الخميس، 23 فبراير 2012

هل خُلِقَ الإنسان الأول في حالة الكمال؟


هل خُلِقَ الإنسان الأول في حالة الكمال؟


                                 د . جورج عوض إبراهيم

البعض ينادي بأن آدم وحواء خُلِقا كاملين ، لأن ما يصنعه الله هو كامل . وبسبب خطاياهما فقدا  معاً حالة الكمال  ، ودخل الضعف وكذلك المرض والشيخوخة والموت إلى الحياة البشرية كنتيجة لهذا السقوط . بالتالي ، هدف الله – منذ البداية -  بالنسبة للإنسان هو ان يُوجد أبدياً في حالة الكمال وعدم فعل الخطية وعدم الموت في فردوس أرضي بدون تطلع لحياة سماوية . فإن كان الله يريد لآدم ان يذهب إلى السماء ما كان قد خلقه في الأرض بل في السماء .  والرد على هذا الفكر الخاطيء نستعرضه من عرضنا للأنثربولوجية المسيحية من المنظار الأرثوذوكسي :

كامل أم حسنُ جداً؟


وفق الكتاب المقدس لم يخلق الله أي مخلوق أرضي كامل ، كما وصف موسى النبي في سفر التكوين : " وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً "  ( تك31:1 ) . وحين نقارن بين "حسن جداً" و " كامل " نجد ان "حسن جداً " هو ناقص بالنسبة لحالة الكمال . والمخلوق الكامل هو المخلوق الذي لا يعتريه أي نقص . إذن كل من آدم وحواء وكذلك كل الخليقة المادية الباقية كما وصفها سفر التكوين هي مخلوقات غير كاملة.

هل هذا يعني ان الله لم يتقن عمله جيداً ؟ بالطبع حاشا. السبب الذي من أجله لم يخلق الإنسان – من البداية – كامل ، هو ان  تحقيق الكمال كان لابد ان يكون نتيجة عمل الإنسان المشترك مع الله . وهذا يتضح من النص التالي : [وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».  فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ ]  (تك26:1-27.) .

بحسب تعليم الآباء يبدو كيف ان الله كان لديه هدف ان يخلق الإنسان " بحسب صورته ومثاله " . بالتالي عندما صنعه قد صنعه بحسب الصورة . هنا يُخفى سر الكمال . الإنسان كمخلوق " بحسب الصورة " كان " حسن جداً " . لكن عندما يدخل في طريق الكمال يصير بحسب مثال الله .

إذن ما أهمية تعبيرات مثل " بحسب الصورة " و " بحسب المثال " ؟


نعمة "بحسب الصورة " هي الإمكانية التي منحها الله للإنسان ، كمخلوق حر وعاقل ، لأن يتشبه بالله . أما نعمة " بحسب المثال " هي مسيرة الإنسان لتحقيق هذا التشبه . وهذا يتحقق فقط بعمل الإنسان المشترك مع الروح القدس " μόνο με τη συνέργεια τού ανθρώπου και τού Αγίου Πνεύματος "


لأن الله هو الذي يريد  ولا يستخدم الإجبار  ، كان يجب على الإنسان ان يريد ، وأن يحاول مستخدماً نعمة الحرية والإدراك العقلي للخلق بحسب الصورة لكي يصل إلى الكمال أي إلى مسيرة التشبه بالله . هذا هو الملمح الذي لدى الإنسان فقط من بين المخلوقات . ويؤكد هذا الأمر القديس كيرلس الأسكندري ، قائلاً :  [ لا ينبغى أن يشك أحد فى أن الإنسان قد جاء إلى الوجود ليس لأجل أعمال مخزية بل لأجل عَمَل كل ما هو ممدوح، بما أنه ثمرة إبداع الله الصالح. ولكن تظل الحقيقة قائمة أنه قد خُلق سيدًا لنفسه وحرًا، وقادرًا على التحرك بواسطة قوة إرادته الخاصة نحو أى اتجاه يختاره سواء كان خيرًا أو شرًا] ضد يوليانوس الجاحد (PG76, 925).


لم يكن من الممكن ان يُخلق الإنسان مباشرةً ( أي إجبارياً ) كامل . لكن الذي حدث أن الإنسان قد فَضّل  ان يتشبه بالله عن طريق إستقلاله وعمله الذاتي بدون معونة الروح القدس . هكذا إنحرف الإنسان في تحقيق هذف الكمال وبدلاً من التشبه بالله تشبه بالحيونات الفاسدة . هدف الكمال  يجب أن يكون هو هدف كل مسيحي وهذا يبدو من الشواهد الكتابية الآتية :

" فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ " ( مت 48:5 ).

" لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ " ( عب 1:6 )

" إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ " ( أفس13:4 )


يجب علينا هنا ان نتذكر بأن الكمال الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس هو ليس الكما الجسدي كما يدعي البعض ، بل يتحدث الكتاب عن التشبه بالله ، وهذا ليس له أي علاقة بالجسد . وكون ان جسد الكاملين يكتسب عدم الفساد وعدم الموت ، فهذا طبيعي من نتاج الكمال وليس الكمال ذاته .


لكن كيف سوف نتشبه بالله طالما نحن لم نراه . الإجابة أيضاً توجد في تعبير " بحسب الصورة  والمثال " لم يقول " صورة الله ومثاله " . ماذا يعني كلمة " بحسب " تعني " صورة الصورة " وليس مباشرةً صورته . ومَنْ هو صورة الله المباشرة ؟ بالطبع هو يسوع المسيح : " اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ " ( كو 15:1 ) .


إذن خُلِقَ آدم " بحسب صورة الله " أو " صورة المسيح " . وكون أن يسوع المسيح لم يكن قد وُلِدَ بعد كإنسان  حين خُلِق الإنسان، فهذا ليس هو مشكلة . الله بكونه خالق الدهور يعرف جيداً المستقبل . كل هذا يتناسب مع ما جاء في رسالة أفسس 13:4 : " إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ " .  يجب ان نتمثل بالمثال الذي تركه الرب يسوع المسيح ، وهذا سوف يقودنا إلى التشبه بالله ، أي في مسيرة الكمال .


ربما الكمال ليس سهل المنال ، طالما اننا نتحدث عن التشبه بكمال الله . جزئياً هذا الكلام صحيح . لكي نصل إليه لهو بالتأكيد مستحيل . سوف نقترب منه لكن من الآن ولكل الأبدية ، نصير كلنا متشبهين به ، مثلما قال بولس الرسول : " وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ " 2كو18:3


الكمال إذن هو شيء نسبي ، وكل واحد يوجد في مسيرة نحو التشبه إما بالله أو عدوه الشيطان . الإرادة الحرة لكل واحد هي التي تحدد في أي إتجاه تتحرك . الكمال ليس هو موقف واحد ساكن بل مسيرة دائمة . وهناك عبارة ذُكِرت في سفر التكوين توضح ان الكمال نسبي هي : " كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارّاً كَامِلاً فِي أَجْيَالِهِ. وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ " تك9:6 . دُعي نوح كامل مقارنةً بمعاصريه ، لأنه سار مع الله . وُجد في مسيرة الكمال ، لقد استنزف الوسائل التي كانت لدى ذلك العصر لمسيرته تجاه الكمال . لكن في الحقيقة ، خلق الإنسان أُكتُمِلَ متأخراً جداً . بولادة ربنا يسوع المسيح فقط ظهر أخيراً الإنسان الكامل . يسوع المسيح هو الإنسان الوحيد الذي هو كامل بالحقيقة . في شخصه ، وجدت البشرية الإكتمال النهائي لهدف الله بالنسبة للإنسان : " نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا" تك26:1 . فتح يسوع الطريق تجاه الكمال وتجاه الآخرين الذين وجدوا في مسيرة " بحسب المثال " : " .... \لَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ \للَّهِ " يع9:3 .

هدف المسيرة المسيحية


الشواهد الكتابية تعلن ان المسيحيين هم موجودين في مسيرة الكمال تابعين الكامل المطلق ، يسوع المسيح :                      كو28:1 " الَّذِي نُنَادِي بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ انْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ انْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ انْسَانٍ كَامِلاً فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ "

يع4:1 : " وَأَمَّا \لصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ "

مت48:5 : " فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ "

رو29:8 : " لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ ".

عب 14:5 : " وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ".

الشواهد السابقة تُظهِر أيضاً ان الإنسان لم يُخلق كاملا بل يصير كاملا بعمله المشترك مع الروح القدس :

" لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ " ( عب 1:6 )

" إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ " ( أفس13:4)

نتيجة كمال الإنسان سوف تكون لها فاعلية على كل الخليقة التي خضعت للتغيير لكي يكتمل هدف خلق الإنسان ، ليس فقط للإنسان بل لبقية الخليقة المادية التي فيها عُين الإنسان ملك وكاهن : رو 19:8-21 : " لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ. إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ - لَيْسَ طَوْعاً بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا - عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ ".

إذن ، طالما ان الخليقة سوف تتحرر مع الإنسان من عبودية الفساد يعني كيف انها سوف تصير هي أيضاً غير فاسدة .

هكذا الإنسان خُلِقَ بحسب صورة الله بهدف ان يصل بحرية الى الكمال الذي هو هدف خلق الإنسان بحسب المثال . هذا يتحقق اليوم بالنسبة للمسيحيين الذين يتبعون مثال الرب يسوع المسيح . هؤلاء ، طالما نالوا الروح القدس بواسطة المعمودية سوف يصير الكل أكثر كمالاً كذلك كل الأبدية سوف يقتربوا من كمال الله .  وقد سبق للقديس إيرينيوس ان يشدد على ان الإنسان كان مدعواً للكمال ، إذ يقول : " وإذ جعل الإنسان (آدم) سيدًا على الأرض وكل شئ فيها، فإنه جعله كذلك سيدًا على الكائنات التي كان ينبغى أن تخدمه. ولكن بينما كانت هذه الكائنات الأخيرة في قمة قوتها، كان سيدها أى الإنسان لا يزال صغيرًا، كان طفلاً عليه أن ينمو لكى يحقق كماله " ( الكرازة الرسولية 12 )

وبالرغم من ان كلمة " كمال " لم تُذكر في علاقة مع الجسد  ، إلا أنه سوف يكتسب المخلصون جسد جديد غير فاسد ، وسوف يأخذون الحياة في أرض جديدة غير فاسدة عائشين في نفس الوقت في حضور الله السماوي . آمين تعال أيها الرب يسوع































هل خُلِقَ الإنسان الأول في حالة الكمال؟

                                 د . جورج عوض إبراهيم
البعض ينادي بأن آدم وحواء خُلِقا كاملين ، لأن ما يصنعه الله هو كامل . وبسبب خطاياهما فقدا  معاًحالة الكمال  ، ودخل الضعف وكذلك المرض والشيخوخة والموت إلى الحياة البشرية كنتيجة لهذا السقوط . بالتالي ، هدف الله – منذ البداية -  بالنسبة للإنسان هو ان يُوجد أبدياً في حالة الكمال وعدم فعل الخطية وعدم الموت في فردوس أرضي بدون تطلع لحياة سماوية . فإن كان الله يريد لآدم ان يذهب إلى السماء ما كان قد خلقه في الأرض بل في السماء .

كامل أم حسنُ جداً؟

وفق الكتاب المقدس لم يخلق الله أي مخلوق أرضي كامل ، كما وصف موسى النبي في سفر التكوين : " وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً "  ( تك31:1 ) . وحين نقارن بين "حسن جداً" و " كامل " نجد ان "حسن جداً " هو ناقص بالنسبة لحالة الكمال . والمخلوق الكامل هو المخلوق الذي لا يعتريه أي نقص . إذن كل من آدم وحواء وكذلك كل الخليقة المادية الباقية كما وصفها سفر التكوين هي مخلوقات غير كاملة.
هل هذا يعني ان الله لم يتقن عمله جيداً ؟ بالطبع حاشا. السبب الذي من أجله لم يخلق الإنسان – من البداية – كامل ، هو ان  تحقيق الكمال كان لابد ان يكون نتيجة عمل الإنسان المشترك مع الله . وهذا يتضح من النص التالي : [وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».  فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ ]  (تك26:1-27.) .
بحسب تعليم الآباء يبدو كيف ان الله كان لديه هدف ان يخلق الإنسان " بحسب صورته ومثاله " . بالتالي عندما صنعه قد صنعه بحسب الصورة . هنا يُخفى سر الكمال . الإنسان كمخلوق " بحسب الصورة " كان " حسن جداً " . لكن عندما يدخل في طريق الكمال يصير بحسب مثال الله .
إذن ما أهمية تعبيرات مثل " بحسب الصورة " و " بحسب المثال " ؟
نعمة "بحسب الصورة " هي الإمكانية التي منحها الله للإنسان ، كمخلوق حر وعاقل ، لأن يتشبه بالله . أما نعمة " بحسب المثال " هي مسيرة الإنسان لتحقيق هذا التشبه . وهذا يتحقق فقط بعمل الإنسان المشترك مع الروح القدس " μόνο με τη συνέργεια τού ανθρώπου και τού Αγίου Πνεύματος "
لأن الله هو الذي يريد  ولا يستخدم الإجبار وكان يجب على الإنسان ان يريد ، وأن يحاول مستخدماً نعمة الحرية والإدراك العقلي للخلق بحسب الصورة لكي يصل إلى الكمال أي إلى مسيرة التشبه بالله . هذا هو الملمح الذي لدى الإنسان فقط من بين المخلوقات . ويؤكد هذا الأمر القديس كيرلس الأسكندري ، قائلاً :  [ لا ينبغى أن يشك أحد فى أن الإنسان قد جاء إلى الوجود ليس لأجل أعمال مخزية بل لأجل عَمَل كل ما هو ممدوح، بما أنه ثمرة إبداع الله الصالح. ولكن تظل الحقيقة قائمة أنه قد خُلق سيدًا لنفسه وحرًا، وقادرًا على التحرك بواسطة قوة إرادته الخاصة نحو أى اتجاه يختاره سواء كان خيرًا أو شرًا] ضد يوليانوس الجاحد (PG76, 925).
لم يكن من الممكن ان يُخلق الإنسان مباشرةً ( أي إجبارياً ) كامل . لكن الذي حدث أن الإنسان قد فَضّل  ان يتشبه بالله عن طريق إستقلاله وعمله الذاتي بدون معونة الروح القدس . هكذا إنحرف الإنسان في تحقيق هذف الكمال وبدلاً من التشبه بالله تشبه بالحيونات الفاسدة . هدف الكمال  يجب أن يكون هو هدف كل مسيحي وهذا يبدو من الشواهد الكتابية الآتية :
" فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ " ( مت 48:5 ).
" لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ " ( عب 1:6 )
" إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ " ( أفس13:4 )
يجب علينا هنا ان نتذكر بأن الكمال الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس هو ليس الكما الجسدي كما يدعي البعض ، بل يتحدث الكتاب عن التشبه بالله ، وهذا ليس له أي علاقة بالجسد . وكون ان جسد الكاملين يكتسب عدم الفساد وعدم الموت ، فهذا طبيعي من نتاج الكمال وليس الكمال ذاته .
لكن كيف سوف نتشبه بالله طالما نحن لم نراه . الإجابة أيضاً توجد في تعبير " بحسب الصورة  والمثال " لم يقول " صورة الله ومثاله " . ماذا يعني كلمة " بحسب " تعني " صورة الصورة " وليس مباشرةً صورته . ومَنْ هو صورة الله المباشرة ؟ بالطبع هو يسوع المسيح : " اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ " ( كو 15:1 ) .
إذن خُلِقَ آدم " بحسب صورة الله " أو " صورة المسيح " . وكون أن يسوع المسيح لم يكن قد وُلِدَ بعد كإنسان  حين خُلِق الإنسان، فهذا ليس هو مشكلة . الله بكونه خالق الدهور يعرف جيداً المستقبل . كل هذا يتناسب مع ما جاء في رسالة أفسس 13:4 : " إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ " .  يجب ان نتمثل بالمثال الذي تركه الرب يسوع المسيح ، وهذا سوف يقودنا إلى التشبه بالله ، أي في مسيرة الكمال .
ربما الكمال ليس سهل المنال ، طالما اننا نتحدث عن التشبه بكمال الله . جزئياً هذا الكلام صحيح . لكي نصل إليه لهو بالتأكيد مستحيل . سوف نقترب منه لكن من الآن ولكل الأبدية ، نصير كلنا متشبهين به ، مثلما قال بولس الرسول : " وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ " 2كو18:3
الكمال إذن هو شيء نسبي ، وكل واحد يوجد في مسيرة نحو التشبه إما بالله أو عدوه الشيطان . الإرادة الحرة لكل واحد هي التي تحدد في أي إتجاه تتحرك . الكمال ليس هو موقف واحد ساكن بل مسيرة دائمة . وهناك عبارة ذُكِرت في سفر التكوين توضح ان الكمال نسبي هي : " كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارّاً كَامِلاً فِي أَجْيَالِهِ. وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ " تك9:6 . دُعي نوح كامل مقارنةً بمعاصريه ، لأنه سار مع الله . وُجد في مسيرة الكمال ، لقد استنزف الوسائل التي كانت لدى ذلك العصر لمسيرته تجاه الكمال . لكن في الحقيقة ، خلق الإنسان أُكتُمِلَ متأخراً جداً . بولادة ربنا يسوع المسيح فقط ظهر أخيراً الإنسان الكامل . يسوع المسيح هو الإنسان الوحيد الذي هو كامل بالحقيقة . في شخصه ، وجدت البشرية الإكتمال النهائي لهدف الله بالنسبة للإنسان : " نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا" تك26:1 . فتح يسوع الطريق تجاه الكمال وتجاه الآخرين الذين وجدوا في مسيرة " بحسب المثال " : " .... \لَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ \للَّهِ " يع9:3 .

هدف المسيرة المسيحية

الشواهد الكتابية تعلن ان المسيحيين هم موجودين في مسيرة الكمال تابعين الكامل المطلق ، يسوع المسيح :                      كو28:1 " الَّذِي نُنَادِي بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ انْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ انْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ انْسَانٍ كَامِلاً فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ "
يع4:1 : " وَأَمَّا \لصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ "
مت48:5 : " فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ "
رو29:8 : " لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ ".
عب 14:5 : " وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ".
الشواهد السابقة تُظهِر أيضاً ان الإنسان لم يُخلق كاملا بل يصير كاملا بعمله المشترك مع الروح القدس :
" لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ " ( عب 1:6 )
" إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ " ( أفس13:4)
نتيجة كمال الإنسان سوف تكون لها فاعلية على كل الخليقة التي خضعت للتغيير لكي يكتمل هدف خلق الإنسان ، ليس فقط للإنسان بل لبقية الخليقة المادية التي فيها عُين الإنسان ملك وكاهن : رو 19:8-21 : " لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ. إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ - لَيْسَ طَوْعاً بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا - عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ ".
إذن ، طالما ان الخليقة سوف تتحرر مع الإنسان من عبودية الفساد يعني كيف انها سوف تصير هي أيضاً غير فاسدة .
هكذا الإنسان خُلِقَ بحسب صورة الله بهدف ان يصل بحرية الى الكمال الذي هو هدف خلق الإنسان بحسب المثال . هذا يتحقق اليوم بالنسبة للمسيحيين الذين يتبعون مثال الرب يسوع المسيح . هؤلاء ، طالما نالوا الروح القدس بواسطة المعمودية سوف يصير الكل أكثر كمالاً كذلك كل الأبدية سوف يقتربوا من كمال الله .  وقد سبق للقديس إيرينيوس ان يشدد على ان الإنسان كان مدعواً للكمال ، إذ يقول : " وإذ جعل الإنسان (آدم) سيدًا على الأرض وكل شئ فيها، فإنه جعله كذلك سيدًا على الكائنات التي كان ينبغى أن تخدمه. ولكن بينما كانت هذه الكائنات الأخيرة في قمة قوتها، كان سيدها أى الإنسان لا يزال صغيرًا، كان طفلاً عليه أن ينمو لكى يحقق كماله " ( الكرازة الرسولية 12 )
وبالرغم من ان كلمة " كمال " لم تُذكر في علاقة مع الجسد  ، إلا أنه سوف يكتسب المخلصون جسد جديد غير فاسد ، وسوف يأخذون الحياة في أرض جديدة غير فاسدة عائشين في نفس الوقت في حضور الله السماوي . آمين تعال أيها الرب يسوع



















 






الأربعاء، 8 فبراير 2012

هل يوجد ما يُسمى تعليم " ما بعد الآباء "؟


هل يوجد ما يُسمى تعليم " ما بعد الآباء "؟ المطران إيروثيوس فلاخوس – ترجمة د.جورج عوض إبراهيم


             

                   

إن التعليم اللاهوتي للكنيسة هو تعليم نبوي ، رسولي وآبائي ولذلك لا يمكن ان يُنسب له مصطلحات أخرى مثل ما بعد التعليم النبوي ، ما بعد التعليم الرسولي ، ما بعد التعليم الآبائي ، وبالطبع ولا ما بعد التعليم الأرثوذوكسي . عادةً ، التيارات الإنسانية تأخذ مثل هذه المصطلحات ، مثل عصر الحداثة وما بعد الحداثة .

آباء الكنيسة هم خلفاء الرسل في التعليم اللاهوتي والعمل ، يشتركون في نفس الخبرة الإعلانية ذاتها . بالتأكيد ، آباء الكنيسة لكي يحفظوا الخبرة الرسولية من تغييرات الهراطقة ويقودوا المسيحيين إستخدموا مصطلحات عصرهم لكي يعبروا عن التقليد ذاته الذي كان لديهم بدون ان يغيروه . هكذا ، التعليم العقيدي حُدد من المجامع المسكونية وصار جزء من التقليد حيث لا يستطيع أي " أب حديث " ان يتجاهله أو يتخطاه . بناء على ذلك ، لا يمكن ان يصير حديث عن تعليم ما بعد الآباء .  مسألة مختلفة عندما نواجه التيارات المعاصرة في داخل التعليم الأرثوذوكسي الذي لا يمكن ان يُدعى " ما بعد الآباء " ولا يخص تغيير العقائد .

ما يسمى تعليم ما بعد الآباء يرتبط بنظريات أليكس خوميناكوف الروسي ( 1804-1860 ) الذي في عصره لعب دوراً هاماً في الكتابات اللاهوتية الروسية . ليس من المناسب هنا ان نتكلم عن آرائه ، لكن فقط يُلاحظ ان وفق خوميناكوف ، آباء الألفية الأولى يتحدثون في عصره ولديهم قيمة لكن التعليم المدرسي ( القرن التاسع – القرن الثالث عشر ) تخطى التعليم الآبائي مثلما التعليم الروسي اللاهوتي فيما بعد تجاوز الأثنين السابقين ( الآبائي والمدرسي ) . ما هو خطأ خوميناكوف ، خطأه هو أنه ربط بشدة الأرثوذوكسية بالحضارة لكن ليست الأرثوذوكسية حضارة .

عموماً ، نظرية أليكس خوميناكوف أثرت بدرجات مختلفة على التعليم الروسي للشتات في باريس لذلك اليوم يصير حديث عن تعليم " ما بعد الآباء " . الفيلسوف الروسي كيريفسكي وصديق خوميناكوف قال : " إنه من غير الممكن ان تُجدد فلسفة الآباء في الشكل الذي كانت عليها في عصرهم . إنها تجيب على أسئلة عصرها وحضارته التي نَمت فيه "

كتب الأب رومانيدس أن : " خوميناكوف يتفق أيضاً مع ملاحظة صديقه عن الحاجة لتطور فلسفة مسيحية روسية تجيب على الأسئلة الدينية والإجتماعية للمجتمع المعاصر ".

الأب جورج فلورسكي ، وهو يضع في حسابه وجود هذا التيار ، تحدث عن " الرجوع إلى الأباء " ، أي " الرجوع إلى المصادر الآبائية والأسس الآبائية " ، وفي هذا التطلع تحدث عن ما يُسمى المستويات اليونانية للفكر . كتب ، قائلاً : " الإبتعاد عن المسيحية اليونانية ليس هو أبداً تقدم بل رجوع إلى المآزق ولأرتباكات يونانية أُخرى ...لا يوجد أي مخرج إلا فقط من خلال التعليم الآبائي ". إن لم نرى آراء الأب جورج فلورسكي داخل هذا الإطار ، أي إن لم يتفق  مع آراء الأثنين الروس لكُنا ظلمناه بأنه ينادي بتعليم ما بعد الآباء .

هذا يعرفه البطريرك المسكوني بارثلماوس ، لأجل ذلك في أفتتاحيته للمؤتمر المعروف في أكاديمية فولو اللاهوتية ، حيث أنه ذكر أن تعليم الكنيسة لا يمكن ان يجهل الحضارة الحديثة ، إذ يقول : " المستقبل ينتمي إلى تعليم لاهوتي " أصيل – حقيقي " آبائي ، أبعد من تعليم آبائي حديث وتعليم ما بعد الآباء ، إنه أقرب إلى تعليم لاهوتي كنسي ، يُحيّا من الشد بين " ما تحقق بالفعل " و " ما لم يتحقق بعد  " لملكوت الله " .

التعليم اللاهوتي الأرثوذوكسي هو تعليم كنسي ، أي صوت الكنيسة ، والآباء تحدثوا ويتحدثون هذه اللغة . لذلك لا يمكن ان يُقبل مصطلح تعليم ذات " حداثة آبائية " ، أو تعليم " ما بعد الآباء " ، طالما أن التعليم الأرثوذوكسي هو نبوي ورسولي وعلى أي حال تعليم كنسي .




الجمعة، 3 فبراير 2012

إجهاض مشروع إنسان مع سبق الاصرار والترصد


إجهاض مشروع إنسان مع سبق الاصرار والترصد: أنس  "الضاحك الذى أبكى ملايين المصريين"
                                             د.جورج عوض إبراهيم

يتحدث المتخصصون في التربية وعلم النفس عن حتمية وجود فجوة بين الأجيال ، وأحيانا يقولون عنها صراع الأجيال ، طبعاً صراع في الجدل والحوار واستخدام الأساليب والمناهج والطرق لمعالجة مشاكل الحياة . والأمر الحتمي والطبيعي هو ان كل ما هو حديث يأتي فيزعج ما أستقر عليه الكبار ، إلى ان يتم قبوله بالحوار وتبادل الآراء والتجربة العلمية والتطبيق وظهور النتائج وتقيمها . والشباب دائما يملك كل ما هو جديد وحديث  لأنه يستخدم أدوات حديثة وتكنولوجية متقدمة ومعلومات متوفرة عبر شبكة الأنترنت ، الأمر الذي لم يكن مُتاح للكبار. والمجتمع المتقدم هو الذي يفسح المجال للشباب ليأخذ دوره في ممارسة حقه في بنائه  بأسلوب عصري وحديث متفق مع مسيرة التقدم بالتعاون مع خبرة الكبار وحكمتهم، لكن يظل الشباب هم الأساس والقاعدة .

أما في بلادي يسعى الكبار لقتل الصغار لكي يظلوا هم قابعون في مراكزهم حتى آخر لحظة في حياتهم . وتحصن الكبار بمبررات كاذبة أختلقوها ونسوا أنها من نتاج خيالاتهم وصدقوها لكي يتذرعوا ببقائهم الدائم في مراكزهم . وحين نجح الشباب فيما فشل فيه الكبار وأزاحوا  رؤساء النظام الفاسد بثورة 25 يناير التي أذهلت العالم أجمع ، ما زال يصر هؤلاء الذين أخذوا فرصتهم وفرص الكثيرين في فترة دامت ثلاثون عاماً أنهم الأجدر على إدارة شئون المجتمع وتحقيق التقدم والعدالة والكرامة. والمبرر أيضا هو أن مَن قاموا بالثورة هم خونه ينفذون أجندة خارجية لتقسيم وإضعاف البلاد ، ونسوا أنهم فشلوا طوال ثلاثون عاماً في كل مجالات الحياة من تعليم وصحة وثقافة واستثمار الموارد البشرية والأقتصاد والأبحاث العلمية وغيرها . المشكلة الحقيقية هي التمسك بالسلطة حتى آخر نفس وغياب ثقافة التداول  وإفساح المجال للآخر، ولا يتردد هؤلاء في الدفاع عن بقائهم في استخدام كل الأساليب الخبيثة من التشويه والأهانات والقتل ليظلوا  دائماً هم أصحاب الموقف الصحيح .

لنأخذ مثال من هؤلاء الشباب والذي كان مشروع إنسان بمعنى الكلمة ، أنس محيى الدين الذي  لم يتخط الخامسة عشرة من العمر هو أحد مشجعي النادي الأهلي ، فَقَد حياته فى مجزرة بورسعيد على خلفية مباراة الأهلى والمصرى البورسعيدى ليصبح أصغر ضحايا تلك المجزرة.  ولكي نعرف أنس ونكوّن  فكرة عن شخصيته ، علينا ان نقرأ ماذا كتب في وصيته فى 24 يناير الماضي قبل أن يستشهد فى 1 فبراير وأرسلها من هاتفه المحمول لأصدقائه طلب فيها الآتي : " أن يتم لفه بعلم مصر، وأن يتم تشييع جنازته فى ميدان التحرير وأن يصلى عليه فى الميدان، وأن يتم التبرع بقرنية عينيه وباقى أطراف وأجزاء جسده لمصابي الثورة ". أنس من خلال وصيته هو شاب وطني يحب بلاده  فهو يفضل ان يتم لفه بعلم مصر وان يتم تشييع جنازته في ميدان التحرير ، الميدان الذي يرمز للثورة المجيدة التي أيقظت الناس من سُباتهم . أنس يحب بلادة بالرغم من إمكانيات الرعاية المتواضعة التي توفرها بلادة لمَنْ هم في عمره من جهة التعليم والصحة والرياضة وغيرها ، إلا انه يحبها ويعشقها من كل قلبه . أيضاً لدى أنس محبة شديدة تجاه أخوته الثوار المصابين والمفقوده أعينهم ، فأوصى بالتبرع لهم بقرنية عينيه وباقي أطراف جسده  . ماذا لو أفسح المسئولين الكبار المجال لمثل  هؤلاء الشباب لكي يأخذوا فرصتهم بعد توفير سُبل الرعاية لهم ؟ للأسف أصّر الفاسدون على قتل مستقبل هذا الوطن ، شبابنا الذي يحلم بغدٍ أفضل حاملين هؤلاء الحاقدون شعار: نحن أم قتل كل ما هو جميل فيكم . تركوا لنا بيوت  كثيرة زرعوا فيها الحزن إما على ابن أزهقوا حياته أو مصاب مفقوء العين او مُقعد . لكن هم واهمون إذا ظنوا أنهم سوف ينتصروا على حتمية التغيير الذي يقوده شبابنا . أنس وأمثاله مازالوا أحياء في شعب قرر أن يعيد تقييم حياته ليلحق بقيم  الحق في الحياة والعدل والكرامة والتقدم والرُقي . ستظل إبتسامة أنس تبث فينا روح الأمل في التغيير شاكرين الله على نعمة الحرية التي أنعم بها على مخلوقاته التي تسعى  جاهده على الحفاظ على هذه النعمة من أهواء النفس وشرورها من خلال تواصلها مع خالقها  بشتى الطرق .