الاثنين، 21 أكتوبر 2013

القديس كبريانوس



القديس كبريانوس

إعداد/ د. جورج عوض إبراهيم

حياته[1]

  هناك العديد من المصادر التي نستقي منها معرفتنا عن سيرته، وأهمها وأكثرها صحة هي كتاباته ورسائله الكثيرة، أما عن تاريخ القبض عليه ومحاكمته وإستشهاده، فلدينا "أعمال إستشهاد كبريانوس والموجودة في السجلات الرسمية، وأخيرًا هناك "حياة كبريانوس" والموجودة في عدد ضخم من المخطوطات والمفترض أنها كُتبت بيد شماسه بونتيوس الذي شاركه في منفاه وحتى يوم إستشهاده، فلم يكد كبريانوس الشهيد ينال إكليل الشهادة، حتى إنبرى شماسه وتلميذه بونتيوس في كتابة سيرته، وقد شابهت سيرة كبريانوس في الكثير منها سيرة القديس أغناطيوس الأنطاكي، فكلاهما أساقفة وآباء وشهداء، وقد إهتما كلاهما بخدمة الأسقف وعمله، وبوحدة الكنيسة وبحتمية سر الإفخارستيا، وقد تركا كتابات ورسائل رعوية عديدة، صارت تراثًا آبائيًا ثمينًا.

 

1ـ مولده

  وُلد وثنيًا في أسرة وثنية، في الجزء الشمالي لأفريقيا حيث قرطاجنة العاصمة الشهيرة، إلا أن محل ميلاده أمر غير محدد على وجه اليقين، إذ أن كانت سيرته قد أغفل عن عمد ذكر كل ما يخص حياة أبيه وأسقفه كبريانوس قبل العماد، محتجًا بأن تاريخ الإنسان المسيحي لا يبدأ حقيقة إلا منذ وقت ميلاده من الماء والروح، معتبرًا أن الحياة الحقيقية لا تبتدئ إلا بعد المعمودية، ولذلك تعمد الكنيسة الأطفال سريعًا بعد ولادتهم بالجسد لكي يحيوا الحياة الحقيقية.

  ويُحتمل أنه وُلد في بداية الجيل الثالث حيث مدينة قرطاجنة ضمن حدود دولة تونس في شمال إفريقيا على خليج تونس، وقد وصلت إليها المسيحية حوالي عام 150م ثم إستولى عليها العرب في أواخر القرن السابع، بينما وُلد "ثاسكيوس كبريانوس" حوالي عام 200م وقبل الإيمان المسيحي عام 246م.

  دبرت له العناية الإلهية أداة بشرية لتقوده في طريق النعمة، تلك الأداة كانت شيخًا في الكهنوت يُدعى سيسيليوس بمدينة قرطاجنة، فوعظه وعلمه وقاده في الطريق حتى تحولت حياته، إذ يحدثنا هو نفسه قائلاً بأنه كان خروفًا ضالاً من الحظيرة يتخبط في الظلمة محرومًا في غفلة من الحقيقة، حتى قبلته مراحم الله وأنعم عليه بالخلاص ووُلد ميلادًا جديدًا وترك إنسانه العتيق وطرح الأوثان الباطلة وتجددت نفسه وحياته، الأمر الذي كان يعتبره مستحيلاً.

 

 

 

2ـ حياته الجديدة

  بعد أن ترك حياته العتيقة وقادته النعمة الإلهية ليصير مُعمدًا حديثًا وإنسانًا جديدًا، تغير تغيرًا جذريًا، وعزَّم كبريانوس بعد معموديته على أن يحيا حياة البتولية كنذر يُقدم به ذاته لله وكعلامة مرضية قدامه، وكان عزمه هذا مؤسسًا على حقيقة أن العدول عن الحياة الحسية أمر ضروري لإنفتاح القلب والذهن للأمور الإلهية. فباع ضيعته وممتلكاته ـ كما يخبرنا بونتيوس ـ ووزع ثمنها على الفقراء والمعوزين، ولم يستبق لنفسه إلا ما هو ضروري لمعيشته، عالمًا أن الرحمة أفضل من ذبائح كثيرة.

  سعى في حياة النمو الروحي والوصول إلى الله، وترك الأباطيل التي إرتبط بها منذ ولادته، وإنقطع عن الآداب اللاتينية، مبتدئًا في دراسة الكتاب المقدس والتلمذة على كتابات آباء الكنيسة وخاصة ترتليان العلامة الأفريقي سلفه، ويرى أحد الكتاب إحتمال  أن يكون قد شاهده شخصيًا، وقد ظهرت تأثيرات تعاليم ترتليان واضحة على القديس كبريانوس في كتاباته فيما بعد، لا سيما في كتابيه "الصبر" و "الصلاة الربانية".. بل كان يردد دائمًا لتلميذه "إعطني المعلم" قاصدًا بذلك كتابات ترتليان.

  نال نعمة المعمودية في سنة 245م أو 246م وتسمى في المعمودية باسم أبيه الروحي سيسيليوس كبريانوس (وينطق في الغرب سبريان) وما أن نال كبريانوس نعمة الميلاد الجديد حتى سعى إلى الخلوة والنسك وإكتساب فضائل القديسين مجاهدًا ضد إنسانه القديم، فليس أمام نعمة الله شيء عجيب.

 

3ـ أسقفيته

  تنيح أسقف قرطاجنة وأخذ الشعب يبحث عن ذلك المُعمد حديثًا، ولم يكن قد مضى على معموديته إلا ثلاثة أو أربعة سنوات، غير أن الشعب كان يرى فيه فضائل الكاهن وسمات الرئيس، لذا رشحوه للأسقفية، ففي أحد أيام 249م، هتف الشعب "نريد كبريانوس أسقفًا".

  وما أن سمع كبريانوس برغبة الشعب هذه حتى إنسحب على الفور في إتضاع، حاسبًا نفسه غير مستحق ولا مستعد حتى لمجرد الدعوة لمثل هذه الكرامة العظيمة والمسؤولية الجسيمة وفرّ هاربًا.

  ويصور بونتيوس هذا المشهد، عندما يروي قصة الجموع الغفيرة التي ذهبت لتأتي به بعد أن أختبأ هو ورفض أن يكون أسقفًا، فحرس الشعب جميع المخارج وحاصروه حتى خضع لنداء الشعب وسلم نفسه إليهم، وسيم أسقفًا في حوالي سنة 249م.

  كان كبريانوس في أسقفيته خادمًا متشبهًا بالمسيح الذي جاء ليَخدِم لا ليُخدم، حافظَا لنظام البيعة، مُعتبرًا أن النظام هو كل ما يسوغ للكنيسة أن تكون جسمًا حيًا لا جثة هامدة، إذ هكذا كان كبريانوس يفهم الكنيسة حتى تجسمت قرطاجنة في عهد حبريته كرأس ومنارة بديعة، إكليروسًا وتقليدًا ورهبنة.

  حرَّص على إحترام التقليد وإحياء القوانين في إيبارشيته، إذ أنه كان مدبرًا بارعًا، وما يتخذه من أحكام لا يترك مجالاً للإلتباس، مستمسكًا بمعالم الطريق الضيق الذي لم يخف عنه، لا بنبذ الخطاة لكن بإصلاحهم وإقناعهم وإرشادهم ثم معاقبتهم بحسب السلطة الأسقفية التي لم تُعط له عبثًا.

  إعتبر كبريانوس أن الكنيسة مؤلفة من الأساقفة ومن الإكليروس ومن الثابتين في الإيمان، لذا يجب إحترام الأوامر الإلهية وحفظها لأنها أساس الكنيسة، والأسقف هو رأس الكنيسة في تنظيمها وتدبيرها وسط تقلبات الأحوال وتتابع الأجيال.

  حرص كبريانوس في إدارته الكنسية على إخوة الأساقفة وشركة الرسل وعدم المجاملة في مجال العقيدة، وكان يميل دائمًا إلى حياة الشركة الكهنوتية، إذ كان وهو أسقف، ودون المساس بالرئاسة الأسقفية، يأخذ مشورة الكهنة العاملين معه في كل شيء ويحترم حق الشعب، وعرف خلال فترة حبريته كيف يجمع الكل في واحد، ويؤلف بين الحزم واللين والثقة والتقدير لكل العاملين معه.

  اعتبر أن العصاة والهراطقة هم خارج الكنيسة، وهم ضد السلام وضد محبة المسيح، وهم خصوم ومخالفين للمسيح، فالكنيسة واحدة، وإذا كانت واحدة، فلا يمكن أن تكون هنا وهناك.

  ورفض كبريانوس معمودية نوفاتيان وأتباعه لأنهم لا يمكن أن يعطوا ما لا يملكون، فمعمودية المسيح هي في كنيسة المسيح، أما معمودية الهراطقة فهي غير شرعية وغير قانونية بل باطلة، ولا توجد إلا معمودية واحدة، والعادة الجارية تقضي بعدم إعادتها، أما من تدنسوا بعماد المنفصلين الهراطقة، فيجب أن يُعمدوا عند رجوعهم إلي الكنيسة بعد توبتهم.

 

4ـ محنة الإضطهاد

  لم تمض على أسقفية كبريانوس أكثر من عامين حتى شب إضطهاد هائل، يختبر صحة كنيسة أفريقيا الأدبية والروحية، فبينما كبريانوس يسهر على رعيته، يرثي ويتألم ويسند ويرشد ويدبر، وفيما هو قائم بوعي كامل بواجبات وظيفته الرعوية، لا كرئيس ولكن كشريك في الضيقة، صدر مرسوم إمبراطوري سنة 250م بالقضاء على المسيحية، فنال كثيرون إكليل الشهادة وضعف البعض مرتدين، والبعض هربوا، وآخرون حُسبوا مُعترفين.

  ومن جراء هذا الإضطهاد المروع ضعف البعض وبخروا للأوثان وأنكروا، وكذا لجأ البعض إلى الحصول على شهادات مزورة تفيد بأنهم قد بخروا للأوثان حتى يهربوا من التعذيب والقتل، والبعض إرتضوا أن تُسفك دمائهم من أجل اسم المسيح، وآخرون سُجنوا وعُذبوا ليُحسبوا مع المعترفين.

  لجأ القديس كبريانوس إلى مأوى يمكنه أن يواصل منه تدبير كنيسة قرطاجنة وهي في أشد الحاجة إليه، ويحث المترددين على الإعتراف باسم المسيح.. يشدد الركب المرتخية، ويدعو المنشقين إلى وحدة الكنيسة وسلامتها، والمخالفين إلى ناموس الحياة الإنجيلية.

  وظل يقود الكنيسة من مخبئه ويكتب الرسائل وهو غائب عنها بالجسد. يشدد ويشجع المعترفين، ساعيًا بالكنيسة إلى الخلاص والثبات في الإيمان، وكان يفتكر في كل شيء، ويوصي بزيارة المسجونين من أجل الإيمان، هؤلاء المعترفين الذين عُذبوا وطُرحوا في السجن، كذلك أوصى الكهنة بأن يذهبوا إلى السجون ليقربوا الذبيحة عند المسجونين، وأن يقوموا بهذه الخدمة بالتناوب، وكانت رسائله مشحونة بالمراجع الكتابية مما يلفت النظر إلى إلهاماته التي خصه الله بها، فقد حرص ألا يخفي شيئًا أو يحتفظ به لنفسه مما يمكن أن يفيد جميع الناس.

  بعد فصح سنة 251م عاد كبريانوس إلى مقر كرسيه في قرطاجنة، وقد هدأ الإضطهاد وحان لكنيسة أفريقيا أن تكرم شهداءها وتجمع "المعترفين" حول أسقفها الذي عالج مسألة الجاحدين وبدأ رسالته بهتاف الفرح قائلاً "ها هوذا السلام قد عاد إلى الكنيسة"، وأثنى على من إعترفوا بالإيمان وشمل ثناؤه أولئك الذين هربوا من وجه الإضطهاد، لأنهم أظهروا بذلك عزم إرادتهم على عدم الجحود، وبعد أن تكلم عن سروره وإفتخاره، أظهر تألمه من أجل المسيحيين الذين سقطوا، فالراعي مُصاب بجراح الرعية، وكل من يقرأ رسالته المفعمة بشدة عواطفه التي عبر عنها بالألفاظ اللاتينية التي كان يجيدها، لابد أن يحني رأسه ويتأمل في كنيسة أفريقيا وهي تعترف بأخطائها.

  حرص القديس كبريانوس على عيش وتأكيد وظائف أمومة الكنيسة الثلاث بقوله: " الكنيسة تلدنا، الكنيسة تربينا، الكنيسة تؤدبنا، فهي لنا حضن أبوي، ومائدة وروح عائلي" لذا ساعد الجاحدين الراجعين ليقدموا التوبة المساوية والمناسبة حسب الحق الإنجيلي، وعقد مجمعًا عُرف بمجمع قرطاجنة لتقنين رجوعهم.

  لقد إحتمل القديس كبريانوس كل ما يمكن إحتماله، معتبرًا أن الطعنات لا شك ليست من المسيح، بل من عدوه، عدو الكنيسة الذي يريد أن يغرقها في الإضطهاد والإنشقاق والعصيان والأوبئة. وقد أتم القديس كبريانوس جهاده كما قال القديس أغسطينوس "إن دم الشهيد كبريانوس قد تم فيه ما كان قد بدأه ماء المعمودية"

 

5ـ محنة الوباء

  إنتشر في عام 252م وباء الطاعون، فنظر الأسقف بعين الأبوة الحانية ونزل ليعتني بأولاده، ويقول تلميذه أنه كان "طوبيا" زمانه، دون أن يفرق بين مؤمن وبين غير مؤمن. وعندما حلَّ الوباء، جمع كبريانوس القطيع وخاطبهم ودعاهم إلى البذل وإلى مساعدة كل إنسان مسيحيًا كان أو غير مسيحي، وأكد على هذه النقطة، مذكرًا إياهم بأن شمس الله تشرق على الأبرار والأشرار، لأننا إذا أحببنا إخوتنا وحدهم، بقينا على مستوى الوثنيين "فهلموا وكونوا بطيبتكم أهلاً لطيبة أبينا السماوي".

  وأخذ كل واحد يبذل جهده ليرضى الله الآب والمسيح الديان، ويسر الأسقف الغيور، فكانت المساعدة تتجه رأسًا إلى كل محتاج ولا يتقدم أو يتميز عندها مسيحي على وثني، حيث قوة الرجاء حية فيهم وصلابة الإيمان، وهم أمام عالم ينهار ويخرب، فبقيت أرواحهم صامدة، وشجاعتهم غالبة، ونفوسهم واثقة دائمًا بالله وصبرهم لم يفقد الفرح.

 

6ـ الإضطهاد الثاني

  أُثير الإضطهاد على المسيحيين في عهد هذا القديس مرتين: الأولى بأمر الإمبراطور داكيوس عام 250م والثانية بأمر الإمبراطور فاليريان عام257م، وكان كبريانوس يرى عظم الفائدة الروحية للمؤمنين من هذه الإضطهادات، إذ أنه أعتبر أن السلام الذي كانت الكنيسة قد تمتعت به قد أضعف روح التيقظ والمجاهرة بالإيمان عند الكثيرين بما فيهم حديثي الإيمان، ودب في قلوب الجميع إرتخاء روحي، لذلك لما أُمتحنت فضائلهم في محنة الإضطهاد الأول أعوزت الكثير منهم الشجاعة ليواجهوا المحاكمات.

  وينبه كبريانوس شعبه قائلاً: " لقد إختبرنا، بتدبير الرب، المعمودية الأولى. فليكن كل واحد منا مستعدًا للمعمودية الثانية أيضًا، متيقنين أن نعمتها أعمق وقوتها أعظم وكرامتها أثمن من الأولى. إنها تلك التي يُعمَّد بها".

  ويؤكد كبريانوس على الجعالة السمائية وعظم تقدمة الإستشهاد وقبولها لدى الله بإيمان غير فاسد وفضيلة راسخة وقلب مكرس ومقدس، تلك التي تجعلنا نرافق الرب عندما يأتي في الدينونة ونقف بجانبه عندما يجلس ليدين، ونصير شركاء ميراث المسيح ونتساوي مع الملائكة والآباء والرسل والأنبياء.

 

 

7ـ إستشهاد القديس كبريانوس

  في محنة الإضطهاد الثاني عام 257م صدر مرسوم بإعدام رجال الدين المسيحي، وعندما سمع الحاكم الروماني لشمال إفريقيا بأمر فاليريان الإمبراطور، أمر بالقبض على كبريانوس الأسقف الذي أعلن أنه مسيحي وأسقف.

  وكانت الشرطة تريد أن تنقله إلى أوتيكا عند الوالي، إلا أن كبريانوس أراد أن يعلن إيمانه حيث موطن جهاده بقرطاجنة حيث تم القبض عليه وإحتشدت الجموع ليحوطوا أسقفهم بصلواتهم ووفائهم.

  وفي الصباح مضى به الجند إلى الوالي ومروا في طريقهم إليه بأحد الملاعب، فإتخذ بونتيوس تلميذه من ذلك صورة واقعية ليبين أن كبريانوس كان يجري في سيره نحو المسيح جرى المصارعين المجاهدين، ويصف بونتيوس مشاعر أسقفه الأخيرة، وكيف أنه كان يتوق إلى معمودية الدم، وكيف كان يردد " هناك ..فوق فقط، السلام الحقيقي، الراحة الأكيدة، الدائمة، الثابتة....الأمان الأبدي....هناك بيتنا، ومستقرنا، فمنْ لا يسرع إليه".

  وبعد القبض عليه قضى كبريانوس مدة سنة في المنفى، ثم أكمل شهادته بقطع رأسه، وصار له المنفى مثلما كانت بطمس ليوحنا الحبيب مجالاً للرؤى الإلهية والتعزيات، حيث رأى ما هو عتيد أن يحدث له، وفي أثناء نفيه كتب الكثير عن الإستشهاد من خلال معايشة حية، على نحو يخزي هؤلاء الذين إفتروا عليه في هروبه أثناء الإضطهاد الأول.

  وبعد سنة من النفي أعادته السلطات المدنية إلى قرطاجنة، حيث ثبت وجهه نحو يوم عرسه وإكليله الذي كان يقترب منه بسرعة، فكان يزداد لهفة وإشتياقًا لأن يموت داخل المدينة التي كان يرعاها حتى يكمل خدمته الأسقفية بختم دمه المسفوك، إذ أنه إعتبر إستشهاده خارج المدينة جرحًا لشرف كنيسته (رسالته رقم81).

  لهذا حقق الله سؤال قلبه، ففي يوم 13 سبتمبر لعام 258م تم القبض عليه، حيث خرج مع العسكر بروح عاليه ونظرات باشة تعكس شجاعة وسلام الأبطال، وهكذا سار موكبه بعد أن أركبوه في مركبة وجلسوا عن يمينه ويساره، ليصير حتى في يوم إستشهاده في صورة رسمية كما يقول بونتيوس.

  وإنتشر الخبر في المدينة فهرعت الجموع وتقاطرت حول راعيها لتحوطه بوفائها وسهرها وهو في طريقه إلى المجد الأبدي، حيث أحاط بالقديس كبريانوس جمع غفير وعسكر بلا عدد حتى أن بونتيوس يقول "إنهم كانوا كغازين للموت نفسه!!".

  عندما علم القديس كبريانوس في منفاه أن بعض الكهنة قد قُبض عليهم وساقوهم إلى المحاجر وإلى مناجم الذهب والفضة، وأنهم يسخرونهم كالعبيد الأسرى في تلك الأشغال الشاقة ويموت منهم الكثيرون من شدة العذاب، كتب إليهم يعزيهم قائلاً: " لا عجب إن كان الولاة قد أرسلوا إلى مناجم الذهب والفضة آنية كريمة من الذهب والفضة، ولكن العجب هو في كون تلك المناجم التي إعتادت أن تعطينا هذه الكنوز الثمينة صارت هي تأخذ منا. لقد وضعوا الأغلال في أرجلكم وشدوا الوثق في أجسامكم التي هي هياكل الله الحي، ولكن هل إستطاعوا أن يوثقوا نفوسكم؟ هل إستطاع حديدهم أن يمتد بصدئه على ذهبكم؟ إن أغلال الشهداء لا تعيرهم، بل إن أغلالكم هي أكاليل لكم. يا أيتها الأرجل المكبلة بالأغلال! ليس من بشر يفك قيودك بل الله بنفسه هو الذي يحلها".

  ولما علم كبريانوس أن مطرقة من خشب سقطت على ظهر أحد الشهداء، أعتبر أن هذه الخشبة يجب أن تذكرنا بخشبة الصليب التي سُمر عليها ربنا يسوع، فالمسيح قد خلصنا بخشبة الصليب لذا صار طبيعيًا أن يبلغ المسيحي إلى الخلاص بالخشبة وأن يُحكم على المسيحيين أن يعملوا في المناجم، كذلك يساند كبريانوس أبناءه حتى لا يحزنوا من حرمانهم من القربان المقدس، لأنهم صاروا هم أنفسهم قربانًا مقدسًا مقبولاً عند الله.

  وعندما وصل الركب إلى دار الولاية، حيث كان اليوم حارًا والسير مجهدًا، كان كبريانوس غارقًا في عرقه، آخذًا منه الإعياء كل مأخذ، فتقدم إليه أحد الضباط ليعرض عليه ملابس جافة، مؤملاً أن ينال ثياب الأسقف ليحتفظ بها ككنز من شهيد عظيم، إلا أن كبريانوس الذي وشك أن يسفك دمه برضى كامل، لم يهتم بعرق الجسد المتصبب، إذ أن الذي يسفك دمه لا يحسب لعرقه حسابًا.

  ودخل كبريانوس أحد غرف دار الولاية، وهناك جلس على كرسي تصادف أنه كان مُغطى بالكتان، وعلى الفور يعلق بونتيوس على ذلك قائلاً أن النعمة الإلهية أرادت أن يكون كاهن الله متمتعًا بكرامة الأسقفية حتى في وقت آلامه.

  وما هي لحظات حتى مثل القديس كبريانوس أمام الوالي جاليريوس في محاكمة وقرأ الوالي عليه الحكم هكذا: " لقد عشت طويلاً فاسد المذهب ولم تضح للأوثان ونصبت نفسك عدوًا لآلهة الرومان وخالفت الأباطرة فاليريان وجاليان ولم يردعوك، وجمعت حولك شركاء كثيرين في رفقة غير شرعية وصرت قائدًا لهم لذا ستصير عبرة لمن أغويتهم بمثلك وسيصير دمك تثبيتًا لشرائع الإمبراطورية وعندئذ يسود النظام".

  وعندئذ تم النطق بالحكم على القديس كبريانوس الأسقف: "قضت المحكمة بإعدام كبريانوس بحد السيف". وعندما سمع كبريانوس هذا الحكم، كان كأنه يقدم ذبيحة القداس الإفخارستية، فمثلما يقول عند ختام الذبيحة الإلهية قال "الشكر لله، أشكر الله وأباركه". فالشهيد يرى في سر الإفخارستيا شركة في موت الرب وقيامته، لذا مسيرة الشهيد متمثلة تمامًا مع وليمة العشاء السري، فهي مثل الإفخارستيا تستمد كل قيمتها من آلام الرب.

  لذا قدم القديس كبريانوس إستشهاده كما لو كان ذبيحة إفخارستيا، فقوله "الشكر لله" إنما هو تعبير إنتقاء لوصف الإستشهاد له نفس الصدى الليتورجي، وهكذا يبدو الإستشهاد لكبريانوس مثل تقدمة ليتورجية جماعية..

  إنها أعظم شهادة صدرت من هذا الإنسان الوثني الموعوظ الكاهن الأسقف والشهيد، إنها شهادة إلهية حقًا عندما أعطى نفسه مثالاً لشعبه في الشهادة لأجل فاديه. ولما سمع المؤمنون الحكم صاحوا قائلين "لتقطع رؤوسنا معه" كدليل على تعلقهم براعيهم.

  وعندما أتت لحظة الإنطلاق خلع كبريانوس ثياب الحبرية وأعطاها للشمامسة، وألقى كلمة صغيرة مشجعًا ومعزيًا شعبه، وجثا على ركبتيه مصليًا، ثم رأى أن السياف المُكلف بتنفيذ الحكم كان يحمل السيف مرتعدًا، فأعطاه 25 قطعة من الذهب تشجيعًا له، ثم عصب عينيه بذات يديه مسلمًا ذاته ليد ربنا يسوع المسيح رئيس كهنة الخيرات العتيدة، وهرع أولاده يفرشون ثيابهم ولفائف ومناديل من تحته ليلتقطوا بها دمه الطاهر بركة لهم. وأخيرًا قبض السياف بيده المرتعشة على سيفه لتأتي اللحظة المعينة من الله ليتمم مسرة الله في قديسه ونفذ الحكم.

  وتدحرجت رأس كبريانوس الجسدية على الأرض وصعدت روحه منطلقة مبتهجة متهللة إلى مسيحها لترث نصيبها المعد لها مع الشهداء، وليكون أول أسقف يستشهد في مقاطعته سائرًا على طريق الرسل، وستظل أسقفيته ورسائله باقية حية تحمل لنا أغلى ذكرى لأفخر أيام في تاريخ أسقف شهيد من القرن الثالث الميلادي.

  وهكذا رأى الشعب أحاديث راعيه وعظاته تتحقق عمليًا أمام عينيه ليس كلامًا أو كتابة، وإنما دمًا وفعلاً، وصار كبريانوس أول أسقف يصبغ تاجه الكهنوتي بدم الإستشهاد في قرطاجنة، وهكذا كل أعماله المقدسة بأن زين شارة كهنوته السمائي بدمه الثمين. ثم حمل المؤمنون جسده ليلاً بالشموع والمشاعل مع الصلوات بمشاعر النصرة إلى مقره الأخير، وبعد أيام قليلة مات الوالي جاليريوس الذي حكم عليه، وبنيت بعد ذلك كنيستان واحدة فوق مكان إستشهاده والأخرى عند مكان دفنه. وهكذا ظل أسمه ويوم إستشهاده محفوظين في ذاكرة الكنيسة التي تحتفل به حتى الآن.

  هذا وقد ألقي القديس أغسطينوس في ذكراه خمسة عظات ما زالت باقية حتى الآن، وتحتفل الكنيسة الرومانية بذكرى إستشهاده، أما في الكنيسة القبطية، فقد حدث بينه وبين سميه أسقف أنطاكية الشهير بكبريانوس الساحر من قِبل بعض الكتاب.

 

كتاباته

  لدينا ثلاثة قوائم قديمة بأعماله، الأولى موجودة في سيرته التي كتبها شماسة بونتيوس الذي يصف في الفصل السابع في شكل أسئلة محتويات الإثنى عشر كتابًا كما تظهر في المخطوطات القديمة.

  والقائمة الثانية نشرها مومسن من مخطوطة رقم(12266 s.X) في مكتبة فيليب في شيلتينهام عام 359م ويذكر أيضًا عددًا من الرسائل.

  أما القائمة الثالثة فنجدها في عظة للقديس أغسطينوس عن القديس كبريانوس نشرها ج. مورين G.Morin

 

     أ) الكتب

1ـ إلى دوناتوس

  هو أقدم كتابات القديس كبريانوس، وقد أرسله إلى صديقه دوناتوس، يصف فيه التأثير الرائع للنعمة الإلهية في قبوله للإيمان المسيحي. كُتب بعد معمودية كبريانوس بفترة قصيرة، والتي كانت في الغالب في عشية عيد القيامة عام 246م.

2ـ ثياب العذارى

  كأسقف مهتم بالتلمذة المسيحية، يخاطب كبريانوس في هذا الكتاب العذارى ويعلمهن عن مخاطر العالم الوثني بكل شروره وأباطيله التي تحيط بهؤلاء اللائي كرَّسن بتوليتهن للمسيح، وعرائس المسيح يجب أن يلبسن ثيابًا بسيطة ويبتعدن عن المجوهرات والتزيين والمساحيق. وفي الغالب كتب القديس كبريانوس هذا العمل بعد سيامته الأسقفية عام 249م بزمان قليل، والمصدر الأساسي الذي اعتمد عليه كبريانوس هو كتاب ترتليان  "عن ثياب النساء".

3ـ عن المرتد

  كتب كبريانوس هذا العمل بعد عودته من مخبأه أثناء إضطهاد ديسيوس في ربيع عام 251م، وبعد أن يشكر الله على إعادة السلام، يمدح كبريانوس الشهداء الذين قاوموا العالم والذين قدموا مشهدًا مجيدًا في عيني الرب وكانوا مثالاً وقدوة لإخوتهم، وعلى أية حال، سرعان ما يتحول فرحة إلى حزن بسبب سقوط الكثيرين أثناء الإضطهاد وضعفهم، ويتحدث عن هؤلاء الذين ضحوا للآلهة حتى قبل أن يُرغموا على ذلك، وعن الوالدين الذين جعلوا أطفالهم يشاركون في هذه الطقوس، وخاصة هؤلاء الذين أنكروا الإيمان بسبب محبتهم العمياء للقنية، ولا يمكن أن يُعطي لهم الغفران بسهولة، ويحذر المعترفين من التشفع لهؤلاء الناس، وقال أن التساهل معهم لن يؤدي إلا إلى منعهم من تقديم التوبة المناسبة، وفقط هؤلاء الذين ضعفوا بسبب عذابات عظيمة يستحقون الرحمة. على أية حال، هؤلاء جميعهم يجب أن يخضعوا لقانون التوبة، وحتى هؤلاء الذين إستطاعوا أن يقدموا شهادات بأنهم ذبحوا للأوثان دون أن يدنسوا أياديهم بمشاركة فعلية في هذه العبادات الوثنية يجب أن يخضعوا لقانون التوبة لأنهم دنسوا ضمائرهم.

  وقد قُرأ هذا الكتاب في المجمع الذي عُقد في قرطاج في ربيع251م وصار أساس الإجراءات الثابتة التي تُتخذ في موضوع المرتدين الصعب في كنيسة شمال إفريقيا كلها. ونقدم في الفصل التالي عرضًا شاملاً لهذا العمل.

4ـ وحدة الكنيسة:

  كان لكتاب وحدة الكنيسة تأثيره القوي دائمًا، وهو يقدم لنا مفتاح شخصية كبريانوس وكل ما كتبه، سواء كتب أو رسائل، ويبدو أنه قد كُتب بالدرجة الأولى بسبب إنشقاق نوفاتيان وكذلك بسبب إنشقاق فليسيسيموس في قرطاج، وأغلب الظن أن كبريانوس كتب هذا العمل بعد عودته إلى قرطاج، في مايو 251م وقت المجمع المنعقد هناك، ومن رسالته رقم 54، نعلم أنه أرسله إلى المعترفين الرومان الذين كانوا لا يزالون يتبعون نوفاتيان ويقاومون كورنيليوس أسقف روما، وقد تمت المصالحة بينهم وبينه (أي كورنيليوس) قبل نهاية عام 251م.

5ـ الصلاة الربانية:

  أغلب الظن أن كبريانوس كتب هذا العمل بعد كتابه "وحدة الكنيسة"بزمن قليل، وبالتالي يمكن أن يكون تاريخ كتابته هو نحو نهاية عام251م أو بدايات عام 252م. وقد استخدم كبريانوس كتاب العلامة ترتليان عن الصلاة الربانية ولكن بقدر محدود إذ أن شرح كبريانوس أعمق وأشمل.

6ـ إلى ديمتريانوس:

  هذا الكتاب عبارة عن رد على شخص ما يُدعى ديمتريانوس إتهم المسيحيين بأنهم المسؤولون عن المصائب التي حلت مؤخرًا من حرب ومجاعة وجفاف، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تعزي فيها المصائب إلى المسيحيين بسبب عدم وفائهم لآلهة روما القديمة، وقد واجه ترتليان هذه الإفتراءات وتصدى لها، ولم يكن كبريانوس آخِر منْ دافع عن المسيحيين ضد هذه الإشاعات، فقد تناول أغسطينوس هذا الموضوع أيضًا وأجاب عليه بإستفاضة في كتابه "مدينة الله"، وذلك بعد أن تناول كاتبان أفريقيان آخران نفس الموضوع وهما أرنوبيوس ولاكتانتيوس.

7ـ الموت:

  ما إن إنتهى إضطهاد ديسيوس، والذي قُتل فيه كثيرون، حتى حل وباء مرعب نشر الفزع والموت في عام 252م، ولكي يشرح كبريانوس معنى الموت بالنسبة للمؤمنين، كتب كتابه "الموت" في ذلك الوقت.

8ـ الأعمال والصدقات:

  في نفس تاريخ كتابه "الموت"، وضع كبريانوس عمله "الأعمال والصدقات" والذي يحث على العطاء الحر، فالوباء المدمر ترك الكثيرين فقراء مجردين من كل شيء، وهنا وجدت المحبة المسيحية فرصة رائعة لمساعدة المحتاج والمريض والمحتضر.

9ـ فائدة الصبر:

  بنى القديس كبريانوس كتابه عن فائدة الصبر على عمل ترتليان عن الصبر، وتُظهر المقارنة بين العملين أن إعتماد كبريانوس الأدبي فيه على عمل ترتليان هو أكثر من إعتماده على أي عمل آخر من أعمال ترتليان ويتضح ذلك بالأخص في الإطار العام وإختيار التشبيهات، إلا أن الفرق بين الكتابين في الروح واللغة يظل واضحًا تمامًا كما هو الحال مثلاً في وصف أيوب. الكتاب كان عبارة عن عظة، وفي رسالة كبريانوس إلى جوبيانوس، وهو في الغالب كان أسقفًا لموريتانيا، يذكر أنه قد كتبه نحو عام 256م.

10ـ الغيرة والحسد:

  يُعتبر هذا الكتاب ملحقًا بكتاب "عن فائدة الصبر"، ويُعتقد أنه قد كُتب في النصف الثاني من عام 251م أو عام 252م.

11ـ حث على الإستشهاد مُرسل إلى فورتوناتوس:

  هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من النصوص الكتابية، وقد وضعه كبريانوس استجابة لطلب شخص يُدعى فورتوناتوس، ليقوي ويعضد المسيحيين أمام الإضطهاد القادم، والنصوص مرتبة فيه تحت 12 عنوانًا، وهكذا يقدم كبريانوس مادة مجردة وليس شرحًا كاملاً.

  ويشير هذا الكتاب إلى أحد الإضطهادات، وقد تباينت آراء العلماء حول الإمبراطور المقصود هنا، وعما إذا كان إضطهاد داسيان أو فاليريان، ويُعتقد أنه قد كُتب نحو عام 253م.

12ـ إلى كويرينوس: كتب العهود الثلاثة:

  رغم أن كتابه "إلى فورتوناتوس" له قيمة عظيمة في تاريخ أقدم النسخ اللاتينية للكتاب المقدس، إلا أنه ليس هناك كتاب من كتابات كبريانوس له أهمية في هذا الصدد مثل كتابه "إلى كويرينوس" والذي يتكون من العديد جدًا من الآيات الكتابية المُجمعة معًا تحت مجموعة من العناوين.

  وقد قسمه كبريانوس في البداية إلى كتابين ثم أضاف إليه كتابًا ثالثًا.

  الكتاب الأول هو دفاع ضد اليهود، أما الكتاب الثاني فيتناول موضوع الخريستولوجي، وترتيبه شبيه بذاك الذي في كتاب "إلى فورتوناتوس"، ويتضمن الكتاب الأول 24 عنوانًا جانبيًا، بينما يتضمن الثاني 30 عنوانًا جانبيًا.

  أما الكتاب الثالث فله مقدمته الخاصة به، والتي توضح أن كبريانوس قد وضعه بناءً على طلب ثان من كويرينوس، وهو ملخص للأخلاقيات المسيحية ومرشد للفضائل ويتكون من 120 موضوعًا تبع كل منها الأدلة والبراهين من الكتاب المقدس.

  ولأن المقدمة لا تشير إلى الكتابين الأول والثاني، لذلك لا نستطيع الجزم بما إذا كان كبريانوس قد جمع الكتب الثلاثة معًا أم لا، وأغلب الظن أنه جمع الثلاثة معًا بعد كتابتهم بفترة، ويعتقد الباحثون أن تاريخ هذا العمل لابد أن يكون قبل عام 249م.

13ـ عن أن الأصنام ليست آلهة:

  يهدف هذا البحث الصغير في جزئه الأول (1ـ7) إلى إثبات أن الأصنام الوثنية ليست آلهة بل كانوا ملوكًا سابقين، ويسبب ذكراهم الملوكية، بدأت عبادتهم بعد موتهم، ولكي تُحفظ ملامح هؤلاء الذين رحلوا، نُحتت التماثيل لهم، وذبح الناس الذبائح والضحايا واحتفلوا بأعيادهم كرامة لهم، كما يمكن إثبات ذلك من التاريخ، وليس هناك أي داع للربط بين هذه الممارسات الدينية وبين القحط الذي حل بروما.

  أما الجزء الثاني (8ـ9) فيظهر أن هناك إله واحد فقط، غير منظور وغير مدرك، ثم يقدم في الجزء الثالث فكرًا خريستولوجيًا مبسطًا.

ب) الرسائل:

  تمثل رسائل القديس كبريانوس مصدرًا غنيًا لمعرفة تاريخ هذه الحقبة من حياة الكنيسة، فهي تعكس مشكلات وجدالات الإدارة الكنيسة في نحو منتصف القرن الثالث.

  ويرجع تاريخ تجميع هذه الرسائل إلى زمن بعيد، وقد بدأ فعلاً عندما رتب كبريانوس بعضًا من رسائله بحسب محتواها وأرسل نسخًا منها إلى مراكز مسيحية مختلفة وإلى الأساقفة زملائه، كما جُمعت مجموعات أخرى من الرسائل من 81 رسالة، 65 منها بقلم كبريانوس، و16 مرسلة إليه أو إلى إكليروس قرطاج.

  والرسائل من 5ـ43 كُتبت عندما كان كبريانوس في مخبئه في فترة إضطهاد ديسيوس ومنها 27 رسالة إلى إكليروس قرطاج وشعبه.

  ومراسلاته مع البابا كورنيليوس وليسيوس تتمثل في الرسائل من 44ـ61، 64، 66، ومنها رسالة (44ـ55) عن إنشقاق نوفاتيان.

  والرسائل من 67ـ75 كتبها أثناء أسقفية أستفانوس (254ـ257م) وهي تتناول الجدال حول المعمودية، والرسائل 78ـ81 أرسلها من منفاه الأخير.

  أما باقي الرسائل 1ـ4، 62ـ 65، فقد كتبها كبريانوس بنفسه لكن لا نستطيع أن نصنفها تاريخيًا لأنها لا تتضمن أي إشارة إلى تاريخ كتابتها.

  والرسالة 63 تُعتبر كتابًا وتُسمى أحيانًا " سر كأس الرب" وتتحدث عن سر الإفخارستيا كما يتضح من إسمها.

  لكن هذه المجموعة غير مكتملة، لأن هناك إشارات لرسائل أخرى فُقدت، والمخطوطة الوحيدة التي تحتوي هذه الرسائل الـ 81 لا تُعتبر فقط مصدرًا هامًا في تاريخ الكنيسة والقانون الكنسي، بل وأيضًا أثرًا متميزًا في اللاتينية المسيحية.

مقدمة عامة:

  كبريانوس هو أول أب ومعلم للكنيسة الغربية. لو كان ترتليانوس هو أول لاهوتي عظيم للغرب اللاتيني، فإن كبريانوس هو أول لاهوتي أرثوذكسي للغرب، أول أسقف لاهوتي وأول أسقف شهيد لأن كل من إيريناؤس وهيبوليتوس كتبا باللغة اليونانية وينحدران من حيث الأصل ـ من الشرق. ومن الجدير بالملاحظة أن الشمال الأفريقي إستمر على تفوقه اللاهوتي أمام روما، التي أمام المواضيع الكنسية (علي سبيل المثال المعمودية) تراجعت للإشعاع القادم من الكنيسة الأرثوذكسية في شمال إفريقيا. إذ لدينا في الشمال الأفريقي المجامع الأولي للغرب المسيحي (قرطاجنة: مجمع عام200م وكان يضم سبعون أسقفًا، ومجمع عام 240م و 256م كان يضم ثمانون أسقفًا)، التي يبين أن في أحضان الكنيسة نمى التعليم اللاهوتي والوعي الكنسي بالإستقلال عن روما ليس سياسيًا بل لاهوتيًا. هذا الوعي الكنسي واللاهوتي وَجدَّ في كبريانوس السند القوي، لأنه بحضوره ونظامه ولاهوته أعطى التطلع الأرثوذكسي في عقل وفكر الكنيسة، شيئًا سريعًا ما أُعترف به في كل الكنيسة الغربية.

  صار كبريانوس في الكنيسة كاتب وراعي وشاهد وأب ومعلم في فترة زمنية تبلغ 12 عامًا فقط. آتى من أسرة وثنية، نال المعمودية سنة 246م أو 245م وإستشهد سنة 258م. والجدير بالإعجاب أنه بالرغم من الفترة القصيرة التي قضاها في الكنيسة، بيد أنه أُعترف به كحامل أصيل للتقليد الكنسي، والإناء القوي المختار، والذي بواسطته ساعد الروح القدس الكنيسة أن تتخطى الأزمة المؤثرة التي كانت  في عصره. التعليم اللاهوتي بواسطة كبريانوس تخطى التركيز على جانب واحد فقط والتي إشتهر بها ترتليانوس، وذلك بإدارك كاثوليكية الكنيسة أي جامعة الكنيسة.

  ومن المعروف أن كبريانوس تأثر جدًا بأعمال ترتليانوس وحماسه في الدفاع عن الحق، وهذا يظهر في أعماله الأخلاقية التي كتبها في السنوات الأولى لنشاطه التعليمي المسيحي. لكن منذ سنة 250م إبتدأ كبريانوس يُعبر عن ما غاب من أعمال ترتليانوس: التقليد، الوعي الكنسي، الفهم المستقيم والجرأة في مواجهة أزمة عصره اللاهوتية.

 

أساسيات تعليم كبريانوس اللاهوتي هي الآتي:

  1ـ الثبات على التقليد (أنظر رسالة 9:74).

  2ـ تقديم أفكاره كأنها تفسير للكتاب والإستخدام الضيق للثقافة الكلاسيكية، بالرغم من أنه قد درَّسها وكان يعرفها.

  3ـ القيادة والإستنارة بالروح القدس (انظر رسالة 3:11. 4:16. 1:36ـ2) واجَّه كبريانوس، مثل كل الآباء العظام، الأزمة التي واجهتها الكنيسة في عصره، ورفع المشكلة من المستوى العملي إلى المستوى التعليمي اللاهوتي: وحدة الكنيسة والمعمودية. وهكذا قدَّم التعاليم اللاهوتية الهامة الخاصة بالمشكلة التي واجهتها الكنيسة. تميز تعليم كبريانوس بإبتعادة عن إستخدام الفلسفة الكلاسيكية والمصطلحات الميتافزيقية. لقد حاول أن يؤسس تعليمه على الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة مع الإنقياد بالروح القدس، لكي يعبر بذلك عن الحق. واجهت الكنيسة في عصر كبريانوس أمورًا خطيرة هددت أصالتها ووحدتها، وتتلخص هذه الأزمة في ثلاثة موضوعات لاهوتية واجهها كبريانوس هي الآتي:

  1ـ الغفران أم لا للمسيحيين الذين بخروا للأوثان وقت الإضطهاد وقدموا وثيقة بأنهم فعلوا ذلك تجنبًا من الإستشهاد.

  2ـ وحدة الكنيسة خصوصيًا في الغرب اللاتيني حيث الوعي بالتقليد الكنسي لم يكن يحتل الصدارة في تعليمهم، فإنفصلت جماعات كانت تنتمي للكنيسة وكونوا لأنفسهم كيان منفصل عن الكنيسة، على سبيل المثال أيام ترتليانوس: المونتانيون.

  3ـ التصديق أم لا على معمودية الهراطقة.

  الإجابة على هذه المشاكل الثلاثة يرتبط إرتباطًا مباشرًا بأصالة ووحدة الكنيسة وبالتالي بخلاص المؤمنين.

 

سر التوبة:

  مجموعات المونتانيين الصارمين زعمَّوا أن الكنيسة لا ينبغي، بل ولا تستطيع أن تغفر للتائبين الساقطين (Lapsi)، آخرون من الإكليروس قبَّلوا التائبين بمجرد إعلان رغبتهم للرجوع إلى الكنيسة أو بوثيقة غفران أخذوها من معترف الإيمان. لقد رأى كبريانوس بمعرفة التعاليم اللاهوتية لديونيسيوس الكورنثي (القرن الثاني) أن الحالتين تأتيان في تضاد مع سر التوبة. لأن الكنيسة لا تستطيع أن تغفر للساقطين أو تقبلهم بدون توبة عملية أو تجعل غير الإكليروس يقومون بهذا العمل نيابة عنها. إذن موقف كبريانوس أمَّن أصالة الكنيسة وسيادتها لأنها قبلت الساقطين بشرط أن يُظهروا توبة عملية لأن الخطية تُرفع فقط بالتوبة، والتي ستُعلن فقط للأكليروس، لأنهم هم وحدهم نالوا من الكنيسة نعمة قبول التائبين وإعلان غفران الكنيسة لهم. هكذا صار مفهومًا أن كل المشاكل الكنسية العملية هي مشاكل تعليمية لاهوتية وكل المشاكل التعليمية هي عملية.

 

سر وحدة الكنيسة:

  الإنشقاقات المتنوعة التي ظهرت في الكنيسة الغربية سببَّت أزمة عميقة للمسيحيين الذين إنتابهم الشك في فرادة ووحدة الكنيسة. واجَّه كبريانوس هذه المشكلة التي واجهها من قبله إغناطيوس الأنطاكي. لذلك تعاليم كبريانوس بشأن وحدة الكنيسة والأسقف هي إمتداد لتعاليم إغناطيوس. العنصر الجديد هنا هو بالحري تشديده على أن الرب أسَّس فقط كنيسة واحدة ولأجل هذا، الأسقفية هي واحدة. الإشتراك التام في رتبة الأسقفية الفريدة تمثل ضمان لأصالة أو جامعية الأسقف. وتعليمه هذا مؤسس على كلمات الوحي الإلهي نفسه، فهو يعتبر الأسقفية "موهبة" والأسقف لابد أن يكون متوشحًا بالروح، وكل إيبارشية لها ملاكًا وكارزًا وراعيًا متمثلاً في شخص أسقفها، وكل أسقف يشغل مكان القديس بطرس الرسول داخل الكنيسة، وله نفس السلطان المُعطى للرسل الإثنى عشر، يتوارثه الأساقفة جيلاً من بعد جيل "إرع خرافي. إرع غنمي" (يو15:21). وفي رسالته رقم(26) يرى أن الأسقفية هي إدارة الكنيسة التي تعبر عن وحدتها فهي تمثل الكنيسة، وتوجد من أجل الكنيسة، وهي تصير ذات معنى فقط في مضمون وجود الجماعة الحية للكنيسة خلال الأسرار والرعاية والشركة والشهادة. الكنيسة هي المجال الروحي الذي من أجله يعيش الأسقف ويعمل ويجاهد ويرعى ويسهر، وهي بدورها تسنده وتحوطه بتعاليمها وصلوات أعضائها.

  كذلك يربط القديس كبريانوس بين الأسقف والرعية (أعضاء جسد المسيح السري) تمامًا، فيقول في رسالته رقم (68): " الكنيسة بالأسقف والأسقف بالكنيسة" وأيضًا في رسالته (82): " الأسقف حينما يعترف بالإيمان، إنما ينطق بفم الشعب، بإلهام الله".

  الكنيسة عنده هي الأسقف والإكليروس والمؤمنين (رسالة 10) الذين هم ثابتين في الإيمان. ويصف الرعية بأنهم "الشعب المسيحي" و "الجنس الإلهي" الذي نال الميلاد الثاني بالمعمودية التي بها يصير الكل أولاد لله وإخوة. لذا أصَّر على الإنتخاب الشعبي للأسقف، فمن حق الشعب أن يختار راعيه ومن حقه أن يرفضه إذ أعتنق الهرطقة أو كان غير مستحق.

  يحض القديس كبريانوس أعضاء الكنيسة بالحفاظ على وحدتها، فالأسقفية واحدة، كل جزء منها يحفظه كل واحد من أجل الكل، والكنيسة أيضًا واحدة، وهي منتشرة بعيدًا ومتسعة في جموع كثيرة بسبب تزايد ثمارها، ويعرف القديس كبريانوس أمثلة توضح بشكل رائع وحدة الكنيسة، قائلاً: " كما أن هناك أشعة كثيرة للشمس لكن نور واحد، وكما أن هناك أغصان كثيرة للشجرة لكن قوة واحدة مؤسسة على جذرها القوي المتماسك، وكما أنه من النبع الواحد تنبع عدة جداول مائية ـ رغم أن الكثيرة تبدو منتشرة في إتساع غنى فائض وفير ـ إلا أن الوحدة محفوظة في الأصل والمصدر ...إفصل شعاع الشمس عن النور، تجد أن وحدة لا تسمح بتقسيم أو إنقسام النور، أكسر غصنًا من شجرة، تجده لا يستطيع أن ينبت براعم أو يزهر، إفصل جدول عن نبعه تجده جف.. هكذا أيضًا الكنيسة التي أشرق عليها نور الرب، تشع بأشعتها على العالم كله، ومع ذلك، هذا النور المنتشر في كل مكان هو نور واحد، فوحدة الجسد لا تنقسم ولا تنفصل"[2].

  وللقديس كبريانوس قول شهير: " فلا يمكن لذاك الذي ليست الكنيسة أمه أن يتخذ الله أبًا له"،  " ولو كان أي من الذين كانوا خارج فلك نوح قد إستطاع أن ينجو، لإستطاع ذاك الذي هو خارج الكنيسة أن ينجوا أيضًا".

  ويعرض لنا كبريانوس مثال رائع لوحدة الكنيسة والتي يراها في قميص المسيح: " إن سر الوحدة هذا، ورابطة السلام المتماسكة بلا إنفصال هذه، قدمه لنا الإنجيل في صورة قميص المسيح الذي لم يُقسم ولم يُقطع، فقد أخذه هؤلاء الذين ألقوا القرعة على ثياب الرب كقميص كامل غير مُقسم ولا منقسم، هؤلاء الذين كان يجب عليهم أن يلبسوا المسيح كله من فوق، فقال بعضهم لبعض لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون" (يو23:19ـ24). هذا القميص يحمل معه وحدة أتت من الرأس، أتت من السماء والآب، ويجب ألا يمزقها أبدًا من يأخذها ويستلمها، بل بعيدًا عن كل إنقسام، ننال كمالاً تامًا متماسكًا قويًا، وذاك الذي يُقسم كنيسة المسيح لا يستطيع أن يقتني قميص المسيح"[3].

 

 

 




[1]  بتصرف عن كتاب: القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد، إعداد القس أثناسيوس فهمي جورج، الطبعة الأولى 1999، ص14ـ49.
[2]  كتاب وحدة الكنيسة، ص73ـ74.
[3]  كتاب وحدة الكنيسة، ص75.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق