الاثنين، 20 يناير 2014

تحويل الماء إلى خمر (عرس قانا الجليل)




تحويل الماء إلى خمر (عرس قانا الجليل)

                                                                                                                 د.جورج عوض إبراهيم

 

أ ـ مقدمة (يو1:2ـ2) " وفي اليوم الثالث كان عُرس في قانا الجليل وكانت أُم يسوع هناك".

الزواج اليهودي في زمن العهد الجديد كان يتم في بيت العريس ويتبعه عشاء احتفالى، والاحتفال يستمر 7 أيام (انظر طوبيا 9:11، قض12:14). هنا يسجل لنا القديس يوحنا البشير أن عرس قانا الجليل كان بعد ثلاثة أيام من دعوة نثنائيل الذي من قانا الجليل. يربط بعض المفسرين بين معجزة تحويل الماء إلى الخمر في إطار حفلة زواج وبين حقيقة أن المسيح هو العريس الذي اختار كنيسته التي في العالم عروسًا له. وهذا الرأي يقول به كل من القديس أُغسطينوس والقديس كيرلسالأسكندرى. على الجانب الآخر يربط البعض بين المائدة العُرسية في قانا الجليل ومائدة الافخارستيا. أيضًا ذكر ثلاثة أيام في هذا السياق المتسع لا يمكن أن يكون مجرد صدفة، حيث توجد شواهد هامة عن آلام وقيامة المسيح (يو29:1،36، 4:2،11،13،17:14). وهذا الرقم (3) يمكن أن يُفهم إذا قرأناه مع خاتمة المعجزة (يو11:2). حيث اليوم الثالث هو اليوم الذي يظهر فيه مجد المسيح في قيامته (انظر يو20:1).

حضور أم يسوع للعرس ـ والتي سوف يكون لها دور هام في هذا العُرس ـ نجده فى عدد1:2 وذلك وفق المنهج الذي اتبعه القديس يوحنا لإظهار الشخصيات الأساسية للرواية. واستخدام فعل الكينونة في الماضي "كانت" يشير إلى أن حضور أم يسوع كان أمرًا بديهيًا وربما سبق حضورها حضور المسيح نفسه؛ وربما يشير إلى أن أم يسوع كانت لها علاقة قوية بأسرة العريس. وهذا يظهر من إبداء اهتمامها بانتهاء الخمر (يو3:2) وأيضًا وصيتها للخدام بأن يفعلوا كل ما يقوله لهم المسيح (يو5:2).

”ودُعى أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس”.

يستخدم العلاّمة أوريجينوس حدث وجود يسوع في عُرس قانا الجليل في إطار محاربته للهرطقة الغنوسية، وهذا ما يفعله أيضًا القديس كيرلسالأسكندرى. فبحضور المسيح هذا العرس قد كرّم بداية الحياة كعطية من الله. واستجابة يسوع وحضوره إلى العُرس تصل إلى قمتها عندما يمنح عطية الخمر العظيمة فيما بعد.

أيضًا المقصود بكلمة "تلاميذ" هو التلاميذ كوحدة واحدة، وهكذا يُفهم عدد11:2 " هذه بداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه " بأنه ربما كان كل التلاميذ حاضرين ورأوا كلهم مجد المسيح.

 

ب ـ المسيح وأمه (يو3:2ـ5)

إن المشكلة غير المتوقعة والتي حدثت بسبب النقص المفاجئ للخمر على المائدة العُرسية قد أدركتها أم يسوع التي التفتت إلى ابنها وعرضت عليه الحالة بتعبير بسيط. لقد كان لديها أمل ليس على أساس معجزات سابقة كان قد أتمها لكن كما يقول القديس ذهبي الفم على أساس اليقين الداخلي الذي كان عندها عن قدرته، وأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يكون لديه الحل لهذه المشكلة.

إن تعبير " ليس لهم خمر" يمكن أن يشير رمزيًا إلى عدم كفاية العبادة اليهودية للتطهير، وطبعًا يمكن أن لا يمثل هذا التعبير توسل غير مباشر ـ كما يرى البعض ـ ليتدخل يسوع ليحل مسألة نقص الخمر، إنما يمثل ـ حسب رأيهم ـ تنبيه غير مباشر لكي يرحل يسوع مع تلاميذه لكي لا يضعوا أصحاب العُرس في موقف محرج.

لكن على أى حال ـ قد أتى المسيح إلى قانا لكي يظهر مجده وظلّ في العرس متممًا أول معجزة له مفتتحًا بذلك فترة عمله الماسياني. إن الرأي الأخير الذي يراه البعض بشأن طلب رحيل يسوع وتلاميذه من العُرس يجهل العمق اللاهوتي لعدد3 " ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر" والذي يعلن من جهة حجم الضعف الإنساني، ومن جهة أخرى سيادة الرب يسوع المطلقة. ونستطيع أن نرى رجاء وثقة أم يسوع بوضوح في عدد5:2 " قالت أمة للخدام مهما قال لكم فافعلوه"، إذ كانت متأكدة بأن يسوع سوف يحل هذه المشكلة. ونلاحظ أن طلب أم يسوع هو غير مباشر وقد حُصر في مجرد ذِكر الصعوبة التي حلت بأهل العُرس، إذ نرى دائمًا في إنجيل القديس يوحنا أن طلب المؤمن يكون بطريقة غير مباشرة (بسبب الشركة الداخلية بينه وبين يسوع). وبذلك يترك الإنجيل المبادرة للمسيح مكتفيًا فقط بذِكر الحالة وعرضها عليه[1]. أما غير المؤمن ـ فعلى النقيض ـ يحاول توجيه أفعال المسيح وفق رغباته وتطلعاته لأنه يعتبر المسيح مجرد إنسان عادي[2]. هذا يتوافق مع الخط العام لإنجيل يوحنا الذي يتجنب تقديم فعل المسيح كنتيجة طلب شخص آخر. فالمسيح في إنجيل يوحنا يأخذ دائمًا زمام المبادرة ويعمل بحرية تامة كسيد مطلق على الظروف والحالات[3].

عدد4: قال لها يسوع مالى ولكِ يا امرأة. لم تأتِ ساعتي بعد”.

هنا في هذا العدد لا يعطي المسيح الإجابة على طلب أمه غير المباشر. وتعبير "مالى ولك يا امرأة" تعبير معروف في اللغة السامية ويعني الرفض القاطع لأي طلب[4]. لكن بحسب القديس يوحنا ذهبي الفم فإن التعبير يفصح عن عمق هوة المسافة الكيانية التي تفصل المسيح عن أمه، فهذه المسافة لا تسمح لها أن تظهر كيف يجب أن تفعل. أما قوله "يا امرأة" فهو بمثابة الطريقة المؤدبة لمناداة النساء في ذلك العصر[5]. وبالتالي لا يجب أن يعتبر هذا التعبير إنقاصًا من الكرامة كما يبدو من مناداة يسوع لأمه بهذا القول وهو على الصليب (يو29:19)، أى في سياق لا يسمح أو لا يبرر أى انتقاص من مكانتها وتقديرها. إن المسيح يؤسس رفضه لطلب أمه غير المباشر بقوله " لم تأتِ ساعتي بعد". هذا التعبير يعني ـ في السياق المباشر ـ أنه لم تأتِ بعد الساعة التي فيها يعلن المسيح حقيقته الإلهية، مثلما ظهر ذلك فيما بعد. فبالرغم من حدوث المعجزة، بيد أن الخدام فقط وكذلك التلاميذ كانوا مدركين ما الذي يحدث، أما حقيقة شخص المسيح فقد ظلت مخفية عن الكثيرين.

  إن التعبير يأخذ بُعدًا عميقًا: فالساعة لم تأتِ بعد لكي يُعلن تمجيد المسيح النهائي من الآب. وكون أن المسيح يحقق المعجزة أخيرًا ـ مع أنه رفض في البداية ـ يبيّن أنه فعلاً يسير نحو هذه الساعة معلنًا عن ذاته في نفس الوقت بترتيب تدريجي، والذي ينتج عنه رفضه نهائيًا من "الكثيرين"، ولكنه ـ فيما بعد ـ يجذبهم إلى الإيمان الحقيقي.

وحيث إن المسيح يفتتح العصر الأخروي الجديد في الحاضر، فإن مجده الذي سوف يظهر عظمته في موته وقيامته ومجيئه الثاني، هو فعلاً حاضر منذ الآن.       

 

 (عدد5): ” قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه”:

هنا تلتفت أم يسوع إلى الخدام، وبالرغم من إجابة ابنها المحبطة إلاّ أنها تعطي أمرًا بأن يعملوا ما يقوله لهم المسيح. ويبدوا أن العذراء الوالدة تعرف جيدًا أن المسيح يستطيع في الحال أن يعمل معجزة، حتى إن كان لم يعطها ردًا إيجابيًا. وإذا قارنا موقف مرثا أخت لعازر نجد أن رد فعلها أمام قبر لعازر يبيّن أنها لا تفهم ما الذى سوف يفعله المسيح وذلك نتيجة عدم إيمانها بقدرة المسيح الإلهية. ورد فعلها يتضح من إجابتها على قول المسيح " ارفعوا الحجر"، إذ قالت "يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام". أما أم يسوع فكان عندها يقين داخلي أن المسيح سوف يعطي حلاً لهذا المأزق، فإنها لم تبدِ أدنى رد فعل تجاه قول المسيح: " املئوا الأجران"، بل ـ كما قال ذهبي الفم ـ فإنها قبل أن يتكلم المسيح أمرت "مهما قال لكم فافعلوه".

أخيرًا يبدو أن أم يسوع كان لها مكانة خاصة في منزل العريس، ليس فقط لأنها اهتمت اهتمامًا خاصًا بمشكلة نقص الخمر، بل كانت لها مكانة كبيرة وثقة بأن توصي وتأمر خُدام البيت. أما بخصوص عبارة "مهما قال لكم فافعلوه" فلها مستوى لاهوتي آخر إذ يعتبره البعض أنه إجابة على سؤال اليهود في (يو28:6) " ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله"، إن عمل الله، أول كل شئ هو الإيمان "بمن أرسله" (يو29:6). وهذا الإيمان ـ بحسب إنجيل يوحنا ـ يتألف من قبول الكلمة وحفظ وصايا المسيح وهذه هى الرسالة الموجودة في (يو52:8) " إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد" وكذلك (يو26:11) " وكل من كان حيًا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد"، إنها الرسالة التي ترتبط بالعمق الأخروي للحياة الأبدية والإيمان بالمسيح وحفظ وصاياه.

ج ـ المعجزة ـ يسوع والخدام (يو6:2ـ8)

يخبرنا الإنجيلي في (يو6:2) بأنه: " كانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة".

يؤكد ذهبي الفم أن الأجران كانت مستخدمة للتطهير، وهكذا لا يمكن أن تكون مستخدمة كآنية خمر. ويقول بعض المفسرين بأن عدد الأجران "ستة" يشير إلى عدد ناقص بالمقارنة بعدد الكمال "سبعة" وهذا يدل على أن الناموس اليهودي ناقص وغير كامل، وقد أبطله المسيح. ويبدو أن القديس يوحنا الإنجيلي ينتقد الناموس الموسوي ـ في هذه المعجزة ـ نقدًا غير مباشر، كما يبدو من مجموع محتوى الستة أجران، إذ أن كل جرن يحتوي على اثنين أو ثلاثة مكاييل أى حوالي 120 لتر، والكمية كلها لا تصل للحد الأدنى للمياه التي تتطلبها المعمودية اليهودية لأجل التطهير وهى 525لتر (حسب المقاييس اليهودية).

إن الاستخدام الطقسي للمياه قد تغير جذريًا لكي يعلن أن عصر الناموس والذي كان يُرمز له هنا بماء التطهيرات اليهودية قد انقضى (يو17:1)، وأن عطية المسيح والتي قُدمت رمزيًا في صورة خمر وبكمية كبيرة هى بمثابة عطية الحياة الفضلى والوفيرة (يو16:10).

ونلاحظ هنا أن الخمر الذي حل محل ماء التطهيرات الموسوية يذكرنا "بماء الحياة" الذي حل محل ماء بئر يعقوب في حديث المسيح مع السامرية وأيضًا "خبز الحياة" الذي حلَّ محل "المن" في (إصحاح 6) كما يؤكد كل من أغسطينوس ومار افرام السرياني.

في عدد (7): " قال لهم يسوع املأوا الأجران ماء. فملأوها إلى فوق" المسيح هنا يأمر الخدام بأن يملئوا الأجران الستة بالماء. والخمر هنا يشير إلى العهد الجديد (انظر مت8:11، مر22:2، 1:12ـ9، 24:14، يو1:15). إن ذهبي الفم يميز في هذه المعجزة وجود مثال لمحاربة الغنوسية إذ يؤكد أن المادة المخلوقة من الله هى حسنة، لذا خلق الخمر من عنصر مادي آخر هو الماء وليس من العدم. ومن الجدير بالملاحظة أن المسيح قد تمم هذه المعجزة فقط بقوة إرادته وليس بالكلام أو الفعل.

إن المسيح يختلف اختلافًا جذريًا في هذه المعجزة عن أنبياء العهد القديم، فبالرغم من أن هناك معجزات فعلها إيليا وإليشع متشابهة مع هذه المعجزة (مثل مباركة الزيت)، إلاّ أن عمل المسيح في هذه المعجزة له ملمح الخلق ويعلن عن وحدته مع الله الآب.

هكذا يكشف المسيح عن ألوهيته ومجده الأزلي بواسطة قيمة المعجزة وعظمتها الظاهرة، وأيضًا بسلطانه المطلق الذي تمم به المعجزة. فالذي له مثل هذا السلطان على عناصر الكون لا يمكن أن يكون إنسانًا عاديًا. هذه المعجزة تمثل تحقيق وعود العهد القديم فيما يتعلق بمملكة يهوه والوفرة الأخروية كعطيته المباشرة. لذا فإن هذه المعجزة تُفسّر تفسيرًا صحيحًا على أساس دور الخمر في العهد القديم كعطية تشير إلى الحياة الأبدية.

أما في عدد (8): " ثم قال لهم استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ. فقدموا".

يأمر المسيح الخدام بأن يعطوا لرئيس المتكأ. ورئيس المتكأ بحسب ذهبي الفم كان هو وحده المسئول عن المائدة بين كل الجالسين عليها، وبالتالي الوحيد الذي يحكم على الخمر حكمًا صحيحًا من حيث النوعية.

كلمة "الآن" تعلن أن الساعة أتت لكي يظهر مجد المسيح. وبعدما أمر المسيح الخدام رحل عن مسرح الأحداث ولم يُذكر بعد ذلك حتى نهاية المعجزة. فرئيس المتكأ والعريس سوف يعرفان بوجود الخمر، لكن القوة المعجزية بفعل المسيح سوف تظل مخفية.

  إن مجد يسوع في الحاضر سيكون منظورًا فقط لتلاميذه أثناء حياته على الأرض.

 

د ـ تصديق المعجزة (9ـ10)

(عدد9):فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا ولم يكن يعلم من أين هى. لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا. دعا رئيس المتكأ العريس”.

رئيس المتكأ لم يعرف أن الخمر التي ذاقها أتت نتيجة العمل المعجزي الذي قام به المسيح، فدعا العريس ليناقش معه الأمر. والإجابة على سؤال رئيس المتكأ وجهله أوردها الإنجيلي في عدد 11 من هذا الاصحاح حيث يؤكد أن المسيح هو الذي فعل هذه الآية وأظهر مجده.

(عدد10): " وقال له كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكروا فحينئذٍ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن".

إن ملاحظة رئيس المتكأ على نوع الخمر الجيد تُكمل الصورة التي أمام قارئ الإنجيل عن كمية الخمر العظيمة (يو6:2)، ويشدد على الجحيم الظاهري للمعجزة (راجع يو51:4، 9:5، 13:6، 8:9، 2:12ـ17). هنا نرى أيضًا استمرار جهل رئيس المتكأ بما حدث موجهًا كلامه إلى العريس متسائلاً " لماذا أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن "؟ إن عطية المسيح الأخرويةهى وفيرة جدًا من حيث الكمية، وهى لا تقارن من حيث النوع، بل هى أسمى من أية عطية، هذه العطية تُمنح ليس في البداية ولكن " في نهاية الأزمنة " كما يرى القديس كيرلسالأسكندرى[6].

