طبيعة وفعل الكلمة
الكتابية عند الآباء
لا
نتعرف ـ في كتابات الآباء[1]
ـ على الرأي الذي يتبناه البعض بأن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد الذي يحتوى على
وصف دقيق للحقائق الأزلية الإلهية وللوصايا والعقائد التي تشمل كل الإعلان الإلهى،
أى ما يُسمى بكفاية الكتاب المقدس الذي يحتوى على كل الإعلان الإلهى للبشر. هذا
الرأى يحول الكتاب المقدس إلى نص له كفاية في حد ذاته، وإلى "أرشيف"
محفوظ فيه كل شئ ومعيار وحيد صارم للمعرفة، ويهمش التقليد الكنسى. والأمر المؤكد
هو أن الكتاب المقدس يحتوي على رسالة الخلاص كاملة، أي ما يُسميه الآباء: تدبير
الخلاص، لكن الأمر الذي يتساوى في الأهمية هو تفسير النصوص تفسيرًا صحيحًا، نحن
نتحدث عن تفسير النص الكتابي وكيفية تحقيق ما يخبرنا عنه هذا النص من عطايا
خلاصية.
يجمع
كل الكُتاّب الكنسيين على أن وحي الكتاب المقدس يخص جوهريًا الأمور المعلنة
والحوادث الشاهدة على التدبير الإلهى والتي قد أتمها الله، وأيضًا على الصياغة
الكتابية الشاهدة للإعلان الإلهى. إن الصياغة الكتابية هى متوافقة تمامًا مع هذه الحوادث، ولكن
هى أيضًا تعبير بشري وتاريخى للإعلان الإلهى، والذي بالتأكيد يتجاوب بطريقة
إمتثالية مع الإلهام الإلهى في هذه الحوادث التي تعلنها هذه الصياغة الكتابية. هذا
"التوافق" بين الحرف والأمر المعلن يمثل طبيعة الكتاب المقدس الملهمة
وبالطبع يحدد طريقة تفسيره. نتيجة لذلك فإن الكتاب يسرى على الكنيسة كـ "كتاب
مقدس" بسبب أنه يهدف إلى "الفائدة" أى إلى امتثال حياة
المؤمنين بالمسيح. هذه "الفائدة" هى هدف الكتاب المقدس وليس فقط مجرد الإنباء عن
حوادث أو أشخاص يؤرخ لهم. بهذا المفهوم، ينبغى أن نفهم التقليد المعتاد عند
كليمندس وأوريجينوس وفيما بعد الآباء الذين أتوا بعدهما ـ بأن لا يوجد حرف في
الكتاب المقدس بلا فائدة. لذا فإن الكُتاب الكنسيين قد استخدموا كل المناهج
التفسيرية اللغوية المعروفة في عصرهم، وكما كانت موجودة في الأسكندرية وغيرها قبل
الأزمنة المسيحية.
ونذكر شهادة القديس باسيليوس الكبير والتي تعبر عن مبدأ ثابت
للتفسير الآبائى للكتاب: "وإذا كان صمت الغبي يعتبر حكمة" (أم28:17)
فما أعظم جائزة المستمع الحكيم الذي أشار إليه النبى في نفس العبارة بالمشير
العجيب (إش3:3). مثل هذا المستمع يستحق كل ثقة بل يستحق أن ندفعه إلى الأمام لكى
يحقق تقدمًا أكبر، متكاتفين معه في الأتعاب لكى يمضى سائرًا نحو الكمال. والاهتمام
بالمصطلحات التي تستخدم في اللاهوت هو أمر يفوق غيره، والمعاناة في سبيل الوصول
إلى المعانى الخفية في كل عبارة وكلمة هى الفضيلة التي لا وجود لها في حياة
المتكاسلين عن التقوى، بينما هى ما تميز الذين يسعون وراء الجعالة العليا لدعوتنا
(في14:3). لأن الغاية التي علينا أن نصل إليها هى أن نتشبه بالله على قدر احتمال
الطبيعة الإنسانية. ولكن التشبه بالله لا يكون بدون معرفة والمعرفة لا تأتى بدون
دراسة، وبداية الدراسة هى التعليم، والتعليم بالكلمة وأقسام الكلمة هى الألفاظ
والحروف، إذن التدقيق في الحروف ليس انحرافًا عن القصد.. "[2].
وقد سبق للعلامة أوريجينوس توضيح هذه الحقيقة
في عظته الأولى على سفر الخروج: "أعتقد أن كل كلمة في الكتاب المقدس تشبه
بذرة من طبيعتها أن تنتشر وتتغلغل وتتكاثر، ويُعاد ولادتها ـ أي تثمر سنبلة حنطة
أو أي نوع من جنسها، إذا ما أُلقيت في الأرض. وكلما بُذل الجهد والعرق في إنباتها
كلما كان تكاثرها سريعًا خاصةً إن كان الزارع نشطًا ومتحمسًا دؤوبًا أو كانت الأرض
خصبةً. لهذا حين يكون الزارع نشيطًا فإن "حبة الخردل" الصغيرة مثلاً
"التي هي أصغر الحبوب جميعًا، قد تصير أكبر من كل الأعشاب وتصير شجرة تأتي
إليها طيور السماء وتسكن بين أغصانها" (أنظر مت31:13ـ32). هكذا الأمر أيضًا
مع الكلمة التي قُرئت على مسامعنا الآن من الأسفار الإلهية. وبالرغم مِن أنها تبدو
لنا من أول وهلة صغيرة حين ندنو منها، فإنها إن وجدت مزارعًا دؤوبًا نشطًا
وحاذقًا، يبدأ في زراعتها وإستصلاحها وتناولها بالمهارة الروحية، فهي تنمو شجرة
يافعة تطرح أغصانها وأوراقها النضرة. ويمكن أن يأتي إليها مباحثو هذا الدهر
وحكماؤه ومناظروه (1كو20:1) ومثل "طيور السماء" على أجنحة النسور
الخفيفة يطلبون الأفكار العالية العسرة بتدفق الكلمات وحدها. وإذ تأسرهم المباحثات،
يرغبون أن "يسكنوا في تلك الأغصان" (مت32:13) حيث لا بلاغة في اللغة بل
نظام حياة"[3].
هكذا فإن المفهوم الحقيقى للكتاب
لا يُعرف دائمًا بسهولة من الكل.
لأن الحقيقة الإلهية تُصاغ بمساعدة اللغة البشرية والتي تعبر دائمًا عن أمور
مخلوقة ومحدودة، وليس إطلاقًا عن الجوهر الإلهى، لذا ينبغى أن يُعتبر الكتاب كـ
"إظهار" وإعلان"
للإرادة الإلهية[4]. إن الكتاب هو الشهادة الملهمة بالروح القدس عن الإعلان الإلهى، وهو في نفس الوقت المرشد الأمين نحو هذا الإعلان، وبهذا المفهوم هو ـ
لدى القديس كيرلس الأسكندرى ـ " الفردوس العقلى"، وعند القديس ذهبى الفم
"الكنز" و"النور" الذي يكشف ـ بواسطة أسس روحية للإيمان ـ
الإرادة الإلهية وتفعيلها في حياة المؤمنين.
إن الآباء لم يعتبروا أبدًا
الكتاب المقدس نصًا عاديًا، لكن
بالنسبة لهم هو الظهور الصادق لأمور تخص فائدة الإنسان. أى كل ما كُتب كُتب لفائدة
الإنسان في حياته اليومية، وهدف الكتاب هو تفعيل كل الأمور المكتوبة لفائدة
المؤمنين فى حياتهم، وهذا يحدث بواسطة أسس روحية إيمانية من جانب المؤمنين وليس
تفعيل آلى لمجرد قراءة الصياغة المكتوبة .
هكذا بعض
الأسس الآبائية التي سوف نكتشفها من خلال تفاسير الآباء هي الآتي:
1ـ جوهر الإعلان الإلهي هو في حد
ذاته غير مدرك ولا توجد كلمة بشرية تعبر عن جوهر الإعلان الإلهي بدقة. بالتالي
جوهر الله هو غير مدرك للبشر في كماله ، ومحاولة التعبير عن عمل الله عبر
تاريخ الخلاص باللغة البشرية بإلهام الروح القدس هو ما فعله كُتاب الأسفار
الإلهية.
2ـ التفسير اللغوي ليس له المرتبة
الأولى في عملية التفسير بل الإيمان هو أساس التفسير الصحيح وتأتي بعد ذلك الأهمية
اللغوية والتاريخية. والكلمات البشرية هي أيضًا الوسيلة التي نعبر بها عن التفسير
الصحيح.
3ـ كلمة الكتاب المقدس تُعلن
الفعل التاريخي لمحبة الله للبشر.
4ـ التفسير الكتابي ينمو ويتجدد
دائمًا قياسًا بنمو وتجديد الفكر الكنسي عبر الأزمنة دون مساس بمحتوي إيماننا
العقيدي الأساسي