الأربعاء، 17 فبراير 2016

بعض التعاليم اللاهوتية في سفر يونان النبي


بعض التعاليم اللاهوتية في سفر يونان النبي


بحسب القديس كيرلس عمود الدين


د/ جورج عوض إبراهيم

1ـ يونان النبي هو مثال للمسيح:


   يؤكد القديس كيرلس أن يونان النبي هو مِثال Τúπος  للمسيح من شهادة المسيح ذاته حين سأله اليهود أن يظهر لهم آية، حيث قال: " جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال" (مت39:12، 40). بالتالي ما حدث ليونان النبي أعطى لنا صورة عن سر المسيح لأجلنا.

2ـ المثال لا يعبر في كل تفاصيله عن سر المسيح:


ينصحنا القديس كيرلس بأن نفحص فقط الأمور المفيدة التي تشير إلي شخص المسيح وعمله ونميزها عن الأمور غير المفيدة. ويعطي لنا مثالين:

أ ـ موسي النبي: لقد كان موسى مثال للمسيح لكن لا نستطيع أن ننسب للمسيح كل ما يتعلق بموسى، على سبي المثال، كان موسي بإعترافه أنه لا صاحب كلام وثقيل الفم وغير قادر علي إبلاغ الرسالة، حيث قال: " اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ" (خر10:4) وتوسل قائلاً: " اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَرْسِلْ بِيَدِ مَنْ تُرْسِلُ" (خر13:4). لكن المسيح لم يكن ثقيل اللسان ولا غير بليغ في الكلام مثل موسي بل دعاه أشعياء النبي بالبوق العظيم: " وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِبُوق عَظِيمٍ، فَيَأْتِي التَّائِهُونَ فِي أَرْضِ أَشُّورَ، وَالْمَنْفِيُّونَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَيَسْجُدُونَ لِلرَّبِّ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ فِي أُورُشَلِيمَ" (إش13:27). 

الآن نتسائل: في أي أمر كان موسي مثالاً للمسيح؟

يجيب القديس كيرلس، مؤكدًا علي أن وساطة موسي بين الله وشعب إسرائيل هي مثال لوساطة المسيح بين الله والبشر.

ب ـ هارون: لقد كان هارون أيضًا مثال للمسيح لكن لا نستطيع أن ننسب للمسيح كل ما يتعلق بهارون لأنه لم يكن بلا لوم تمامًا حيث أنه كما شرح القديس كيرلس قد صنع لبني إسرائيل عجلاً في البرية وعبدوه (انظر خر4:32).

إذن المبدأ الذي شدد عليه القديس كيرلس هو أنه ليست كل الأمور المكتوبة مفيدة للرؤى الروحية.  ينصحنا القديس كيرلس بأننا حين نفحص شخصية ما كمثال للمسيح نهتم بالأمور الضرورية مقدمين دائمًا المفيد بطبيعته للهدف الذي يرمز إليه، أما الأمور الأخرى فإننا نتجاوزها.

هذا المبدأ يسري أيضًا علي يونان النبي لأن كل ما يتعلق به ليس بالضرورة له فائدة. علي سبيل المثال: [أُرسل لكي يكرز لأهل نبنوى، ولكن طلب أن يختفي عن الله وكذلك رأيناه غير مستعد لرسالته]. أما عن الإبن يقول القديس كيرلس: [أُرسل أيضًا الإبن بواسطة الله الآب ليكرز للشعوب لكنه لم يُظهر أنه غير مهييء لخدمته ولا طلب أن يختفي أمام أعين الله]. لكن حين إبتعله الحوت وبعد ثلاثة أيام قذفه (أنظر مت40:12) ثم بعد ذلك ذهب إلي أهل نينوى وتمم خدمته كان يشير إلي المسيح الذي قَبِلَ الموت طوعًا، الأمر المشار إليه في توسل يونان للملاحين: "خذوني وإطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم" (يو12:1) وبقى في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ (انظر مت40:12) وقام ثانيةً وبعد ذلك ذهب إلي الجليل وأمر بأن تكون الكرازة لجميع الأمم (أنظر  مت19:28).

الخلاصة يوجزها القديس كيرلس، قائلاً: [لأنه كما يطير النحل علي المراعي والورود لكي يجمع المفيد لصناعة أقراص العسل، هكذا أيضًا المفسر الحكيم يبحث في الكتاب المقدس جامعًا دائمًا كل ما يساهم في توضيح أسرار المسيح وصانعًا منه حديثًا كاملاً بلا لوم].

 

3ـ الله هو للجميع: يهود وأمم.:

يبرز القديس كيرلس حقيقة أن الله هو للجميع: لليهود وللأمم ويستشهد بالرسول بولس: " أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا لأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ، هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ. أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ النَّامُوسَ."، وكذلك يستشهد بالرسول بطرس: " الْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ" (أع34:10ـ 35). ثم يبرهن هذه الحقيقة من خلال قصة الإنسان وسقوطه وفداءه بواسطة المسيح.

الخلق: [ لأنه خلق "السموات والأرض والبحر وكل ما فيها" (مز6:146)، خلق أيضًا الإنسان "علي صورتنا كشبهنا" (تك27:1) حتى يتمم الأعمال التي تقود إلي الفضيلة، لكي يحيا في بهاء بالقداسة الطوباوية].

السقوط: [ ثم بعد ذلك إنجذب (الإنسان) إلي الخطية منخدعًا من حيل الشيطان وهكذا سُلم للعنة والفساد].

تدبير الفداء: [ لكن عُين مسبقًا وعُرِف قبل بداية العالم أن المسيح سيعيد إصلاح الكل، لأن الله الآب أراد أن يُُجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما علي الأرض" (أفسس10:1)]. بالتالي إنجماع الكل في المسيح يشمل الأمم واليهود أي الجميع بدون إستثناء، فكما خلق الله الجميع هكذا فداءه وإنجماع الكل بواسطته هو للجميع.

 

4ـ أظهر الله، قبل تجسد الإبن، حُبه للجميع: مدينة نينوى نموذجًا:

يؤكد القديس كيرلس أنه قبل مجيء الابن الوحيد أظهر الله عنايته بالضالين والذين انخدعوا عن جهل، لذا أمر النبي يونان ليذهب إلي نينوى. كانت نينوى كما يذكر القديس حقائق تاريخية عنها، مدينة فارسية تُوجد في الشرق وكانت مشهورة بعبادة الأصنام حيث قال عنها النبي إرميا "كانت أرض المنحوتات" (إر38:50). وبالرغم من وجود مُدن كثيرة متآخمة لليهودية تعبد الأصنام، إلا أن الله أرسل يونان إلي مدينة نينوى البعيدة، والسبب في رأي القديس كيرلس أنها كانت مولعة بالسحر الذي يبغضه الله. ويستشهد القديس بما قيل عن السحر بفم ناحوم: "  من أجل زنى الزانية الحسنة الجمال صاحبة السحر البائعة أمما بزناها، وقبائل بسحرها" (ناحوم4:3) بالتالي [ أراد الله أن يظهر شيئًا مفيدًا لهؤلاء الأقدمين بأن هؤلاء الذين ابتعدوا جدًا وأُمسكوا في فرصة الضلال سوف ينجذبون في وقت ما إلي شبكة معرفة الحق حتى لو كانوا قساة ووصلوا للدرجة التي لا ينفع فيها أي لجام يضبطهم].

 

5ـ كلمة الله مقتدرة:

يُرجع القديس كيرلس معرفة أهل نينوى للحق إلي كلمة الله حيث يقول: [لأن كلمة الله قادرة أن تغذي العقل وتقنعه وتعلمه كل ما سوف يجعله حكيمًا. إسمع ما قاله لأرميا: " لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ الْجُنُودِ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِهذِهِ الْكَلِمَةِ، هأَنَذَا جَاعِلٌ كَلاَمِي فِي فَمِكَ نَارًا، وَهذَا الشَّعْبَ حَطَبًا، فَتَأْكُلُهُمْ" (إر14:5) وأيضًا " أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟" (إر29:23)].

 

6ـ الهدف من إرسالية يونان:

يؤكد القديس كيرلس على أن الهدف من إرسالية يونان إلي أهل نينوى هي البرهنة على صلاح الله الذي سوف يظهره الله في وقت ما لأولئك الذين ضلوا عن جهل. كذلك هذه الإرسالية بحسب القديس كيرلس تهدف إلي إدانة إسرائيل لأنه كان صعب جدًا في تربيته إذ كان غير مطيع وعاصي ولم يبال بنواميس الله. ثم يعقد مقارنة بين أهل نينوى وإسرائيل: أهل نينوى تغيروا مباشرة وتابوا، بالرغم من أن ضلاله كان عظيمًا جدًا بينما أولئك اليهود احتقروا موسى والأنبياء بل احتقروا المسيح ذاته بالرغم من أنه أرفق تعليمه بمعجزات، وبالرغم أنه الله بطبيعته إلا أنه صار إنساناً لكي يخلص كل المسكونة. وهذا الأمر يدين بنى إسرائيل: " رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا!" (مت41:12).

إن يونان هَدَدَ فقط بهلاك أهل نينوى بينما المسيح وبخهم بمعجزاته التي لا تُوصف. المعجزة كأنها ماكينة جذب ـ كما يشرح القديس كيرلس ـ تساعد دائمًا القول من جهة تصديقه والإيمان به.

 

7- الهروب من المسئولية ومحاولة تفسيرها من جانب القديس كيرلس:

يؤكد القديس كيرلس علي أن السِفر لا يتحدث عن الدافع الذي جعل يونان يذهب بعيدًا عن الله بل تحدث عن طريقة إبتعاده، إلا أنه يطرح بعض الحلول إذ يقول إنه كان يريد أن يرفض الرسالة ويهرب من الخدمة ويعترف إنه لا يفهم لماذا ذهب إلي ترشيش. وبالرغم من ذلك يقول إن القديسين الأقدمين كانت معرفتهم عن الله معرفة صغيرة حيث كان الإعتقاد بأن سيادة إله الكل هي مقصورة فقط علي بلاد اليهودية واستحالة امتدادها إلي أرض أخرى. ويستشهد القديس كيرلس بيعقوب البطريرك الذي ترك منزله وذهب إلي لابان في منطقة ما بين النهرين. وعندما رأي سُلِم من الأرض تصل إلي السماء وملائكة الله تصعد وتنزل عليها، وعلي قمة السُلم هناك الرب واقف عليها. وقام وقال: "حقًا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم" (تك16:28). أيضًا بحسب القديس كيرلس ربما خاف يونان من أهل نينوى ليفعلوا به شرًا ويقتلونه كمنافق ومضل وكاذب وأنه يتعب باطلاً لإقناعهم. هكذا يفسر القديس كيرلس قول يونان: "صَلَّى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. 3 فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" (يونان2:4ـ 3).

 

8- الله يرتب كل الأمور:

بحسب القديس كيرلس، كل ما حدث كان بترتيب الله حيث يقول: [ انطلقت الأمواج ضد السفينة حسب ترتيب الله للأمور وكذلك أعاصير شديدة جعلت البحر يضطرب ويهيج بتأثير الريح العاتية.. أمر الله الحوت].

ويوضح مسألة أن الرب أعد حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان بأن الكل يذعن لمشيئة الله وأن طريقة طاعة الكل لهي سرية تمامًا. آما كون أن الحوت يبتلع يونان بدون أن يصيبه بأي أذى وبقى في داخله ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ، يرجعه القديس كيرلس إلي أن هذا طبيعي لأن الإنجاز هو إنجاز الله ثم يتسائل مَنْ هو الذي سوف يتشكك في الأمر؟ لأن الله هو كُلي القدرة ويغير طبائع الكائنات بسهولة كما يريد هو، ولا يقف شيء ضد مشيئاته غير المنظورة. لأن هذا الذي يفسد بطبيعته يمكن أن ينتصر علي الفساد لو أراد الله والثابت وغير المتزعزع وغير الخاضع لنواميس الفساد سوف يخضع بسهولة للفساد. لأن طبيعة الكائنات تصير طبقًا لإرادة الخالق. ويعترف القديس كيرلس بأن أي شرح منطقي لا يستطيع أن يُعطيَّ ولا هو ممكن لأمور الله أن تُدرك بالعقل لأنه "مَنْ عَرِفَ فكر الرب؟" (رو34:11). العقل لا يستطيع أن يتخطى الأمور التي تفوق المنطق؟ بالتالي عدم الإيمان هو أمر بالنسبة لنا أمر خطير وغير لائق.

 

9- التفسير الخريستولوجي لمِا حدث ليونان:

يقرأ القديس كيرلس ما حدث ليونان قراءة خريستولوجية يشرح فيها تدبير الله لخلاص البشرية، إذ يقول: [ لقد صارت الأرض في خطر, والجنس البشري تعرض لشتاء قارص وأمواج الخطية انقضت عليه واللذة المرعبة والتي لا تطاق التفت عليه وغطته والفساد مثل أمواج هائجة هبت عليه والرياح الشديدة المتوحشة قهرته, أقصد رياح الشيطان والقوات الشريرة التي توجد تحت سيادته وتعمل معه. لأننا كُنا نوجد في هذه الحالة وتراءف علينا الخالق إذ أرسل الله الآب من السماء إبنه الذي أخذ جسدًا بشريًا وجاء إلي الأرض المعرّضة للأخطار وللشتاء القارص وأسلم ذاته بإرادته للموت لكي تتوقف العاصفة ويسكن البحر ويهدأ الموج وتنتهي العاصفة ،لأننا خَلصُنا بموت المسيح. والشتاء مرَّ وزال, والنوء والأمواج توقفت وضعفت الرياح وعمَّ الهدوء، والآن نُوجد في سكينة روحية طالما تألم المسيح لأجلنا. شئ مثل هذه الأشياء موجود في الكتابات الإنجيلية. ففي مرةً تعذبت سفينة الرسل من الأمواج وهم في بحيرة طبرية. إذ هبت فجأة عاصفة شديدة وتعرّضوا لعذاب شديد وقارص لا يُحتمل ووجدوا أنفسهم أمام خطر عظيم ، فأيقظوا المسيح الذي كان معهم صارخين بقوة: "يا سيد نجنا فإننا نهلك" (مت25:8). وللتو قام المسيح وانتهر البحر بسلطانة "فصار هدوء عظيم" (مت26:8),وأنقذ التلاميذ. إذن الحدث كان نموذجاً لكل ما صار للطبيعة البشرية. لأننا بواسطة المسيح تحررنا من الموت والفساد والخطية والشهوات, والشتاء القديم قد ابتعد والأمور البشرية عادت مرة أخرى إلي الهدوء].