإنسان وبالحري المؤمن ، في أي مكان وفي أي موضع ، لا يستطيع إلا أن يعبر بالكلام وبالعمل عن مشاعره الوطنية . أن يُنمي العطية التي زرعها الله في قلبه . هذا بالضبط ما نراه ، بتأثر شديد  يتحقق أيضاً في حالة أستير . سفر من أسفار العهد القديم الجميلة يقدم بطريقة فريدة حُب الوطن . مَلِك الفرس الأشوري خُدِع َ من وزيره هامان وأمر بموت جماعي لليهود . إستير اليهودية والتي أختارها الملك  من بين أجمل النساء لمملكته وقد جعلها ملكة ، عَلِمت هذا الأمر من مردخاي التقي . بعد صلوات حارة وتوسلات وأصوام أظهرت لزوجها الملك المكيدة وحرضته بأن يستعيد هذا الأمر الرهيب . حقاً الملك أدرك المكيدة التي دبرها هامان ، وليس فقط إستعاد أمره بل أيضاً أمر بأن يتألم هامان بنفس ما أعده لمردخاي ، وصار في النهاية مردخاي وزيرأً . للمرة الثانية حُب شركاء الوطن إنتصر على العوائق المنيعة وحقق النتائج المرجوة . بفضل إستير التي أحبت شعبها ولم تنسى أصلها وأنقذت هذا الشعب من مذبحة رهيبة . أيضاً أنبياء العهد القديم ، الكبار والصغار ، تحدثوا كثيراً عن أوطانهم .

نكتفي بأن نذكر أرميا النبي ، بمواهبه المدهشة بل أيضاً بالشعلة الوطنية المنتأججة  في صدره . كثير هو الحُب الذي تربى عليه تجاه أهل وطنه ، النبي المنتحب حتى أنه لم يكتفي بدموعه الطبيعية بل طلب أن تتحول عيونه إلى ينابيع دموع حتى يرثي لنكبات وطنه وأمته . كم هو بالغ الأثر على النفس ما قاله في الإصحاح التاسع : " يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ فَأَبْكِيَ نَهَاراً وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي" (أر1:9). أيضاً يرى النبي مشقات شعبه بسبب عصيانه ويحذر أهل وطنه أن لا يبكون لأجل ميت بل ينتحبون لأجل المنفى ، لأنه لا يمكن أن يرجعوا بعد إلى وطنهم الجميل والمبارك : " لاَ تَبْكُوا مَيِّتاً وَلاَ تَنْدُبُوهُ. ابْكُوا ابْكُوا مَنْ يَمْضِي لأَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بَعْدُ فَيَرَى أَرْضَ مِيلاَدِهِ " (أر10:22).

 أَرَخَ العهد القديم ووصف حياة وتجارب الشعب ، وقدم أمثلة كثيرة للمحبة والإخلاص للوطن من خلال أبطال الشعب العِظام وبالطبع  لا يتجاهل الكتاب المقدس موضوع الوطن والأنتماء له .
العهد الجديد

ليس فقط العهد القديم بل العهد الجديد بكرازة المحبة المسكونية وأيضاً محبة تجاه الأعداء ، يعلمنا المحبة تجاه الوطن أيضاً . مثال ربنا يمثل نموذج لنا وكذلك تعاليمه لديها الكثير لتعلمنا . ليس صُدفةً أن المسيح يصر على أداء عمله التعليمي وسط أهل وطنه . إنجيل متى هو واضح في سرده لتعليم الرب في الناصرة : " فَدَخَلَ السَّفِينَةَ وَاجْتَازَ وَجَاءَ إِلَى مَدِينَتِهِ " ( مت1:9 ) . جعل كفر ناحوم مركز نشاطه ومن هناك وَصَلَ أيضاً إلى أصغر القُرى في وطنه الأرضي . ها المسيح لا يَبطُل الوطن . وطن كل أنسان . لأجل هذا أيضاً في حواره مع السامرية حيث يشدد على أن " الخلاص من اليهود "( يو22:4) . يبدو إذن أنه بكونه إنسان أحب وطنه وأمته . ليس فقط أحب يسوع وطنه وأمته ، بل فعل شيء أثر وهز المرء مهما كان لديه بلادة وقسوة . بكى على وطنه . لقد سجل الإنجيلي لوقا ما يمثل قمة الوطنية الخالصة : " وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هَذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلَكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ . فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ " ( لو41:19-43) . إنه قبل آلامه الخلاصية . قبل أن يصعد على الصليب لأجل خلاص كل العالم . وأيضاً تلك اللحظة التي إنسانياً ومنطقياً سوف لا يتماسك أحد ويربط نفسه بشيء أرضي ، تأثرت نفسه الرقيقة . الدموع غطت وجهه المقدس ، ووسط هذه الدموع كان يوجد لديه حُب عميق للوطن . لقد إنسكبت دموع المسيح مرتين ، الأولى على دمار وطنه أورشليم والثاني على موت إنسان ( لعاذر ) . رثاءه هنا على المدينة المقدسة لديه عمق شديد ...ولا شيء يفعله المسيح صُدفة وعشوائية . ولا يوجد أحد يرثي مثلما فعل الإله المتأنس . الإنجيلي متى سجل لنا أيضاء الرثاء حين وجه يسوع وجهه تجاه المدينة المقدسة , وهي منتظرة الدمار الذي سوف يلحق بها بسبب عصيان رؤسائها وشعبها : " يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا وَلَمْ تُرِيدُوا. هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! " (مت37:23-38) .

لقد تقدس كل  شعوربالمواطنة يوجد في كل إنسان عاقل ويصل إلى سموه العجيب بنموذج ربنا يسوع المسيح . بالتالي ، كل مؤمن مسيحي ينبغي أن يُظهِر إشتياقه ومحبته لوطنه المبارك .






الخميس، 13 يونيو 2013

صعود المسيح إلى السموات


صعود المسيح إلي السموات
ومفهوم حضوره من جديد
ج. باترونوس استاذ العهد الجديد جامعة اثينا – ترجمة د.جورج عوض
1ـ قيامة وصعود يسوع المسيح كحدثين مميزين
إيمان الكنيسة الأولي بالمفهوم الأساسى للقبر الفارغ وتأكيد التلاميذ والرسل في ظهورات المسيح القائم وأيضًا إيمانها من خلال معرفة تاريخية إختبارية ملموسة ومحددة "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ" (1يو1:1). كل هذا جعلها تقبل الإيمان بصعود المسيح كفعل أخير لحضوره علي الأرض. جسد الرب القائم الذي كان في نفس الوقت "منظور" من الرسل "اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي" (لو39:24)، كان يجب، في لحظة ما ، أن يترك أرضنا وعالم البشر الحسي ويرجع إلي السموات. فالفترة الطويلة لحضوره علي الأرض وأيضًا سرعة ظهوراته بعد القيامة أخذت نهاية. هذا الذي هو هام أهمية خاصة وجدير بالملاحظة ويسود علي الفكر وعلي إيمان الكل هو التطلع الأخروي المتفائل الجديد والحوادث الحاملة رجاء للحضور من جديد الذي يعلنه صعود يسوع إلي السموات.
إن كان القبر الفارغ وحدث القيامة مع الظهورات المتتابعة والمستمرة للمسيح القائم, صارت مدركة ومقبولة كحوادث تاريخية,هكذا أيضًا الصعود إلي السموات يجب أن يُعتبر حدث تاريخي في حد ذاته والصعود هو قسم لا ينقطع,القسم الأخير في مسيرة يسوع المسيح الأرضية والتاريخية. بدون هذا الحدث تظل معرفتنا بتاريخ يسوع ناقصة, طالما بهذا الحدث الرائع لدينا نوع من "إستعادة ـ رد" ἀποκατάστασης للمسيح كـ "إبن الله" في مجده السابق والذي سوف يكتمل بحضوره الثاني والممجد.
إنه حق, أن التأكيد علي المجئ الثاني للقائم, جعل كثيرين في الكنيسة الأولي أن لا تعطي الأهمية المطلوبة والثقل في حدث الصعود. في إنجيل متى لا يُذكر إطلاقًا هذا الحدث, بينما إنجيل مرقس يذكر الحدث كحدث لحظي وبكلمة واحدة (أنظر مر19:16). بينما يوحنا الإنجيلي سجله في إطار نصائح للمسيح بمفهوم عام وكأنه حدث سوف يحدث في المستقبل "قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ:إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ»" (يو17:20). الإنجيلي الوحيد الذي ذكر هذا الحدث بتوسع وإهتمام خاص هو القديس لوقا. بالنسبة للإنجيلي لوقا حدث الصعود لديه أهمية تاريخية خاصة وضرورة لاهوتية. جسد المسيح القائم الذي قد قَبِل في شكله الأرضي مجد التجلي, الآن يؤخذ ويُصعَّد إلي السموات مظهرًا هكذا "بداية" المرحلة الجديدة للمجد النهائي التام والكامل. لقد وصف الإنجيلي لوقا هذا الحدث وصفًا رائعًا في الإنجيل وكذلك في أعمال الرسل, الأمر الذي يُظهرة هكذا كـ "لاهوتي الصعود" (لو50:24ـ53. أع2:1ـ11).
عندما نتحدث في التعليم اللاهوتي عن صعود المسيح باللغة الكتابية لا نفسر فقط المحتوي اللاهوتي لبند دستور الإيمان المتعلق بالصعود، بل نقصد أيضًا إدراك جديد لحضور المسيح الحي ثانيةً في الكنيسة وفي التاريخ. أيضًا كان يوجد ويوجد من منظار ديني فكر عام والذي يكررة الكتاب المقدس بأن الله يسكن في السموات. مصطلح "سماء" بالتالي, يعني رمزيًا الله ذاته. الأرض, بالمضاهاة, والتي توجد عند "قدمي" الله, هي مسكن البشر (أنظر أش1:66). الله في علاقته التاريخية بالعالم "ينزل" علي الأرض لكي يخلص البشر وبعد ذلك "يصعد" أيضًا إلي السموات راجعًا إلي المكان الأول لسكناه (أنظر تك5:11. 22:17).
وفق الفكر الكتابي عن العالم ويسوع المسيح بكونه "إبن الله" بعد "نزوله" "وزيارته" للأرض لكي يحقق عمله الخلاصي للعالم, كان يجب أن "يصعد" أيضًا ثانيةً إلي السموات راجعًا ليس فقط إلي "مكان" إنطلاقة بل أيضًا راجعًا إلي الآب الذي أرسلة (أنظر أع34:2. رو34:8. أفسس20:1. 1بط22:3). لأجل هذا, الصعود بالنسبة للكنيسة الأولي كان لديها بالأكثر مفهوم سمو المسيح إلي مجد الله وإستمرارية حضوره في جسد الكنيسة التاريخي, لإستمرارية وإكتمال عمله الخلاصي.
هذه الرؤية اللاهوتية لا تعني بالطبع أيضًا تهميش أو تجاهل تاريخية الصعود. لكن الحاجة إلي إدراك صعود المسيح "التاريخي" إدراكًا صحيحًا. لا يُدرَّك التاريخ بدون تفسير مستقيم وإدراك صحيح. خاصةً بالنسبة للحوادث الكتابية الحاجة إلي عرض قدسية التاريخ والتشديد علي الإمتدادات اللاهوتية. ربما, لأجل هذا, من اللحظة الأولي, للكنيسة الرسولية, بالضبط لأنها كانت تحيا في يقين حضور المسيح الجديد بعد القيامة, لم تعطي ثقل كبير وأهمية علي العرض والتشديد علي تاريخية الصعود. وهذا هو واضح جدًا حيث قاد كثيرين ليؤمنوا كيف أن الكنيسة الأولي لم تعمل أي تمييز جوهري بين الحدثين, حدث القيامة وحدث الصعود, وأنها إعتبرت الصعود في المجد مع القيامة المجيدة كمرحلة أخيرة وعمل نهائي لتاريخ يسوع المسيح علي الأرض.
2ـ الإطار التاريخي والأهمية اللاهوتية لصعود المسيح
الصعود كحدث تاريخي يجب أن يحدث بالقرب من أورشليم وفي الأغلب علي جبل الزيتون أو في نطاق بيثينية, أربعين يومًا بعد القيامة ، رأينا أن التلاميذ مضوا من أورشليم للجليل مباشرةً بعد ظهور الرب لتوما والظهور الثاني لجماعة التلاميذ الذي يعني في الغالب في اليوم الثامن. في الجليل إنتظروا حوالي شهر حيث لدينا أيضًا الظهورات الباقية للقائم لوجودة متنوعة والتي أشار إليها خاصةً بولس الرسول (أنظر 1كو2:15,...), بينما منذ قليل قبل الصعود وُجدوا التلاميذ أيضًا في أورشليم. هناك بحسب وصية المسيح كان ينبغي أن ينتظروا حلول الروح القدس.
في نصوص لوقا "لاهوتي الصعود" لدينا تشديد خاص علي تاريخ هذا الحدث وأيضًا بواقعية شديدة. لقد تجنب هذا المؤرخ أي ميل "لتفسير تمجيدي" للصعود لكي يشدد بالضبط علي تاريخية الحدث. المصطلحات التي يستخدمها هي واقعية: " وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ" (لو51:24ـ52). أعطي تشديد علي ظواهر طبيعية خارجية والتي صاحبت حدث الصعود, مثل وجود "سحابة" و"هم ينظرون" (أع9:1), بهدف مصادرة أي "تفسير سري" يشكك في تاريخية هذا الحدث. وجود "سحابة" وفق اللغة الكتابية الرمزية تعلن هنا ألوهية المسيح، الذي له أهمية جوهرية لإيمان الكنيسة الأولي, وأيضًا بالحري أهمية لتشكيل التعليم اللاهوتي والخريستولوجي بعد القيامة.
إستخدم المصطلحات والصياغات الواقعية والتشديد علي الإنطباع المؤثر الذي أنشأه مشهد الرب في السموات, بينما الرسل كانوا "ناظرين إلي السماء"، لديه كهدف أن يفند الإنجيلي أي تفسير "أسطوري" للصعود في المستقبل. وهذا لديه أهمية عظمي لتاريخ العهد الجديد. أي تناول لاهوتي وتاريخي لحوادث حياة يسوع المسيح من المذود فصاعدًا لا يمكن أن يجهل ويتجاهل أيضًا هذا التطلع الذي وضعه الإنجيلي بحدث الصعود.
يسوع لم يُمجّد فقط بقيامته،لقد وَصَلَ إلي مرحلة سامية "لمجد" الله ومُجّد ب"إرتفاعه" و "صعوده" إلي السموات. العهد الجديد أصر علي مفهوم إعلان مجد الله بواسطة شخص يسوع المسيح، ففي شخص المسيح مجد الله هوحاضر حضور كامل. المسيح هو أيضًا إبن الله وبالتالي "بهاء مجده ورسم جوهرة" (عب3:1). مجد الله الذي أتي لكي يشع علي البشر (2كو18:3) أولاً ظهر وأشرق "في شخص يسوع المسيح" (2كو6:4). لقد أتى يسوع بعد القيامة والصعود إلي المجد الإلهي (لو26:24) وكرب المجد (1كو8:2) فتح الطريق أيضًا لمجد الإنسان. مجد المسيح يكتمل نهائيًا بمجد مؤمنية: "وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ" (يو10:17).
هكذا بالنسبة للكنيسة, بالقيامة والصعود بدأ أن يشرق عصر جديد, زمن المستقبل والإعادة الأخروية إلي مجد الله, طالما بواسطة هذه الأحداث ليس لدينا فقط "صعود" للمسيح إلي القوة والمجد, لكن أيضًا "صعود" الإنسان إلي الملء الخلاصي والأخروي. بهذا المفهوم ندرك الآن, لأنه بصعود المسيح بدأ بالنسبة للمؤمنين أيضًا زمن إنتظار "المجئ الثاني " للرب. الذين يقبلون الإيمان بالقيامة والصعود هم محدقين تجاه المستقبل وتجاه حضور المسيح من جديد. أما الذين يرفضون هذه الحوادث, هم بالطبع يرفضون أيضًا رجاء حضوره من جديد. كثيرون يفضلون إعتبار أن المرحلة الأخيرة لمسيرة يسوع التاريخية يجب أن تتوقف عند صليب الجلجثة وعند دفنه في القبر "القبر المختوم" الذي كان خارج أسوار أورشليم ،لا شيئًا أكثر من هذا. هذا يعني للكثيرين رفض القيامة والصعود. لكن بالنسبة للإيمان المسيحي عبر كل الدهور, أحداث القيامة وصعود المسيح ليست أبدًا أحداث تأتي في المرتبة الثانية. الإشارات المباشرة وغير المباشرة للصعود من التقليد الإنجيلي والرسولي تركز علي أهمية هذا الحدث (أنظر أفسس20:1. 10:4. 1تس16:4. 1تيمو16:3. عب14:4. 1بط 22:3....الخ).
الصعود يحدد من الآن حركة الطريق السماوي وإتجاه الكنيسة نحو ملء إكتمال الإنسان في الأزمنة الأخيرة. الدهر الآتي بالفعل قد بدأ وإمتد ظهور مجد الله في الإنسان. الآن هو وقت للصعود والتوبة ورجوع الكل إلي الإيمان بالمسيح. لأجل هذا بالضبط, الزمن بين الصعود والمجيء الثاني هو زمن نشاط الكنيسة وممارسة التبشير وقدوم الأمم إلي المسيح الراعي. إنه وقت للكرازة وللخدمة الرعائية. بعد الصعود أرسلت الكنيسة برسُلها إلي العالم لكي تتمم تاريخها وحياتها ـ وتمارس بطريقة ديناميكية عملها الخلاصي في التاريخ, كإستمرارية لعمل المسيح. لو أن "زمن" المجيء الثاني وملء الكل تأخر في المجيء, هذا يعني أساسًا تأخر عمل التبشير والتوبة . إن "تأجيل" النهاية يدل على محبة الله للعالم. بالقيامة والصعود ، قد بدأ بالفعل عصر الإشتياق الشديد وأيضًا الإيمان الدينامكي والخلاَّق. جميعنا, الآن, مثل التلاميذ والرسل وقتذاك في لحظة الصعود كانوا محدقين تجاه الأعلي, يجب أن نكون أيضًا محدقين بالرجاء تجاه فوق إلي السماء, التي هي مكان موطننا القديم والهدف النهائى لنا (أنظر أع10:1), "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" (عب14:13).
التبشير ورعاية شعب الله في الحاضر لديه بشدة هذا البُعد المستقبلي والأخروي، المؤمنون يطلبون دائمًا الفوقيات في حاضر التاريخ, لأننا لدينا شعور بأن مسكننا النهائي ومدينتنا تُوجد في السموات (أنظر فيلبي 20:3) الشعور بعدم وجود مأوي وأننا نزلاء, بدون أن يكون هذا عنصر مانع لكل عمل إبداعي في الحاضر, يُسَلِحنا بالأشواق والرؤي للمستقبل ويحفظنا في يقظة دائمة وممارسة وجهاد دائم. أيضًا قُرب "نهاية" المجيء الثاني والدينونة الأخيرة والذي نحوه صعود المسيح يؤثر فينا, لا يُخيِف الكنيسة ولا المؤمنين . علي النقيض, المؤمنون منذ ذلك الحين يحيون برجاء المجيء. يتطلعون إلي السماء وهم في شوق وصارخين بحرارة "تعال أيها الرب يسوع" (رؤ20:22).
وعبارة "تعال أيها الرب يسوع" وبالعبري "ماران آثا" بعد حدث الصعود تحتاج إلي إدراك صحيح, لأن الصعود لا يعني إبتعاد وغياب يسوع المسيح من التاريخ وبالحري من الكنيسة. لغة كنيستنا التسبيحية والليتورجية هي ممكن أن تساعدنا تجاه التوجه التفسيري الصحيح . العبادة يجب أن تعتبر من المصادر الرئيسية للتعليم الأرثوذكسي. هناك اللغة الكتابية والعقيدية يتوافقا ويستطيعا أن يؤلفا صياغات مستقيمة أيضًا للمواضيع الصعبة الخاصة بالتدبير الإلهي.
الكنيسة في هذه اللغة التسبيحية والشعرية تجد التعبير الأفضل لتفسير وإدراك حوادث تاريخ العهد الجديد المقدس وتناول المفاهيم العميقة والجوهرية لحياتنا وتاريخنا. فيما يتعلق بالحدث التاريخي لصعود الرب والتي ذكرته النصوص المقدسة, التسبيح يدركه فى أبعاده الكنسية المستقيمة وتربطه بخبرة المؤمنين الروحية. وهذا, لأنه كما نسبح في الكنيسة في عيد الصعود بأن إقامة يسوع في الكنيسة وفي العالم يجب أن تُدرك خارج تحديدات المكان والزمان. إذ بحسب القديس باسليوس الكبير, التمييز بالنسبة للمكان داخل وخارج وللزمن في الماضي والحاضر والمستقبل هي حالة ساقطة وتعني إبطال وحدة الخليقة والأبدية. لكن, الصعود هو تخطي نتائج السقوط المقيته. العنصر الذي يعتبر سائد, بعد الصعود, هو أن حضور المسيح هو مستمر ودائم, بمفهوم تام وشامل, طالما كما أكد لنا هو ذاته حين قال: "وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ" (مت20:28).
بالتالي, الصعود لا يعني, كما هو معتاد, إرتحال وذهاب وغياب. بل يعني علي النقيض "حضور" وبمفهوم ما تعنية هذه الكلمة. المسيح بعد القيامة والصعود هو "بالأكثر" حاضر في الكنيسة وفي العالم, بكل القوة والسلطان والمجد مما قبل أحداث الصلب والموت. يسوع كمعلم أثناء حياته الأرضية, عندما وُجدِ في اليهودية كان غائبًا بالطبع من الجليل. لكن الآن, كرب السماء والأرض هو "حاضر في كل مكان". يسوع المسيح بالقيامة أراهم نفسه حيًا (أع3:1) وبالصعود دشن (إفتتح) عصر جديد, عصر الكنيسة في التاريخ "يثبت الكلام بالآيات التابعة" (مر20:16). هكذا, المسيح الصاعد ليس هو غير تاريخي وحضورة الروحي "غير جسدي", وليس هو وجود "أسطوري" فوق التاريخ, بل هو حضور حيَّ وأبدي في جسد الكنيسة التاريخي.




3ـ إنتظار المجيء الثاني
الآن إشارة سريعة فيما يتعلق بمسألة المجيء لربنا, في الأيام الأخيرة. قد نشأ إنطباع واليوم قد دُعِم من مفسرين كثيرين للكتاب المقدس, بأن يسوع آمن بنهاية محددة للعالم. وبالتالي قد قدموا أبحاث خاصة لتشرح هذا الموضوع من منظور نفسي في نطاق الأدب الرؤيوي, لأنه يعتبر أن تحديد النهاية يتحرك من إحتياج داخلي يحتوي علي مرض نفسي.
دون شك قد قَبِلَ يسوع كيف أن الخليقة والعالم والمرحلة التاريخية الحاضرة سوف تكون لهم نهايتهم (لو2:11).
لكن أبدًا لم ينادي بأن هذه النهاية يمكن أن تصير موضوع معرفة الإنسان وقضية تحديدها. تجربة تحديد النهاية أجاب عليها المسيح بحسم علي سامعية ولتلاميذه, عندما سأله أحدهما: "وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ. اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ" (مر32:13ـ33), و "أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ:«يَارَبُّ، هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» فَقَالَ لَهُمْ:«لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ" (أع6:1ـ7). يسوع لا تنتمي لأولئك الذين يكرزون بنهاية محددة επικείμενο بأي شكل ولأي هدف.
أيضًا لهو من الدلالة أن يسوع لم يُتهم أبدًا من خصومة عن أي نوع من الإنتصار الدهشوي الرؤيوي أو بمحاولة ما لتحديد نهاية وخلق مناخ رؤيوي أو إتجاهات قومية . لو أن يسوع قد شَرَعَ في تحديد زمن ما للنهاية, ولم يتحقق, لكان خصومة سوف يستخدموا هذا الأمر بأن يقدموه كنبي كذاب, كذلك كما نعرف كانوا سوف يثبتون ذلك بطريقة نظامية. وذلك العصر كان بالحري مميز بحشد من الرؤيويين الذين إهتموا بهذه المواضيع. كثيرون كانوا يرون رؤي ويتنبئون ليس فقط بأن النهاية قريبة بل بتحديد زمني لمجيء "النهاية". إنه من المعروف أنه كان يوجد أيضًا أدب رؤيوي كامل علي هذه المواضيع في هذه الأوقات المتأزمة.
لكن عندما يقول يسوع "قد كَمُل الزمان" (مر15:1), الإهتمام يلتف حول "كَمُلَ" للحاضر وليس لكمال المستقبل. اللحظة الحاسمة, وقت الدينونة يُوجد في الحاضر وليس في المستقبل, المستقبل القريب أو البعيد, لأن هذه اللحظة تتعلق مباشرةً بشخصة. بالنسبة ليسوع عبارة "ملكوت الله داخلكم" (لو21:17),تعنى ان الشياطين وُضعَت خارجًا (لو18:10) والناس يحيون في واقع جديد (لو20:11. مر24:1). يسوع يري أن الكل يتحقق في شخصة وحياته. لقد وجه التأكيد للِص, أثناء الصلب, قائلاً: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو43:23). هنا الأحداث المستقبلية تبدو أنها صارت حاضرة. كل هذا ينشيء أيضًا إنطباع بنهاية محددة.
يسوع المسيح هو "البداية والنهاية", "الألف والياء", "الأول والأخير" للتاريخ (رؤ8:1. 6:21. 13:23). قيامته هي بداية واقع جديد. الكنيسة تحيا من الآن هذا "الجديد", "النهاية" و "الأخروي". النهاية هي دائمًا "قريبة" و "علي الأبواب". هذا الذي له أهمية خاصة بالنسبة للكنيسة بعد الصعود هو رسالتها تجاه العالم. بالتالي, القيامة هي العمل الأول للجديد و"الدراما الأخروية" التي يُشار إليها بفعل الصعود إلي السموات. بتحقيق هذه الأحداث يبدأ إدراك المستقبل الأخروي إدراكًا صحيحًا كمسيرة ديناميكية جديدة تجاه الإكتمال و"إنتهاء" مرحلة خطة التدبير الإلهي.
بشخص وعمل يسوع المسيح وبالحري بالأحداث الأخيرة لمسيرته علي الأرض, "الأخرويات" تأخذ شكل "وظيفة" الحاضر. هذه "الوظيفة الأخروية" للحاضر هي بلا شك واقع جديد. قيامة المسيح تجعلنا قادرين أن نتوقع بيقين قيامة كل البشر. "نهاية" العالم هي بالتأكيد أن الكل يُوجَد "قريب" و "أقرب". ذاك الذي له أهمية أكثر في الحاضر ليس قُرب أو تحديد الحوادث المستقبلية, لكن مسيرة الكنيسة التبشرية تجاه الأمم ونشاط كل قواتها لإتحاد دائمًا الأمم وكل قبيلة في رعية المخلصين للمسيح: "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ" (مت19:28ـ20).
اللاهوت التعليمي الكتابي الأرثوذكسي يُدعَّي لتفضيل ودفع ديناميكية "الوظيفة الأخروية" أمام دينامكية "التحقيق الأخروي" للغرب المحافظ أو "للأخروية المستقبلية" لليبرالية البروتستانتية المتطرفة. هذا العنصر "الليتورجي ـ الوظيفي" لملكوت الله يعيد تشكيل العالم والتاريخ ويشكل الإنسان في الحاضر تحت نور وتطلع القيامة والأبدية. الكنيسة هي ضامن لكل هذا بل وأيضًا المكان الليتورجي لأي إكتمال مستقبلي وإكتمال الهدف الأخروي لإتحاد الإنسان بالله.

الأربعاء، 5 يونيو 2013

عظمة المسيحية وسموها


عظمة المسيحية وسموها : الرسالة إلي ديوجينيتوس

د.جورج عوض

 

  مقدمه

   المحفوظ اليوناني الذي يحوي هذه الرسالة يرجع إلي مجموعة واحدة من القرنين الثالث عشر والرابع عشر, هذه المجموعة هي نسخة عن مخطوطة من القرنين السادس والسابع. إكتشف هذه المخطوطة ـ صدفة ـ توماس الأرتيزي حوالي عام 1436م في سوق للسمك في القسطنطينية, وإنتهي به المطاف, في القرن الثامن عشر, في المكتبة البلدية لمدينة ستراسبورج حيث دمره قصف البروسيين مع ما دمّر من أشياء, في 24 آب عام 1870م. نشر محفوظ " الرسالة إلي ديوجبينيتوس " لأول مرة هنري إتيان عام 1592. هذه الرسالة هي بمثابة دفاع عن المسيحية في صورة خطاب إلي شخصية وثنية ذات مركز إحتماعي علي رفيع هو " ديوجينيتوس ". كاتب الرسالة غير معروف, وتعددت الأراء من جهة شخصيته, فالبعض نسبوا هذا الدفاع للقديس هيبولتيوس الروماني في بداية القرن الثالث. وهناك رأي آخر أن الذي كتبه هو القديس كوادرتوس Quadratus تلميذ الرسل الذي ذكره كل من أوسابيوس وإيرونيموس وفوتيوس والذي كتب دفاعاً عن المسيحية ولكنه فُقِد. ويرجع العالِم أندريسيني هذا الرأي.[1]

  محتوي الرسالة     تحتوي الرسالة علي إثني عشر فصلاً.

 الفصل الأول :   الدافع وراء كتابة الرسالة

   يُفهم من الفصل الأول أن ديوجينتيوس أرسل رسالة إلي صديقه المسيحي المجهول الأسم لكي يجيب علي تساؤلاته حول الديانة المسيحية :

             مَن هو الإله الذي يتكلمون عنه المسيحيون ؟

             ما نوع العبادة التي تجعلهم : يحتقرون المادة, يهزءون بالموت, ولا يعترفون بآلهة اليونانيين, ولا يمارسون خرافات اليهود ؟

             ما سر المحبة المتبادلة ؟

             ولماذا إنتشر هذا الدم الجديد أو الروح الجديدة في العالم اليوم لا قبل ذلك ؟

 رد فعل الصديق المسيحي

             + الترحيب التام من صميم القلب وكأنه يطبق وصية " كونوا مستعدين لمجاوبة مَنْ يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم "

            + عدم الإعتماد علي الذات بل كاتب الرسالة المسيحي يقول للصديق الوثني: " أتضرع إلي الله الذي يمكنّنا نحن الأثنين من السمع والكلام "

            + وإعتبر ردوده هي هبة من الله : " أتضرع إلي الله .... أن يهبني أن أتكلم في كل هذه الأمور "

            + أن حوارنا هذا للبنيان : " وفوق كل شيء أنك عندما تسمع تنال بنياناً "

            + ويقر الصديق المسيحي بكل شجاعة : " أنه لا يوجد سبب يجعلني أتأسف أنني تكلمت ".

 الفصل الثاني :  مبادئ لا بد منها للإستفادة من إجاباتي  

(1)  نقي نفسك من كل تحيز يسيطر علي فكرك.

(2)  أترك جانباً كل ما تعودت عليه.

(3)  تعال وتأمل ليس بعينيك فقط ( ثقافة الصورة ) بل بفهمك أيضاً ( روح التمييز ).      

  إعادة تقييم عبادة الأصنام 

   يطرح كاتب الرسالة علي صديقه الوثني أسئلة تخاطب العقل بخصوص الأصنام التي يعبدونها, قائلاً :

           ما هو جوهر وما هو شكل أولئك الذين تعتبرونهم أنتم آلهة ؟

           أليس واحد منها حجراً مشابهاً للحجر الذي ندوسه بالأقدام ؟

           أليس الثاني نحاس, ولا يزيد عن الأوعية التي تُصنع للإستعمالات العادية الدارجة ؟

           أليس الثالث خشبة نتعفن بسهولة ؟

           أليس الرابع فضة تحتاج حراسة من إنسان لئلا تُسرق ؟

           أليس الخامس حديد يتآكل ويصدأ ؟

           أليس السادس فخار, ليس له قيمة أعلي مما يُصنع لأحقر الأغراض ؟

           أليست كل هذه الأشياء من مادة قابلة للفساد والتحلل ؟

           أليست هذه التماثيل يُعاد صنعها علي أيدي صانعي الأواني مثل الأخري ؟

           أليس كلهم صُم ؟ أليس كلهم عميان ؟ أليسوا بلا حياة ؟

 

 

 فصل 3  : خـرافات اليهود 

 

  يستعرض الكاتب في هذا الفصل سر عدم إلتزام المسيحيون للعبادة التي يمارسها اليهود. ويقر بكل وضوح أن اليهود إمتنعوا عن أنواع التقدمات الوثنية وأنهم يعبدون إلهاً واحداً هو رب الكل. لكن خطأ اليهود ـ كما يقول الكاتب ـ أنهم يعبدون الإله الواحد بنفس الطريقة الوثنية. هم يظنون أنه برش الدم ورفع بخور التضحيات والمحرقات يقدمون ذبائح مقبولة لدي الله, وأنهم قادرون علي إعطاء مَنْ هو غير محتاج لشيء. إنهم مثل الوثنيين الذين يمنحون الإكرام للأشياء التي لا تحس.

 فصل 4 :  يذكر بعض الممارسات والمفاهيم الخاطئة لليهود, علي سبيل المثال : التباهي نجتان الجسد علي أنه برهان علي الإختيار.

   مراقبتهم للقمر والنجوم وتوزيعاتهم لحساب الأيام والشهور وإعتبار تغيير فصول السنة بعضها للأعياد وبعضها للحداد والحزن.

   هذا هو سر إمتناع المسيحية عن خرافات اليهود والوثنيين وأخطائهم.

 فصل 5 :  سمو حياة المسيحين 

   يؤكد الكاتب علي أن المسيحيين هم بشر عاديين مثلهم مثل كل البشر, غير مختلفون عن سواهم من أبناء البشر في الوطن أو اللغة والعادات. فإنهم غير منعزلون مكانياً, إذ لا يقطنون مدناً خاصة بهم وحدهم, ولا يتكلمون لغة خاصة بهم, ولا يعيشو عيشة غريبة. وبالرغم من أن المسيحيين يسلكون بموجب عادات البلد الذي يحلون من جهة الزي والطعام وأساليب المعيشة الأخري, إلا أن أسلوب معيشتهم يستوجب الإعجاب والإقرار بأنه غير متوقع.

 ما سر الإعجاب في أسلوب معيشتهم ؟

   يذكر الكاتب بعض السلوكيات المدهشة والعجيبة للمسيحيين في أسلوب رائع, قائلاً :

              تراهم يسكنون البلدان ولكنهم غرباء.

              هم يشتركون في كل شيء كمواطنين ولكنهم يحتملون كل ما يحتمله الغرباء.

              كل بلد أجنبي وطن لهم. وكل وطن لهم بلد غريب.

              يتزاوجون كغيرهم ويتوالدون. ولكنهم لا يهملون أولادهم ولا يعرضونهم للموت.

              يفرشون طعامهم للجميع لا يفرشون فراشهم.

              هم موجودون في الجسد ولكنهم لا يعيشون للجسد

             يقضون أيامهم علي الأرض ولكنهم مرتبطون بوطن سماوي.

             يطيعون القوانين المرعية لكنهم يتقيدون بأكثر منها في حياتهم الخصوصية.

             يحبون جميع الناس ولكن الجميع يضطهدونهم.

 فصل 6 :    علاقة المسيحيين بالعالم  

   يعطي الكاتب صورة بليغة لعلاقة المسيحيين بالعالم كمثل علاقة الروح ( النفس ) بالجسد : " إن المسيحيين للعالم كالروح للجسد. الروح تمتد إلي جميع أعضاء الجسد..."

 فصل 7 :    ظهور المسيح

   المسيحية ـ كما يقول الكاتب ـ ليست مجرد :

                  1 ـ بدعة أرضية.

                  2 ـ رأي إنساني.

                  3 ـ ناموس.

 المسيحية هي في الأساس

  " الله بذاته, القادر علي كل شيء جميع الأشياء, وغير المرئي أُرسل من السماء وعاش بين البشر "

   هنا التشديد علي مصدر قوة المسيحية وكيانها الذي هو المسيح, كلمة الله, الذي به كان كل شيء. هذه الإرسالية ليس غرضها التسلط علي البشر وإرعابهم بل لإظهار رحمة الله ووداعته : " فكما يرسل الملك إبنه, الذي هو ملك أيضاً, هكذا أرسل الله إبنه كإله, أرسله كمخلص للبشر ليفتش عنا لكي يصنعنا وليس ليقهرنا لأن العنف والإكراه ليسا  من طبع الله. أرسله ليدعونا, وليس كمنتقم يتعقبنا, أرسله لمحبته لنا, وليس ليحاكمنا. ومع ذلك فهو سيأتي فيما بعد لكي يديننا, ومَنْ يحتمل ظهوره ؟

   ويختتم الكاتب هذا الفصل بنتيجة مفادها أن المسيحية ليست من عمل إنسان بل هي قوة الله, والبرهان علي ذلك هو التساؤل الذي يطرحه الكاتب علي صديقه في الخطاب:"ألا تري كيف تعرض هؤلاء المسيحيين لهجوم الوحوش المفترسة لكي يجعلوهم ينكرون الرب, لكنهم لم ينهزموا ؟

ألا تري كيف أنهم كُلما عُذب البعض منهم فإنهم يزدادون في العدد ؟

 

فصل 8   هل كانت هناك إمكانية لإدراك الله قبل مجيئه ؟

 

 ينتقد الكاتب آلهة الفلاسفة, الذين قالوا إن النار هي الله, والبعض الآخر يقول إن الماء هو الله. وآخرون يعتبرون أشياء خلقها الله أنها هي الله. لكن لو أن أي نظرية من هذه النظريات تستحق الإحسان ـ هكذا يقول الكاتب ـ فبالتبعية لا بد أن نقر أن بقية الأشياء المخلوقة هي آلهة. لكن هذا الإقرار خاطئ. 

   ثم يؤكد الكاتب علي حقيقة تعلنها المسيحية وهي أن الله لم يره أحد ولا عرفه بل الذي أعلن ذاته : " أظهر ذاته ليس كمجرد صديق للبشرية فقط بل أظهر ذاته مشتركاً في معاناتهم. الله كان دائماً محباً ويبقي محباً, وسيبقي كذلك علي الدوام, وهو خال من أي ميل للإنتقام ". ثم يشرح الكاتب العلاقة بين الله الآب والإبن قائلاً : " خو إله حقيقي, وهو الوحيد الصالح. وله إتحاد عظيم يفوق الإدراك مع إبنه وحده ".  ثم يؤكد أيضاً الكاتب علي أن الله أنعم علينا بكل البركات عن طريق إبنه الحبيب : " لقد كشف عن الأشياء المُعدة لنا منذ البداية عن طريق إبنه الحبيب ". ويذكر الكاتب أمراً في غاية الأهمية بالنسبة لدورنا نحن أمام نِعم الله وبركاته, قائلاً : " فقد أنعم علينا بكل البركات مرة واحدة, ولذلك يجب علينا نحن أيضاً أن نشاركه في العطاء ونكون جادين في خدمته ".   

 فصل 9 :   لماذا أرسل الإبن متأخراً ؟

   يجيب الكاتب علي هذا السؤال بإستفاضة لكي يبرهن علي أن التأخر كان غرضه أن تعرف البشرية أن طبيعتها كانت عاجزة عن البلوغ إلي الحياة حين وصل شرها إلي أقصاه. وعندما أتي المخلص لإنقاذنا ـ بالرغم من خطايانا ـ ينبغي علينا أن نثق في لطفه وصلاحه ونعتبره هو " مصدر حياتنا, وأبانا, ومعلمنا, ومرشدنا, وشافينا, وحكمتنا, ونورنا, ومجدنا, وكرامتنا, وقوتنا, وحياتنا, حتي أننا لا نقلق أو نهتم من جهة الملبس والمأكل".

   ويتسائل الكاتب : فأي شيء آخر كان يمكن أن يستر خطايانا سوي بره ؟ بأي شخص آخر كان يمكن تبريرها نحن الأشرار وعديمي التقوي إلا بشخص إبن الله الوحيد ؟

   ويتعجب الكاتب مندهشاً ويقول : ما أجمل هذه المبادلة ؟ ويقصد الكاتب ما أقوله عن طول أناة الله الذي " يذل إبنه الوحيد كفدية لأجلنا, القدوس من أجل العُصاة, والذي بلا لوم من أجل الأشرار, والبار من أجل الأثمة, وغير الفاسد من أجل الفاسدين, وغير المائت من أجل المائتين ".

   فصل 10 :  إقتناء الإيمان  

   الحصول علي معرفة الآب تجعلنا نقتضي الإيمان. ومعرفة الآب ـ بحسب رأي الكاتب ـ هي أن نعرف أن " الله قد أحب البشر, الذين من أجلهم خلق العالم, وأخضع كل شيء فيه لهم. وقد أعطاهم العقل والإدراك, وأعطي للإنسان وحده إمتياز أن ينظر إلي الله. وهو الذي خلق الإنسان علي صورته, ومن أجل الإنسان أرسل إبنه الوحيد, وأعطاه وعد ملكوت السموات التي سوف يعطيها للذين أحبوه ". ويشرح الكاتب بركات هذه المعرفة, فائلاً : " وعندما تدرك هذه المعرفة فإنك سوف تشعر بسعادة عظيمة جداً, وتمتلئ بفرح فائق, وهكذا فإنك ستحب من أحبك أولاً ". ثم الكاتب علي أن الإنسان يستطيع بعد ذلك أن يتشبه بالله. ومعني التشبه بالله هنا هو أن يكتسب الإنسان بمعرفة الله صفات إلهية : " فهذا الإنسان لا يتسلط علي جيرانه ولا يسعي للإرتفاع فوق الضعفاء, ولا يسعي أن يكون غنياً, وهو لا يكون عنيفاً تجاه من هم أقل منه... إن الإنسان الذي يحمل أثقال جيرانه, ومهما كان أعلي من غيره, يكون مستعداً أن يتنازل للآخرين الذين هم أقل منه, وكل شيء يناله من الله يوزعه المحتاجين بهذه الأمور يصبح هذا الإنسان إلهاً بالنسبة للذين يساعدهم : وبذلك يكون متشبهاً بالله ".

   والأمر الهام في هذا الفصل هو أن الإنسان حينما يؤمن بالمسيح تتغير نظراته لكل ما يحيط به وتصبح لديه قناعات لم تكن لديه قبل الإيمان. ويشرح الكاتب هذا الأمر, قائلاً : " عندئذ ستري وأنت لا تزال علي الأرض أن الله الذي في السماء يحكم الكون كله, وعندئذ سوف تبدأ بأن تتكلم عن أسرار الله, عندئذ ستجد نفسك تحب الذين يعانون الآلام والضيقات بسبب عدم إنكارهم لله وسوف تُعجب بهم, وسوف تستنكر الغش والضلال الذي في العالم حينما تعرف ما معني أن تعيش حقاً في السماء. وسوف تحتقر ما يُعتبر هنا أنه موت,وذلك حينما تتعلم أن تخاف من الموت الحقيقي المحفوظ لأولئك الذين سوف يُحكم عليهم بالنار الأبدية, التي ستهلك أولئك الذين يُوضعون فيها إلي الأبد. وسوف تُعجب بأولئك الذين يحتملون النار للحظة من أجل البر, وسوف تحسبهم سعداء حينما تعرف طبيعة تلك النار "  

 فصل 11 :  النعمة تعطي الفهم :  

   يوضح الكاتب أن الفهم والإستنارة مصدرهما النعمة, فالنعمة تعطي الفهم وتكشف الأسرار وتُعلن الأزمنة. ويؤكد لصديقه بأنه سوف يعرف تلك الأشياء التي يعلمنا إياها الكلمة بإرادته, في الوقت الذي يستحسنه هو.   

 

 

فصل 12 :  المعرفة الحقيقية :

 

  إن المعرفة الحقيقية هي المعرفة التي يصاحبها حياة. فالله منذ البداية وضع شجرة الحياة في وسط الفردوس, كاشفاً لنا من خلال المعرفة, الطريق إلي الحياة. فالمعرفة الحقيقية ـ إذن ـ هي المعرفة التي تؤدي إلي الحياة : " فالذي يظن يعرف أي شيء بدون معرفة حقيقية أي بدون أن تشهد حياته لكلامه, فهو لا يعرف شيئاً, بل هو مخدوع من الحية وليس محباً للحياة. ولكن الذي يجمع بين المعرفة والمخافة ويبحث عن الحياة فهو يزرع علي الرجاء منتظراً الثمر "

   ثم يختم الكاتب رسالته بدعوة صديقه لأن يحرص علي إقتناء المعرفة الحقيقية, قائلاً:" إجعل قلبك يحكمّك, وإجعل حياتك تكون معرفة حقيقية تمتلئ بها في داخلك ". 



[1] Vigiliae christianae, Amsterdam 1947, p.129 / 36
والتاريخ المتعارف عليه هو النصف الثاني من القرن الثاني بين عامي 190, 200م ـ أي وقت كتابتها.