الأيقونة والعبادة
د. جورج عوض
الأيقونة هى تعبير عن عقيدة الكنيسة ومفتاح لفهم العقائد الكنسية. الأيقونة ليست مجرد فقط تبسيط للإعلان الإلهى، وجعل الإيمان شعبيًا في متناول البسطاء أو الجهلاء. إنها سر وهى طريقة لاهوتية تهدف إلى تناول الِحقائق الكنسية.إنها تصوير صادق للمعجزة التي مازالت هى سرًا: ألا وهى إخلاء الله وارتفاع الإنسان.
الارتباط بين العقيدة والأيقونة يشهد بأن رسم الأيقونة ليس فنًا فرديًا مستقلاً لكنه فن كنسى. لأن هذا الرسم، لا يُعبّر عن أفكار وآراء دينية، وخيال عقيدى وإبداع لفنان لكنه يُصوّر ويُظهر الإيمان الشامل للكنيسة. إن رسم الأيقونات في الأرثوذكسية ليس مجرد فن "دينى"، أو محاولة الإنسان المتدين لأن يُعبّر فنيًا عن موضوع إبداع دينى. إنه فن لاهوتى، فهو فن يعبر عن الحقيقة اللاهوتية، والحياة الجامعة والتعاليم الأخلاقية الكنسية، المتعلقة بالعقيدة والتعاليم الروحية والعبادة. إنه فن يعتمد على الخبرة اللاهوتية وتقليدالكنيسة[1][1].
إن رسم الأيقونة هو بمثابة خروج من عالم معتم ومكتفى بذاته، فالأيقونة نافذة تطل من الواقع البشرى والأرضى على الإمكانيات غير المحدودة لسر الله والعالم السماوى: فإنها تظهر حضور المجد غير الموصوف للأبدية العتيدة في حاضرنا على الأرض، تصور ظهور المسيح والكنيسة السماوية وسط المجتمع البشرى. تصور حقيقة ملكوت الله والخليقة الجديدة بطريقة واضحة وتقدم عالم التجلي والتأله، والنور غير المخلوق وتعلن عن شفافية وتجلي المادة بواسطة اتحاد المخلوق مع غير المخلوق. والرسام في هذا الاطار يجعل ذاته خادمًا لله، إذ ينمو في جذور التقليد الكنسى، إذ هو يخضع أفكاره للإعلان الإلهى ولكل تطلع نحو الكمال السماوى الأخير وهو يضع عمله في خدمة الكنيسة واحتياجاتها.
الفنان العادى الذي يتناول موضوعات دينية يعبر فقط عن مشاعره وهو يستخدم المادة التي في متناول يديه لكى يكشف ما في ذاته. ومهما كان مدى قانونية تعبيره في التكوين الإبداعى الفنى، فلا يمكن أن يكون له أى موضع في عبادة الكنيسة. أما رسام الأيقونة فهو مثل الكاهن أمام المذبح، يجب أن يقدم كل كيانه في خدمة الله، ومثل الكاهن لا ينبغى أن يفرض شخصيته أو يستخدم فنه كوسيلة ليعبر عن فرديته. رسم الأيقونة هو دياكونية (خدمة كنسية) تتطلب من الخادم أن يتقدس. إن رسالة وخدمة الرسام تتشابه مع رسالة وخدمة الكاهن: " الواحد يقدس لإظهارجسد المسيح ودمه والآخر يصوّره "[2][2]. هكذا يوجد اختلاف كبير بين الرسام الدينى ورسام الأيقونات في الكنيسة الأرثوذكسية فيما يتعلق بالمفهوم والهدف: " الرسم الدينى يظهرالعالم الذي نشعر به بمشاعرنا وانطباعاتنا، أى يشعر بالله بحسب تصور الإنسان، فيهذه الحالة لم تعد الكنيسة (بتقليدها) هى التي تعلم المؤمنين، بل شخصية الرسام البشرية هى التي تفرض الآراء الفردية. لكن رسم الأيقونة لا يهدف إلى التأثير العاطفى، لكنه يُغير الإحساس والشعور البشرى ويسمو به"[3][3].
الأيقونة لها ملمح ليتورجى، فإن فن الأيقونة مثل أى فن في الكنيسة هو فن ليتورجى، " الفن الكنسى والليتورجيا هما واحد في محتواهما وفي الرموز التي يعبران عنها. الأيقونة، والإبصلمودية ليس لكل واحد منهما طريق خاص، لكن تعبران معًا عن الفكرة العامة للكنيسة التي هى المسكونة المتجلية، والتصوير المسبق للسلام العتيد أن يأتى "[4][4].
الرسم الأرثوذكسى للأيقونة هو فن كنسىي، الأيقونات المقدسة لها ليتورجية كنسية، أى لها مكان في الحياة الليتورجية. فالأيقونة ليست مجرد لوحة دينية أو مجرد إبداع لفنان عبقرى لكن ثمرة الحياة الليتورجية. الأيقونة تعمل كـ " شهادة للحياة الليتورجية وللاتحاد الإلهى"[5][5]. الأيقونة تُفسر المحتوى الديناميكى للإفخارستيا: سرخلاص العالم في المسيح. الأيقونة نفسها هى حضور لسر الخلاص، وشهادة لانتصار رئيس الحياة على الموت، إنها تقدمة حياة وقداسة[6][6]لأنه في الأيقونة: " ليس لدينا أصالة تاريخية خاصة، لكن تحول ديناميكى ليتورجى. فحوادث الخلاص في الأيقونة لا تُفسر تاريخيًا لكن سرائريًا وتتحد بنا ليتورجيًا وتصير هذه الحوادث شهادة "للحياة الأخرى" التي اقتحمت حدودالفساد. إنها تدعونا لوليمة روحية، الآن هنا"[7][7].
الأيقونة الأرثوذكسية [ تمثل جزءً أساسيًا في الليتورجيا لأن الله المتجسد يسمع الكلمة (الصلاة) التي تُقدم أمام الأيقونة... وذاك الذي يقوله لنا الكتاب بالكلمة، تخبرنا عنه الأيقونة منظورًاوتجعله حاضرًا ][8][8]. فالأيقونة تجعل ما يتم في العبادة يصير محسوسًا وتجعلهحاضرًا. الأيقونة تهدف إلى أن يكون ـ بطرق منظورة واختبارية ـ سر التدبير الإلهىقريبًا من الروح البشرية للمؤمن، سر التدبير هذا الذي هو مركز العبادةالأرثوذكسية[9][9]. الأيقونة هى طريقة للحضور الإلهى مملوءة من النعمةالإلهية[10][10]هى [ نظام رؤيوى يفرض ويشدد على الحوادث الروحية التي تمثل أساسيات المسيرة الليتورجية أى سر المسيح. الأيقونة هى فن ليتورجى، أى إنها واحدة من الوسائل التي توصل إلى المؤمنين حقيقة التجسد والتجلى، إنها واحدة من الوسائل التي بها يأتى المؤمن إلى الحالة الروحية المناسبة لاختبار غاية الليتورجية وذروتها التي هى سر الإفخارستيا، قلب السر المسيحى كله][11][11].
1انظر خريستوس ياناراس، الفن الحديث في المجال الليتورجى،مجلةسينور، رقم32 (1964)، ص237 (الترجمةاليونانية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق