الجمعة، 9 مارس 2012

المعايشة العِمادية والافخارستية لسر الكنيسة


المعايشة العِمادية والافخارستية لسر الكنيسة


الاب المطران يوحنا زيزيولاس – ترجمة د جورج عوض





عن كتاب : الافخارستيا – أثينا ، اصدار إفرجيتيس 2006 ص64-73










1-      الولادة الثانية في المعمودية

2-      أبوة جديدة خارج الوجود البيولوجي

3-      الاتحاد السرائري لسر الافخارستيا والمعمودية

4-      الافخارستيا : الدخول في علاقة وليست الفردية

5-      أصل ونموذج للأخرويات

6-      بهاء الاجتماع الاخروي

7-      شفاء الآلام

8-      حياة التوبة


·         عندما نقول إن الكنيسة هي طريقة للوجود ماذا نعني ، ما تكوين هذة الطريقة ؟


·         الأمر الأول الذي أريد ان أنوه إليه أن الكنيسة هي أُم حيث تَلِد أولاد . الولادة وظهور هويات جديدة ، أشخاص جُدد هو هذا الذي يحدث كل مرة حيث بالمعمودية يصير المرء عضو للكنيسة . تُوجد أمور كثيرة يمكن أن يقولها المرء عن المعمودية المقدسة ، لكن تُوجد أمور محددة عادةَ لا نقولها ، مع أنها أساسية. المعمودية تستلزم موت وولادة ، موت الانسان العتيق وولادة للجديد . لكن ما هو هذا الانسان العتيق ؟ هل نحن نتحدث عن مسألة أخلاقية ، أي مجرد تغيير وتحسين لسلوك وتصرف الانسان ؟ ولو تغير سلوك وتصرف الانسان ، هل يصير بذلك إنسان جديد ؟ هل وُلٍدَ ولادة ثانية ؟ مرات كثيرة نتوقف هناك ، وهكذا يُؤّكد التأثير البروتستانتي على الاعتقاد الذي لدينا عن الحياة ومعايشة الايمان . لكن مسألة موت الانسان العتيق ليست مسألة أخلاقية ، بل وجودية ( أنطولوجية ) ، لأن ولادتنا البيولوجية ليست ببساطة تجعلنا نفعل الخطية ( كما يقول المرنم " بالخطية ولدتني أُمي " ) ، ليس ببساطة نحمل هذا الذي ندعوه الخطية الجدية ، لكن نحن نحمل وجود فاني ، صِرنا كائنات فانية . والحياة بالتالي التي تأتي من الولادة البيولوجية ، من نواميس الطبيعة والبيولوجيا ، تقود بلا مناص إلى الموت . بالتالي ، الانسان الجديد ، هذا الذي سوف يُولَد ، يجب ان يكون إنسان سوف يحيا أبدياً ، الذي ليس مجرد وجود فاني قد أعطته لنا الولادة البيولوجية . الكنيسة بالمعمودية تصير أُم تَلِد أبناء خالدين ( لا يموتون ) ، بينما الأم البيولوجية تَلِد أبناء فانيين .


·             هكذا في المعمودية لدينا ، كما كان في إمكان المرء ان يقول ، المعايشة الاولى للكنيسة . لو سألنا أنفسنا ، متى نحيا للمرة الاولى سر الكنيسة ، الاجابة هي : بالمعمودية . لأننا وقتذاك قطعنا كل رباطاتنا بالموت ، وحصلنا على الحياة التي لا تتقيد بنواميس البيولوجيا وبنواميس الموت . لأجل هذا في المعمودية لدينا رجوع جذري للإنسان ، لا يمكن ان نفسره أخلاقياً ، أي مثل تغيير السلوك ، طالما حتى لو غيَّر المرء سلوكه يظل إنسان مائت . لذلك أحياناً يمكن للمرء أن يجد خارج الكنيسة أُناس تمكنوا من إنجاز الفضيلة وتغير السلوك ، بل لم يفلحوا في التحرر من قيود الموت .                    بالتالي الإلتفات الذي يصير في المعمودية ، الإلتفات الذي رمزياً يتممه طقسياً المرشح للعماد أثناء صلاة الاستقسام ، حين نلتفت من إتجاه الغرب إلى إتجاه الشرق ، إنها إلتفاته من مملكة الظلمة والموت إلى مملكة النور والحياة .


·             هكذا ، المعمودية تعني أيضاً التحرر من الماضي الذي قَيد الانسان . حتى لو هو ما زال طفلاً وليس لديه مشاكل أخلاقية في السلوك ، مثل الأطفال ، المعمودية ، لأجل هذا ، هي ولادة جديدة ، لأن الولادة البيولوجية هي ولادة للموت ، تلك الولادة التي تحدثنا عنها سابقاً . لو أيضا المعمد هو كبير ، بعد المعمودية تُمحّى خطايا الماضي وهكذا يتحقق التغير الجذري تجاه هوية جديدة لا تستند على هذا الذي كان علية الانسان في الماضي بل على هذا الذي يريده الله بان نكون خالدون . هكذا ، في المعمودية نعايش هذه الالتفاتة أو التحول ، التحول من هذا الذي كُنا  عليه في الماضي إلى هذا الذي سنكون عليه في المستقبل .
        لكن المعمودية تحتوي على عنصر آخر . ليس مجرد الموت من جهة الماضي هو الذي يبطل بل  أيضاً القيامة في حياة جديدة ، التي تُعَّبر عن الحياة الجديدة ( وهنا هذا الامر هام جداً حيث مرات كثيرة نتجاهلها ) بإنضمامنا في جسد الكنيسة . لا توجد معمودية ، لا ينتج عنها أتوماتيكياً الانضمام في جسد الكنيسة . عندما كتب الرسول بولس أنه في المعمودية نموت مع المسيح ونقوم لكي ننضم في داخل جسد المسيح ، هذا يُتَرجم عملياً في إنضمامنا في جماعة الكنيسة ، الامر الذي يعني ان العلاقات التي تحدد وجودنا ليست العلاقات الوجودية أي التي أخذناها من ولادتنا الأولى بل العلاقات الإكليسيولوجية التي أعطتها لنا الكنيسة . دعونا نتذكر ما قيل مراراً في الأناجيل المقدسة كتحذير من الرب ، أبوكم ليس بعد هو أب العائلة بل هو " الذي في السماء " : " وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ " (مت 9:23) . كل هذا يخرج من خبرة المعمودية ، خبرة الأنضمام في علاقة جديدة ليس علاقة بيولوجية . من هناك يسقي المؤمن الآن كيانه ، وهويته الشخصيه .


·               دعونا هنا ننوه على ملاحظة لها طبيعة ليتورجية . بالنسبة لنا نحن الارثوذوكس، الأهمية الأساسية هي في اننا نُصِر على ان المعمودية والميرون والأفخارستيا يمثلون وحدة ليتورجية واحدة غير قابلة للأنفصال ، بينما في الغرب ( الكاثوليك والبروتستانت ) الثلاثة أسرار منفصلين ليتورجياً والزمن يتوسط بينهما مع المعايشة الفردية ( أي يجب ان يكبر الطفل لكي يفهم ما يصير له وبعدها يأتي ليمارس السر ). بالنسبة لنا لا تسري هذة المعايير. على النقيض ، يسري معيار بأن لدينا تغيير كياني وجودي، بأن الانسان يجب ان يدخل في علاقة جديدة مع العالم. لا يمكن ان يكون الانسان المعمد بعيداً عن حياة جماعة الكنيسة ، لأجل هذا ، المعمودية تعني في نفس الوقت أيضاً الانضمام إلى جماعة الكنيسة والشركة في الأفخارستيا. كون ان اليوم ، المعموديات تصير خارج الأفخارستيا أو أننا نعطي التناول من الافخارستيا فردياً وخارج الجماعة الكنسية ، فهو حل إجباري تقتضيه الظروف ، على الأقل يحفظ وحدة الثلاثة أسرار. عموماً ، الطريقة الصحيحة هي تتميم المعمودية في ليتورجيا الأفخارستيا   حتى يمكن مباشرةً للجماعة الكنسية قبول عضوها الجديد ، وهو يصير عضو الكنيسة.

المعايشة الافخارستية لسر الكنيسة


·           تُعاش الكنيسة كتذوق لملكوت الله ، أي كعلاقة أولئك الذين يعطون حياة وليس موت ، لأن الموت هو مغروس في داخل ولادة الانسان البيولوجية ، ليتنا لا ننسى هذا الأمر. على النقيض ، المغروس في داخل الولادة الجديدة للأنسان هو الحياة ، وهذا يُعطّى بالأفخارستيا، لأنه لايمكن للذي يُعايش الكنيسة كواقع عمادي ان لا يعيشها مباشرةً أيضاً كواقع إفخارستي . الأمر الهام ، في علاقة مع الخبرة الأفخارستية للكنيسة ، هو ان الانسان يأتي في علاقة مع الآخرين ومع العالم ، العلاقة التي مركزها المسيح.  العلاقة التي مركزها جسد ذاك الذي إنتصر على الموت ، وهذا الإنتصار ضد الموت الذي لدى المسيح القائم هو الذي تنبع منه الحياة لكل أعضاء الكنيسة . مركزية المسيح في الأفخارستيا هي التي تجعل هذة الخبرة ، التي يُعايشها المؤمن وبشكل عام الانسان ، تختلف عن أي خبرة أخرى. لا يوجد شييء آخر بشكل مطلق مركزه المسيح إلا الأفخارستيا . أي خبرة أخرى للمؤمن ليس لديها بهذا القدر من العلاقة المباشرة بالحضور الجسدي للمسيح القائم.


·         العنصر الآخر الهام هو علاقة الانسان بالله هي العلاقة التي تمر من خلال الآخرين. يمكن المرء بسهولة ان يُنشيء علاقة مع الله ، علاقة تُهمش الآخر. هذة حالة خطيرة والتي بسهولة تحدث خارج الخبرة الإفخارستية. لكن أيضاً في الخبرة الإفخارستية مرات كثيرة تسللت إليها التقوى الفردية ، ويرى المرء مرات كثيرة مؤمن يذهب إلى الأفخارستيا وينعزل عن بقية جسد الكنيسة ، لكي يُصلي - زيفاً – أفضل ، الأمر الذي كان يمكن ان يفعله في بيته . لا نذهب إلى ليتورجيا الأفخارستية لكي نُصلي كأفراد ، بل نذهب لكي نُصلي مع آخرين ، كجماعة شركة . إذن يجب أن يكون لدينا دائماً في ضميرنا ان المجاور لنا هو عضو لنفس الجسد وبواسطة العلاقة هذة مع هذا العضو نصنع شركة مع الله .


·         أيضاً ، الخبرة الإفخارستية لديها ملمح آخر :


·         هو الخبرة الإرارخية . تتمثل في وجود تنوع بالنسبة للقائمين على الخدمة الليتورجية ، كل واحد يُصّور الأخرويات ، أي ملكوت الله بطريقة مختلفة ، والتي لا تأخذها أي خدمه  ليتورجية أخرى . هذا التنوع في الخِدمات الليتورجية يجعل كل ليتورجية متميزة عن الأخرى في الكنيسة ، مثلما شرحها القديس بولس الرسول في الأصحاح الثاني عشر من الرسالة الأولى لأهل كورنثوس ( الأصحاح الذي هو إصحاح كنسي هام ) عندما تناول بالتحليل الكنيسة جسد المسيح . لقد قال إن الجسد يتكون من رأس ومن أيدي ومن أرجل ، وكل عضو من هذة الأعضاء له وظيفة لايمكن ان يتممها عضو آخر. لأجل هذا يجب على الأعضاء ان يعترف الواحد بأهمية الآخر وكذلك بخصوصية كل واحد .


·                الإنسان ، إذن ، يعيش الأُخرويات ، ملكوت الله في الإفخارستيا حيث يكون لديه صورة الأُخرويات هذة التي تُنشئها ليتورجيا الإفخارستيا ، هكذا الليتورجيا الارثوذوكسية هي أكثر من أي ليتورجية أخرى تُصور الأمور العتيدة ان تحدث ، تُصور ملكوت الله . هناك نحيا ونعايش ملكوت الله في ليتورجيا الإفخارستيا كأنه إعلان للحالة المستقبلية . لأجل هذا نحن الأرثوذوكس نعيش الكنيسة بطرق - مرات كثيرة -  تُعثِر غير الأرثوذوكس . على سبيل المثال ، لدى الكنيسة وليتورجية الافخارستية بهاء خاص : نور شديد ، ملابس مزينة ، تسابيح رائعة ، أيقونات جميلة ، ألوان رائعة . كل هذا يرمي إلى هدف واحد : إلى تصوير ملكوت الله لنا ولكي يجعلوننا ان نُصلي له . بالتالي ، نفعل خطأ كبير ، عندما لأجل أسباب كثيرة ( مرات كثيرة الفهم الخاطيء للتواضع والبساطة المزيفة ) نُبَسط  الأمور ونحرم هكذا الأفخارستيا من البهاء الذي تعطيه الكنيسة لليتورجيا  عبر الأزمنة . إذن ونحن نعيش الإفخارستية كإجتماع مركزه المسيح وكإيقونة ملكوت الله ، إجتماع الكل حول شخص المسيح ، يكتسب المؤمن الارثوذوكسي إحترام خاص وتقوى ووقار تجاه القائمين على الليتورجيا في الكنيسة ، تجاه أولئك الذين يُصورون الأخرويات  ، وبالحري تجاه هؤلاء الذين يُصورون شخص المسيح كما يكون الأسقف الذي هو في الأساس المترأس للإجتماع الإفخارستي. أعتقد أن تقليد شعبنا في ان يعطي احترام وتقدير وتقوى خاصة للقائمين على الليتورجيا في الكنيسة ، للأسقف وللكهنة وللخدام الشمامسة هو جزء أساسي للذي نقول عنه : " معايشة سر الكنيسة " . إنه شييء يجب أن نُعلمه للأولاد ولكل أعضاء الكنيسة كعنصر أساسي لإيماننا .


نتائج


أريد بإيجاز ان أذكر بعض الطرق المحدده التي نعيش بها نحن الأرثوذوكس سر الكنيسة :


1-      يبدو مِن كل ما قلناه ان الكنيسة تُعاش بواسطة الأسرار، خاصةً في المعمودية وفي الإفخارستيا . الأسرار الأخرى تمثل إتساعات وإمتدادات للإفخارستية ، وليتورجياً بالفعل في الكنيسة الأولى كانوا متحدين بالإفخارستية .


2-      الكنيسة تُعاش ، كمكان للتطهير من الشهوات ، والتي جذورها  في الأنانية وفي الضلال بأن الحياة الحقيقية هي الحياة البيولوجية وما يترتب عليها . كل هذة الشهوات لديها ما يميزها. إذن في الكنيسة يُشفى الإنسان من الشهوات بطريقة إيجابية، ليس ببساطة بالتحرر من هذة الشهوات ، لكن بإستبدال هذة الشهوات بمعايشات المحبة ، بما يسمية القديس مكسيموس المعترف " علاقة محبة " . والكنيسة هي في التحليل الأخير طريقة للوجود ، لأنها بالضبط هي سر المحبة ، السر الذي نعيشه إيجابياً  : حريتنا من الشهوات .


3-       معايشة سر الكنيسة ، بينما  في الأساس تحتل مكاناً في الأسرار، تمتد أيضاً  أبعد من الأسرار ، في حياة المؤمن خارج الأسرار ، في علاقاته مع الآخرين ، في علاقته مع العالم المادي. لأن الأسرار ، كما قُلنا تُعطينا صورة أو أيقونة لملكوت الله ، ننقل هذة الأيقونة ونجعلها معيار دائم لحياتنا. كل عمل ، كل قرار ، كل فعل لحياتنا تُقارن بأيقونة الأمور العتيدة المستقبلية ، بأيقونة ملكوت الله ، وتنشأ بهذة الطريقة دائماً ، الوعي بعدم كفايتنا ان نطابق هذة الأيقونة التي تعطيها الأسرار بواقع حياتنا اليومية . هذا الوعي يُنشيء حياة التوبة . والتوبة هي  بالضبط  التي  تحفظنا  دائماً في علاقة صحيحة مع الكنيسة . لأن الكنيسة تتكون من الخطاة ، من غير التائبين لكن من الصعب ان يدرك المرء  هذا الأمر. هكذا ، هذة المقارنة تقودنا إلى التوبة الحقيقية وإلى التواضع ، وبهذة الطريقة يُعاش سر الكنيسة ، كسر التوبة ، سر التوبة للصُرحاء . لأننا ندرك اننا كلنا بدرجات متفاوته  نفلح في ان نطابق الأيقونة وخبرة الأسرار بحياتنا اليومية ، وبالتالي لا ندين الآخرين ، بل نتوب ونحب بالتواضع . كل هذا يجب ان نراه ، ليس كأوامر ، بالرغم من أنها أوامر، بل بالأخص كنتائج للخبرة التي نمر بها في أسرار الكنيسة . أسرار الكنيسة تُظهِر الحدث الأخروي والكامل ، وهكذا تعطي معيار به سوف نُقيم حياتنا اليومية . هكذا ، الكنيسة تُعاش كل لحظة كتحرر من الكذب، والضلال ، والخداع ، والأنانية ، والفردية وأخيراً الفساد والموت . وهذا يستلزم جهاد دائم ، ويقظة دائمة للمؤمن . هذة بعض الأفكار المتعلقة بالطريقة التي بها يُعاش سر الكنيسة . معايشة سر الكنيسة هو بالضبط  موضوع  كبير مثل كل المواضيع  التي  من نفس النوع  تستلزم خبرة  لكي يتمكن المرء من  إدراك الصواب. لكن أعتقد ان الخبرة التي نُؤّسس عليها ، عندما نعلم كل مؤمن في الكنيسة ، هي التي يعرفها كل المؤمنين من الخبرة السرائرية .  أنا لا أقول ان الكل يعرفون تقريباً عن ماذا نتحدث ، حين نتحدث عن هذة الأمور . كما قال القديس نقولاوس كاباسلاس ، الكنيسة هي الكنيسة بواسطة الأسرار ( تفسير الليتورجيا الإلهية ، مقالة 6:38)


·         الأسرار ، بالتالي ، هي الطريقة الفُضلى لكي نُعايش سر الكنيسة ، ليس فقط أثناء تتميم الأسرار بل أيضاً خارجها، في حياتنا اليومية .