موقف المسيح من الفقراء والأغنياء
د جورج عوض ابراهيم
(أ) المسيح ـ بلا تحفظ ـ كان بجانب الفقراء
إن اهتمام المسيح الكبير للفقراء قد عبر عنه منذ بداية نشاطه العلنى فقد تكلم فى الناصرة كاشفاً مكرراً كلمة نبوة إشعياء (ص61) مبرهناً أن رسالته هى رسالة تحررية للفقراء والمتألمين. "روح الرب على لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية" (لو18:4).
نفس الكلام قد قاله تقريباً لتلاميذ يوحنا المعمدان عندما سألوه عن هل هو المسيا؟ "اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمى يبصرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (مت4:11ـ5).
لقد التفت المسيح ووضع كل اهتمامه وحنانه نحو الإنسان المتألم. لقد ركز متى الإنجيلى على نشاط المسيح المحب للبشر فى منطقة الجليل " وكان يسوع يطوف فى كل الجليل يعلم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب فذاع خبره فى جميع سورية فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين شفاهم" (مت23:3ـ24).
هنا نجد علاقة متينة بين ملكوت الله ومعجزات المسيح التى أتمها، أى أن معجزات المسيح تمثل برهان على أن عصر الفداء (التحرر) قد بدأ فعلاً. وهذا يعنى دخول المستقبل الاسخاتولوجى فى الحاضر. إن المعجزات وخصوصاً التى تخض إشباع الجياع وشفاء المرضى يظهرون مدى اهتمام المسيح ليس فقط بالنفس ولكن بجسد الإنسان كوحدة واحدة جسد ونفس.
إن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين نجده أيضاً واضحاً فى التطويبات "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو20:6ـ21).
لكن المسيح لا يكتفى بمساندة الفقراء والمجربين فى هذه الحياة بل هو يطابق نفسه بهم، وهذا يظهر بوضوح فى إصحاح 25 من إنجيل متى "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأنى جعت فأطعمتمونى عطشت فسيقيتمونى كنت غريباً فآويتمونى .. يا رب متى رأيناك جائعاً .. ومتى رأيناك غريباً .. الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم.." (مت23:25ـ45).
هنا يطابق المسيح نفسه بالفقراء، بالإنسان المهمش، بالأصغر، بالضعيف، لقد رفع من شأن المرأة وأظهر حباً عظيماً نحو الأطفال، على عكس المجتمع الرومانى واليهودى الذى همش الأطفال لقد أخذ المسيح موقف إيجابى مؤثر تجاههم (انظر مر36:9ـ37 ، 13:10ـ16 ، مت3:18 ،19 ، لو15:18ـ17).
لقد برر المسيح هؤلاء الذين أظهروا اهتمام عملى بالفقراء والمهمشين، بينما استنكر وأدان هؤلاء الذين لا يبالون بهم حتى لو كانوا كهنة ولاويين وذلك فى مثل السامرى الصالح فالمعيار الذى سوف يدانون به البشر هو موقفهم تجاه الفقير والمتألم وهكذا الذى استضافه: "وقال أيضاً للذى دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أخوتك ولا أقربائك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع والعرج والعمى" (لو12:14ـ13).
نفس الشىء والمعنى توبيخ المسيح للشاب الغنى "يعوزك شئ واحد. اذهب بع كل ما لك وأعط للفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعالى اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10) أيضاً فى مثل الغنى ولعازر يعبر عن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين بطريقة واضحة (لو19:16ـ26). لقد كشف المثل عن الهوة الكبيرة بين الغنى والفقير بين الحياة المتلذذة فى القصور وبين الحالة المحزنة الدرامية التى كانت للعازر. ونستطيع أن نقول بلغة اليوم للشمال الغنى والجنوب الفقير لقد عبر المثل عن الظلم الاجتماعى والذى يهدد دائماً الحياة الإنسانية.
والصورة التى وصفها المسيح عن التغير الجذرى الذى حدث بعد الموت لكل من لعازر والغنى، لعازر يعيش حياة سعيدة والغنى يكتوى من النار بطريقة يصعب التعبير عنها، تعبر عن موقف المسيح الاستنكارى للظلم الاجتماعى منحازاً إلى جانب الفقراء. مرة أخرى يشدد المثل على أن المعيار الذى يدين به الله الإنسان هو موقفه تجاه المتألمين فى هذه الحياة.
(ب) المسيح والأغنياء :
لقد أدان المسيح الغنى وهذا ظاهر من التطويبات "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء. لأنكم قد نلتم عزائكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون (لو24:6ـ25) ثم بعد ذلك يشدد المسيح على أنه من الصعب على الأغنياء أن يدخلوا ملكوت الله " ما أعسر دخول المتكلين على الأموال ملكوت الله". "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (مر24:1ـ25). إن موقف المسيح السلبى ضد الأغنياء لا يعنى أن هناك خلفية طبقية أى هناك تحامل عليهم، لكن لدى المسيح يتساوى الغنى والفقير فقد قال عن زكا العشار "وهذا أيضاً ابن إبراهيم" (لو9:19). إن موقفه المضاد مرجعه العدالة الاجتماعية "ابعدوا عنى يا فاعلى الظلم" (لو9:19).
إن عظة المسيح فى الأساس هى عظة ملكوت الله إنها رسالة تحرر وفداء، لذلك يُعطى أولوية مباشرة للمشاكل الوجودية للإنسان ومعنى الحياة الإنسانية. لدى المسيح معنى حياة الإنسان وسعادته ليست فى وفرة الخيرات المادية بل فى سلوكيات الكمال : "كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت4:4). لأن معنى الحياة المسيحية لا يوجد فى أن أتملك بل فى أن أكون[1]، لذلك المسيح يحذرنا قائلاً : "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء حيث لا يُفسِد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" (مت19:6ـ21). هذا لا يعنى أن المسيح يدعو الإنسان ليتوقف أن يعمل لكى يحصل على ضروريات الحياة. ولا مفهوم الكلام يعوق التقدم العلمى والتكنولوجى والنمو الاقتصادى ولا حتى رفاهية الإنسان. لكن المسيح أراد أن يشدد على أن مهمة الإنسان الأساسية ليست فى أن يكنز الماديات ولكن أن يدرك جيداً ما يتطلبه أصلاً (انحداره) الإلهى ومكانته وما عينه الله له. عندئذ يستطيع أن يُنظم علاقته بكل شئ بناء على ذلك، بحيث لا يُستعبد لشئ من هذه الأشياء المادية.
إن استعباد الإنسان لما يملكه له نتائج خطيرة، إذ يقود إلى الفشل الذريع كذلك يدين المسيح الطمع "انظروا وتحفظوا من الطمع، فأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12) ومثل الغنى الغبى يكشف عن مدى عدم جدوى عبادة الممتلكات فى الحياة" (لو17:12ـ21).
إن معنى ومفهوم المثل يلخصه المسيح فى عدد 21: "هكذا الذى يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله". لأن أى إنسان يضع هدفه الأسمى فى اكتناز الأموال والممتلكات سوف تأتى لحظة الموت وسيرحل عن كل هذا الذى اكتنزه. يركز المثل أيضاً أخلاق "الفقر" أمام الله، استعباد الإنسان للطمع والبحث عن معنى حياته فى الغنى يقود إلى هوة من الإفلاس الأخلاقى والوجودى.
لأجل ذلك لم يطلب المسيح من الإنسان فقط أن يرفض الاستعباد للماديات لكن يطلب شئ أفضل هو أن يتخلص الإنسان من القلق والصراع لأجل احتياجاته المادية محذراً "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون". الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. تأملوا الغربان.. تأملوا الزنابق كيف تنمو .. فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا. فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا أولاً ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم" (لو23:12ـ31).
هنا المسيح يطلب من الإنسان أن يتخلص من القلق والاهتمام الزائد لتدبير احتياجات الحياة. الإنسان الذى يؤمن بالله لا يستسلم لقلق الحياة، على العكس، هناك حيث يُسيطر القلق والصراع والانزعاج المبالغ فيه للغد يغيب الإيمان والثقة فى الله، فالصراع والقلق والانزعاج كلها تتمشى مع الغير مؤمنين.
سيكون خطأ كبير أن يتصور أحد أن المسيح بهذا الكلام يريد من الإنسان أن يواجه احتياجاته المادية باللامبالاة أو بالقدرية أو بكافة التواكل.
على العكس، المسيح يطلب من الإنسان أن يعمل انطلاقا من إيمانه بالله ومن إيمانه بتحقيق ملكوت الله كإطار أساسى لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما قصده المسيح عندما قال : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وكل هذا يزاد لكم" (لو15:12). وهكذا الإيمان بالله الذى يهدف قبل كل شئ إلى تحقيق ملكوت الله هو الشرط الوحيد لأى حلول عملية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وبسبب هذه الأهمية الجوهرية لاتجاه الإنسان فى الحياة، أما نحو الخيرات المادية أو نحو الله، فقد دعانا المسيح أن نختار بين المال أو الله وقال بالتحديد : "لا يقدر خادم أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (لو13:16) كلمة المال هنا (mamwnα£j) وهى آرامية وتعنى (مال، ممتلكات، غنى)، لذا يمكن أن تكون (kef£laio) رأس مال. الإنسان مطالب أن يأخذ قرار حاسم أن يختار اختيار نهائى بين الله والمال، إما أن ينتمى لله أو ينتمى للمال، أن يخدم الاثنين هذا مستحيل.
من كل ما سبق نجد أن المسيح ضد الأغنياء والرأسمالية عامة لسببين هما: ـ
الأول :ـ الرأسمالية هى مع تقسيم الناس إلى طبقتين متضادتين، طبقة القليلين الأغنياء وطبقة الفقراء "اللعازريين" المساكين، وهم الأغلبية يُستغلون استغلالاً رهيبًا من الطبقة الأولى.
الثانى :ـ لأن روح الطمع تُغير اتجاه الإنسان نحو هدفه الأساسى أى أخلاق الكمال، وتقوده إلى إفلاس أخلاقى ووجودى. والشاهد على ذلك قيام الأغنياء من رجال الأعمال بممارسات غير مشروعة من أمثلتها الاستيلاء على قروض دون ضمانات من البنوك والهروب بها للخارج بالإضافة إلى حالات التهرب من دفع الرسوم الجمركية والضريبية، فضلاً عن السلوك الاحتكارى لبعض السلع الاستراتيجية وغيرها من سلوكيات الإفلاس الأخلاقى والوجودى.
وهنا سؤال يفرض نفسه : هل كان المسيح ضد التملك؟
إن الأناجيل الإزائية لا تعطينا موقفًا واضحًا للمسيح إزاء التملك، فهناك مواقف كان ضد التملك وأخرى لم يكن فيها ضد التملك.
فقد قال المسيح : "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" (مت20:8).ويطلب المسيح من تلاميذه أن يظلوا كما هو : "وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً، ولا نحاساً فى المنطقة" (مر8:6) ونفس الشئ طلبه من السبعين رسولاً : "لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية ...." (لو4:10) ومن الغنى الشاب الذى سأله كيف يصير كاملاً : طلب منه المسيح أن يوزع ماله على الفقراء. "اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10). من هذه الأقوال نستنتج أن المسيح كان ضد اكتناز الأموال والممتلكات، لكن يوجد حالات ظهر فيها المسيح غير ذلك. فالمسيح لم يطالب زكا العشار بما طلبه من الشاب الغنى. لقد أظهر المسيح سعادته ورضاه لأجل عودة العشار الغنى ولكن لم يطلب منه أن يبيع كل ما له ويعطى الفقراء : "فوقف زكا زقال للرب ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف. فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو8:19ـ10).
أيضاً لقد تبع المسيح أناس كانوا يساعدونه من أموالهم : "وعلى اثر ذلك كان يسير فى مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الإثنا عشر وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض. مريم التى تدعى المجدلية التى خرج منها سبعة شياطين، ويونا امرأة خورى وكيل هيرودس وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن" (مت1:8ـ3 أيضاً انظر مر40:15ـ41). فالمسيح لم يأخذ موقفاً سلبى تماماً ولا إيجابياً تماماً من قضية التملك، لكن الموقف الأساسى للمسيح يظل هو الاحتياج للتحرر من سيطرة المال. فالمسيحى يمكن أن يكون لديه ثروات ومال ولكن لا يمكن أن تسيطر عليه، لأن الاستخدام الأمثل للمال هو فى شفاء احتياجات الإنسان وخدمته.
المسيح يرفض أن يصير المال وسيلة للقهر وسيطرة أقلية على الأكثرية[2] وعظة (123) للقديس كيرلس لإنجيل لوقا عن كيف يخلص الغنى؟ يوضح كيف أن المسيح لم يغلق الباب تماماً أمام الأغنياء، وأنه مهد لهم طريق للخلاص إذ نجده يقول : "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله". ولا يقصد المسيح بالجمل ذلك الحيوان، إنما ذلك الحبل الغليظ لأنها كانت عادة أولئك المتمرسون أن يسموا الحبل الغليظ جملاً. لكن لاحظوا أنه لم يقطع تماماً رجاء الأغنياء بل حفظ لهم موضعاً وطريقاً للخلاص، لأنه لم يقل أنه يستحيل على الغنى أن يدخل ملكوت الله بل قال أنه يمكنه إنما بصعوبة.
عندما سمع التلاميذ الطوباويين هذه الكلمات اعترضوا قائلين : فمن يستطيع أن يخلص؟ وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات لأنهم (التلاميذ) كانوا يقولون أننا نعرف أن لا أحد سيقتنع بأن يتخلى عن ثروته وغناه، فمن يستطيع أن يخلص؟ لكن بماذا أجاب الرب!! "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله". لذلك فقط احتفظ لأولئك الذين يقتنون ثروات، بالإمكانية أن يحسبوا مستحقين لملكوت الله لو أرادوا، لأنه حتى ولو كانوا يرفضون تماماً التخلى عما هو لهم، لكن يمكنهم أن يبلغوا تلك الكرامة بطريقة أخرى. والمخلص نفسه أظهر لنا كيف وبأى طريقة يمكن أن يحدث هذا إذ قال : "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم فى المظال الأبدية" (لو9:16). لأنه لا يوجد شئ يمنع الأغنياء لو أرادوا أن يجعلوا الفقراء شركاء ومقاسمين لهم فى الغنى الوافر الذى يمتلكوه. ما الذى يعيق من له مقتنيات وافرة من أن يكون رءوفاً وممتلئاً بتلك الشفقة الكريمة التى ترضى الله. إننا سوف نجد أن الحرص على تتميم هذا العمل ليس هو بلا مكافأة ولا عديم النفع، لأنه مكتوب : "الرحمة تفتخر على الحكم" (يع13:2).[3]
هناك أيضاً سؤال يفرض نفسه : هل أدخل المسيح برنامج معين أو نظام معين لحل المشكلات الاجتماعية؟ لكى نعرف الإجابة على هذا السؤال لابد أن ننطلق مما قاله المسيح فى (لو13:12) عندما سأله أحد أن يقاسمه الميراث مع أخيه، فقال له : "يا إنسان من أقامنى عليكما قاضياً أو مقسماً" وأكمل قائلاً : "انظروا وتحفظوا من الطمع فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12).
لا يعنى هذا أن المسيح لا يبالى بالمشاكل الاجتماعية لأنه مما سبق وجدنا كيف أن المسيح أظهر اهتماماً شديداً للفقراء وللعدل الاجتماعى. البداية لفهم موقف يسوع هو ما طلبه المسيح نفسه : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت33:6) لقد أراد المسيح بهذا الطلب أن يقول أنه أتى إلى هذا العالم لكى يكرز بملكوت الله : "فقال لهم ينبغى أن أبشر المدن الأُخر أيضاً بملكوت الله لأنى لهذا قد أُرسلت" (لو43:4).
إن الشرط المهم لحل المشكلات الاجتماعية لدى المسيح ـ هو التمسك بملكوت الله فى حياة الفرد والمجتمع الإنسانى . فالمشكلة الاجتماعية لا تُحل فقط بمتغيرات خارجية لكن الحل الأساسى والمُرضى لهذه المسألة هو ممكن بالاحتفاظ بملكوت الله فى قلوب الناس.
فلو تكوّن هذا التغيير العظيم والثورى فى داخل الإنسان ، ولو انتزعت الكراهية من النفس وحلت محلها المحبة، عندئذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ستجد لها حلول . وهذا هو مفهوم ما قاله المسيح : " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم " (لو31:12).
لابد أن نكرر على أن موقف المسيح هذا لا يعنى أن المسيحى يجب أن يأخذ موقف سلبى تجاه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى يواجهها الإنسان . على العكس عندما شدّد المسيح على " اطلبوا أولاً ملكوت الله " فهو يطلب موقف فعّال من جانب المسيحيين لكى تُحل المشكلة الاجتماعية. وهكذا لو أن أحدًا استلهم وانقاد بروح ملكوت الله لا يمكن إلاّ أن يسأل ويفتش ويبحث دائمًا وبطرق كثيرة مقدمًا الحل الأكثر صحة للمشاكل التى تشغل المجتمع . إذن وصية المسيح(اطلبوا أولاً ملكوت الله) لا تعنى التمنى والدعاء فى طلب ملكوت الله ولكن المحاولات العملية والمساهمة الفعّالة للمسيحيين فى تحقيق ملكوت الله الذى هو تحرر البشر من الألم والفقر والظلم والقهر والمرض مثلما كان يفعل المسيح على الأرض ، إنها رسالة الكنيسة اليوم. فالكنيسة تشجع المؤمن أن يواجه بشجاعة مشاكله الاجتماعية منطلقًا من محبته الحقيقية نحو الله ونحو أخيه الإنسان وبمساندة المنطق (العقل) والعلم والخبرة والمناهج والمؤسسات التى تجاهد لتقود المجتمع ليصبح أكثر إنسانية ، المطلوب منا أن نفحص أى نظام على هذه التعاليم فلو كانت مثلاً الرأسمالية تُقسم الناس إلى أقلية أغنياء تُسيطر على أغلبية بائسة (لعازريين جُدد) فهى مرفوضة . وإذا كانت الاشتراكية تساعد على الخمول والكسل والتواكل من الأغلبية منتظرة من الدولة الدعم والنصيب وهم غير فعّالين فى المجتمع فهى أيضًا مرفوضة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق