ـ العبادة والنُسك
والروحانية
د.جورج عوض إبراهيم
مقدمة
هدف
الكنيسة هو خلاص وتقديس الإنسان وكل الخليقة، فالخلاص فى المسيح هو إعادة الإنسان
إلى طريق الكمال والخلود بقوة الروح القدس. هذه المسيرة تتحقق بانضمام كل الوجود
الإنسانى إلى جسد المسيح أى يصير الوجود الإنسانى كنيسة فى المسيح، ويصير الحق فى
داخل الإنسان. وعندئذٍ يمكن له أن يعرف الله ويتحد معه ويتقدس.
إن
إحدى وسائل الوجود فى جسد المسيح هو النُسك، فهذا ما أكده الرب نفسه قائلاً "
ملكوت الله يُغصب والغاصبون يختطفونه" (مت12:11). والقديس بولس يقول
" أقمع جسدى واستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسى مرفوضًا"
(1كو27:9).
النُسك
هو أساس للإحتفاظ بالحياة فى المسيح يسوع ويمثل الطريق الدائم للتوبة، والذى يجعل
الإنسان مهيئًا لقبول النعمة الإلهية. وطالما أن هدف الإنسان هو نوال الروح القدس
(يو22:20) فمن الضرورى أن ينفتح الإنسان على النعمة الإلهية. بالنُسك تُمات
الطبيعة الجامحة لكى تستعيد نقاوتها الأولى. النُسك، كجهاد الإنسان هو عند الكنيسة
منهج للمعرفة اللاهوتية. إن المحاولة النُسكية التى يقوم بها المؤمن ليست لها ملمح
أخلاقى، فهى لا ترمى فقط لتحسين صفات الإنسان، لكن تهدف إلى شركة شخصية " إلى
جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة.
وكنيسة أبكار.." (عب22:12ـ23). النُسك اشتراك فى طاعة المسيح والقديسين
لكى تمتثل الإرادة الفردية وتتطابق مع إرادة الله " فليكن فيكم هذا الفكر
الذى فى المسيح يسوع أيضًا" (فى5:2).
بظهور
النُظم النُسكية من القرن الرابع ارتبطت العبادة بالنُسك، فالسجود أثناء العبادة
يعبر عن مدى الانسحاق وطاعة الله. العبادة صار لها ملمح نُسكى كتوبة دائمة. إن كل
يوم لدى الكنيسة هو احتفال وعيد لأن تذكارات القديسين تؤكد على نصرة المسيح على
العالم (يو33:16). النُسك يدفع المؤمنين للاشتراك فى الاحتفال الروحى المستمر
للكنيسة، إذ يجعل الإنسان مستعدًا للاشتراك فى "الخليقة الجديدة"
(2كو7:5)، وهذا يتحقق فى عبادة الكنيسة. النُسك هو طريق العودة إلى الحياة بحسب
الطبيعة والشرط الأساسى لمسيرة الصعود للحياة "فوق الطبيعة" التى تتجاوز
وتتخطى الحياة التى تسيطر عليها المادية. النُسك يهدف إلى الصلاة بلا انقطاع
والوداعة وضبط النفس بالصيام والعبادة المستمرة لكى تصير الحياة " ذبيحة
حية مرضية عند الله" (رو1:12). بالنُسك تجد حياة الإنسان مرة أخرى جمالها
وأصالتها الأولى.
من
جهة أخرى فإن النُسك بواسطة العبادة الكنسية لا يبقى عملاً فرديًا بل بواسطة
الإفخارستيا يصير ضمن جسد المسيح، والحدث الفردى يصير حدثًا كنسيًا جماعيًا. ولأن
العبادة تهتم بكل حياة الإنسان وتمسحها بالروح القدس، فالنُسك يمنح الإنسان
الإمكانية لتحقيق هذا الهدف. فالقلب النقى هو الهدف من النُسك المسيحي " قلبًا
نقيًا أخلق فىَّ يا الله.." (مز12:50)، أنقياء القلب هم الذين يعاينون
الله (مت18:5). العبادة تقود إلى القداسة بشرط وجود نقاوة القلب والحواس. إذا كانت
العبادة هى الدخول إلى الملكوت السماوى فالنُسك هو الطريق إلى الملكوت. العبادة
تنقى وتكشف لنا هدف وجودنا، أما النُسك فوسيلة تساعدنا لتحقيق هذا الهدف. لأنه
بالنُسك تتغير حياة الإنسان إلى عبادة الله "بالحق" (يو22:4)، إذ أن
المسيحي الناسك يتحول إلى " هيكل الله ".
أ ـ النُسك والروحانية
إن الحياة الداخلية الصادقة ليست حالة
سلبية نفسية، لكنها تقدم روحى مستمر وجهاد من أجل اكتساب الفضائل. فالنسك يمثل
المحتوى الاختبارى للروحانية الأرثوذكسية. إن روح النسك يصير هيكلاً لمنظومة هذه
الروحانية، إذ يحفظها في حالة يقظة وانتظار دائم، ويحركها لتتقدم وتنمو باستمرار،
ويجعل النفس تتجاوب مع الوعود والوصايا الإنجيلية. بالتالى فإن الروحانية
الأرثوذكسية هى الخبرة النسكية للكنيسة، والتى هى الطريق الذي يقود مباشرةً إلى
التذوق الشخصى لثمار عمل الخلاص.
وكون الروحانية الأرثوذكسية هى نسكية،
لا يعنى أن لها علاقة بفكر أخلاقى أو سفسطائى لكن لها علاقة بالجهاد الدائم لتجاوز
الذات لكى نكتسب فضائل المسيح. وهذا الجهاد سيكون ناقصًا ولا يحقق هدفه إذا تم
بدون صحبة الروح القدس الإلهية، والتي تعتبر كمال الوجود البشرى وملؤه. فالاتحاد
بالله الذي هو هدف النسك لا يتم إلاّ بعمل الروح القدس في النفس. لذا يؤكد القديس
مقاريوس على أنه بدون المعونة الإلهية لا يمكن للنفس البشرية أن تتعرف على جمال
ملء الفضائل وعلى الروحانية الواجبة للتقديس. فالطبيعة البشرية لا تستطيع بمفردها
أن تُثمر ثمار الفضائل، فهى تحتاج كما يقول القديس مقاريوس إلى " الزارع
الروحى لنفوسنا، أى إلى روح المسيح"[1].
الحياة المسيحية تعطى للإنسان الإمكانية
ـ بالنسك الروحى ونعمة الأسرار ـ أن يحقق ذاته وحياته في المسيح، إذ ينمو الإنسان
في الروح القدس بحسب صورة الله " إلى قياس قامة ملء المسيح (أف13:4)، إلى أن
يتصور المسيح فيه (غلا19:4)
بواسطة سر العماد تُعطى للإنسان المقدرة
الكيانية ليشترك في الخليقة الجديدة، ليدخل في مسيرة التغيير والكمال في المسيح.
لكن الإنسان المدعو بكل حرية أن يكمل ويحقق ذاته في المسيح وفي كنيسته، يجد نفسه
بعد العماد في مواجهة ضعفاته الشخصية والتجارب الشيطانية. هنا الجهاد والنسك داخل
النعم الإلهية في الكنيسة يهدف إلى حفظ صورة المسيح فينا والتي بدأت فينا بالعماد
وزُينت بالمسحة المقدسة ويكمن فيها منذ الآن الكمال الأخروى.
إن المسيحية كعقيدة وسلوك أخلاقى هى
مرحلة تدريب نسكى دائم. إنها الدعوة إلى نسك الحياة الجديدة في المسيح، والتي
يُعبر عنها بحفظ وصايا الله. الكلام هنا ليس على قوانين ومبادئ أخلاقية تُفرض على
الإنسان لكى يفعلها، لكن على حفظ وصايا الله من جانب الإنسان الجديد وتدريب مستمر
لاكتساب الفضائل بمعونة روح الله. فالنسك المسيحى لا يُفهم على أنه نظام مستقل
لنمو القدرات البشرية، لكن هو محاولة تغيير ونمو لكل الإنسان، بحسب قياس العطية
التي يمنحها الله بالروح القدس للإنسان. إنه مسيرة طويلة، يصير فيها الإنسان
مشاركًا للنعمة الإلهية ويتغير ويتحرر من أنانيته. لذا فالنسك يُحدد بالضبط مدى
حجم مشاركة الإنسان في الحياة الجديدة في المسيح، في حياة الكنيسة جسد المسيح، حيث
يعمل الروح القدس ليحقق فينا سر المسيح. فالنسك كما يقول مار اسحق السريانى "
أصل القداسة ومنه يوُلد التذوق الأول لأسرار المسيح "[2].
إن شمولية النسك ـ أى اهتمامه بكل جوانب
الإنسان ـ تمنع أى تطابق مع علم الأخلاق أو علم الفضائل. فالنسك، كما حُدد من خبرة
الكنيسة، ليس هو نظام للفضائل أو فلسفة أخلاقية. النسك هو التغيير الكامل للإنسان
بواسطة النعمة الإلهية. إنه مسيرة رجوع الإنسان إلى وحدته وكرامته كشخص، إلى قيمة
وكمال الحرية الإنسانية في سر ناموس المحبة الجامعة، يصير كل هذا بفاعلية من جانب
الإنسان وليس بسطوة المبادئ الأخلاقية، ولا بالأوامر القاطعة التي تقود إلى
النفاق، وإلى عبودية الواجب وفقر الأخلاق الفردية.
إن أى نظام أخلاقى يستحيل عليه أن يحل
مأساة وعزلة الإنسان، وأن يُعطى إجابة شافية لمتطلبات الإنسان الشخصية والأخروية.
فالإنسان يستطيع أن يجد ذاته داخل عالم الله مرة ثانية بالنسك، أن يرجع إلى تطلعه
الطبيعى والكيانى في علاقته مع الله. لا يمكن للإنسان أن ينحصر في الامتثال لقوانين
أخلاقية خارجية، ويخضع بذلك لتشريع أخلاقى إجبارى. إن الجهاد النسكى يكون له معنى
فقط عندما ترافقه النعمة الإلهية المغيّرة والمحيية، ويُفهم على أنه من ثمار
المواهب الإلهية. إنه الامتثال إلى الأصل أى إلى الثالوث. إن النسك هو حدث شخصى
عميق، إنه الجهاد ضد القوات الشيطانية لأجل تطبيق وحفظ وصايا الله. إنه شهادة
القدرة الإنسانية التي تتحرك بحضور الله محب البشر فيها[3].
إن النسك كحدث شخصى له ملمح كنسى، فإن
مقياسه أو معايره ليست النية الفردية أو قرار الإنسان، لكن بالحرى إرادة الله
ونعمته كما عُبر عنها في الخبرة الروحية للكنيسة. فالمؤمن عندما يمارس النسك
يمارسه كعضو في الكنيسة ويعمل كإنسان كامل، إنسان له وعى وضمير فردى وقد أخلص
للوعى والضمير الجامع والشامل للكنيسة، وكل ما يعمله هذا الإنسان له علاقة دائمة
مع حياة أعضائها. لذا علينا أن نشارك أو نشترك مع الحياة النسكية العامة للكنيسة،
نرتبط بشدة معها ونصير شهود لحياة المحبة، للحياة مع الآخرين ولأجل الآخرين. فحياة
الكنيسة هى حياة المحبة والتي فيها يتم التجاوز المستمر للفردية والأنانية. إنها
خلاص بالآخرين ولأجل الآخرين. هذا ما ندعوه الضمير والوعى الكنسى والتدبير السلوكى
الكنسى، والذي يختلف جذريًا عن التحديد القانونى الصارم أو ما يُسمى بالحكم
الإلهى. إنها طريقة تفكير وحياة، إنها شهادة وذبيحة الكائن البشرى الكنسى التي
تحتضن الكل.
إذن النسك هو الفضيلة الكنسية والعمل
الكنسى، ليس له علاقة بالمحاولة الفردية التي تهدف إلى التسلط الذاتى وتحسين
الملمح الإنسانى. فالنسك لا يعنى فرض الرغبة والمهارة الفردية، ليس هو مجرد تدين
شكلى ونظام للقيم الأخلاقية مكتفى بذاته. فالنسك الأرثوذكسى لا يتغرب عن القداسة
الإنجيلية وفخر الصليب. فالتدين الشكلى يمكنه أن ينمو منفصلاً عن الكنيسة
والإنجيل. أما النسك فهو المشاركة الشخصية في نعمة الكنيسة، إنه الشركة الاختبارية
لحياة الكنيسة، هو الطاعة للإرادة الجامعة مثلما حُفظت في التقليد الكنسى وصيغت في
القوانين النسكية، ومثلما أُكملت في نعمة الحياة السرائرية للكنيسة[4].
ب ـ قوة فاعلية النسك
إن النسك بأشكاله وقوانينه المتنوعة هو
مصاحب لحياة الكنيسة ومرتبط بظروفها. فالنسك والحياة لهما وجود مشترك، وبينهما
علاقة ديناميكية، يتسع الواحد للآخر ويكمل الواحد الآخر. فالحياة في عمق معناها هى
نسك، والنسك في صورته الفعّالة هو حياة. لو فصلنا الحياة عن النسك عندئذٍ تسقط
الحياة في ظاهرة بيولوجية تمامًا أو غريزية أو تظل ظاهرة ساكنة. ولو فصلنا النسك
عن الحياة، عندئذٍ ينتهى النسك إلى قانون سادى، ونموذج خارجى ميت. فالنسك المسيحى
لا يرفض الحياة، لكن يغيرها ويكملها في النعمة. النسك هو المبدأ والقوة التى تغيير
كل الواقع الإنسانى والحياة التاريخية. بالنسك نكتسب في نفوسنا رفض الإرادة
الفردية، ونذوق نعمة الحرية والوداعة والمحبة والصلاة. إننا بالنسك نختبر التوبة
التي هى الطريق الوحيد إلى الله. فبينما نؤكد على أن مفهوم النسك وهدفه ثابت، فإنه
يوجد تنوع غير محدود لحياة النسك. فمنهج وطريقة النسك يمكن أن تختلف بالنسبة لكل
إنسان ولكل عصر. التنوع هو في التعبير والشكل، لأنه يوجد تقييم مختلف يتعلق
بنظريته وعمله، والتي نتعرف عليها عند النساك أنفسهم وبين الرهبان وأيضًا بين
المؤمنين من الشعب. النسك، في الظروف البشرية والتاريخية والعالمية يمكن أن يكون
له أشكال متنوعة، لكنه لا يفقد أبدًا هدفه الثابت والوحيد، وهو الشركة والاتحاد مع
الله، والذي هو الهدف النهائى للبشرية. الأمر القاطع يظل هو الرجوع إلى الله
والاتحاد به، لأن هذا هو الذى يحقق القداسة والكمال ليس فقط للتاريخ والحياة
البشرية بل لكل الواقع العالمى والمادى.
إن النسك كما يؤكد بول أفدوكيموف P.Evdokimov ، ليس هو إلاّ منهج في خدمة الحياة ويجب أن يحقق الاحتياجات
الجديدة للإنسان المعاصر. فالإنسان اليوم في حاجة لأن يتحرر من كل ما يسبب له
اضطراب وانزعاج مثل: السرعة والضوضاء والإدمان حتى يمتثل للهدوء والصمت بطريقة
منظمة ولفترات طويلة لكى يصلى ويتأمل ويشعر بالآخرين وسط صخب وضوضاء هذا العالم[5].
لابد أن نفكر في احتياجات اخوتنا ونخضع ذواتنا لخدمتهم بدون أن يكون لنا هدف شخصى.
النسك المسيحى يعطى مرة أخرى للإنسان أن يتذوق معنى الحرية البشرية الأصيلة
والمحبة، ويجعل الإنسان يحتقر ملذات هذا العالم ومباهجه. فالسعادة التي هى بلا
ضابط أو الرفاهية الزائدة تقود إلى العبودية، إذ تجعل الإنسان أسيرًا لحياة
حيوانية أو غريزية، وينزلق إلى قطيع مجتمع الاستهلاك. أما النسك فهو اختبار حقيقى
لصليب الحرية والمحبة، ولو خضعنا للروح وتذوقنا هذه الخبرة لتحول العالم وانضم إلى
مسيرة الكنيسة نحو ملكوت الله. إن النسك المسيحى هو السلاح الذي يملكه المؤمن ضد
الروح الاستهلاكية لحضارتنا المعاصرة والتي تميل دائمًا إلى الكسل والوصول إلى
الهدف بأقل جهد، فالنسك يعلّمنا أن نجتاز مشاكلنا بدون أن نتأثر بقيم المجتمع
الاستهلاكى التي تقود إلى الزيف والعبودية وإلى المظهرية وإنكار الإنسان ككيان
واعتباره شيئًا له قيمة مادية تقدّر بما يمتلك ويستهلك. أما النسك المسيحى فيعلّم
الإنسان أن ينظر إلى أخيه ككائن مخلوق على صورة الله، كائن يسعى في مسيرة تصاعدية
مع أخيه إلى ملكوت الله. الناسك الأرثوذكسى يعرف أن يقول لا لمجتمع الاستهلاك،
يقول لا لمحاكاة القيم المزيفة، لا لحضارة الرفاهية والسعادة. إن خلاص الإنسان من هذه
الحضارة يأتى فقط من النسك المسيحى الذي يجعل الإنسان يرتفع فوق هذه الأمور
الزائلة.
ج ـ النسك والكمال
إن الكمال دعوة إلهية موجهة للإنسان،
وهو لا يتحقق فقط بنمو القدرات البشرية، بل هو موهبة إلهية. فالإنسان الأول لم يكن
فى حالة الكمال حينما سقط ولكنه كان فى طريقه نحو الكمال، فالكمال هو حركة دائمة
ومسيرة لا تنتهى، إنه العطية الأخروية للروح القدس. النسك الذي هو طريق الكمال لا
يمكن أن يُعاش كمخطط ذاتى مستقل، وله فخر ذاتى وهدف في حد ذاته، لكن هو التعبير عن
القرار الحر للإنسان لأن يتبع الطريق نحو الكمال، إلى ملء الأخرويات. إن النسك هو
عمل الإنسان الشاق مع عطية الروح القدس لكى يحقق التغيير الإنسانى وينال الحرية في
المسيح. إن النسك هو التعبير عن جوعنا وعطشنا للنهاية، أى لملكوت الله. لذا فأى
إنجاز وأى كمال نظن أننا وصلنا إليه لا يمكن أن يوقف مسيرة النسك، فالنسك لا يعرف
التوقف.
النسك ليس هو الكمال بل هو عمل المؤمن
واشتراكه الشخصى في خبرة الكنيسة الجامعة. في الكنيسة يتحد المؤمن الناسك بالثالوث
القدوس في المسيح. النسك هو جهاد واعى مستمر وتقدم دائم، إنه الوسيلة وليس الهدف.
فالصوم والانضباط والسهر والفقر والطاعة والدموع... هى وسائل ترفع المؤمن لكى
يُكمل الهدف أى الشركة مع الله، غير ذلك تظل هذه الجهادات باطلة ولا فائدة لها. إن
ممارسة هذه الوسائل بدون عمل الروح القدس لا يفيد. فالمبدأ الجوهرى فى الحياة
المسيحية: أنه لو أن شخصًا يعمل كل أعمال البر، فلا ينبغى عليه أن يُعجب بهذه
الأعمال ولا يعتبر نفسه أنه عمل شيئًا عظيمًا، وأيضًا لو صار مشتركًا فى النعمة
الإلهية، لا يظن أنه اكتسب شيئًا ولا أنه قد وصل إلى مرحلة الاكتفاء والشبع بل
بالحرى يجوع ويعطش ويحزن ويبكى ويكون له اتضاع القلب الحقيقى[6].
إن توهم بلوغ الكمال بوسائل النسك هو خدعة
يزينها الشيطان للنساك، لكى يثقوا في إنجازاتهم البشرية ويقتنعوا بالبر الذاتى
والتأله الذاتى. إن فاعلية النُسك تتحقق بفعل الروح القدس الذي يُعيّن ويخدم وسائل
النسك. إن غاية النسك ليست هى إنجاز إنسانى، لكن الرجوع إلى علاقة حيّة مع الله.
د ـ النـُسك والمحبة
إن نسك الكنيسة هو الطاعة بلا نفاق لعمل
الروح القدس لأجل تغيير الإنسان ورفعه إلى مجده الأول وإلى كرامته قبل السقوط. لذا
فإن النسك ليس عقابًا وتعذيبًا للإنسان ولا هو السعى لرفض الطبيعة البشرية
وانحلالها بل هو دواء ونقاء وتطهير لها، هو وسيلة لتحريرها من كل خطية وأهواء
تعيقها عن الحياة الحقيقية. إن النسك هو الحرية الدائمة والخلاقة، إنه المحاولة
المستمرة لتدمير جذور الشر بمحاربة الشيطان وكشف حيله وخداعه. النسك هو طريق
التشبه بالمسيح واكتساب الفضائل المقدسة. بالنسك يُعايش الإنسان عطايا الله
العظيمة ويصير وعاء غير فاسد للمواهب الروحية، للامتلاء بالروح القدس لأن هذا هو
قانون الحياة الروحية: " أعطِ دمًا لتأخذ روحًا"[7].
إن نسك الكنيسة هو مسيرة ممتلئة
بالمواهب وشاهدة لحرية المؤمن بواسطة الملء الأخروي، والتى بها يصنع علاقات حقيقية
بالله وبالعالم، والمسيرة تُلهب الإنسان بوعد إتيان الرب والتغيير الكامل لكل شئ.
إن النسك يصير ذو قيمة وكامل في المحبة نحو الله، إنه عطش الحرية. إن نهاية النسك
هو تمجيد الله، الزواج الأبدى بالمحبوب أى اتحادنا بالله الذي هو ثمرة قوة محبته
التي وضعها هو نفسه في قلب الإنسان، إنه الشوق الذي زرعه الله في نفس الإنسان. لكن
هذا الاتحاد المحبوب بالله يُدرك بالمحبة نحو الإنسان. لأن المحبة نحو الله
والمحبة نحو الإنسان يمثلان حركة تصاعدية جامعة فيها يتسع الواحد للآخر. إن المحبة
نحو القريب ليست إحساسًا بشريًا معينًا وإنجازًا بشريًا، لكنها إعلان سر الثالوث
القدوس وعطيته.
لقد اتفق الآباء على أن النسك لا يُغرِب
ولا يقود إلى العزلة لأن هدفه أن يصالح ويوّحد ليس فقط الإنسان بالله ولكن أيضًا
يصالح ويوّحد البشر فيما بين بعضهم البعض. هدف النسك هو أن نتجاوز الفردية والعزلة
والرغبة الفردية والعشوائية ونصل إلى مستوى المحبة الإنجيلية، لأنه بدون المحبة
فالنسك لا يقدمنا بالقرب من الله. نعم سنُدان على الشر الذي نعمله، لكن أول كل شئ
سنًدان لأننا أهملنا أن نفعل الخيرات ولم نستطع أن نحب قريبنا. إن كل مَن قصّر في
مساعدة إنسان أثناء حزنه، يُعتبر مسئولاً عن هلاكه. والإنسان راهبًا كان أم
علمانيًا إذا كان في قلبه أثر للشر فهو غير مستحق لمحبة المسيح[8].
إن كل نسك في عمقه هو إعداد للمحبة،
وهذه المحبة هى الدافع ونتيجة لهذا النسك الحقيقى كما نشهده في حياة القديسين
ورجال البرية العظام والمتوحدين. ينادى القديس باسيليوس الكبير بأنه بواسطة حفظ
وصايا الله تُضرم المواهب العظيمة ولكن بدون المحبة تُحسب هذه الأعمال على أنها
معصية PG 31,1568.[9]. لأنه بدون محبة
نحاول أن نحفظ الوصايا لمصلحة فردية بعيدًا عن هدفها الكنسى الذي هو محبة الله
ومحبة البشر، فالشيطان ناسك عظيم لكن يظل شيطانًا لأنه لا يعرف أن يتضع وأن يحب.
هـ ـ النسك الجسدى
إن الجسد هو الشكل الحى لجوهر الإنسان،
والتعبير الحتمى لأقنومه الشخصى. الإنسان يكون ويعمل في الجسد ويكتسب مفهوم الحياة
الأبدية ويتذوقها في الجسد وبالجسد. إن الخلق والخلاص يخصّان الطبيعة البشرية
ويرفعان أى ثنائية أنثروبولوجية والتي تقيم تضادًا بين النفس والجسد أو تُحقّر
الجسد بالنسبة للنفس. السقوط هو الذي جعل الجسد منبعًا للرغبات الخاطئة وعائق في
سبيل الكمال الجامعى. بعد السقوط صار الجسد البشرى له موقف عدائى تجاه الله، إذ
صار في تضاد معاكس لناموس الله الروحى. وعبّر عنه بمصطلح بيولوجى ساركس s£rx "جسد" "وتدبير الجسد" sarkikÒn frÒnhma. الإنسان مدعو لأن يرفض ليس الجسد بل شهوات الجسد[10].
النسك الأرثوذكسى ليس له علاقة بالاحتقار
الأفلاطونى أو المانوى للجسد. لذا لا يعتبر الجسد على أنه عائق، وكشىء ليس له
علاقة بالحياة الروحية، وكشىء غريب وخارجى عن الطبيعة الحقيقية للإنسان. القول
بأنه "يجب أن أقتل الجسد حتى لا يقتلنى" ليس هو كتابى ولا آبائى لكن
أفلاطونى ومانوى. لدى الهراطقة الجسد شرير وخلقة شريرة. لكن الجسد خُلق من الله
ويُستخدم بحسب الله وليس شريرًا. الشر ليس مخلوقًا وليس له مكان في عالم الله.
وبالتالى لا العالم ولا الطبيعة ولا أعضاء الجسد هى في الحقيقة شريرة. أما الذهن
فيعتبر فقط شريرًا في انشغاله بالأفكار الجسدية التي تضاد الله[11].
النسك الجسدى لا يطالب بالألم والحزن ولكن احتمال وانضباط ومقاومة في الظروف ويقظة
القلب الدائمة. فالنسك الجسدى هدفه هو تحجيم تمرد الجسد، رفعه من السقوط وتجليه
لكى يكون مساهمًا في التغيير بحسب نعمة الله. فالنسك أيضًا يساعد الجسد على
التجاوب مع الدعوة الإلهية لكى يصير بيتًا لمجد الله وهيكل إقامة للروح القدس.
إذن
النسك الجسدى لا يكون مضادًا للجسد ولكن الاهتمام الجسدى من متطلبات زائلة وشهوات
حيوانية ولذات فردية وأهواء، نحن كما يقول الأب بيمن " لا نقتل الجسد بل نقتل
أهواء الجسد" [12].
و
ـ النسك والصوم :
الصوم
هو أحد الأشكال التقليدية للنسك والتعبير الأساسى للنسك الجسدى. وأهميته تنبع من
أنه يُذكّر المسيحيين ـ كما يقول الأب مايندورف ـ بحالتهم الساقطة، وفي نفس الوقت
يمنح لهم يقين الخلاص الكامل[13].
الصوم ليس هدفًا في حد ذاته ولكنه وسيلة. الصوم هو طريق مقدس إلى الله. ليس هدف
الصوم مجرد السيطرة الذاتية على الجسد، أى سيطرة الذهن على المادة ولا يهدف فقط
إلى ترويض الطبيعة الجسدية حال تمردها، لكن هو الرفض الاختيارى لأن يكون الجسد
هدفًا في حد ذاته. بالنسك يشارك الجسد في الطاعة الشاملة للإنسان لإرادة الله،
بالنسك يصير الجسد تقدمةشخصية إلى الله.
هناك
تعبير للقديس غريغوريوس النيصى عن " الصوم غير الجسدى " asèmath nhste…a[14]. ويقصد به رفض الإنسان للشراهة والفساد
والتفاهة وهضم حقوق المظلومين. إنه الصوم الاجتماعى الذي ينحاز إلى المساكين
والمتألمين وضحايا التفرقة العنصرية وسد احتياجات اخوتنا في الإنسانية. عندئذٍ
يصير هذا الصيام هو فعل الإحسان والخير وانتشار المحبة بين البشر. لذا تعبر الكنيسة
عن هذا الجانب الجوهرى فى الصوم في مديحة الصوم الكبير: "طوبى للرحماء على
المساكين.. فإن الرحمة تحل عليهم. والمسيح يرحمهم في يوم الدين ويحل بروح قدسه
فيهم"، في الصوم الأربعينى كما يقول المتنيح الأنبا بيمن " تطلب الكنيسة
من أبنائها أن يجاهدوا كما جاهد المسيح في البرية وانتصر، فتطلب منهم أن يجوعوا
معه لينتصروا على جوعهم ويصعدوا طاقتهم إلى صعيد روحى ويفضحوا الأكذوبة القائلة إن
الإنسان يأكل ليحيا، ويؤكدوا حقيقة أن الله وحده هو الخبز الحقيقى والحياة
الحقيقية، وكل مَن يأكله يحيا به إلى الأبد "[15].
الإنسان الذي يختبر بالحقيقة أنه ليس بالخبز
وحده يحيا الإنسان، يستطيع بسهولة أن لا ينسى فعل الخير والتوزيع على الفقراء
(عب16:13). نعم الصوم كما قال الله في (إش3:58ـ7) هو " حل قيود الشر. فك عقد
النير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل
المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عريانًا أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن
لحمك". حقًا كما قال القديس يعقوب " الديانة الطاهرة النقية عند الله
الآب هى هذه، افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من
العالم " (يع27:1).