الأهمية الخريستولوجية لمصطلح كيريوس
”Κύριος“: الرب[1] - المسيح هو الرب
إلى أرواح شهداء ليبيا الذين إعترفوا بأن المسيح هو الرب قبل إستشهادهم، أذكرونا نحن الضعفاء أمام عرش النعمة
أـ في الكنيسة المسيحية الأولي
من الواضح أن التلاميذ والمؤمنين في
الكنيسة الأولى قد استخدموا مصطلح كيريوس ”Κύριος“ بالمفهوم الديني المطلق، أي بمفهوم
أنه هو الله الذي له العبادة والسجود: المسيح هو الرب. هذا يبدو بوضوح في اعتراف
توما (يو20: 28): «أَجَابَ
تُومَا وَقَالَ لَهُ: رَبِّي وَإِلهِي!»، وكذلك في تعبير الكنيسة الأولى، الذي ذكرناه، حيث المسيح يُدعا ويُوصف
بكونه الرب ”Κύριος“ (1كو8: 5؛ 1: 3؛ رو10: 9). أيضًا الإنجيلي لوقا ينسب للمسيح لقب ”Κύριος“ الرب بالمفهوم المطلق للمصطلح:
«وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ
سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ
إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُومُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ» (لو1: 10)، «فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا
الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ، وَأَمَّا
بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافًا وَخُبْثًا» (لو11: 39)؛ «فَقَالَ الرَّبُّ: فَمَنْ هُو الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي
يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟» (لو12: 42)؛ «فَقَالَ الرُّسُلُ لِلرَّبِّ:
زِدْ إِيمَانَنَا!. فَقَالَ الرَّبُّ: لَو كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ
خَرْدَل، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذِهِ الْجُمَّيْزَةِ: انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي
فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُم» (لو17: 5ــ6)؛ «وَقَالَ الرَّبُّ:اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْم» (لو18: 6)؛ «فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: هَا أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ
أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ
أَضْعَافٍ» (لو19: 8)؛ «فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى
بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ
قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» (لو22: 61)؛ «وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الرَّبَّ
قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!» (لو24: 43)؛ «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ
يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا» (أع2: 36)؛ «هذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ،
وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِرًا، لَيْسَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، بَلْ لِشُهُودٍ
سَبَقَ اللهُ فَانْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ الَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا
مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ. وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ
لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هذَا هُو الْمُعَيَّنُ مِنَ اللهِ دَيَّانًا
لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ» (أع10: 40ـ42)؛ «نَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِالْمَوْعِدِ الَّذِي صَارَ لآبَائِنَا، إِنَّ اللهَ
قَدْ أَكْمَلَ هذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ، إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُومَكْتُوبٌ
أَيْضًا فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي: أَنْتَ ابني أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.
إِنَّهُ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، غَيْرَ عَتِيدٍ أَنْ يَعُودَ أَيْضًا إِلَى
فَسَادٍ، فَهكَذَا قَالَ: إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ.
وَلِذلِكَ قَالَ أَيْضًا فِي مَزْمُورٍ آخَرَ: لَنْ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى
فَسَادًا» (أع13: 32 ـ 35).
نمو مصطلح ”Κύριος ـ الرب“ صار في نطاق الجماعة المسيحية
الأولى وخاصة في الحياة التعبدية للكنيسة الأولى، كما يُشهَّد له من التعبير التعبدي:
«الرب آتي» أو «الرب قريب» (في4: 5) أو «تعال أيها الرب يسوع» (رؤ22: 2)([2]). إن كُتَّاب أسفار العهد الجديد
يعبرون عن رؤيتهم الخريستولوجية العامة للمسيح. وبالرغم من أنهم يشيرون بكل تأكيد
وثبات على بشريته، إلا أنه في الوقت نفسه يؤمنون بأنه الله ويقرّون بأن ”المسيح هو الرب“. هذه التسمية بالنسبة لهم تعني أن
المسيح كان المحُرر الإلهي الذي وَعَدَ به الله بأنه سوف يرسله لأجل أن يحرر الشعب،
إنه شخص فريد وله سلطان دائم. لقد كان يوجد أنبياء كثيرون، لكن المسيح كان هو الواحد
والوحيد الذي لا يوجد له نظير([3]).