ويرى البعض أيضًا أن معجزة عرس قانا الجليل لها أبعاد سرائرية وأنها تشير رمزيًا إلى ماء المعمودية وإلى خمر الافخارستيا. لذا عندما تذكر الخمر في الكنيسة الأولى يُشار إلى الوفرة الأخروية التي يمنحها المسيح بالخمر الافخارستي كعطية محيية. لذا في (يو53:6ـ56) يُذكر أن من يأكل جسد يسوع ويشرب دمه يشترك في الحياة الأبدية تلك التي تنبع من المسيح. توجد علاقة وثيقة بين هذه المعجزة وبين ما جاء في الاصحاح السادس بالنسبة لرفض الناموس الذي لا يقدر أن يمنح الحياة، وإحلال نعمة المسيح المحيية بدلاً من الناموس، وهذه النعمة هى حاضرة في حادثة الصليب وفي عطية الافخارستيا التي هى جسده ودمه. إن استخدام يوحنا ـ في السياق العام للمعجزة ـ مصطلحات وملامح من رؤية أحداث الآلام، وحديثه العظيم عن الخبز الحيّ (في الاصحاح السادس)، يرتبط بشدة بالحدث الافخارستي. وهذا يؤكد أن المعجزة لها أبعاد إفخارستية بالنسبة للقديس يوحنا الإنجيلي ، كما يقول القديس مار افرايم السرياني[7].

 

هـ خاتمة (11:2)

هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه

يخبرنا الإنجيلي في ختام المعجزة أن المسيح صنع أول آية من الآيات التي سوف تتبعها سلسلة من الآيات، سوف يذكرها. وليس صدفة أن تكون أول آية للمسيح ويحققها في إطار حفل زواج. فالعرس والمائدة العرسية يصفان ـ في العهد القديم ـ العصر المسياني (انظر على سبيل المثال إش4:54ـ8، 4:62ـ5) وأيضًا في العهد الجديد (مت1:22ـ4، لو16:14ـ24، رؤ9:19).

وهناك عناصر مشتركة بين هذه المعجزة المذكورة في يوحنا والأناجيل الثلاثة الأولى. هذه العناصر المشتركة هى:

  أ ـ إشارة المسيح إلى عشاء احتفالي (راجع مت1:22ـ4، لو16:14ـ24).

  ب ـ الحديث بين المسيح وأمه (راجع مر32:3ـ35، لو48:2ـ50).

  ج ـ الخمر الجديد كرمز للعهد الجديد والتعليم الذي دشنه المسيح (راجع مر22:2، لو39:5).

  د ـ الزواج الذي يرمز للعصر الأُخروي الآتي والمستقبلي الذي دشنه المسيح (مت1:22ـ14، مت1:25ـ13، مر19:2، لو35:12ـ36).

  يستعمل القديس يوحنا الإنجيلي لفظة "آية" لكي يوضح أن معجزات المسيح لا ينبغي أن تُفهم في حد ذاتها، بل هى تشير إلى شخص المسيح وتكشف عن ألوهيته وسلطانه من ناحية، ومن ناحية أخرى تكشف عن عطيته الخلاصية للبشر. هذا هو بالضبط اعلان المسيح عن ذاته كظهور مجده. ومصطلح "مجده" الذي يذكره القديس يوحنا الإنجيلي في هذا العدد يشير إلى:

  أ ـ أن "مجد المسيح" هو "مجد" يهوة في العهد القديم.

  ب ـ بواسطة معجزة قانا فإن المسيح يعلن عن ذاته أنه هو الكلمة المتجسد أنه حضور لله الظاهر في الزمن والتاريخ.

  إن معجزة تحويل الماء إل خمر هى معجزة خلق والتي فيها يظهر المسيح كخالق، فالكلمة الأزلي والمتجسد وعمله هو سابق على الخلق كما أنه مستمر بعد الخلق والتجسد.

  ج ـ ظهور مجد المسيح سوف يستمر في أثناء خدمته الجهارية وسوف يصل إلى قمته في الآلام والقيامة والتي هى آيات تعلن قوة ألوهيته.

  إن إيمان التلاميذ بشخص المسيح بسبب ظهور مجده حل محل إيمان الكثيرين عندما رأوا الآيات في (عدد23). إن التلاميذ هنا يرون مجد المسيح ويتقدمون إلى ما هو أبعد من حدث المعجزة ذاتها، أى إلى فهم حقيقة شخص المسيح. أما اليهود فقد آمنوا مثل الكثيرين الذين ينجذبون إلى المعجزات في حد ذاتها بدون أن يتعرفوا على شخص الذي يفعلها (انظر يو60:6، 66، 31:7، 30:8، 41:10، 42، 45:11، 11:12، 42). إن إيمان التلاميذ لم يكن كاملاً وعميقًا بعد، إذ أن إيمانهم تثبّت بعد القيامة. لكن علاقة المسيح مع التلاميذ ـ كما يبدو فيما بعد في الإنجيل ـ كانت بالأكثر علاقة ثقة ومحبة وليست فقط مسألة إيمان لا يتزعزع. فالتلاميذ كانوا يشعرون بالمسيح شعورًا عميقًا أكثر من مجرد معرفة من هو المسيح في حقيقته. وقد استمر التلاميذ بعد القيامة وعطية الروح القدس يتمتعون بمعرفة شخص المسيح، وبدءوا يفسرون كل خبراتهم السابقة مع المسيح على أساس هذه المعرفة (راجع يو22:2، 16:12، 25:14ـ26).

  على المستوى الثاني، فإن قارئ المعجزة والذي يشترك فعلاً في مجد المسيح في الافخارستيا، إذ يحيا في الكنيسة، مدعو لأن يؤمن بحسب مثال إيمان التلاميذ عندما يقرأ هذه المعجزة: " وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع المسيح هو ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو31:20).



[1] انظر يو3:11 " فأرسلت الأختان إليه قائلين يا سيد هوذا الذي تحبه مريض ".
[2] انظر يو18:2، 30:6، 3:7ـ5.
[3] انظر يو6:5، 5:6ـ9، 6:19، 43:39.
[4]راجع قض12:11،2صم10:16،23:19، 1مل18:17،2مل13:3،مت9:8، مر24:1، لو34:4.
[5] راجع مت28:15، لو12:13، يو21:4، 10:8، 13:20.
[6]انظر تفسير إنجيل يوحنا للقديس كيرلسالأسكندرى، إصدار مركز دراسات الآباء، الجزء الأول ص186ـ187، القاهرة 1989م.
[7]انظر تفسير إنجيل يوحنا، فقرة 12 ،S.C. 121

السبت، 18 يناير 2014

الروح القدس وأنهار ماء حى


الروح القدس وأنهار ماء حى

د. جورج عوض


مقدمة

"الماء الحى" هو الموهبة المحيية التي للروح القدس (يو10:4)

أثناء تفسير القديس كيرلس للإصحاح الرابع لإنجيل يوحنا حول حديث المسيح مع السامرية[1] عدد 10 " لو كنت تعلمين عطية الله، ومَن هو الذي يقول لكِ أعطينى لأشرب، لطلبت أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حيًا" يُعلن أن المسيح يدعو الموهبة المحيية التي للروح القدس بـ" الماء الحى " ويشدّد على أن الطبيعة البشرية المتعطشة والمجردة من كل فضيلة تشتاق إلى العودة إلى جمالها الأصلى لتنهل من النعمة الواهبة الحياة. وهذه النعمة الواهبة الحياة تمنح الصالحات والفضائل. ويستشهد القديس كيرلس بالكتاب المقدس ففي إشعياء20:43ـ21 : " يمجدنى حيوان الحقل. الذئاب وبنات النعام لأنى جعلت في البرية ماءً أنهارًا في القفر، لأسقى شعبى مختارى، الذي جبلته لنفسى ليحّدث برفعتى "، ويذكر نص آخر عن القديسين يقول إن نفس البار ستكون " كشجرة مثمرة وتنبت كالعشب في وسط المياه، وتغدوا كالصفصاف بجانب المياه الجارية " (أر12:31س).

 

موهبة التعليم هى ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية ص14:4


          عندما يفسر القديس كيرلس عدد14: " ولكن مَن يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أُعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية"، يؤكد على أن موهبة التعليم الإلهى هى هذا الينبوع الذي ينبع إلى حياة أبدية وينالها مَن يشترك في نعمة الروح القدس، لذا يقول القديس كيرلس [ " فلا يعود يصبح بحاجة إلى أن يُعلمه الآخرون، بل بالحرى يتوفر لديه ما يحث هو به المتعطشين إلى الكلمة الإلهى السماوى، مثلما كان البعض لا يزالون والرسل، وورثتهم في الخدمة الرسولية، الذين كُتب عنهم " فتسقون مياهًا بفرحٍ من ينابيع الخلاص " إش3:12 ].

 

المسيح هو النهر[2]

          " وفي اليوم الأخير، العظيم من العيد، وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحدًا فليقبل إلىَّ ويشرب " (يو37:7).

          يشرح القديس كيرلس عن سبب قول المسيح في هذا العيد " إن عطش أحدًا فليقبل إلىّ ويشرب"، وذلك عن طريق الحقيقة التاريخية لهذا العيد، عيد المظال. ففي رأيه أن هذا العيد يشير إلى الاشتياق إلى القيامة، وأن أخذ الأغصان وثمر الأشجار البهجة والأشياء الأخرى (لاو39:33ـ40) تعنى استعادة الفردوس الموشك أن يعطى لنا بواسطة المسيح، ثم يؤكد قائلاً: [ إن ربنا يسوع المسيح كان يقارن بنهر فيه نجد كل مسرة وتمتع في الرجاء وفيه نفرح فرحًا إلهيًا وروحيًا ] إذن في رأى القديس كيرلس، قال المسيح " إن عطش أحدًا فليقبل إلىّ ويشرب" لأن المسيح أراد أن يُبعد ذهن اليهود عن الفهم الحرفى ومحاولة رؤية هذه الأشياء والتي تحدث في هذا العيد ويصفها سفر اللاويين39:33ـ40 " وتأخذون لأنفسكم في اليوم الأول ثمر أشجار بهجة وسعف النخل وأغصان أشجار غبياء وصفصاف الوادى (النهر)". أراد المسيح ـ بحسب القديس كيرلس ـ أن يقول [ إننى أنا " النهر " الذي سبق وأعلن عنه معطى الناموس في تنبؤه عن العيد ]. المؤمن لا يكتفى بقبول عطايا الروح ولكن يفيض على الآخرين. عدد 28:  " مَن آمن بى، كما قال الكتاب، تجرى من بطنه أنهار ماء حىّ ". إن الإنسان المؤمن لا يستقبل فقط عطايا الروح ولكن يفيض أيضًا على قلوب الآخرين لذا يقول القديس كيرلس: [ مَن يؤمن سينعم بأغنى نعمة الله. لأنه سيمتلئ بعطايا الروح، فلا يسمن ذهنه فقط، بل يصبح قادرًا أيضًا على أن يفيض على قلوب الآخرين، كتيار النهر المتدفق الذي يفيض بالخير المعطى من الله على جاره أيضًا ].

          إن الإنجيليين والمعلمين في الكنيسة هم خير مثل لدى كيرلس لأنهم     [ يفيضون بغنى على مَن يأتون إلى المسيح بالإيمان، بكلمة التعليم الموحى به فيفرحونهم روحيًا، ولا يجعلونهم بعد عطشى إلى معرفة الحق، وبأصواتهم الحكمية، يصيحون عاليًا في قلب أولئك الذين قد تهذبوا بالتعليم. وإذ يتهلل المرنم بالروح ينادى قائلاً عنهم " رفعت الأنهار يا رب، رفعت الأنهار صوتها " (مز3:93)، فعظيمة هى ومقتدرة كلمة القديسين و" في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم " كما هو مكتوب (مز4:19) ].

          هكذا فإن النعمة التي تُعطى بالروح هى التعليم والحكمة، فأى إنسان ـ بحسب رأى القديس كيرلس ـ يحب الله سيصير " كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه " (إش11:58).

 

حلول الروح القدس بين العهد القديم والجديد


          لقد تسائل القديس كيرلس أمام قول يوحنا الحبيب: " قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، أن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد"، كيف يقول: " الروح لم يكن قد أُعطى بعد " ولدينا خورسًا كبيرًا من الأنبياء كان قد أعده الرب لينطق بالروح بالأسرار الإلهية التي تخص المسيح بكلمات كثيرة، ويشهد الرب يسوع عن داود أنه كان بالروح ينطق بالأسرار؟. يُعطى القديس كيرلس إجابة تحليلية على هذا التساؤل مبتدأ بالخلق ومرورًا بالسقوط ثم بعد ذلك الفداء. يتكلم عن الخلق قائلاً: [ إن الإنسان قد خُلق منذ البدء في عدم فساد. وأن عدم الفساد وبقائه في الفضيلة يرجع إلى أن روح الله كان يسكن فيه، لأن الله " نفح في وجهه نسمة حياة " كما هو مكتوب (تك7:2)].

          أما عن السقوط يقول: [ بسبب تلك الخدعة القديمة قد انحرف إلى الخطية، ثم تتابع تدريجيًا في العلو في هذه الأمور، ومع ما تبقى لديه من أمور صالحة عانى من فقدان الروح، وفي النهاية أصبح خاضعًا ليس فقط للفساد، بل عرضة أيضًا لكل الخطايا ". هكذا نتيجة السقوط فقد الإنسان عطية الروح، لكن يؤكد القديس كيرلس أن الله أراد أن يرد من جديد طبيعة الإنسان إلى حالتها الأولى ووعد بأن يعطيها من جديد الروح القدس: [ لذا جدّد وقت حلول الروح القدس علينا إذ قال في يوئيل 28:2    " في تلك الأيام إنى أسكب روحى على كل بشر"]. التجسد عند القديس كيرلس كان هو الحل الجذرى لاستعادة هذه الروح التي فُقدت، لذا يقول    [ كان المسيح أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن يوحنا شهد قائلاً : " إنى قد رأيت الروح نازلاً من السماء فاستقر عليه " (يو32:1)]. وكعادته يطرح سؤالاً ثم يتطوع هو بالإجابة، فيقول: [ هل كان المسيح بغير روح؟ لأن الروح هو روح الابن الذاتى، ولا يعطى له من خارجه ]، ويعطى القديس كيرلس إجابة قائلاً: [ قيل عن (المسيح) إنه قَبِل الروح لأنه صار إنسانًا، ويوافق الإنسان أن يأخذ. وهو، ابن الله الآب، مولود من جوهره حتى قبل التجسد، بل قبل الدهور، فليس من الخزى أن يقول الله الآب له حين صار (الابن) إنسانًا " أنت ابنى أنا اليوم ولدتك " (مز7:2). لأن لذلك الذي هو الله قبل الدهور قد وُلد منه، يقول إنه ولده في هذا اليوم،حيث يدخلنا فيه إلى البنوة، لأن الطبيعة البشرية كلها كانت في المسيح، إذ أنه كان إنسانًا. لهذا قال (الآب) للابن الذي له روحه (الذاتى) إنه يعطيه الروح، حتى يمكننا أن ننال الروح فيه هو ]. ويستطرد القديس كيرلس متكلمًا بكل وضوح عن أن: [ الابن الوحيد لم يقبل الروح القدس لنفسه. لكن حيث إنه قد صار إنسانًا، فقد صارت له كل طبيعتنا في نفسه، لكى يرفعها كلها مغيرًا شكلها إلى حالتها الأولى ].

          يكرر القديس كيرلس مسألة السقوط قائلاً: [ لأنه إذ قد حاد جدنا آدم بالخديعة فسقط في العصيان والخطية. فلم يحفظ نعمة الروح، وهكذا فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير المعطى لها من الله ]، والحل الجذرى عند كيرلس كما ذكره من قبل هو التجسد: [ لهذا لزم أن الله الكلمة غير المتحول، يصير إنسانًا، حتى إذا ما نال كإنسان، يمكنه أن يحفظ الصلاح في طبيعتنا على الدوام ].

 

البراهين الكتابية

          دائمًا يدعم القديس كيرلس شرحه بأدلة كتابية، ويقول: [ ودليلنا في تفسير هذه الأسرار، هو المرنم الإلهى نفسه إذ يقول للابن " أحببت البر وأبغضت الاثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز7:45)]، وبالطبع يفسر كيرلس هذه الآية خريستولوجيًا،       [ فالابن لأنه بار فقد أحب البر ولأن كراهية الخطية كامنة في طبيعته، لذلك فقد أبغض الاثم. بناء على ذلك فإن الآب قد مسحه لأنه يملك البر الذي لا يتغير كامتياز طبيعته الخاصة، ولا يمكن أن يميل إلى الخطية التي لا يعرفها، لذا فالمسيح يحفظ بدون شك ولصالح الطبيعة البشرية ـ إذ صار إنسانًا ـ المسحة المقدسة من الله الآب أى الروح ]. لذلك فإن القديس كيرلس يعقد مقارنة كتابية رائعة بين آدم الأول وآدم الثانى قائلاً: [ فكما إنه في انحراف الأول انتقل خسران الصالحات إلى الطبيعة كلها، هكذا وبنفس المنوال أحسب أن فيه أيضًا ذاك الذي لا يعرف انحرافًا، يحفظ لجنسنا كله ربح سكنى المواهب ].

          ويتساءل بعد ذلك قائلاً: [ لماذا دُعى المخلص بواسطة الكتب الإلهية آدم الثانى. لأنه في آدم الأول، جاء الجنس البشرى إلى الوجود من العدم، وإذ قد جاء إلى الوجود، فسد، لأنه كسر الناموس الإلهى. ففي آدم الثانى (المسيح)، قد قام (هذا الجنس) مرة أخرى إلى بداية ثانية، ويُعاد تشكيله مرة أخرى إلى جدة الحياة وإلى عدم الفساد، لأنه " إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة " كما يقول بولس (2كو17:5)].

 

لماذا أُعطى الروح القدس بعد القيامة؟


          يجيب القديس كيرلس قائلاً: [ إن المسيح قد صار وقتئذٍ باكورة الطبيعة الجديدة، حينما أبطل قيود الموت عاش ثانية (قام) كما قلنا توًا. فكيف ينبغى إذن لأولئك الذين جاءوا بعده أن يحيوا مثل الباكورة، لأنه كما أن النبات لا يزهر من الأرض، إن لم يطلع أساسًا من جذره الخاص به لأن هذا هو بدء النمو، كذلك كان من المستحيل أننا إذ لنا ربنا يسوع المسيح وجذر عدم فسادنا، تُرى الآن، بعد القيامة من الموت " نفخ في تلاميذه قائلاً: " اقبلوا الروح القدس" (يو22:20). إذ كان زمن التجديد حقًا على الأبواب حينذاك، أجل، بل كان بالحرى داخل الأبواب].

          ويبرهن القديس على ذلك من الكتاب كعادته: [ لأنه في البدء، كما قال الناموس، المتسربل بالروح، إن خالق الجميع، إذ أخذ (من تراب الأرض) وخلق الإنسان " نفخ في أنفه نسمة حياة " (تك7:2). وما هى نسمة الحياة، سوى أنها بالتأكيد روح المسيح الذي يقول " أنا هو القيامة والحياة "       (25:11). لكن حيث إن الروح القادر أن يجمعنا ويشكلنا إلى الرسم الإلهى، قد غادر الطبيعة البشرية، فإن المخلص يعطينا هذا الروح من جديد، ليأتى بنا مرة أخرى إلى الكرامة القديمة مجددًا خلقتنا إلى صورته الذاتية، لهذا يقول بولس أيضًا للبعض " يا أولادى الذين أتمخض بكم ثانيةً إلى أن يتصور المسيح فيكم " (غلا19:4)].

 


الفرق بين أنبياء العهد القديم ومؤمنى العهد الجديد


          بخصوص أنبياء العهد القديم، يقول القديس: [ إنه في الأنبياء القديسين بريقًا غنيًا خاصةً، يستمدونه من مصدر الاستنارة من الروح القدس، القادر أن يقودهم إلى إدراك أمور عتيدة ومعرفة أنباء مخفية ]، أما عن مؤمنى العهد الجديد يقول: [ ولكننا نثق أن الذين يؤمنون بالمسيح، لا يكون لهم مجرد استنارة من الروح القدس، بل الروح نفسه يسكن ويجعل إقامته منهم].

          ويبرهن القديس كعادته من الكتاب متسائلاً: [ من هنا دُعينا بحق بهياكل الله أيضًا، رغم أن أحدًا من الأنبياء القديسين لم يدع أبدًا بالهيكل الإلهى ]، لذا أيضًا يضيف بسؤال قائلاً: [ وماذا نقول حين نسمع مخلصنا المسيح يقول: " الحق الحق أقول لكم لم يقيم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه؟" (مت11:11)].

          ويفسر القديس معنى " ملكوت السموات" تفسيرًا رائعًا. إذ يقول: [إنه عطية الروح القدس التي قيل عنها " ملكوت السماء في داخلكم " (لو21:17)]. وسر تفوق الأصغر في ملكوت السموات على يوحنا المعمدان في رأى القديس كيرلس أن يوحنا المعمدان من مواليد النساء أما الأصغر في ملكوت السموات أى المُعمَّد حديثًا فهو " مولود من الله " كما هو مكتوب، وقد أصبح " شريكًا للطبيعة البشرية " (2بط4:1)، إذ قد سكن فيه الروح القدس ودُعى بالفعل هيكلاً لله. ويختم القديس كيرلس تفسيره لهذه الآية قائلاً: [حينما يقول الإنجيل لنا " لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد. لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد"، فلنفهم أنه يعنى سكنى الروح القدس في البشر سكنى كاملة وبالتمام ].



1 أنظر القديس كيرلس في تفسيره لإنجيل يوحنا الجزء الثانى، مايو 1995م، ترجمة واصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، ص 59ـ60.
2 كل آراء القديس كيرلس أخذناها من شرحه لإنجيل يوحنا، الجزء الثالث، ترجمة وإصدار مركز دراسات الآباء، أغسطس 1998، ص 299ـ310.

الاثنين، 6 يناير 2014

التجسد والخلاص


 

التجسد والخلاص

د.جورج عوض إبراهيم

ا- تجسد الكلمة

      تجسد وتأنس الأقنوم الثاني للثالوث القدوس والإبن وكلمة الله كان إجراء هام لإعادة خلق وخلاص البشر وكل الخليقة . فالله الآب وهو يتمم وعوده المتعلقة بهذا الأمر وضع علي عاتق الإبن وكلمته أن يتمم خطة التدبير الإلهية والأزلية (يو16:3) : " لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ ". ولتحقيق هذا الهدف "عندما جاء ملء الزمان" إتخذ إبن الله في شخصه الإلهي الطبيعة البشرية وصار إنسانًا، إله وإنسان في آنٍ واحد  (فيلبي 6:2ـ7) : " الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ ".

      عندما وُلدِ، المسيح، أخذ إسم (يسوع) الذي يعني "مخلص" (مت21:1). بالتالي، جاء المسيح إلي العالم، كمخلص بإرادته وقبوله الحُر حرية مطلقة وبحكمة مركزة وأيضًا خضوعًا لإرادة وقرار الثالوث الإلهي الأزلي."أراد" المسيح خلاص البشر وأتى إلي الأرض، لكي يقود البشر إلي طريق الخلاص. فالمسيح كان هو الذي أنجز وأمَّن خلاص البشر وصار "رئيس خلاصنا" (عب2:12).

1ـ الحاجة إلي التجسد لخلاص الإنسان

  (أ) ضعف الإنسان لأن ينقذ نفسه بمفرده

      تدخل الله الشخصي لإعادة إصلاح وخلاص الجنس البشري كان حتميًا وضروريًا، لأنه لا مخلوق ولا ملاك ولا إنسان ـ خاصةً الإنسان الساقط ـ كان في إستطاعته أن يأخذ علي عاتقه هذا العمل.     

 (ب) إعادة إصلاح مكانة الإنسان

       

      لو أن الله أعطي أمرًا أن يُعاد إصلاح الإنسان، فهذا الأمر بالطبع سوف يخلص الإنسان. لكن، مثل هذا الفعل سوف يُظهر بالتأكيد قوة الله، لكن خلاص الإنسان كان سيكون حالة خارجية ولن تختلف عن النعمة الإلهية التي أعطاها الله لآدم أثناء خلقه، ك "موهبة" أي بدون مشاركة إرادة الإنسان

      بالتالي لو أن إعادة إصلاح الإنسان كانت نتيجة إصدار "أمر" من الله، عندئذٍ خلاصه، كنتيجة لهذا التدخل الخارجي، حتى لو كان هذا التدخل إلهي، لن يكون معادل لقيمة الإنسان. علي النقيض، تجسد المسيح كان معادلاً لكرامة الإنسان، فمن جهةٍ لأن التجسد أو الخلاص صار حالة داخلية (كيانية أنطولوجية) تخص طبيعة الإنسان ذاتها، ومن جهة أخري، لأنه لكي يحصل (حالة الخلاص)، يجب أن يعمل أيضًا ويشارك الإنسان بنفسه في إتمام هذا الخلاص. 

2ـ طبيعة التجسد

  (أ) الملمح الإخلائي للتجسد

      لدى تجسد الكلمة ملمح إخلائي، كان عمل لا يُوصف للثالوث الإلهي. الله صار إنسانًا وضيعًا، الغني صار فقيرًا (2كو 9:8). السيد صار عبدًا. إخلاء المسيح هذا أخذ أبعاد غير متوقعة، عندما صعد المسيح "الإله الإنسان"  إلي الجلجثة، إرتفع علي الصليب ونزل إلي أعماق الجحيم. حركة القبول والإخلاء العظيمة، قد وصفها أولاً – كما ذكرنا -  بولس الرسول في رسالته إلي فيلبي: " الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فيلبي 6:2ـ8).

  (ب) إتخاذ الطبيعة البشرية:

تجسد إبن الله هو سر لا يُدني منه، لذلك الخريستولوجية الأرثوذكسية كما صيغت في الكنيسة منذ البداية قبلت أن التجسد كان سر إتخاذ الطبيعة البشرية من الطبيعة الإلهية وإتحادهما في شخص إبن الله. الطبيعتين، اللاهوت والناسوت إتحدا في شخص المسيح "بلا إمتزاج ولا إنفصال ولا تغيير ولا تحول". يسوع المسيح كان شخص واحد إلهي وإنساني، إله كامل وإنسان كامل.

      إتحاد الطبيعتين في شخص المسيح كان إعادة إصلاح للطبيعة البشرية الأولي التي كانت مغروسة في النعمة الإلهية.

        بهذا المفهوم، كان المسيح، ليس فقط "آدم الثاني" "لكن تمامًا "آدم الجديد" و"إنسان جديد"  بكلام آخر، التجسد كان ظهور نموذج الإنسان  الحقيقي.

  (ج) التجسد بكونه تجلي

      السقوط سبب (جلب) اختفاء للإنسان أمام أعين الله، واحتجاب الله أمام أعين البشر. تجسد الابن أظهر هذا الاختفاء المزدوج. أعدم المسافة بين النور الإلهي والظُلمة البشرية. جذَّب الطبيعة البشرية من عمق النسيان ومن قبر الزوال إلي النور ( 1تيمو   16:3) : " وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ ".

( 1يو2:1) : " اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا ".