الأربعاء، 12 مارس 2014

التوبة في مَثَلْ: محبة الآب للضالين


التوبة في مَثَلْ: محبة الآب للضالين

                                                                             د.جورج عوض إبراهيم

 

إن مصطلح التوبة باليونانية : met£noia ، يتكون من : noÚj + met£ أى تغيير الذهن أو تغيير طريقة التفكير، وتحتوى التوبة على مفهوم الرجوع epistof» أى العودة إلى الله. والإنسان يميل دائمًا نحو الله، يشتاق إلى التحرر والفداء من الشر، لكن هذه العودة هي نتيجة الشعور بالذنب. وهذا ما يمثل مدينتي الحياة للقديس أغسطينوس: حياة مملوءة صراع أو جهاد نتيجة الرهبة التي يشعر بها الإنسان تجاه الله بسبب ذنبه. والثانية شوق الإنسان إلى الحرية وذلك بالقرب من الله. ولقد احتل "الرجوع" مكانة هامة في تعليم أغسطينوس، وهو نتيجة لشعور الإنسان بأنه خاطئ، وهذا الشعور، كما يؤكد على ذلك مار اسحق السرياني، هو أسمى من إمكانية أن يقيم أحد بصلاته الأموات[1]، وقد أشار إلى هذه الحقيقة مبكرًا العلامة أوريجينوس الذي أكد على أن معجزة التغيير الجذرى للإنسان بالتوبة هي أهم معجزات المسيح[2].

       اكتشاف الذات والرجوع إلى الله هو ما فعله الابن الضال في المثل الذي سرده يسوع المسيح، فعلينا أن نرى محتوى هذا المثل الذي يُعتبر "إنجيل الإنجيل". فالمسيرة الروحية للإنسان تدخل ـ بحسب المثل ـ في مراحل ثلاث: مرحلة الخطيئة، مرحلة التوبة، ومرحلة الخلاص. وهذه المسيرة تمثل تفسير لمفهوم الذنب والرجوع:

 

المرحلة الأولى: الخطية (خوف ـ قلق ـ يأس).

       + قبلما ينتهى الابن الضال إلى " الضلال " كان لديه كل شئ. ولكن شيئًا لم يكن ـ في النهاية ـ قادرًأ على أن يمسك به بالقرب من أبيه. هكذا يومًأ ما، طلب نصيبه من الميراث وترك بيته " سافر إلى كورة بعيدة ". ذهب مثل طير مهاجر، راحلاً مثل كثيرون من الشباب ـ اليوم ـ ينشدون حياة أخرى. هكذا رحل الابن الضال باحثًا عن حياة أخرى وبلد بعيد، قانعًا بأن هذه الحياة لا يمكن أن تُوجد في موطنه وفي بيته.

لكن ما الذي جعله يترك البيت الذى وُلد فيه، حيث هناك الراحة والهناء؟!!

       لقد اعتقد هذا الابن أنه في حاجة للتحرر من أبيه، ليكتسب حرية مطلقة حتى ينال ما يريده. وفور حصوله على الحرية، أطلق لجناحيه العنان وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان. وأخيرًا استقر في واحدة من الكورة البعيدة. وبدأ حياة ضالة مليئة باللذات والشهوات.

       + في الكورة البعيدة التى رحل إليها الابن الأصغر " بذر ما له بعيش مسرف"، وصرف كل ما له ولم يكن لديه شيئًا، " حدث جوع عظيم في تلك الكورة ". وبدأ يُحرم من كل شئ حتى الحد الأدنى الذي يمكن أن يحتاجه. لقد امتلأت نفسه بالخوف من تهديد الجوع وبالطبع من الموت الذي يمكن أن يسببه الحرمان من الأكل. لقد كان الخوف من المجهول: ما الذي ينتظره؟ أجبره أن يطلب سند أو معونة لكي يبقى على قيد الحياة. الخطر من أن يموت من الجوع جعله يلجأ إلى واحد من أهل الكورة الذي أرسله إلى حقول ليرعى الخنازير. لكن المكافأة كانت عديمة النفع، غير كافية تقريبًا، لم تكفيه لقطعه من الخبز. لذا تمنى أن يملأ بطنه من الخرنوب التى كانت الخنازير تأكله: " فلم يعطه أحد شيئًا " كما ذكر لوقا. لقد انتابه شعور بعدم الأمان وهو يرى كيف أنه لا يمكن أن يأمل في مساعدة، عدم الأمان جعله يشعر بقلق عظيم، قلق حقيقي.

       هكذا مع الخوف شعر الآن بالقلق الذي خلقه في نفسه ـ ليس فقط تهديد الجوع، ولكن لأي شئ ممكن أن يحدث له، لأي تهديد غير منظور. على عكس الخوف من شئ معين، فموضوع القلق هو غير محدد. إنه العدم. حالة تجعله يشكك في كل شئ، صارت كل قيمة في الحياة صفر (عدم)، الحياة نفسها بمتعها صارت عدم، تلك الحياة التي جعلها فقط هدف له. لقد رأى كم زائلة هذه المُتع التي وضع كل آماله فوقها واستولى عليه اليأس. وتحققه من نهايته المأساوية قد ولّد في داخله اليأس. فكر وتأمل، الخدم عند أبيه الذين كان لديهم خبز أكثر وقارنهم بنفسه التى كانت تحتضر من الموت جوعًا. بدأ وهو في يأسه العظيم، يضرب رأسه بيديه لطيشه وعدم تبصره في أن يترك الخير الكثير ويذهب إلى هذا المكان البعيد بين الخنازير منتظرًا الموت. لقد فكر بطريقة مختلفة، لأنه شعر بخجل وندم على حياته السابقة. لكن الندم والخجل هذا لم يتقدم بعد إلى مرحلة التوبة.

 

المرحلة الثانية: التوبة (إحساس ـ اختيار أو إقرار ـ اعتراف).

       + شعر الابن الضال ـ وهو يتأمل حالته الوضيعة ـ بضرورة أن يقف وقفة صريحة مع نفسه، كأنه كشف داخله طير ساكن وفجأة فتح جناحيه لكي يطير عاليًا: هذا ما يقوله المثل " رجع إلى نفسه " أي وجد ذاته. إحساس الذنب بأنه خاطئ كان الخطوة الأولى لتصحيح الأمر، لرجوعه إلى الحياة الجديدة.

       كم مختلف كثيرًا شعور الابن الضال عن الحالة النفسية التي شعر بها الفريسي في مثل "الفريسي والعشار". مثل ممثل استخدم القناع المستخدم في المسرح القديم، وحامل القناع يريد أن يخفي شكله الحقيقي، هكذا الفريسي حمل قناعه الخاص، وصعد إلى الهيكل لكي يصلي كأنه يصعد إلى خشبة المسرح لكي يلعب دورًا ما. لقد وقف متكبرًا وأناني أمام الله يُدين العشار لأنه خاطئ، بينما الخاطئ الحقيقي كان هو نفسه.

       يصف الإنجيل منظر وقوف الفريسي للصلاة هكذا: " أما الفريسي فوقف يصلى فى نفسه هكذا: اللهم أشكرك إنى لست مثل باقي الناس الخاطئين الظالمين الزناة ولا هذا العشار ... " (لو9:18ـ14). ومعنى عبارة " فوقف يصلي في نفسه " هى " وقف تجاه ذاته ليصلى " أو " وقف أمام ذاته وصلى". بالتالى لم يقف أمام الله لكن أمام ذاته التى قام بتأليهها بتعظيم الأنا. جعلها الله، لذا فقوله: " اللهم أشكرك " ليست موجهة إلى الله بل إلى ذاته التى أخذ يشكرها ويمدحها لأنها بلا خطية، حتى أنه ميّزها عن الآخرين الذين هم خطاة في رأيه.

       + إن موقف العشار المتواضع كان مضاد تمامًا للموقف المتكبر الذي أخذه الفريسي، فالعشار وقف من بعيد ولم يتجرأ لأن يرفع عينه نحو السماء. لقد قرع على صدره وقال: " اللهم ارحمنى أنا الخاطئ ". إنها مثل عبارة الابن الضال " رجع إلى نفسه " والتى تختلف اختلافًا جذريًا عن عبارة الفريسي " وقف يصلي أمام ذاته ". لقد ضرب الابن الضال رأسه بدون أن يقصد كسرها وذلك بسبب طيشه. لقد استولى عليه الإحباط واليأس، ولكن ليس كل يأس يقود إلى الدمار. فاليأس عندما لا يكون تدميري، فهو فعل خير. فأحيانًا يقود اليأس إلى الضياع والهلاك وأحيانًا إلى الخلاص والفداء. فالإنسان اليائس ليس له اختيار آخر بخلاف هذا: إمّا الانتظار في اليأس وينقاد إلى الدمار الكامل، أو الإحساس والشعور بوضاعته، الأمر الذي يقود لاتخاذ قرار التغيير واختيار حياة جديدة.

       هكذا في حالة الابن الضال، بعد الإحساس بالذنب لأجل خطاياه، كان أمامه إمّا أن ينتظر في حالته هذه، حيث خطر الموت من الجوع يهدده، أو تفضيل حالة أخرى هي حالة الخدم عند أبيه: " كم من أجير عند أبي يفضل عنه الخبز وأنا هنا أهلك جوعًا". وأخيرًا أخذ قرار الرجوع إلى أبيه: " أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: أخطأت يا أبتاه في السماء وقدامك ولست مستحقًا أن أُدعى لك ابنًا بل اجعلنى كأحد أجرائك ".

       والأب من وقت رحيل ابنه يصعد يوميًا فوق تل متلهفًا لرؤياه، ربما يرجع، إنه يراه الآن بعد هذه السنين العديدة، أسرع بالقرب منه وهو مملوء بالرحمة والرأفة، أخذه في حضنه وأمطره بالقبلات.

       والابن وهو نادم على عصيانه، يركع أمام أبيه بتواضع قائلاً: " أخطأت يا أبتاه في السماء وقدامك ولا استحق أن أُدعى لك ابنًا". التكرار هنا أمام أبيه للاعتراف الذي حدث عندما " رجع إلى نفسه " وبنفس الكلمات هو إشارة أولى للاعتراف كسر مقدس.

المرحلة الثالثة: الخلاص: (الصلاة ـ الليتورجية الإلهية ـ الفداء)

       + إن التوبة التى وصلت إلى قمتها بالاعتراف هي الرجوع إلى الله، وإصلاح العلاقة بشركة الصلاة. هكذا عندما نفكر كيف أن الأب في مثل الابن الضال ليس هو فقط رمزًا للأب الروحى وأمامه يصير الاعتراف، لكن هو أيضًا الله نفسه، عندئذ نستطيع أن نفهم كيف أن اعتراف الابن الضال هو في نفس الوقت صلاة نحو الله، حوار بين الأنا والأنت. إنها الصلاة الفردية والتى قبل أن يعبر عنها، كان هناك فحص للنفس ونقد للذات. وكما قلنا إن فحص النفس والشعور بالذنب ـ فى حالة الابن الضال ـ قادته إلى التوبة، والرجوع إلى الله ومحاولة الاتصال به مرة ثانية بالصلاة.

       بعد الصلاة الفردية للأنا نحو الأنت (الله) يتبعه الصلاة الجماعية، العبادة العامة باشتراك "نحن". هذه الصلاة الإفخارستية، العشاء الإفخارستي الذي قدمه الأب إلى الأصدقاء والجيران للاحتفال برجوع ابنه المحبوب بالموسيقي والرقص، ذابحًا "العجل المُسمن" لكي يأكل الجميع ويبتهجون. إنه عشاء العُرس الذي أعده الأب إلى الابن الضال بعد عودته، لذلك أعطى أوامره للخدم بأن يُلبسوه خاتم في أصبعه وحُلة جديدة.

       + هذا العشاء هو رمز لليتورجيا الإلهية التى تحتل مكانة مركزية في العبادة الجماعية، حيث الإفخارستيا تمثل مركز العبادة ونواتها. إن "العجل المُسمن" في المثل يرمز إلى سر كنيستنا، ذبيحة الصليب، الذبيحة الكفارية لابن الله، الجسد المقدس والدم الكريم ليسوع المسيح، الذي قدم الفداء إلى كل ضال، والمشاركة في العشاء هو مشاركة في الشركة الإلهية " كدواء الخلود " التى ترمز إلى القيامة الروحية من موت الخطية. إنه حدث علينا أن نفرح به كلنا، كما قال الأب إلى الابن الأكبر: " كان ينبغى أن نفرح ونُسرّ لأن أخالك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فُوجد". هذا الفرح والابتهاج قد شعر به بالأكثر الابن الضال برجوعه إلى المسكن الأبوي، والذى هو فى نفس الوقت، الرجوع إلى الحياة.

       هكذا بعد رجوع الابن الضال من " الكورة البعيدة " اكتملت المسيرة النفسية بهذه المرحلة الثالثة والتى كانت مثل الأولى والثانية تتميز بثلاث محطات: الصلاة والعبادة الإلهية والتكفير أو الفداء. هذا الفداء يتدفق من ذبيحة الصليب كإعلان لمحبة الله: " هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد... ". المحبة هى قمة مسيرة الابن الضال الذى بدأ بالخوف من الموت جوعًا إلى عشاء المحبة، " فالمحبة تطرح الخوف خارجًا".

 



[1]  نسكيات مار اسحق السرياني: 44.
[2] BEP 9, 127, 22-34.