الأحد، 18 ديسمبر 2011

اللاهوت الآبائي والفلسفة - المطران يوحنا زيزيولاس

حوار مع المطران يوحنا زيزيولاس

Ορθόδοξος Τύπος» 4/8/200" ترجمة د.جورج عوض ابراهيم                                                                       سمعت البعض يتهمون اللاهوتيين المعاصريين ، بأنهم يقدمون الآباء كفلاسفة وجوديين . هل هذا الاتهام هو حقيقي ؟

هذا السؤال يضع امامنا مسألة علاقة اللاهوت الآبائي بالفلسفة . من جهة هذا الموضوع ، نقول بإختصار الآتي :
أ‌-        آباء الكنيسة ، لكي يعبروا بكلمات بشرية مخلوقة عن خبرة التأله ، إستخدموا مصطلحات فلسفية كثيرة ومناهج من الفلسفة القديمة وبالأخص الفلسفة اليونانية . هكذا ، في أعمال الآباء المختلفة سوف نجد مصطلحات فلسفية كثيرة ( أساليب إيجابية وسلبية ، أفلاطونية ، رواقية ، ...الخ )  بطريقة مماثلة ، الآباء . بعض المرات يستخدموا المنهج التاريخي اللغوي ليفسروا الكتاب المقدس ، بينما آخرون مرات أخرى يستخدموا المنهج الرمزي او التيبولوجي .لكن  بالرغم من أعتمادهم الظاهري على تيارات عصرهم الفلسفية ، إلا أنهم عرفوا ، ان خبرة التأله، كشركة الانسان المخلوق في الوجود غير المخلوق وغير المبتدأ للثالوث القدوس ، يتخطى كثيراً اي واقع مخلوق ، وبالتالي لا يخضع لأي مصطلح ومنهج فلسفي ، وكذلك لأي دراسة وتحليل علمي ، ولا لأي تفسير منطقي و ضرورة منطقية. هكذا الآباء  ، وهم لديهم ضمير واضح للحقيقة السامية ، استخدموا إنتقائياً تلك المصطلحات الفلسفية ، وتلك المناهج الفلسفية ، لكي يعبروا عن تعليم الكنيسة ، لكن أبداً لم يخضعوا هم أنفسهم لأي مصطلحات ومناهج فلسفية . ببساطة ، بالنسبة لآباء الكنيسة أي مصطلح ومنهج فلسفي صار أداة مناسبة بواسطته  عُبر عن التعليم الارثوذوكسي بدون أبدا ان يصيروا آباء الكنيسة ذاتهم أفلاطونيون ، أو أتباع أرسطو ، أو رواقيون ، ...الخ .
ب‌-    كثيرون من اللاهوتيين المعاصرين – خاصةً الأكادميين – يحاولون ، ان ينسخوا تعليم الآباء السامي ويربطون تعليم الكنيسة بتيارات مختلفة فلسفية وأفكار عصرنا العلمية ( على سبيل المثال يحاول البعض ان يربط التعليم الآبائي بالوجودية ) . ويزعمون بأنهم يستمرون في عمل آباء الكنيسة ، متمشين مع إحتياجات عصرنا والمسائل الميتافيزيقية للأنسان المعاصر ، لكن بالرغم من النيات الحسنة التي لا يوجد أدنى شك فيها ، المحاولات هي – بحسب رأيي – خطيرة ، عندما يشرع اللاهوتي في المضي في هذا العمل بدون ان يكون في حالة التأله الروحية ( عندئذٍ إجبارياً يتبع مسيرة التفكير العقلي والفلسفي المجرد ) ، وليس لديه وعي واضح مطلق لحقيقة ان خبرة التأله تفوق أي واقع مخلوق ، وبالتالي لا تخضع لأي ضرورة عقلية ، ولأي مصطلح ومنهج فلسفي . لأجل هذة الأسباب نحن متحفظون تجاه محاولة الذين يشرعون في ربط الحركة الوجودية الفلسفية بتعليم الكنيسة ، لأنه يوجد دائماً خطر الأخطاء اللاهوتية التي تمثل النهاية الطبيعية لإنعزالنا وإنحصارنا في مناهج ومصطلحات فلسفية ، وكذلك لأن الأنشغال بهذة الانواع من الأعمال هو عمل الآباء ، طالما فقط القديسون يستطيعون ان يتحركوا بأمان لاهوتي داخل تيارات عصرهم الفلسفية . الحالة الكلاسيكية لمثل هذا الانسان ، في أيامنا ، هو المطوب الاب صفرونيوس زاخاروف إنسان – وفق نموذج الآباء – يربط بطريقة ممتازة القداسة بالتربية الفلسفية لعصرنا .
وفق ما قلناه  ، إن محاولة الذين يشرعون في ربط تعليم الكنيسة بحركة الوجودية الفلسفية يجب ان تصير دائماً بتحفظ وحرص شديد . لأنه دائماً يوجد خطر الخطأ الذي يتبعه تغير في التعليم والعُرف الكنسي . الأمور ستكون أفضل لو أعترفنا نحن المدعون لاهوتيون بتواضع بعدم كفاية ومحدودية قدراتنا ونتجنب الإنشغال بمسائل تفوق قدراتنا التفكرية ، وفي التحليل النهائي ولا تخدم خلاص أخوتنا ، بحسب القول الإنجيلي : "  لاَ يَنْفَعُ شَيْئاً بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ " مت24:27

الخميس، 8 ديسمبر 2011

بشارة والدة الإله


بشارة والدة الإله
                                د. ج.باترونس- استاذ العهد الجديد- كلية اللاهوت جامعة أثينا-ترجمة د جورج عوض
1ـ ناصرة الجليل
كانت الناصرة قرية صغيرة وفقيرة في شمال فلسطين مبنية في وادي علي مسافة حوالي 140كم من مدينة أورشليم, إنها قرية لم تلفت نظر أي أحد. لقد كانت غير معروفة ومجهولة من الجميع في زمن العهد الجديد كذلك لم تكن جديرة لأن يُذكر إسمها ولا مرة واحدة في كل تاريخ الشعب الإسرائيلي الطويل. إن إسم "الناصرة" لم يُشار إليه أبدًا لا في العهد القديم ولا في التقليد اليهودي المُسمي "التلمود", ولا في النصوص التاريخية للمؤرخ يوسابيوس فلافيوس بالرغم من أننا نجد في هذه النصوص قصص نادرة وتفاصيل جغرافية. لكن ها هي "الناصرة" المهمشة والمجهولة سوف تلعب دورًا هامًا في خلاص العالم وفي الوقائع التي حدثت في العهد الجديد, مع أن هذا الإسم ذُكِر بإحتقار شديد "أمِنْ الناصرة يأتي شيءُ صالحُ" (يو46:1).
كانت الناصرة ـ بحسب نصوص العهد الجديد ـ وطن يواقيم وحِنة اللذين أنجبا العذراء مريم, خطيبة "يوسف النجار" الذي من الناصرة ولأنه كان إنسان "بارًا" وصالح إستحق من الله أن يلعب دورًا هامًا في تطور أحداث التاريخ المقدس, حتى أنه قام بحماية الطفل الإلهي وأمه مريم.
هكذا كُرِمت "الناصرة" تاريخيًا, إذ صارت موطن يسوع المسيح, لذا سُمي "الناصري". عاش يسوع هناك مع عائلته أيام الطفولة وفترة طويلة صَمَّت كُتَّاب العهد الجديد في إخبارنا بها حتى اللحظة التي بدأ نشاطه العلني عندما جاء ملء الزمان وكان عمره وقتذاك حوالي ثلاثون عامًا.
نصوص العهد الجديد لا تذكر شيئًا عن والِدَّي العذراء مريم ولا عن طفولتها ولا عن بعض الأحداث المصاحبة لحياتها الشخصية. لكن التقليد الكنسي ونصوص الأبوكريفا تشير إلي هذه المواضيع وتحفظ لنا بعض الأحداث التي صاحبت طفولة فتاة الناصرة. لقد عاشت مريم في منزل فقير ومتواضع في الناصرة مثل كل فتيات سنها وعاشت نفس ظروف الحياة التي عاشتها أغلب العائلات في هذه القرية الصغيرة, وداخل هذا الواقع المتواضع لم يستطع أحد أن يتوقع المستقبل العظيم الذي ينتظر هذه الفتاة الفاضلة والمتواضعة. لقد كانت لمريم إنشغالات روحية إذ كانت مخلصه ووافية للتقليد الديني لآبائها مثل المواظبة علي الصلاة في ساعات اليوم المختلفة, ودراسة الكتب المقدسة وحضور شعائر المجمع التعبدية. لقد ساهم كل هذا في فِلاحة حياتها الروحية وفي التعمق والتأمل وفي تطلعاتها المستمرة لتحقيق النبوات الخاصة بمجيء المسيا المنتظر.
2ـ بشارة والدة الإله في إنجيل لوقا
لقد أشار القديس لوقا الإنجيلي إلي حدث بشارة الملاك لمريم, مشددًا علي أن بحضورها الشخصي وقبولها للبشارة ساهمت في أن نصل إلي "ملء الزمان" لتحقيق نبوات العهد القديم التي تخص مجيء يسوع المسيح المخلص: "وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ:«سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ:«مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!» فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ" (لو26:1ـ32). هذا النص غني بالصياغات اللاهوتية التي بها أيضًا نتعرف علي فتاة الناصرة. كانت مريم "منعم عليها", مليئة بالنعمة والروح ومزينة بعطايا الله الغنية. وبسبب مواهبها هذه دُعيت من الله لتصر أُم لإبنه, لتصر "والدة الإله" في عالمنا هذا وذلك لأجل خلاص البشر. كان لسلام الملاك مغزي خاص:
(أ) أستخدمت من اللغة اليونانية كلمة سلام "χαίρε" الكلاسكية.  
(ب) وفي الغالب أُستخدمت الصيغة القديمة الآرامية "سلام لك". وهذه الصيغة تذكرنا بسلام الرب القائم لتلاميذه ورسله "لو36:24, يو9:2,..الخ". أيضًا تستخدم هذه الصيغة اليوم في بلاد الشرق, فتحية السلام العبرية "شالوم" تعني سلام. لكن هناك إضافة في تحية الملاك وهي عبارة: "الرب معك" إشارة إلي أن السلام الحقيقي لا يتحقق بدون حضور الله. وهكذا إكتسب السلام الإجتماعي الملمح الخلاصي. وبالتالي تحية الملاك "سلام لك" أو "سلام" لا تمثل مجرد سلام عادي بل تعبر عن الحالة المنعمة التي أكدتها زيارة الله إلي عالمنا. إن تجسد الكلمة هو الضمان العظيم لتحقيق الشركة والسلام بين البشر والله. "إضطربت" فتاة الناصرة من زيارة الملاك, إذ سببت لها التحية الملائكية في لحظة "بشارتها" حشد من التساؤلات وأفكار كثيرة وبدأت تتسائل في نفسها "ما عسي أن تكون هذه التحية". إن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تستوعب "عظمة السر" الذي بدأ يُعلَّن أمام أعين البشر. العذراء مريم ومعها كل البشرية وُجدت أمام معجزة غير قابلة للتفسير, وقول الملاك لها "لا تخافي يا مريم" تؤكد حقيقة إستحالة التفسير. كل مرة لدينا في العهد الجديد ولوج إلي الحقيقة الخلاصية سواء من جانب شخص معين أو مجموعة من البشر فإن هذه الحقيقة تُصارع بتعبيرات مثل "لا تخف" أو "لا تخافوا" والتي نجدها دائمًا في النصوص المقدسة (أنظر مت21:1, 20:1, مر36:5. لو12:1, 30:1, 10:2, 10:5,...الخ).
والحوار مستمر بين الملاك والعذراء: "فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك وقال لها الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعي إبن الله" (لو34:1ـ35). عبارة "وأنا لست أعرف رجلاً" تعني بالغة الدارجة لهذا العصر "هذا لا يمكن أن يحدث" أو "هذا لا يمكن أن يحدث حيث ليست لي علاقة أو لم يكن لي علاقة بتاتًا مع رجل" أو كما في بعض الترجمات الحديثة "كيف سيصير هذا حيث أني عذراء؟" 
بالرغم من رد فعل العذراء مريم فإن الملاك إستمر في قوله هذا وشرح لها قائلاً: "الروح القدس يحل عليك.... لأنه ليس شيء غير ممكن لدي الله". إن حدث "الحبل بلا دنس" لا يمكن أن يُفهم بلغة ومصطلحات عالمنا الطبيعي لكن بلغة الإيمان والمعجزة, بمصطلحات لاهوتية. لأن هذا الحدث هو من ضمن الإعلان الإلهي ولا يقع من ضمن الأحداث الطبيعية لعالمنا الساقط. هكذا العذراء مريم التي لم تستوعب في البداية ماذا تعني أقوال رئيس الملائكة جبرائيل, وبالرغم من ضعفها في أن تفسر وتفهم محتوي "البشارة" قدمت طاعة وإمتثال للإرادة الإلهية: "هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك"  (لو38:1). والفهم الضعيف لحدث ما لا يجب أن يعني في نفس الوقت رفضه. وفي حالة العذراء, الطاعة والخضوع لسر الله كان هو العمل الروحي الأكثر برهانًا من تفسير وفهم الإعلان الإلهي الذي يتوق إليه دائمًا الإنسان. معايشة المعجزة وحضور الله هو بلا شك عمل حقيقي وأساسي من هذا الذي ندعوه اليوم "محاولة تفسير الإعلان الإلهي".
3ـ رسالة البشارة في نور التعاليم اللاهوتية لتجسد الكلمة
لدينا بتجسد الكلمة حدث إلهي فوق طبيعي دخل إلي عالمنا الطبيعي والساقط ولا يُدرج من ضمن الأفعال البشرية. بحسب ظروف ونواميس العالم الساقط لهو أمر مستحيل أن يحدث حمل وولادة بدون الخضوع للقوانين الفسيولوجية "لتكاثر النوع" لكن تجسد الكلمة ـ بحسب النصوص المقدسة ـ ليس له مفهوم بقاء آدم الساقط المولود لم يأتي لكي يكمل سلسلة (أبناء الهلاك) لكن جاء بصفته "إبن الله" ولذلك هو بداية الدعوة المقدسة, حيث أنه "ثمرة" "قوة العلي" ـ بحسب النص ـ وبالتحديد "حلول الروح القدس". كلمة (عليكِ) تجعل الحدث هو محدد وشخصي داخل الزمن التاريخي (واقع الحياة). هكذا يسوع المسيح لم يكن ثمرة ووليد آدم الأول والإنسان الساقط. جاء إلي التاريخ بصفته "آدم الثاني والأخير" وصار "بكر" لبشرية جديدة, لنسل جديد لشعب الله أي الكنيسة. لدينا في حوار الملاك مع مريم وفي بشارة ميلاد يسوع المسيح تأكيد من رئيس الملائكة بأن "ليس شيء غير ممكن لدي الله". في كل مرة يتسائل الإنسان غير ممكن أن يحدث هذا؟ تأتي الإجابة "ليس شيء غير ممكن لدي الله". هنا "غير الممكن" التي للطبيعة البشرية "وغير المفهوم" للحدث التاريخي يتُخطون جوهريًا داخل "المنطق الجديد" للمعجزة. هناك الكل يُفهم فقط بفعل القبول وعندما نتحدث هنا عن "المعجزة" لا نعني أي "إبطال" لطبيعة عالمنا ونواميسه حتى إن تخطت بالتحديد "النظام الطبيعي". لأن المعجزة توجد جوهريًا في طبيعة الأشياء.
بالمعجزة لدينا صعود حقيقي للخليقة إلي حقيقتها بحسب الطبيعة, إلي حالة إستعادة ما فُقِد, أي إلي التجديد "الولادة الثانية" للخليقة من التغرب, والفساد, والموت أي السقوط إلي الحالة الأولي الجديدة لملكوت الله.
الكلمة أخذ "جسدًا" بالبشارة ("الكلمة صار جسدًا" يو14:1), وُلِد إنسان, أتي إلي التاريخ وإلي عالم الفساد, مات فوق الصليب لكن لم يكن من العالم الساقط أي "جسد", وفساد, وموت. بجسده وموته أبطل الفساد والموت اللذان جوهريًا مِن خصائص الطبيعة البشرية. هكذا, الشر هُزم وليس له صفة الديمومة.