ب ـ المسيح هو ربنا ”Κύριος ἡμῶν“
في واحدة من التعبيرات الخريستولوجية
للكنيسة الأولي، سُميَّ المسيح بربنا ”Κύριος ἡμῶν“، أي انحصر في ضمير نحن: «رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ اسْمِ
رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (أع15: 26)؛ «وَتَعَيَّنَ ابن
اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ
الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا» (رو1: 4)، «إِلَى كَنِيسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، الْمُقَدَّسِينَ فِي
الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَهُمْ وَلَنَا» (1كو1: 2). بهذا التعبير، اعترف
المسيحيون بأن المسيح، بالنسبة لهم، لم يكن مجرد إله بل المخلص الشخصي ومحررهم،
وبالتالي كان الرب الخاص بالنسبة لهم، وله السيادة على حياتهم (انظر عبارة: ”عبد يسوع المسيح“ (رو1: 1). وهذا يسري على كل مؤمن وأيضًا
أعضاء الكنيسة في مجملهم «وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي
أَحَبَّنَا» (رو8: 37). «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ
الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا
أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابن اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ
نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا2: 20).
«الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا
تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ
الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ ابناءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ
أَيْضًا، اَللهُ الَّذِي هُو غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ
الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا
أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ ـ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ ـ وَأَقَامَنَا
مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ،
لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ، بِاللُّطْفِ
عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أف2: 3 ـ 7).
هنا نتذكر إيمان الكنيسة الأولى
العميق وغير المتزعزع والموقف البطولي للمسيحيين والمضطهدين في الثلاثة قرون
الأولى. بالنسبة للمسيحيين: ”Κύριος ـ الرب“ كان هو واحدًا فقط (انظر مت6: 24) «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ
سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَو يُلاَزِمَ
الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ
وَالْمَالَ». هو المسيح وليس الإمبراطور! كل
الخاضعين للإمبراطورية الرومانية كانوا يركعون في سجود تعبدي لاسم الإمبراطور. لكن المسيحيون فقط لم يركعوا. لقد فضّلوا
أن يُلقوا إلى الأسود وآتون النار، مثل الثلاثة فتيه عن أن يسجدوا لرب آخر، سجودهم
كان فقط للمسيح. والجدير بالملاحظة، أن المسيحيين لم يمضوا ناحية الشهادة على أساس
أن المسيح سوف ينقذهم مثلما فعل للفتية الثلاثة، لأنهم ببساطة كانوا يرون إخواتهم
يستشهدون أمام أعينهم.
نود الآن أن نذكر شهادتين ذكرهما E.Muhlenberg
ـ في مقالة له عن ألوهية المسيح وعن إيمان الكنيسة بأن يسوع المسيح
هو الرب ـ لاثنين من أعداء المسيحية، الأول هو الحاكم بليني والثاني هو الأديب
والمؤرخ تاسيتوس.
يُقدم الحاكم بليني في رسالته
المعروفة جيدًا (Ep.x 96) تقريرًا للإمبراطور تراجان عن
المسيحيين الذين أُحضروا إليه للمحاكمة، فيقول: ”أولئك الذين يتمسكون باعترافهم أنهم مسيحيون، قد حكمتُ
عليهم. فليس لدي أي شك أن عنادهم وثباتهم الذي لا ينكسر ينبغي أن يُعاقب مهما كان الاعتقاد
الذي يعترفون به“. ويستنتج من
ذلك أن تصرفهم كان دربًا من الجنون. ثم يُعذب اثنين من الشمامسة، لأنه يريد أن
يعرف منهما معلومات أكثر عن الجماعة المسيحية ولا تظهر في الرسالة أيه معتقدات
لاهوتية، بل تظهر فقط بعض المعلومات عن عادات الجماعة. وبالاختصار يقول: ”لم أجد خرافات طفولية، النقطة
الوحيدة البارزة فيما يتصل بموضوعي هي الإشارة إلي أن المسيحيين يجتمعون في الصباح
الباكر، ويسبحون المسيح على أنه الإله“. وقد يزعم البعض أن الإمبراطور كان على دراية تامة فيما يخص المسيح، الذي
قتله الرومان بأشنع طريقة ممكنة منذ بضعة عقود. ولكني أظن أن هذا غير محتمل. بالحري
فإن بليني يعرف شيئًا آخرًا، وهذا سيبدو أنه معزي للجميع. حيث إن بليني يرى أنه
ليس هناك احتياج لأن يشرحه: وهو أن المسيحيين قد أحضروا إليه، متهمين بكونهم
مسيحيين. وعملية المحاكمة تستلزم منه أن يقيّم الاتهام، وإذا وافق عليه يحكم على
المتهمين بكونهم مسيحيين. أما بخصوص مَنْ هم المسيحيون أوماذا يفعلون؟ هذا أمر لا
أهمية له. ومع ذلك فإن بليني يعرف ماذا يعني أن يكون الإنسان مسيحيًّا. فهو يقدم امتحانًا
للذين ينكرون الاتهام، إذ ينبغي أن يقدموا ذبيحة للآلهة ولتمثال الإمبراطور. وأضاف،
لذلك ينبغي أن يلعنوا المسيح صراحة إذ يكتب قائلاً: ”إن المسيحيين المخلصين لا يفعلون هذه الأمور حتى لو أُجبروا
بالقوة“([4]). هكذا بليني يدرك جيدًا حقيقة أن
المسيحيين يحبون المسيح باعتباره الإله الوحيد، مستبعدين كل الآلهة الأخرى، أي
يرفضون آلهة الديانة الرومانية. وهذا هو العِناد المتعصب، كما يراه بليني، أي أن
ألوهية يسوع تستبعد كل الآلهة الأخرى.
أما تاسيتوس، في الوقت نفسه الذي كان
فيه بليني حاكمًا تقريبًا، يزودنا بملحوظة عن المسيحيين. وكما هو معروف جيدًا فإن
تاسيتوس يكتب عن الحكم على المسيحيين في قضية الحريق الضخم الذي اكتسح روما أثناء
حكم الإمبراطور نيرون، فيقول تاسيتوس: ”إن لقب مسيحي مستمد من المسيح، وهذا المسيح قد حُكِم عليه منذ فترة طويلة
في عهد طبياريوس Tiberius، ورغم ذلك فإن تلك الشعوذة
الخبيثة لم تتلاش بموت يسوع، بل بالعكس فإنها ظهرت مرة أخري في روما. ورغم أنه لم
يكن يوجد إثبات أن المسيحيين متورطون في حريق روما، فقد أُعدموا وهذا صواب: بسبب
كراهيتهم لجنس البشر“([5]). ويعطي تاسيتوس وصفًا لكراهية البشر
حينما يتحدث عن اليهود: ”إنهم تحت سيطرة الشعوذة (His.5.4). وموسى أتى إليهم بطقوس جديدة ضد كل
ما عند البشر الآخرين (His.5.4). اليهود يرفضون الديانات الأخرى (5.13). فما هو مقدس عندنا هو تجديف بالنسبة لهم والعكس
بالعكس (5.4). اليهود يفرزون أنفسهم ويغلقون
على أنفسهم مبتعدين عن الجنس البشري (5.5). إنهم يعبدون كائنًا، إلهًا
واحدًا فقط، وهو وحده روح، بينما هم يعتقدون أن كل من يصنعون صورًا للآلهة يرتكبون
فعل تدنيس“. ويقول تاسيتوس: ”لذلك هم لا ينصبون تماثيل للآلهة في
مدنهم، ولا حتى في هيكلهم، بأن يعبدوهم بإعتبارهم عبيد لهؤلاء الملوك، ولا يقدمون
الإكرام الواجب للإمبراطور بأن يعبدوه“(5.5).
إن حديثه عن اليهود والمسيحيين يبيِّن
أن لهما نفس الخصائص، ويشير تاسيتوس أن خرافة المسيحيين الخبيثة أتت من اليهودية.
واليهود يتميزون بخرافتهم الخطرة، وهي تتضمن الاعتقاد بإله لا صورة له، وهذا يؤدي
في نهاية الأمر إلى رفضهم تقديم الإكرامات الواجبة للإمبراطور ويمكن أن نخمن أن
تاسيتوس ينسب شيئًا مماثلاً للمسيحيين، رغم أنه لا يقول هذا صراحة أي أن سبب
كراهية المسيحيين للبشر هو استبعادهم لكل الديانات الأخرى غير ديانتهم وهو ما
أخذوه عن المسيح مؤسسهم([6]).
إن الاعتراف
بأن ”يسوع المسيح هو الرب“ يصادر أي ادعاء بأن أحدًا آخر هو الرب،
مستحيل أن يكون قيصر هو الرب. وبسبب هذه الشهادة الحسنة بأن يسوع هو الرب قد استشهد
كثير من المؤمنين. وهذا الموقف قد أدهش الإمبراطور الذي وقف أمامه بوليكاربوس
الشهيد وتساءل: ”لماذا هو أمر
مرعب أن يعترف أحد قائلاً: قيصر هو الرب، مفضلاً أن يقدم نفسه ذبيحة من أجل هذه
الشهادة؟!“([7]). لذلك يتساءل ترتليان متهكمًا: ”حقًّا أتؤمن أنه من المسموح لأحد من
المسيحيين أن يقسم أمام شخص عادي ضد قسمه أمام إلهه ويرتبط برب آخر، في اللحظة
التي فيها هو بالفعل ارتبط ارتباطًا أبديًا بالمسيح؟!“([8]).
العائق الذي
يعوق المسيحيين عن الاعتراف برب آخر هو إيمانهم برب واحد هو الرب يسوع. هذا الاعتراف الموجز بأن ”يسوع هو الرب“ يصبغ أي اعتراف مسيحي للإيمان. والرسالة إلى رومية لبولس
الرسول تؤكد هذه الحقيقة: «لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت» (رو10: 9). فالمسيح الرب هو مركز أي اعتراف
للإيمان. لدرجة أن الإيمان حُدد بأنه إيمان بالرب:
«بُولُسُ الْمَدْعُوُّ رَسُولاً
لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَسُوسْتَانِيسُ الأَخُ إِلَى كَنِيسَةِ
اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ الْمُقَدَّسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ
الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِ رَبِّنَا
يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَهُمْ وَلَنَا» (1كو1: 2 )؛ «فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ (كو2: 6)؛ «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا اجَمِيعُ
بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ
أَنْتُمْ رَبًّا وَمَسِيحًا» (أع2: 36 )؛ «الْكَلِمَةُ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يُبَشِّرُ
بِالسَّلاَمِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. هَذَا هُوَ رَبُّ الْكُلِّ» (أع9: 35 )؛ «وَلَكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ وَهُمْ رِجَالٌ
قُبْرُسِيُّونَ وَقَيْرَوَانِيُّونَ الَّذِينَ لَمَّا دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ
كَانُوا يُخَاطِبُونَ الْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ» (أع11: 20).
إن الاعتراف
بالرب يسوع الوارد في العهد الجديد نستطيع أن نربطه بالاضطهادات والشهادة. وبالرغم
من أن نص بولس الرسول الوارد في (1كو12: 3):
«لذلك أعرفكم أنه ليس أحد وهو يتكلم
بروح الله يقول يسوع: أناثيما. وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس». لم يفسرها المفسرون على أنها
مرتبطة بالشهادة أثناء الاضطهادات، إذ إنها في مجال حديث بولس عن موهبة الألسنة،
إلا أننا نستطيع أن نربطهما بالشهادة. إذ أن الروح القدس يكون حاضرًا أوقات الاضطهادات:
«ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب.
فكونوا حكماء كالحيات وبُسطاء كالحمام ولكن احذروا من الناس. لأنهم سيسلمونكم إلى
مجالس وفي مجامعهم يجلدونكم. وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادة لهم وللأمم.
فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون. لأنكم تعطون في تلك الساعة ما
تتكلمون. لأنكم لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم» (مت10: 16 ـ 20).
على الجانب
الآخر، نقرأ في شهادة بوليكاربوس (9: 3)، حيث قال: ”كيف أجدف على ملكي الذي خلصني؟!.“ وكذلك ـ كما رأينا ـ رسالة الحاكم
بليني إلى الإمبراطور تراجان: ”بأن المسيحيين تلقوا أمرًا من الرؤساء بأن يجدفوا على المسيح. ولم يكن
كافيًا ومرضيًا أن يقدم المرء ذبيحة ويقول: قيصر هو الرب، بل على المسيحيين أن يقولوا
أن المسيح أناثيما“.
وهذا يوضح ما
قاله بولس «ليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول
يسوع أناثيما» (1كو12: 3). فبالرغم من أن المضطهَد
ينال قوة من الروح القدس الذي يُعِينه على الإجابة والاعتراف الحسن أمام الرؤساء،
بيد أنه في حالات كثيرة يقول المضطهَد الذي فقد شجاعته يسوع أناثيما، متحججًا بأن
الروح القدس أخبره بأن يقول ذلك. لذا يقول بولس ـ مضاد لقول هؤلاء ـ بأن من يقول
يسوع أناثيما ليس فيه روح الله.
ج ـ المسيح هو رب التاريخ:
مصطلح ”Κύριος ـ الرب“ في تعبير الكنيسة الأولى كان له
أهمية أُخروية. فإيمان الكنيسة ـ كان وما يزال ـ أن المسيح، بالرغم من أنه «غلب العالم» (يو16: 33)، إلا أن الإعلان الأخير في نهاية التاريخ لم يتم بعد. إيمان الكنيسة هذا
كُرِزَ بالفعل في سفر الرؤيا حيث مصطلح ”Κύριος ـ الرب“ ذُكِر 21 مرة. فالمسيح في سفر
الرؤيا يُعلن أنه «الألف والياء،
البداية والنهاية» (رؤ22: 13). يذكر
سفر التكوين، الكتاب الأول للإعلان الإلهي، أن المسيح هو بداية العالم والتاريخ: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تك1: 1) و«فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ،
وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ» (يو1: 1). ويؤكد رؤيا يوحنا،
الكتاب الأخير للإعلان الإلهي، على أن المسيح سيكون الغالب الحقيقي والملك والرب
لكل التاريخ: «ملك
الملوك ورب الأرباب» (رؤ19: 6؛ وانظر في2: 10 ـ 11).
د ــ المسيح رب العبادة المسيحية:
تستخدم الكنيسة المسيحية مصطلح ”Κύριος ـ الرب“ ليس فقط في الشكل الأول لعبادتها، كما
في تعبير ماران آثا، لكن في كل أشكال نصوصها الليتورجية: في الصلوات وتسابيح
العبادة الأرثوذكسية، ويذكرونه في المفهوم الخريستولوجي والأمثلة لا تُحصى. أيضًا،
الأيقونات الأرثوذكسية تعبر عن المفهوم الأساسي لمصطح ”Κύριος ـ الرب“ خاصة في الأيقونات السيدية مثل
أيقونة ضابط الكل (παντοκράτορος) والمسيح الجليس على العرش. أيقونة
ضابط الكل رُسمت في قبه الهيكل الداخلية والتي ترمز إلى السماء بإظهار أن المسيح هو
رب الكون «ضابط الكل» (2كو6: 18؛ رؤ4: 8). وأيقونة المسيح على العرش تُوضع على حامل
الأيقونات في الموضع الأول وعلى العرش السيدي ترمز إلى ربوبية المسيح على الكنيسة.
أصبح من
الضروري أن يعترف المرء بإيمانه في كل اجتماع للجماعة المسيحية الأولى وفق نص
محدد. يعترف المؤمن مع إخوته أمام الله بأنه وحدَّهم معه. إنها عمل تعبدي ليتورجي
كان موجودًا في المجمع اليهودي حين يُعلن بواسطة شخص(Shema) معترفًا مع كل شعب إسرائيل بأن واحد هو الله([9]). اعتراف الإيمان يُقال في
الليتورجيا الإلهية وأيضًا كل عمل ليتورجي في الجماعة المسيحية الأولى (قوانين
هيبوليتس).
صيغة من صيغ اعترافات
الإيمان الأولى والتي كانت تُقال في عبادة الكنيسة الأولى هو بلا أدنى شك نص بولس
الرسول المذكور في (في2: 6 ـ 11)([10]): «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ
يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ،
صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ
نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ
أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ
كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ
الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ
لِمَجْدِ اللهِ الآبِ». هذه الترنيمة هي مثل مزمور أو نشيد
مسيحي لم يكتبه بولس بل أخذه من الجماعة المسيحية الأولى. إنه نشيد اعتراف إيماني
بالمسيح في شكل ذات رتم، ترجع مصادره ـ من الواضح ـ إلى الكتابات الآرامية. ويشير
هذا النشيد لإخلاء المسيح وظهوره كإنسان عادي وتواضعه وموته فوق الصليب وكذلك مجده
ومجيئه.
إن مصطلح ”يَعتَرف“ هو بمثابة اختيار إرادي ومذكور في (إشعياء45: 23)
والنتيجة هي أن قمة اعتراف الإيمان هو أن ”يسوع المسيح هو الرب“ يُعترف به من الجميع في نفس الوقت، يعترف به من كل الموجودين في السماء،
وفي الأرض والذين هم تحتها. على أية حال فإن هذا الاعتراف كان يُقال عن يسوع وأن اعتراف
الإيمان هذا كان اعترافًا موجزًا.
هذا هو ما
يميز الرسالة المسيحية في الكنيسة الأولى، فالإيمان في المسيحية هو الإيمان
بالمسيح الرب، لأنه هو الطريق والحق والحياة، هو طريقنا إلى الآب وهو الذي أرسل
لنا الروح القدس المحيَّي الذي يعلمنا كل الحق. هذا الاعتراف يُدعى اعترافا أحاديًّا
أي الاعتراف بشخص المسيح ثم يأتي بعد ذلك الاعتراف بالله الآب الخالق ثم بالروح
القدس؛ أي الاعتراف الثنائي والاعتراف الثالوثي.
وهذا لا يعني
أن الكنيسة اعترفت بالثالوث في وقت متأخر، لكن منذ البداية تؤمن بالثالوث الآب والابن
والروح القدس. ولكن لمَنْ يدخل إلى المسيحية لا بُد أن يَعتَرف أولاً بالمسيح الذي
هو الباب والطريق الذي يؤدي إلى صُنع شركة مع الآب والروح القدس. يقول القديس
كيرلس عمود الدين: ”الآب لا يمكن
أن يُقترب منه إلاّ بهذه الطريقة، أقصد أنه لا يمكن الاقتراب منه إلا بواسطة الابن.
لأنه حقًّا صادقًة هي الكلمة: «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يو14: 6). ويمكننا أن نؤكد أنه حتى القديسين، إنما يقتربون إليه بواسطة المسيح.
لأنه لا يمكن لأحد أن يرتقي إلى معاينة سامية وفائقة للطبيعة. وكأنه يصعد إلى جبل،
وبالأحرى لا يمكنه أن يوجد بالقرب من الله إن لم يكن متحدًا مع عمانوئيل، وهكذا لا
يكون هناك ما يعوق مسيرة البشر للاقتراب إلى الآب“([11]). هذا هو جوهر الإيمان المسيحي منذ
البداية: الإيمان أولاً بالمسيح الرب ثم بعد ذلك يقودنا المسيح إلى الشركة مع الآب
والروح القدس والانضمام إلى الكنيسة جسد المسيح.
[3] Hunter A.M., The message of the New testament, Philadelphia, the
Eestminster press, 1954, P.40.
[4] E. Muhlenberg,Gotingen,The Divinity of Jesus in Early Christian Faith, Studia
Patristica, vol.xvii Part One.Pergamon Press, 1982, p. 139
[5] Cf. Herald Fuchs, Der Berichtuber de Christen in den Annalen dos Tocitus,
Vigiliae Christianae 4 (1950), pp.: 65-93.
[6] E. Muhlenber,
op. cit., pp.: 139-140.