التبني
عند القديس أنطونيوس الكبير
د. جورج عوض إبراهيم
مقدمة :
عندما يتكلم الآباء الشيوخ عن موضوع مثل التبني ، نراهم مُنشغلين بترجمة خبراتهم الداخلية التى ذاقوها واختبروها لفائدة المؤمنين وكأن لسان حالهم ما قاله يوحنا الإنجيلى " الذى رأيناه .. سمعناه .. لمسته أيدينا.. ".
لم يقصدوا هؤلاء الآباء أن يؤسسوا تعليمًا يدافعوا به ضد محاولات الهراطقة المستمرة فى تزييف التعليم الأرثوذكسى المُسلم مرة للقديسين ولكن خبراتهم وتفاعلهم مع عطايا النعمة الإلهية خير شاهد على صحة إيمانهم الأقدس ، فجاءت عظاتهم خُلاصة خبرة مُعاشة مؤسسة على الحق الكتابى .
لذلك نجد فى كتابات القديس أنطونيوس والقديس مقاريوس كنوزًا للمعرفة الحقيقية النابعة من الخبرة الوجودية لحياة النفس البشرية مع الله ، لم ينشغلوا ببراهين كتابية ( مع أنهم كانوا على دراية عميقة بالكتاب المقدس بعهديه ) ليشرحوا العلاقة الحية بينهم وبين الله فى شخص يسوع المسيح ، بل العكس حياتهم صارت مفسرة وشارحة وشاهدة للحق الكتابى.
النفس فى علاقتها مع الله هى الشُغل الشاغل للآباء النُساك والتميز واضح بين كتاباتهم وكتابات الآباء المعلمين مثل ( ايريناؤس ـ أثناسيوس ـ كيرلس ... ) الذين لهم دور بارز فى تحديد التعاليم المسيحية الأصيلة ضد خيالات وانحرافات الهراطقة .
لذلك |
عندما نتناول موضوعًا مثل ( التبني ) نجد أن الآباء المعلمين يركزون على هذه العطية الإلهية كحقيقة اعلنها الوحى الإلهى فى الكتب المقدسة والتقليد بينما ينشغل الآباء الشيوخ ( النُساك ) بكيفية حفاظ النفس على هذه العطية وكشف كل المُعطلات والحروب الشيطانية التى تهدف إلى فقدان النفس لهذه العطية وعدم الاستمتاع الحقيقى بعطية التبني ، الآباء المعلمون يؤكدون لنا محبة الله الفائقة الوصف والتى صيرتنا أولادًا لله ، بينما هدف الآباء النُساك كيف نسلك كأولاد لله وكيف نجهض ونحارب كل القوات الشريرة التى تريدنا أن نفقد هذه النعمة .
التبني فى فكر القديس أنطونيوس :
مبادرة محبة الله :
يُشبّه القديس أنطونيوس سقوط الإنسان أوبحسب تعبيره سقوط الجوهر العقلى ( الكيان الروحى أو العقلى أو القلبى أو نفسه الحقيقية ) بالجرح الغير قابل للشفاء ( رسالة 6 ) وأن الله أفتقد البشرية برحمته وذلك عن طريق موسى مُعطى الناموس والأنبياء الذين مهّدوا الطريق للطبيب الأعظم " لكن الله فى محبته الفياضة والتى لازيف فيها ، جاء إلينا" ( رسالة 2 ) . آخذًا صورة عبد ( فى7:2،8 ) لقد أخذ جسدنا وبذل نفسه لأجل خطايانا وسُحق بآثامنا وبجراحاته شُفينا جميعًا ( أش5:53 ) .
يسوع المسيح هو البر الذى يقود إلى التبني :
يؤكد القديس أنطونيوس أنه لايوجد تبنى بدون الابن الحقيقى يسوع المسيح ففى الرسالة ( 2 ) :
[ ويجب على كل واحد من الخلائق العاقلة التى جاء المخلص أساسًا لأجلها، أن يفحص حياته ، وأن يعرف عقله وأن يميز بين الخير والشر ، لكى ما يتحرر ( يخلص ) بمجئ ( يسوع ) لأن كثيرين تحرروا ( خلصوا) بتدبيره ودعوا ( عبيد) خدام الله . إلا أن هذا ليس هو الكمال بعد ، وإنما فى وقته الخاص كان هو البر ، وهو يقود إلى تبنى البنين ] .
وفى رسالته الرابعة يقولها بأكثر وضوح أنه بالمسيح صار لنا التبنى وأيضًا يشدد على دور الروح القدس .
[ لأنه إذا اقترب إنسان من النعمة فإن يسوع سيقول له "سوف لاأدعوكم عبيدًا ، بل أدعوكم أصدقائى وأخوتى لأن كل الأشياء التى سمعتها من أبى أخبرتكم بها ( يو15:15 ) فإن كل الذين اقتربوا من النعمة وتعلموا من الروح القدس قد عرفوا أنفسهم حسب جوهرهم العقلى . وفى معرفتهم لأنفسهم صرخوا قائلين " لأننا لم نأخذ روح العبودية للخوف ولكن روح التبنى الذى به نصرخ يا أبا الآب " ( رو 15:8 ) حتى نعرف ماذا أعطانا الله " إن كنا أبناء فإننا ورثة ، ورثة الله ، ووارثون مع المسيح " ( رو17:8 ) ] .
وفى الرسالة ( 7 ) يشدد القديس على الفرق الواضح بين المسيح كابن (طبيعى) لله وبقية المخلوقات التى من طبيعة متغيرة ( ليست كاملة ) [ ... لذلك فإنه هو الآن حياة كل طبيعة عاقلة مخلوقة على مثال صورته ، وهو نفسه ( المسيح ) عقل الآب وصورته غير المتغيرة ( الصورة الكاملة) ( عب 3:1 ) ، أما المخلوقات المصنوعة على صورته فإنها من طبيعة متغيرة ( ليست كاملة ) لأن الشر قد دخل فينا ، وبه مُتنا جميعًا ، حيث إنه غريب عن طبيعة كياننا العقلى ( الروحى ) ] .
سلوك البنين :
يركز القديس على السلوك الذى يجب أن يكون عليه أولاد الله :
1- قدموا أنفسكم ذبيحة لله فى القداسة :
ويشرح ذلك مؤكدًا أن القداسة تتجلى وتظهر فى فعل الصلاح والتوبة .
رسالة (5) : [ ... قدموا أنفسكم ذبيحة لله فى كل قداسة لكيما تروه . لأنه بدون قداسة لايستطيع أحد أن يرى الرب كما يقول الرسول (عب14:12) ... وهى أن تفعلوا الصلاح وهكذا تنعشون القديسين وتعطون بهجة للطغمات الملائكية فى خدمتهم ... ] .
[ والآن ليمزق كل واحد منكم قلبه أمام الله ويبكى أمامه قائلاً " ماذا أرد للرب من أجل كل أحساناته " ( مز12:116 ) ] .
وهنا نجد أن التوبة عند القديس تأخذ المعنى الجوهرى وليس الشكلى بتمزيق القلب ومن ناحية أخرى تأخذ الإيجابى فالبكاء هنا سببه الأساسى هو احسان الله ومحبته الفائقة التى غمرنا بها ونحن غير مستحقين ، فماذا نرد للرب من أجل كل احساناته . ] .
2- لاتهملوا خلاصكم وتمثلوا بأعمال القديسين :
يحذرنا القديس بجرأة المحبة من خطر اهمال خلاصنا نتيجة انشغالاتنا بهذه الحياة السريعة الزوال أو بسبب الأهواء والشهوات الجسدية من أن نفقد الميراث الأبدى الذى هو نصيب القديسين .
ويؤكد القديس أنطونيوس أن الشر دخيل على المخلوقات لأنها نشأت من مصدر واحد وهو الثالوث كلى القداسة الآب والابن والروح القدس . وبسبب سلوك بعضهم الشرير صار من الضرورى أن يُعطى الله أسماء لكل نوع منهم طبقًا لأعمالهم . وأولئك الذين تقدموا كثيرًا أعطاهم مجدًا فائقًا .
3- محبة الأخوة :
يؤسس القديس أنطونيوس تعاليمه على وصية المسيح العظمى التى هى المحبة " تحب الرب إلهك من كل قلبك وفكرك وقدرتك ، وتحب قريبك كنفسك " ويشدد على حب القريب كالنفس ففى رسالته السادسة يقول إن الشياطين يعلمون أن هلاكنا هو عن طريق " بغضة " القريب وأن حياتنا أيضًا وخلاصنا هى عن طريق ( محبة ) القريب ، وأن الذى يخطئ ضد قريبه يُخطئ ضد نفسه ، والذى يفعل شرًا لقريبه فإنه يفعل شرًا بنفسه ، والذى يصنع خيرًا بقريبه يصنع خيرًا بنفسه .
وهنا نجد أن القديس يشدد على أن العلاقة الخاصة بين الإنسان والله تظهر فى علاقات الإنسان بأخيه ، فالذى يحب الله محبة حقيقية تظهر فى محبته لقريبه والعكس بغضة القريب تعنى أنه لاتوجد محبة فى القلب تجاه الله ، فالأخلاق عند القديس غير منفصلة عن العبادة الروحية والمحبة عنده يجب أن تترجم فى كم المعاملات اليومية مع الآخرين .
4- أهمية التمييز والتواضع :
فى الرسالة السادسة يحث القديس المؤمنين أن يتدربوا على التمييز ويبتعدوا عن الكبرياء ويتحلوا بالتواضع ، وروح التمييز هنا لمعرفة طريق الرب من طرق الشياطين .
[ حقًا ، يا أبنائى ، إنى أريدكم أن تعرفوا أن كثيرين قد سلكوا طريق النسك طوال حياتهم ، ولكن نقص التمييز والافراز تسبب فى موتهم، حقًا يا أبنائى ، إنكم إذا اهملتم نفوسكم ، ولم تميزوا وتمتحنوا أعمالكم فلا أظن أنه يكون أمر عجيب أن تسقطوا فى يد أبليس بينما أنتم تظنون أنكم قريبون من الله ، ... فأى احتياج كان ليسوع حتى يمنطق نفسه بمنشفة ويغسل أرجل من هم أقل منه ... إلا لكى يعطينا مثالاً ، من جديد !( انظر يو 4:13-17 ) .
لأن بداية حركة الشر كانت هى الكبرياء الذى حدث أولاً ... ولهذا فبدون اتضاع عظيم بكل القلب والعقل والروح والنفس والجسد ، لن تستطيعوا أن ترثوا ملكوت الله ] .
امتياز البنين :
1- مجئ الروح القدس إلينا ليسكن فينا :
يذكرنا القديس بأن نار الروح القدس الغير مرئية هى نصيب البنين الذين يسلكون بحق كأولاد لله ، هذه النار تحرق كل الشوائب لتتطهر روحنا وعندئذ يسكن فينا الروح القدس ويمكث بذلك المسيح معنا ، وهكذا سنكون قادرين أن نسجد للآب كما يحق ، ويحذرنا القديس بأنه لوبقينا متصالحين مع طبائع العالم ، فإننا نكون أعداء لله ولملائكته ولجميع قديسيه ( رسالة 5 ) .
هنا نجد دور الروح القدس الذى يقدس ويطهر القلب والروح والنفس ويهيئ الإنسان لمعية المسيح .
2- الحرية الحقيقية بالمسيح :
مفتاح حريتنا الحقيقية هو المسيح نفسه الذى أخلى ذاته آخذًا صورة عبد ( فى 7:2 ) لكيما يحررنا بعبوديته .
والتلمذة للمسيح فى نظر القديس أنطونيوس هى أن نحرر أنفسنا بواسطة مجيئ المسيح ونتشبه بتواضعه فنصير تلاميذ له ونرث معه الميراث الإلهى ( كبنين ) .
3- موهبة الافراز والتمييز ( البصيرة الروحية ) :
فى الرسالة الحادية عشر يذكر القديس أن النظر الجديد أى البصيرة الجديدة أو موهبة الافراز والتمييز هى من نصيب أولاد الله : [ هؤلاء هم الذين صاروا أولاد الملكوت ، وحسبوا فى حالة التبنى لله ، هؤلاء يعطيهم الله هذا النظر الجديد فى كل أعمالهم ، لكى لايستطيع إنسان أو شيطان أن يخدعهم . لأن المؤمن يمكن أن يُخدع بحجة الصلاح ، وكثيرين خدعهم الشيطان بهذه الطريقة ، لأنهم لم يكونوا قد نالوا هذا النظر الجديد من الله . ولأن الرسول بولس المغبوط ، عرف أن هذا هو غنى المؤمنين الذى لاحد لعظمته ، كتب يقول " إنى احنى ركبتى لدى أبى ربنا يسوع المسيح ... لكى يعطيكم روح الحكمة والاعلان فى معرفته ، لكى تستنير عيون قلوبكم لكى تعرفوا العرض والطول والعلو والعمق ، وتعرفوا غنى ميراث القديسين . ( أف14:3،18 ـ أف 16:1-18 ) ] .