الاثنين، 20 يناير 2014

تحويل الماء إلى خمر (عرس قانا الجليل)




تحويل الماء إلى خمر (عرس قانا الجليل)

                                                                                                                 د.جورج عوض إبراهيم

 

أ ـ مقدمة (يو1:2ـ2) " وفي اليوم الثالث كان عُرس في قانا الجليل وكانت أُم يسوع هناك".

الزواج اليهودي في زمن العهد الجديد كان يتم في بيت العريس ويتبعه عشاء احتفالى، والاحتفال يستمر 7 أيام (انظر طوبيا 9:11، قض12:14). هنا يسجل لنا القديس يوحنا البشير أن عرس قانا الجليل كان بعد ثلاثة أيام من دعوة نثنائيل الذي من قانا الجليل. يربط بعض المفسرين بين معجزة تحويل الماء إلى الخمر في إطار حفلة زواج وبين حقيقة أن المسيح هو العريس الذي اختار كنيسته التي في العالم عروسًا له. وهذا الرأي يقول به كل من القديس أُغسطينوس والقديس كيرلسالأسكندرى. على الجانب الآخر يربط البعض بين المائدة العُرسية في قانا الجليل ومائدة الافخارستيا. أيضًا ذكر ثلاثة أيام في هذا السياق المتسع لا يمكن أن يكون مجرد صدفة، حيث توجد شواهد هامة عن آلام وقيامة المسيح (يو29:1،36، 4:2،11،13،17:14). وهذا الرقم (3) يمكن أن يُفهم إذا قرأناه مع خاتمة المعجزة (يو11:2). حيث اليوم الثالث هو اليوم الذي يظهر فيه مجد المسيح في قيامته (انظر يو20:1).

حضور أم يسوع للعرس ـ والتي سوف يكون لها دور هام في هذا العُرس ـ نجده فى عدد1:2 وذلك وفق المنهج الذي اتبعه القديس يوحنا لإظهار الشخصيات الأساسية للرواية. واستخدام فعل الكينونة في الماضي "كانت" يشير إلى أن حضور أم يسوع كان أمرًا بديهيًا وربما سبق حضورها حضور المسيح نفسه؛ وربما يشير إلى أن أم يسوع كانت لها علاقة قوية بأسرة العريس. وهذا يظهر من إبداء اهتمامها بانتهاء الخمر (يو3:2) وأيضًا وصيتها للخدام بأن يفعلوا كل ما يقوله لهم المسيح (يو5:2).

”ودُعى أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس”.

يستخدم العلاّمة أوريجينوس حدث وجود يسوع في عُرس قانا الجليل في إطار محاربته للهرطقة الغنوسية، وهذا ما يفعله أيضًا القديس كيرلسالأسكندرى. فبحضور المسيح هذا العرس قد كرّم بداية الحياة كعطية من الله. واستجابة يسوع وحضوره إلى العُرس تصل إلى قمتها عندما يمنح عطية الخمر العظيمة فيما بعد.

أيضًا المقصود بكلمة "تلاميذ" هو التلاميذ كوحدة واحدة، وهكذا يُفهم عدد11:2 " هذه بداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه " بأنه ربما كان كل التلاميذ حاضرين ورأوا كلهم مجد المسيح.

 

ب ـ المسيح وأمه (يو3:2ـ5)

إن المشكلة غير المتوقعة والتي حدثت بسبب النقص المفاجئ للخمر على المائدة العُرسية قد أدركتها أم يسوع التي التفتت إلى ابنها وعرضت عليه الحالة بتعبير بسيط. لقد كان لديها أمل ليس على أساس معجزات سابقة كان قد أتمها لكن كما يقول القديس ذهبي الفم على أساس اليقين الداخلي الذي كان عندها عن قدرته، وأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يكون لديه الحل لهذه المشكلة.

إن تعبير " ليس لهم خمر" يمكن أن يشير رمزيًا إلى عدم كفاية العبادة اليهودية للتطهير، وطبعًا يمكن أن لا يمثل هذا التعبير توسل غير مباشر ـ كما يرى البعض ـ ليتدخل يسوع ليحل مسألة نقص الخمر، إنما يمثل ـ حسب رأيهم ـ تنبيه غير مباشر لكي يرحل يسوع مع تلاميذه لكي لا يضعوا أصحاب العُرس في موقف محرج.

لكن على أى حال ـ قد أتى المسيح إلى قانا لكي يظهر مجده وظلّ في العرس متممًا أول معجزة له مفتتحًا بذلك فترة عمله الماسياني. إن الرأي الأخير الذي يراه البعض بشأن طلب رحيل يسوع وتلاميذه من العُرس يجهل العمق اللاهوتي لعدد3 " ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر" والذي يعلن من جهة حجم الضعف الإنساني، ومن جهة أخرى سيادة الرب يسوع المطلقة. ونستطيع أن نرى رجاء وثقة أم يسوع بوضوح في عدد5:2 " قالت أمة للخدام مهما قال لكم فافعلوه"، إذ كانت متأكدة بأن يسوع سوف يحل هذه المشكلة. ونلاحظ أن طلب أم يسوع هو غير مباشر وقد حُصر في مجرد ذِكر الصعوبة التي حلت بأهل العُرس، إذ نرى دائمًا في إنجيل القديس يوحنا أن طلب المؤمن يكون بطريقة غير مباشرة (بسبب الشركة الداخلية بينه وبين يسوع). وبذلك يترك الإنجيل المبادرة للمسيح مكتفيًا فقط بذِكر الحالة وعرضها عليه[1]. أما غير المؤمن ـ فعلى النقيض ـ يحاول توجيه أفعال المسيح وفق رغباته وتطلعاته لأنه يعتبر المسيح مجرد إنسان عادي[2]. هذا يتوافق مع الخط العام لإنجيل يوحنا الذي يتجنب تقديم فعل المسيح كنتيجة طلب شخص آخر. فالمسيح في إنجيل يوحنا يأخذ دائمًا زمام المبادرة ويعمل بحرية تامة كسيد مطلق على الظروف والحالات[3].

عدد4: قال لها يسوع مالى ولكِ يا امرأة. لم تأتِ ساعتي بعد”.

هنا في هذا العدد لا يعطي المسيح الإجابة على طلب أمه غير المباشر. وتعبير "مالى ولك يا امرأة" تعبير معروف في اللغة السامية ويعني الرفض القاطع لأي طلب[4]. لكن بحسب القديس يوحنا ذهبي الفم فإن التعبير يفصح عن عمق هوة المسافة الكيانية التي تفصل المسيح عن أمه، فهذه المسافة لا تسمح لها أن تظهر كيف يجب أن تفعل. أما قوله "يا امرأة" فهو بمثابة الطريقة المؤدبة لمناداة النساء في ذلك العصر[5]. وبالتالي لا يجب أن يعتبر هذا التعبير إنقاصًا من الكرامة كما يبدو من مناداة يسوع لأمه بهذا القول وهو على الصليب (يو29:19)، أى في سياق لا يسمح أو لا يبرر أى انتقاص من مكانتها وتقديرها. إن المسيح يؤسس رفضه لطلب أمه غير المباشر بقوله " لم تأتِ ساعتي بعد". هذا التعبير يعني ـ في السياق المباشر ـ أنه لم تأتِ بعد الساعة التي فيها يعلن المسيح حقيقته الإلهية، مثلما ظهر ذلك فيما بعد. فبالرغم من حدوث المعجزة، بيد أن الخدام فقط وكذلك التلاميذ كانوا مدركين ما الذي يحدث، أما حقيقة شخص المسيح فقد ظلت مخفية عن الكثيرين.

  إن التعبير يأخذ بُعدًا عميقًا: فالساعة لم تأتِ بعد لكي يُعلن تمجيد المسيح النهائي من الآب. وكون أن المسيح يحقق المعجزة أخيرًا ـ مع أنه رفض في البداية ـ يبيّن أنه فعلاً يسير نحو هذه الساعة معلنًا عن ذاته في نفس الوقت بترتيب تدريجي، والذي ينتج عنه رفضه نهائيًا من "الكثيرين"، ولكنه ـ فيما بعد ـ يجذبهم إلى الإيمان الحقيقي.

وحيث إن المسيح يفتتح العصر الأخروي الجديد في الحاضر، فإن مجده الذي سوف يظهر عظمته في موته وقيامته ومجيئه الثاني، هو فعلاً حاضر منذ الآن.       

 

 (عدد5): ” قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه”:

هنا تلتفت أم يسوع إلى الخدام، وبالرغم من إجابة ابنها المحبطة إلاّ أنها تعطي أمرًا بأن يعملوا ما يقوله لهم المسيح. ويبدوا أن العذراء الوالدة تعرف جيدًا أن المسيح يستطيع في الحال أن يعمل معجزة، حتى إن كان لم يعطها ردًا إيجابيًا. وإذا قارنا موقف مرثا أخت لعازر نجد أن رد فعلها أمام قبر لعازر يبيّن أنها لا تفهم ما الذى سوف يفعله المسيح وذلك نتيجة عدم إيمانها بقدرة المسيح الإلهية. ورد فعلها يتضح من إجابتها على قول المسيح " ارفعوا الحجر"، إذ قالت "يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام". أما أم يسوع فكان عندها يقين داخلي أن المسيح سوف يعطي حلاً لهذا المأزق، فإنها لم تبدِ أدنى رد فعل تجاه قول المسيح: " املئوا الأجران"، بل ـ كما قال ذهبي الفم ـ فإنها قبل أن يتكلم المسيح أمرت "مهما قال لكم فافعلوه".

أخيرًا يبدو أن أم يسوع كان لها مكانة خاصة في منزل العريس، ليس فقط لأنها اهتمت اهتمامًا خاصًا بمشكلة نقص الخمر، بل كانت لها مكانة كبيرة وثقة بأن توصي وتأمر خُدام البيت. أما بخصوص عبارة "مهما قال لكم فافعلوه" فلها مستوى لاهوتي آخر إذ يعتبره البعض أنه إجابة على سؤال اليهود في (يو28:6) " ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله"، إن عمل الله، أول كل شئ هو الإيمان "بمن أرسله" (يو29:6). وهذا الإيمان ـ بحسب إنجيل يوحنا ـ يتألف من قبول الكلمة وحفظ وصايا المسيح وهذه هى الرسالة الموجودة في (يو52:8) " إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد" وكذلك (يو26:11) " وكل من كان حيًا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد"، إنها الرسالة التي ترتبط بالعمق الأخروي للحياة الأبدية والإيمان بالمسيح وحفظ وصاياه.

ج ـ المعجزة ـ يسوع والخدام (يو6:2ـ8)

يخبرنا الإنجيلي في (يو6:2) بأنه: " كانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة".

يؤكد ذهبي الفم أن الأجران كانت مستخدمة للتطهير، وهكذا لا يمكن أن تكون مستخدمة كآنية خمر. ويقول بعض المفسرين بأن عدد الأجران "ستة" يشير إلى عدد ناقص بالمقارنة بعدد الكمال "سبعة" وهذا يدل على أن الناموس اليهودي ناقص وغير كامل، وقد أبطله المسيح. ويبدو أن القديس يوحنا الإنجيلي ينتقد الناموس الموسوي ـ في هذه المعجزة ـ نقدًا غير مباشر، كما يبدو من مجموع محتوى الستة أجران، إذ أن كل جرن يحتوي على اثنين أو ثلاثة مكاييل أى حوالي 120 لتر، والكمية كلها لا تصل للحد الأدنى للمياه التي تتطلبها المعمودية اليهودية لأجل التطهير وهى 525لتر (حسب المقاييس اليهودية).

إن الاستخدام الطقسي للمياه قد تغير جذريًا لكي يعلن أن عصر الناموس والذي كان يُرمز له هنا بماء التطهيرات اليهودية قد انقضى (يو17:1)، وأن عطية المسيح والتي قُدمت رمزيًا في صورة خمر وبكمية كبيرة هى بمثابة عطية الحياة الفضلى والوفيرة (يو16:10).

ونلاحظ هنا أن الخمر الذي حل محل ماء التطهيرات الموسوية يذكرنا "بماء الحياة" الذي حل محل ماء بئر يعقوب في حديث المسيح مع السامرية وأيضًا "خبز الحياة" الذي حلَّ محل "المن" في (إصحاح 6) كما يؤكد كل من أغسطينوس ومار افرام السرياني.

في عدد (7): " قال لهم يسوع املأوا الأجران ماء. فملأوها إلى فوق" المسيح هنا يأمر الخدام بأن يملئوا الأجران الستة بالماء. والخمر هنا يشير إلى العهد الجديد (انظر مت8:11، مر22:2، 1:12ـ9، 24:14، يو1:15). إن ذهبي الفم يميز في هذه المعجزة وجود مثال لمحاربة الغنوسية إذ يؤكد أن المادة المخلوقة من الله هى حسنة، لذا خلق الخمر من عنصر مادي آخر هو الماء وليس من العدم. ومن الجدير بالملاحظة أن المسيح قد تمم هذه المعجزة فقط بقوة إرادته وليس بالكلام أو الفعل.

إن المسيح يختلف اختلافًا جذريًا في هذه المعجزة عن أنبياء العهد القديم، فبالرغم من أن هناك معجزات فعلها إيليا وإليشع متشابهة مع هذه المعجزة (مثل مباركة الزيت)، إلاّ أن عمل المسيح في هذه المعجزة له ملمح الخلق ويعلن عن وحدته مع الله الآب.

هكذا يكشف المسيح عن ألوهيته ومجده الأزلي بواسطة قيمة المعجزة وعظمتها الظاهرة، وأيضًا بسلطانه المطلق الذي تمم به المعجزة. فالذي له مثل هذا السلطان على عناصر الكون لا يمكن أن يكون إنسانًا عاديًا. هذه المعجزة تمثل تحقيق وعود العهد القديم فيما يتعلق بمملكة يهوه والوفرة الأخروية كعطيته المباشرة. لذا فإن هذه المعجزة تُفسّر تفسيرًا صحيحًا على أساس دور الخمر في العهد القديم كعطية تشير إلى الحياة الأبدية.

أما في عدد (8): " ثم قال لهم استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ. فقدموا".

يأمر المسيح الخدام بأن يعطوا لرئيس المتكأ. ورئيس المتكأ بحسب ذهبي الفم كان هو وحده المسئول عن المائدة بين كل الجالسين عليها، وبالتالي الوحيد الذي يحكم على الخمر حكمًا صحيحًا من حيث النوعية.

كلمة "الآن" تعلن أن الساعة أتت لكي يظهر مجد المسيح. وبعدما أمر المسيح الخدام رحل عن مسرح الأحداث ولم يُذكر بعد ذلك حتى نهاية المعجزة. فرئيس المتكأ والعريس سوف يعرفان بوجود الخمر، لكن القوة المعجزية بفعل المسيح سوف تظل مخفية.

  إن مجد يسوع في الحاضر سيكون منظورًا فقط لتلاميذه أثناء حياته على الأرض.

 

د ـ تصديق المعجزة (9ـ10)

(عدد9):فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا ولم يكن يعلم من أين هى. لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا. دعا رئيس المتكأ العريس”.

رئيس المتكأ لم يعرف أن الخمر التي ذاقها أتت نتيجة العمل المعجزي الذي قام به المسيح، فدعا العريس ليناقش معه الأمر. والإجابة على سؤال رئيس المتكأ وجهله أوردها الإنجيلي في عدد 11 من هذا الاصحاح حيث يؤكد أن المسيح هو الذي فعل هذه الآية وأظهر مجده.

(عدد10): " وقال له كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكروا فحينئذٍ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن".

إن ملاحظة رئيس المتكأ على نوع الخمر الجيد تُكمل الصورة التي أمام قارئ الإنجيل عن كمية الخمر العظيمة (يو6:2)، ويشدد على الجحيم الظاهري للمعجزة (راجع يو51:4، 9:5، 13:6، 8:9، 2:12ـ17). هنا نرى أيضًا استمرار جهل رئيس المتكأ بما حدث موجهًا كلامه إلى العريس متسائلاً " لماذا أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن "؟ إن عطية المسيح الأخرويةهى وفيرة جدًا من حيث الكمية، وهى لا تقارن من حيث النوع، بل هى أسمى من أية عطية، هذه العطية تُمنح ليس في البداية ولكن " في نهاية الأزمنة " كما يرى القديس كيرلسالأسكندرى[6].

ويرى البعض أيضًا أن معجزة عرس قانا الجليل لها أبعاد سرائرية وأنها تشير رمزيًا إلى ماء المعمودية وإلى خمر الافخارستيا. لذا عندما تذكر الخمر في الكنيسة الأولى يُشار إلى الوفرة الأخروية التي يمنحها المسيح بالخمر الافخارستي كعطية محيية. لذا في (يو53:6ـ56) يُذكر أن من يأكل جسد يسوع ويشرب دمه يشترك في الحياة الأبدية تلك التي تنبع من المسيح. توجد علاقة وثيقة بين هذه المعجزة وبين ما جاء في الاصحاح السادس بالنسبة لرفض الناموس الذي لا يقدر أن يمنح الحياة، وإحلال نعمة المسيح المحيية بدلاً من الناموس، وهذه النعمة هى حاضرة في حادثة الصليب وفي عطية الافخارستيا التي هى جسده ودمه. إن استخدام يوحنا ـ في السياق العام للمعجزة ـ مصطلحات وملامح من رؤية أحداث الآلام، وحديثه العظيم عن الخبز الحيّ (في الاصحاح السادس)، يرتبط بشدة بالحدث الافخارستي. وهذا يؤكد أن المعجزة لها أبعاد إفخارستية بالنسبة للقديس يوحنا الإنجيلي ، كما يقول القديس مار افرايم السرياني[7].

 

هـ خاتمة (11:2)

هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه

يخبرنا الإنجيلي في ختام المعجزة أن المسيح صنع أول آية من الآيات التي سوف تتبعها سلسلة من الآيات، سوف يذكرها. وليس صدفة أن تكون أول آية للمسيح ويحققها في إطار حفل زواج. فالعرس والمائدة العرسية يصفان ـ في العهد القديم ـ العصر المسياني (انظر على سبيل المثال إش4:54ـ8، 4:62ـ5) وأيضًا في العهد الجديد (مت1:22ـ4، لو16:14ـ24، رؤ9:19).

وهناك عناصر مشتركة بين هذه المعجزة المذكورة في يوحنا والأناجيل الثلاثة الأولى. هذه العناصر المشتركة هى:

  أ ـ إشارة المسيح إلى عشاء احتفالي (راجع مت1:22ـ4، لو16:14ـ24).

  ب ـ الحديث بين المسيح وأمه (راجع مر32:3ـ35، لو48:2ـ50).

  ج ـ الخمر الجديد كرمز للعهد الجديد والتعليم الذي دشنه المسيح (راجع مر22:2، لو39:5).

  د ـ الزواج الذي يرمز للعصر الأُخروي الآتي والمستقبلي الذي دشنه المسيح (مت1:22ـ14، مت1:25ـ13، مر19:2، لو35:12ـ36).

  يستعمل القديس يوحنا الإنجيلي لفظة "آية" لكي يوضح أن معجزات المسيح لا ينبغي أن تُفهم في حد ذاتها، بل هى تشير إلى شخص المسيح وتكشف عن ألوهيته وسلطانه من ناحية، ومن ناحية أخرى تكشف عن عطيته الخلاصية للبشر. هذا هو بالضبط اعلان المسيح عن ذاته كظهور مجده. ومصطلح "مجده" الذي يذكره القديس يوحنا الإنجيلي في هذا العدد يشير إلى:

  أ ـ أن "مجد المسيح" هو "مجد" يهوة في العهد القديم.

  ب ـ بواسطة معجزة قانا فإن المسيح يعلن عن ذاته أنه هو الكلمة المتجسد أنه حضور لله الظاهر في الزمن والتاريخ.

  إن معجزة تحويل الماء إل خمر هى معجزة خلق والتي فيها يظهر المسيح كخالق، فالكلمة الأزلي والمتجسد وعمله هو سابق على الخلق كما أنه مستمر بعد الخلق والتجسد.

  ج ـ ظهور مجد المسيح سوف يستمر في أثناء خدمته الجهارية وسوف يصل إلى قمته في الآلام والقيامة والتي هى آيات تعلن قوة ألوهيته.

  إن إيمان التلاميذ بشخص المسيح بسبب ظهور مجده حل محل إيمان الكثيرين عندما رأوا الآيات في (عدد23). إن التلاميذ هنا يرون مجد المسيح ويتقدمون إلى ما هو أبعد من حدث المعجزة ذاتها، أى إلى فهم حقيقة شخص المسيح. أما اليهود فقد آمنوا مثل الكثيرين الذين ينجذبون إلى المعجزات في حد ذاتها بدون أن يتعرفوا على شخص الذي يفعلها (انظر يو60:6، 66، 31:7، 30:8، 41:10، 42، 45:11، 11:12، 42). إن إيمان التلاميذ لم يكن كاملاً وعميقًا بعد، إذ أن إيمانهم تثبّت بعد القيامة. لكن علاقة المسيح مع التلاميذ ـ كما يبدو فيما بعد في الإنجيل ـ كانت بالأكثر علاقة ثقة ومحبة وليست فقط مسألة إيمان لا يتزعزع. فالتلاميذ كانوا يشعرون بالمسيح شعورًا عميقًا أكثر من مجرد معرفة من هو المسيح في حقيقته. وقد استمر التلاميذ بعد القيامة وعطية الروح القدس يتمتعون بمعرفة شخص المسيح، وبدءوا يفسرون كل خبراتهم السابقة مع المسيح على أساس هذه المعرفة (راجع يو22:2، 16:12، 25:14ـ26).

  على المستوى الثاني، فإن قارئ المعجزة والذي يشترك فعلاً في مجد المسيح في الافخارستيا، إذ يحيا في الكنيسة، مدعو لأن يؤمن بحسب مثال إيمان التلاميذ عندما يقرأ هذه المعجزة: " وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع المسيح هو ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو31:20).



[1] انظر يو3:11 " فأرسلت الأختان إليه قائلين يا سيد هوذا الذي تحبه مريض ".
[2] انظر يو18:2، 30:6، 3:7ـ5.
[3] انظر يو6:5، 5:6ـ9، 6:19، 43:39.
[4]راجع قض12:11،2صم10:16،23:19، 1مل18:17،2مل13:3،مت9:8، مر24:1، لو34:4.
[5] راجع مت28:15، لو12:13، يو21:4، 10:8، 13:20.
[6]انظر تفسير إنجيل يوحنا للقديس كيرلسالأسكندرى، إصدار مركز دراسات الآباء، الجزء الأول ص186ـ187، القاهرة 1989م.
[7]انظر تفسير إنجيل يوحنا، فقرة 12 ،S.C. 121

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق