الأربعاء، 29 سبتمبر 2010


التوبة

د.جورج عوض ابراهيم

إن مصطلح التوبة باليونانية : μετανοια، يتكون من : νοηση + μετα أى تغيير الذهن أو تغيير طريقة التفكير، وتحتوى التوبة على مفهوم الرجوع επιστροφη» أى العودة إلى الله. والإنسان يميل دائمًا نحو الله، يشتاق إلى التحرر والفداء من الشر، لكن هذه العودة هي نتيجة الشعور بالذنب. وهذا ما يمثل مدينتي الحياة للقديس أغسطينوس: حياة مملوءة صراع أو جهاد نتيجة الرهبة التي يشعر بها الإنسان تجاه الله بسبب ذنبه. والثانية شوق الإنسان إلى الحرية وذلك بالقرب من الله. ولقد احتل "الرجوع" مكانة هامة في تعليم أغسطينوس، وهو نتيجة لشعور الإنسان بأنه خاطئ، وهذا الشعور، كما يؤكد على ذلك مار اسحق السرياني، هو أسمى من إمكانية أن يقيم أحد بصلاته الأموات ، وقد أشار إلى هذه الحقيقة مبكرًا العلامة أوريجينوس الذي أكد على أن معجزة التغيير الجذرى للإنسان بالتوبة هي أهم معجزات المسيح .
اكتشاف الذات والرجوع إلى الله هو ما فعله الابن الضال في المثل الذي سرده يسوع المسيح، فعلينا أن نرى محتوى هذا المثل الذي يُعتبر "إنجيل الإنجيل". فالمسيرة الروحية للإنسان تدخل ـ بحسب المثل ـ في مراحل ثلاث: مرحلة الخطيئة، مرحلة التوبة، ومرحلة الخلاص. وهذه المسيرة تمثل تفسير لمفهوم الذنب والرجوع:

المرحلة الأولى: الخطية (خوف ـ قلق ـ يأس).
+ قبلما ينتهى الابن الضال إلى " الضلال " كان لديه كل شئ. ولكن شيئًا لم يكن ـ في النهاية ـ قادرًأ على أن يمسك به بالقرب من أبيه. هكذا يومًأ ما، طلب نصيبه من الميراث وترك بيته " سافر إلى كورة بعيدة ". ذهب مثل طير مهاجر، راحلاً مثل كثيرون من الشباب ـ اليوم ـ ينشدون حياة أخرى. هكذا رحل الابن الضال باحثًا عن حياة أخرى وبلد بعيد، قانعًا بأن هذه الحياة لا يمكن أن تُوجد في موطنه وفي بيته.
لكن ما الذي جعله يترك البيت الذى وُلد فيه، حيث هناك الراحة والهناء؟!!
لقد اعتقد هذا الابن أنه في حاجة للتحرر من أبيه، ليكتسب حرية مطلقة حتى ينال ما يريده. وفور حصوله على الحرية، أطلق لجناحيه العنان وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان. وأخيرًا استقر في واحدة من الكورة البعيدة. وبدأ حياة ضالة مليئة باللذات والشهوات.
+ في الكورة البعيدة التى رحل إليها الابن الأصغر " بذر ما له بعيش مسرف"، وصرف كل ما له ولم يكن لديه شيئًا، " حدث جوع عظيم في تلك الكورة ". وبدأ يُحرم من كل شئ حتى الحد الأدنى الذي يمكن أن يحتاجه. لقد امتلأت نفسه بالخوف من تهديد الجوع وبالطبع من الموت الذي يمكن أن يسببه الحرمان من الأكل. لقد كان الخوف من المجهول: ما الذي ينتظره؟ أجبره أن يطلب سند أو معونة لكي يبقى على قيد الحياة. الخطر من أن يموت من الجوع جعله يلجأ إلى واحد من أهل الكورة الذي أرسله إلى حقول ليرعى الخنازير. لكن المكافأة كانت عديمة النفع، غير كافية تقريبًا، لم تكفيه لقطعه من الخبز. لذا تمنى أن يملأ بطنه من الخرنوب التى كانت الخنازير تأكله: " فلم يعطه أحد شيئًا " كما ذكر لوقا. لقد انتابه شعور بعدم الأمان وهو يرى كيف أنه لا يمكن أن يأمل في مساعدة، عدم الأمان جعله يشعر بقلق عظيم، قلق حقيقي.
هكذا مع الخوف شعر الآن بالقلق الذي خلقه في نفسه ـ ليس فقط تهديد الجوع، ولكن لأي شئ ممكن أن يحدث له، لأي تهديد غير منظور. على عكس الخوف من شئ معين، فموضوع القلق هو غير محدد. إنه العدم. حالة تجعله يشكك في كل شئ، صارت كل قيمة في الحياة صفر (عدم)، الحياة نفسها بمتعها صارت عدم، تلك الحياة التي جعلها فقط هدف له. لقد رأى كم زائلة هذه المُتع التي وضع كل آماله فوقها واستولى عليه اليأس. وتحققه من نهايته المأساوية قد ولّد في داخله اليأس. فكر وتأمل، الخدم عند أبيه الذين كان لديهم خبز أكثر وقارنهم بنفسه التى كانت تحتضر من الموت جوعًا. بدأ وهو في يأسه العظيم، يضرب رأسه بيديه لطيشه وعدم تبصره في أن يترك الخير الكثير ويذهب إلى هذا المكان البعيد بين الخنازير منتظرًا الموت. لقد فكر بطريقة مختلفة، لأنه شعر بخجل وندم على حياته السابقة. لكن الندم والخجل هذا لم يتقدم بعد إلى مرحلة التوبة.

المرحلة الثانية: التوبة (إحساس ـ اختيار أو إقرار ـ اعتراف).
+ شعر الابن الضال ـ وهو يتأمل حالته الوضيعة ـ بضرورة أن يقف وقفة صريحة مع نفسه، كأنه كشف داخله طير ساكن وفجأة فتح جناحيه لكي يطير عاليًا: هذا ما يقوله المثل " رجع إلى نفسه " أي وجد ذاته. إحساس الذنب بأنه خاطئ كان الخطوة الأولى لتصحيح الأمر، لرجوعه إلى الحياة الجديدة.
كم مختلف كثيرًا شعور الابن الضال عن الحالة النفسية التي شعر بها الفريسي في مثل "الفريسي والعشار". مثل ممثل استخدم القناع المستخدم في المسرح القديم، وحامل القناع يريد أن يخفي شكله الحقيقي، هكذا الفريسي حمل قناعه الخاص، وصعد إلى الهيكل لكي يصلي كأنه يصعد إلى خشبة المسرح لكي يلعب دورًا ما. لقد وقف متكبرًا وأناني أمام الله يُدين العشار لأنه خاطئ، بينما الخاطئ الحقيقي كان هو نفسه.
يصف الإنجيل منظر وقوف الفريسي للصلاة هكذا: " أما الفريسي فوقف يصلى فى نفسه هكذا: اللهم أشكرك إنى لست مثل باقي الناس الخاطئين الظالمين الزناة ولا هذا العشار ... " (لو9:18ـ14). ومعنى عبارة " فوقف يصلي في نفسه " هى " وقف تجاه ذاته ليصلى " أو " وقف أمام ذاته وصلى". بالتالى لم يقف أمام الله لكن أمام ذاته التى قام بتأليهها بتعظيم الأنا. جعلها الله، لذا فقوله: " اللهم أشكرك " ليست موجهة إلى الله بل إلى ذاته التى أخذ يشكرها ويمدحها لأنها بلا خطية، حتى أنه ميّزها عن الآخرين الذين هم خطاة في رأيه.
+ إن موقف العشار المتواضع كان مضاد تمامًا للموقف المتكبر الذي أخذه الفريسي، فالعشار وقف من بعيد ولم يتجرأ لأن يرفع عينه نحو السماء. لقد قرع على صدره وقال: " اللهم ارحمنى أنا الخاطئ ". إنها مثل عبارة الابن الضال " رجع إلى نفسه " والتى تختلف اختلافًا جذريًا عن عبارة الفريسي " وقف يصلي أمام ذاته ". لقد ضرب الابن الضال رأسه بدون أن يقصد كسرها وذلك بسبب طيشه. لقد استولى عليه الإحباط واليأس، ولكن ليس كل يأس يقود إلى الدمار. فاليأس عندما لا يكون تدميري، فهو فعل خير. فأحيانًا يقود اليأس إلى الضياع والهلاك وأحيانًا إلى الخلاص والفداء. فالإنسان اليائس ليس له اختيار آخر بخلاف هذا: إمّا الانتظار في اليأس وينقاد إلى الدمار الكامل، أو الإحساس والشعور بوضاعته، الأمر الذي يقود لاتخاذ قرار التغيير واختيار حياة جديدة.
هكذا في حالة الابن الضال، بعد الإحساس بالذنب لأجل خطاياه، كان أمامه إمّا أن ينتظر في حالته هذه، حيث خطر الموت من الجوع يهدده، أو تفضيل حالة أخرى هي حالة الخدم عند أبيه: " كم من أجير عند أبي يفضل عنه الخبز وأنا هنا أهلك جوعًا". وأخيرًا أخذ قرار الرجوع إلى أبيه: " أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: أخطأت يا أبتاه في السماء وقدامك ولست مستحقًا أن أُدعى لك ابنًا بل اجعلنى كأحد أجرائك ".
والأب من وقت رحيل ابنه يصعد يوميًا فوق تل متلهفًا لرؤياه، ربما يرجع، إنه يراه الآن بعد هذه السنين العديدة، أسرع بالقرب منه وهو مملوء بالرحمة والرأفة، أخذه في حضنه وأمطره بالقبلات.
والابن وهو نادم على عصيانه، يركع أمام أبيه بتواضع قائلاً: " أخطأت يا أبتاه في السماء وقدامك ولا استحق أن أُدعى لك ابنًا". التكرار هنا أمام أبيه للاعتراف الذي حدث عندما " رجع إلى نفسه " وبنفس الكلمات هو إشارة أولى للاعتراف كسر مقدس.
المرحلة الثالثة: الخلاص: (الصلاة ـ الليتورجية الإلهية ـ الفداء):
+ إن التوبة التى وصلت إلى قمتها بالاعتراف هي الرجوع إلى الله، وإصلاح العلاقة بشركة الصلاة. هكذا عندما نفكر كيف أن الأب في مثل الابن الضال ليس هو فقط رمزًا للأب الروحى وأمامه يصير الاعتراف، لكن هو أيضًا الله نفسه، عندئذ نستطيع أن نفهم كيف أن اعتراف الابن الضال هو في نفس الوقت صلاة نحو الله، حوار بين الأنا والأنت. إنها الصلاة الفردية والتى قبل أن يعبر عنها، كان هناك فحص للنفس ونقد للذات. وكما قلنا إن فحص النفس والشعور بالذنب ـ فى حالة الابن الضال ـ قادته إلى التوبة، والرجوع إلى الله ومحاولة الاتصال به مرة ثانية بالصلاة.
بعد الصلاة الفردية للأنا نحو الأنت (الله) يتبعه الصلاة الجماعية، العبادة العامة باشتراك "نحن". هذه الصلاة الإفخارستية، العشاء الإفخارستي الذي قدمه الأب إلى الأصدقاء والجيران للاحتفال برجوع ابنه المحبوب بالموسيقي والرقص، ذابحًا "العجل المُسمن" لكي يأكل الجميع ويبتهجون. إنه عشاء العُرس الذي أعده الأب إلى الابن الضال بعد عودته، لذلك أعطى أوامره للخدم بأن يُلبسوه خاتم في أصبعه وحُلة جديدة.
+ هذا العشاء هو رمز لليتورجيا الإلهية التى تحتل مكانة مركزية في العبادة الجماعية، حيث الإفخارستيا تمثل مركز العبادة ونواتها. إن "العجل المُسمن" في المثل يرمز إلى سر كنيستنا، ذبيحة الصليب، الذبيحة الكفارية لابن الله، الجسد المقدس والدم الكريم ليسوع المسيح، الذي قدم الفداء إلى كل ضال، والمشاركة في العشاء هو مشاركة في الشركة الإلهية " كدواء الخلود " التى ترمز إلى القيامة الروحية من موت الخطية. إنه حدث علينا أن نفرح به كلنا، كما قال الأب إلى الابن الأكبر: " كان ينبغى أن نفرح ونُسرّ لأن أخالك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فُوجد". هذا الفرح والابتهاج قد شعر به بالأكثر الابن الضال برجوعه إلى المسكن الأبوي، والذى هو فى نفس الوقت، الرجوع إلى الحياة.
هكذا بعد رجوع الابن الضال من " الكورة البعيدة " اكتملت المسيرة النفسية بهذه المرحلة الثالثة والتى كانت مثل الأولى والثانية تتميز بثلاث محطات: الصلاة والعبادة الإلهية والتكفير أو الفداء. هذا الفداء يتدفق من ذبيحة الصليب كإعلان لمحبة الله: " هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد... ". المحبة هى قمة مسيرة الابن الضال الذى بدأ بالخوف من الموت جوعًا إلى عشاء المحبة، " فالمحبة تطرح الخوف خارجًا".

طرق التوبة بحسب تعليم القديس يوحنا ذهبي الفم:
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم إن " طرق التوبة هى كثيرة" لكي يصير خلاصنا سهلاً، لأنه لو حدد الله طريق واحد فقط للتوبة، سنقول: " لا نستطيع أن نسلك فيه، لا نستطيع بالتالى أن نخلص". لكن الله، طرح عنا هذه الحجة، وأعطانا طرق كثيرة للتوبة : الطريق الأول هو الاعتراف بخطايانا. احكم أنت على ذاتك والرب يخلصك من ثقل الخطية. يقول ذهبى الفم: " اعترف بالخطية تُمحى الخطية" .
الطريق الثانى للتوبة هو الحزن على خطايانا: " أخطأت؟ أحزن وامحى الخطية " .
الطريق الثالث للتوبة هو الوداعة: " اظهر وداعة وامحى الخطايا " .
الطريق الرابع: الصدقة: " ملكة الفضائل التى تصعد البشر مباشرة إلى علو السموات ... أعطى الفقير" .
الطريق الخامس: الصلاة: " فلنصل كل ساعة ولا تكن مصليًا بنفسٍ خائفة، ولا تطلب محبة الله بلا مبالاة، وتكون متيقن بأنه سوف لا تمقت صبرك لكن سوف يغفر لك خطاياك " .
الطريق السادس: الدموع: يعتبرها ذهبى الفم " سهل جدًا .. تعب صغير يريد منك، وذاك يعطيك الأمور الأعظم. دافع يريده منك، لكى يعطيك كنز الخلاص. اسكب دموع ويعطيك المسيح غفران " .


الاثنين، 27 سبتمبر 2010


العبادة والنُسك والروحانية
د. جورج عوض إبراهيم
مقدمة:
هدف الكنيسة هو خلاص وتقديس الإنسان وكل الخليقة، فالخلاص فى المسيح هو إعادة الإنسان إلى طريق الكمال والخلود بقوة الروح القدس. هذه المسيرة تتحقق بانضمام كل الوجود الإنسانى إلى جسد المسيح أى يصير الوجود الإنسانى كنيسة فى المسيح، ويصير الحق فى داخل الإنسان. وعندئذٍ يمكن له أن يعرف الله ويتحد معه ويتقدس.
إن إحدى وسائل الوجود فى جسد المسيح هو النُسك، فهذا ما أكده الرب نفسه قائلاً " ملكوت الله يُغصب والغاصبون يختطفونه" (مت12:11). والقديس بولس يقول " أقمع جسدى واستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسى مرفوضًا" (1كو27:9).
النُسك هو أساس تكوين الحياة فى المسيح يسوع ويمثل الطريق الدائم للتوبة، والذى يجعل الإنسان مهيئًا لقبول النعمة الإلهية. وطالما أن هدف الإنسان هو نوال الروح القدس (يو22:20) فمن الضرورى أن ينفتح الإنسان على النعمة الإلهية. بالنُسك تُمات الطبيعة الجامحة لكى تستعيد نقاوتها الأولى. النُسك، كجهاد الإنسان هو عند الكنيسة منهج للمعرفة اللاهوتية. إن المحاولة النُسكية التى يقوم بها المؤمن ليست لها ملمح أخلاقى، فهى لا ترمى فقط لتحسين صفات الإنسان، لكن تهدف إلى شركة شخصية " إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة. وكنيسة أبكار.." (عب22:12ـ23). النُسك اشتراك فى طاعة المسيح والقديسين لكى تمتثل الإرادة القردية وتتطابق مع إرادة الله " فليكن فيكم هذا الفكر الذى فى المسيح يسوع أيضًا" (فى5:2).
بظهور النُظم النُسكية من القرن الرابع ارتبطت العبادة بالنُسك، فالسجود أثناء العبادة يعبر عن مدى الانسحاق وطاعة الله. العبادة صار لها ملمح نُسكى كتوبة دائمة. إن كل يوم لدى الكنيسة هو احتفال وعيد لأن تذكارات القديسين تؤكد على نصرة المسيح على العالم (يو33:16). النُسك يدفع المؤمنين للاشتراك فى الاحتفال الروحى المستمر للكنيسة، إذ يجعل الإنسان مستعدًا للاشتراك فى "الخليقة الجديدة" (2كو7:5)، وهذا يتحقق فى عبادة الكنيسة. النُسك هو طريق العودة إلى الحياة بحسب الطبيعة والشرط الأساسى لمسيرة الصعود للحياة "فوق الطبيعة" التى تتجاوز وتتخطى الحياة التى تسيطر عليها المادية. النُسك يهدف إلى الصلاة بلا انقطاع والوداعة وضبط النفس بالصيام والعبادة المستمرة لكى تصير الحياة " ذبيحة حية مرضية عند الله" (رو1:12). بالنُسك تجد حياة الإنسان مرة أخرى جمالها وأصالتها الأولى.
من جهة أخرى فإن النُسك بواسطة العبادة الكنسية لا يبقى عملاً فرديًا بل بواسطة الإفخارستيا يصير ضمن جسد المسيح، والحدث الفردى يصير حدثًا كنسيًا جماعيًا. ولأن العبادة تهتم بكل حياة الإنسان وتمسحها بالروح القدس، فالنُسك يمنح الإنسان الإمكانية لتحقيق هذا الهدف. فالقلب النقى هو الهدف من النُسك المسيحي " قلبًا نقيًا أخلق فىَّ يا الله.." (مز12:50)، أنقياء القلب هم الذين يعاينون الله (مت18:5). العبادة تقود إلى القداسة بشرط وجود نقاوة القلب والحواس. إذا كانت العبادة هى الدخول إلى الملكوت السماوى فالنُسك هو الطريق إلى الملكوت. العبادة تنقى وتكشف لنا هدف وجودنا، أما النُسك فوسيلة تساعدنا لتحقيق هذا الهدف. لأنه بالنُسك تتغير حياة الإنسان إلى عبادة الله "بالحق" (يو22:4)، إذ أن المسيحي الناسك يتحول إلى " هيكل الله ".

أ ـ النُسك والروحانية :
إن الحياة الداخلية الصادقة ليست حالة سلبية نفسية، لكنها تقدم روحى مستمر وجهاد من أجل اكتساب الفضائل. فالنسك يمثل المحتوى الاختبارى للروحانية الأرثوذكسية. إن روح النسك يصير هيكلاً لمنظومة هذه الروحانية، إذ يحفظها في حالة يقظة وانتظار دائم، ويحركها لتتقدم وتنمو باستمرار، ويجعل النفس تتجاوب مع الوعود والوصايا الإنجيلية. بالتالى فإن الروحانية الأرثوذكسية هى الخبرة النسكية للكنيسة، والتى هى الطريق الذي يقود مباشرةً إلى التذوق الشخصى لثمار عمل الخلاص.
وكون الروحانية الأرثوذكسية هى نسكية، لا يعنى أن لها علاقة بفكر أخلاقى أو سفسطائى لكن لها علاقة بالجهاد الدائم لتجاوز الذات لكى نكتسب فضائل المسيح. وهذا الجهاد سيكون ناقصًا ولا يحقق هدفه إذا تم بدون صحبة الروح القدس الإلهية، والتي تعتبر كمال الوجود البشرى وملؤه. فالاتحاد بالله الذي هو هدف النسك لا يتم إلاّ بعمل الروح القدس في النفس. لذا يؤكد القديس مقاريوس على أنه بدون المعونة الإلهية لا يمكن للنفس البشرية أن تتعرف على جمال ملء الفضائل وعلى الروحانية الواجبة للتقديس. فالطبيعة البشرية لا تستطيع بمفردها أن تُثمر ثمار الفضائل، فهى تحتاج كما يقول القديس مقاريوس إلى " الزارع الروحى لنفوسنا، أى إلى روح المسيح"
[1].
الحياة المسيحية تعطى للإنسان الإمكانية ـ بالنسك الروحى ونعمة الأسرار ـ أن يحقق ذاته وحياته في المسيح، إذ ينمو الإنسان في الروح القدس بحسب صورة الله " إلى قياس قامة ملء المسيح (أف13:4)، إلى أن يتصور المسيح فيه (غلا19:4)
بواسطة سر العماد تُعطى للإنسان المقدرة الكيانية ليشترك في الخليقة الجديدة، ليدخل في مسيرة التغيير والكمال في المسيح. لكن الإنسان المدعو بكل حرية أن يكمل ويحقق ذاته في المسيح وفي كنيسته، يجد نفسه بعد العماد في مواجهة ضعفاته الشخصية والتجارب الشيطانية. هنا الجهاد والنسك داخل النعم الإلهية في الكنيسة يهدف إلى حفظ صورة المسيح فينا والتي بدأت فينا بالعماد وزُينت بالمسحة المقدسة ويكمن فيها منذ الآن الكمال الأخروى.
إن المسيحية كعقيدة وسلوك أخلاقى هى مرحلة تدريب نسكى دائم. إنها الدعوة إلى نسك الحياة الجديدة في المسيح، والتي يُعبر عنها بحفظ وصايا الله. الكلام هنا ليس على قوانين ومبادئ أخلاقية تُفرض على الإنسان لكى يفعلها، لكن على حفظ وصايا الله من جانب الإنسان الجديد وتدريب مستمر لاكتساب الفضائل بمعونة روح الله. فالنسك المسيحى لا يُفهم على أنه نظام مستقل لنمو القدرات البشرية، لكن هو محاولة تغيير ونمو لكل الإنسان، بحسب قياس العطية التي يمنحها الله بالروح القدس للإنسان. إنه مسيرة طويلة، يصير فيها الإنسان مشاركًا للنعمة الإلهية ويتغير ويتحرر من أنانيته. لذا فالنسك يُحدد بالضبط مدى حجم مشاركة الإنسان في الحياة الجديدة في المسيح، في حياة الكنيسة جسد المسيح، حيث يعمل الروح القدس ليحقق فينا سر المسيح. فالنسك كما يقول مار اسحق السريانى " أصل القداسة ومنه يوُلد التذوق الأول لأسرار المسيح "
[2].
إن شمولية النسك ـ أى اهتمامه بكل جوانب الإنسان ـ تمنع أى تطابق مع علم الأخلاق أو علم الفضائل. فالنسك، كما حُدد من خبرة الكنيسة، ليس هو نظام للفضائل أو فلسفة أخلاقية. النسك هو التغيير الكامل للإنسان بواسطة النعمة الإلهية. إنه مسيرة رجوع الإنسان إلى وحدته وكرامته كشخص، إلى قيمة وكمال الحرية الإنسانية في سر ناموس المحبة الجامعة، يصير كل هذا بفاعلية من جانب الإنسان وليس بسطوة المبادئ الأخلاقية، ولا بالأوامر القاطعة التي تقود إلى النفاق، وإلى عبودية الواجب وفقر الأخلاق الفردية.
إن أى نظام أخلاقى يستحيل عليه أن يحل مأساة وعزلة الإنسان، وأن يُعطى إجابة شافية لمتطلبات الإنسان الشخصية والأخروية. فالإنسان يستطيع أن يجد ذاته داخل عالم الله مرة ثانية بالنسك، أن يرجع إلى تطلعه الطبيعى والكيانى في علاقته مع الله. لا يمكن للإنسان أن ينحصر في الامتثال لقوانين أخلاقية خارجية، ويخضع بذلك لتشريع أخلاقى إجبارى. إن الجهاد النسكى يكون له معنى فقط عندما ترافقه النعمة الإلهية المغيّرة والمحيية، ويُفهم على أنه من ثمار المواهب الإلهية. إنه الامتثال إلى الأصل أى إلى الثالوث. إن النسك هو حدث شخصى عميق، إنه الجهاد ضد القوات الشيطانية لأجل تطبيق وحفظ وصايا الله. إنه شهادة القدرة الإنسانية التي تتحرك بحضور الله محب البشر فيها
[3].
إن النسك كحدث شخصى له ملمح كنسى، فإن مقياسه أو معايره ليست النية الفردية أو قرار الإنسان، لكن بالحرى إرادة الله ونعمته كما عُبر عنها في الخبرة الروحية للكنيسة. فالمؤمن عندما يمارس النسك يمارسه كعضو في الكنيسة ويعمل كإنسان كامل، إنسان له وعى وضمير فردى وقد أخلص للوعى والضمير الجامع والشامل للكنيسة، وكل ما يعمله هذا الإنسان له علاقة دائمة مع حياة أعضائها. لذا علينا أن نشارك أو نشترك مع الحياة النسكية العامة للكنيسة، نرتبط بشدة معها ونصير شهود لحياة المحبة، للحياة مع الآخرين ولأجل الآخرين. فحياة الكنيسة هى حياة المحبة والتي فيها يتم التجاوز المستمر للفردية والأنانية. إنها خلاص بالآخرين ولأجل الآخرين. هذا ما ندعوه الضمير والوعى الكنسى والتدبير السلوكى الكنسى، والذي يختلف جذريًا عن التحديد القانونى الصارم أو ما يُسمى بالحكم الإلهى. إنها طريقة تفكير وحياة، إنها شهادة وذبيحة الكائن البشرى الكنسى التي تحتضن الكل.
إذن النسك هو الفضيلة الكنسية والعمل الكنسى، ليس له علاقة بالمحاولة الفردية التي تهدف إلى التسلط الذاتى وتحسين الملمح الإنسانى. فالنسك لا يعنى فرض الرغبة والمهارة الفردية، ليس هو مجرد تدين شكلى ونظام للقيم الأخلاقية مكتفى بذاته. فالنسك الأرثوذكسى لا يتغرب عن القداسة الإنجيلية وفخر الصليب. فالتدين الشكلى يمكنه أن ينمو منفصلاً عن الكنيسة والإنجيل. أما النسك فهو المشاركة الشخصية في نعمة الكنيسة، إنه الشركة الاختبارية لحياة الكنيسة، هو الطاعة للإرادة الجامعة مثلما حُفظت في التقليد الكنسى وصيغت في القوانين النسكية، ومثلما أُكملت في نعمة الحياة السرائرية للكنيسة
[4].

ب ـ قوة فاعلية النسك:
إن النسك بأشكاله وقوانينه المتنوعة هو مصاحب لحياة الكنيسة ومرتبط بظروفها. فالنسك والحياة لهما وجود مشترك، وبينهما علاقة ديناميكية، يتسع الواحد للآخر ويكمل الواحد الآخر. فالحياة في عمق معناها هى نسك، والنسك في صورته الفعّالة هو حياة. لو فصلنا الحياة عن النسك عندئذٍ تسقط الحياة في ظاهرة بيولوجية تمامًا أو غريزية أو تظل ظاهرة ساكنة. ولو فصلنا النسك عن الحياة، عندئذٍ ينتهى النسك إلى قانون سادى، ونموذج خارجى ميت. فالنسك المسيحى لا يرفض الحياة، لكن يغيرها ويكملها في النعمة. النسك هو المبدأ والقوة التى تغيير كل الواقع الإنسانى والحياة التاريخية. بالنسك نكتسب في نفوسنا رفض الإرادة الفردية، ونذوق نعمة الحرية والوداعة والمحبة والصلاة. إننا بالنسك نختبر التوبة التي هى الطريق الوحيد إلى الله. فبينما نؤكد على أن مفهوم النسك وهدفه ثابت، فإنه يوجد تنوع غير محدود لحياة النسك. فمنهج وطريقة النسك يمكن أن تختلف بالنسبة لكل إنسان ولكل عصر. التنوع هو في التعبير والشكل، لأنه يوجد تقييم مختلف يتعلق بنظريته وعمله، والتي نتعرف عليها عند النساك أنفسهم وبين الرهبان وأيضًا بين المؤمنين من الشعب. النسك، في الظروف البشرية والتاريخية والعالمية يمكن أن يكون له أشكال متنوعة، لكنه لا يفقد أبدًا هدفه الثابت والوحيد، وهو الشركة والاتحاد مع الله، والذي هو الهدف النهائى للبشرية. الأمر القاطع يظل هو الرجوع إلى الله والاتحاد به، لأن هذا هو الذى يحقق القداسة والكمال ليس فقط للتاريخ والحياة البشرية بل لكل الواقع العالمى والمادى.
إن النسك كما يؤكد بول أفدوكيموف P.Evdokimov ، ليس هو إلاّ منهج في خدمة الحياة ويجب أن يحقق الاحتياجات الجديدة للإنسان المعاصر. فالإنسان اليوم في حاجة لأن يتحرر من كل ما يسبب له اضطراب وانزعاج مثل: السرعة والضوضاء والإدمان حتى يمتثل للهدوء والصمت بطريقة منظمة ولفترات طويلة لكى يصلى ويتأمل ويشعر بالآخرين وسط صخب وضوضاء هذا العالم
[5]. لابد أن نفكر في احتياجات اخوتنا ونخضع ذواتنا لخدمتهم بدون أن يكون لنا هدف شخصى. النسك المسيحى يعطى مرة أخرى للإنسان أن يتذوق معنى الحرية البشرية الأصيلة والمحبة، ويجعل الإنسان يحتقر ملذات هذا العالم ومباهجه. فالسعادة التي هى بلا ضابط أو الرفاهية الزائدة تقود إلى العبودية، إذ تجعل الإنسان أسيرًا لحياة حيوانية أو غريزية، وينزلق إلى قطيع مجتمع الاستهلاك. أما النسك فهو اختبار حقيقى لصليب الحرية والمحبة، ولو خضعنا للروح وتذوقنا هذه الخبرة لتحول العالم وانضم إلى مسيرة الكنيسة نحو ملكوت الله. إن النسك المسيحى هو السلاح الذي يملكه المؤمن ضد الروح الاستهلاكية لحضارتنا المعاصرة والتي تميل دائمًا إلى الكسل والوصول إلى الهدف بأقل جهد، فالنسك يعلّمنا أن نجتاز مشاكلنا بدون أن نتأثر بقيم المجتمع الاستهلاكى التي تقود إلى الزيف والعبودية وإلى المظهرية وإنكار الإنسان ككيان واعتباره شيئًا له قيمة مادية تقدّر بما يمتلك ويستهلك. أما النسك المسيحى فيعلّم الإنسان أن ينظر إلى أخيه ككائن مخلوق على صورة الله، كائن يسعى في مسيرة تصاعدية مع أخيه إلى ملكوت الله. الناسك الأرثوذكسى يعرف أن يقول لا لمجتمع الاستهلاك، يقول لا لمحاكاة القيم المزيفة، لا لحضارة الرفاهية والسعادة. إن خلاص الإنسان من هذه الحضارة يأتى فقط من النسك المسيحى الذي يجعل الإنسان يرتفع فوق هذه الأمور الزائلة.

ج ـ النسك والكمال:
إن الكمال دعوة إلهية موجهة للإنسان، وهو لا يتحقق فقط بنمو القدرات البشرية، بل هو موهبة إلهية. فالإنسان الأول لم يكن فى حالة الكمال حينما سقط ولكنه كان فى طريقه نحو الكمال، فالكمال هو حركة دائمة ومسيرة لا تنتهى، إنه العطية الأخروية للروح القدس. النسك الذي هو طريق الكمال لا يمكن أن يُعاش كمخطط ذاتى مستقل، وله فخر ذاتى وهدف في حد ذاته، لكن هو التعبير عن القرار الحر للإنسان لأن يتبع الطريق نحو الكمال، إلى ملء الأخرويات. إن النسك هو عمل الإنسان الشاق مع عطية الروح القدس لكى يحقق التغيير الإنسانى وينال الحرية في المسيح. إن النسك هو التعبير عن جوعنا وعطشنا للنهاية، أى لملكوت الله. لذا فأى إنجاز وأى كمال نظن أننا وصلنا إليه لا يمكن أن يوقف مسيرة النسك، فالنسك لا يعرف التوقف.
النسك ليس هو الكمال بل هو عمل المؤمن واشتراكه الشخصى في خبرة الكنيسة الجامعة. في الكنيسة يتحد المؤمن الناسك بالثالوث القدوس في المسيح. النسك هو جهاد واعى مستمر وتقدم دائم، إنه الوسيلة وليس الهدف. فالصوم والانضباط والسهر والفقر والطاعة والدموع... هى وسائل ترفع المؤمن لكى يُكمل الهدف أى الشركة مع الله، غير ذلك تظل هذه الجهادات باطلة ولا فائدة لها. إن ممارسة هذه الوسائل بدون عمل الروح القدس لا يفيد. فالمبدأ الجوهرى فى الحياة المسيحية: أنه لو أن شخصًا يعمل كل أعمال البر، فلا ينبغى عليه أن يُعجب بهذه الأعمال ولا يعتبر نفسه أنه عمل شيئًا عظيمًا، وأيضًا لو صار مشتركًا فى النعمة الإلهية، لا يظن أنه اكتسب شيئًا ولا أنه قد وصل إلى مرحلة الاكتفاء والشبع بل بالحرى يجوع ويعطش ويحزن ويبكى ويكون له اتضاع القلب الحقيقى
[6].
إن توهم بلوغ الكمال بوسائل النسك هو خدعة يزينها الشيطان للنساك، لكى يثقوا في إنجازاتهم البشرية ويقتنعوا بالبر الذاتى والتأله الذاتى. إن فاعلية النُسك تتحقق بفعل الروح القدس الذي يُعيّن ويخدم وسائل النسك. إن غاية النسك ليست هى إنجاز إنسانى، لكن الرجوع إلى علاقة حيّة مع الله.

د ـ النـُسك والمحبة:

إن نسك الكنيسة هو الطاعة بلا نفاق لعمل الروح القدس لأجل تغيير الإنسان ورفعه إلى مجده الأول وإلى كرامته قبل السقوط. لذا فإن النسك ليس عقابًا وتعذيبًا للإنسان ولا هو السعى لرفض الطبيعة البشرية وانحلالها بل هو دواء ونقاء وتطهير لها، هو وسيلة لتحريرها من كل خطية وأهواء تعيقها عن الحياة الحقيقية. إن النسك هو الحرية الدائمة والخلاقة، إنه المحاولة المستمرة لتدمير جذور الشر بمحاربة الشيطان وكشف حيله وخداعه. النسك هو طريق التشبه بالمسيح واكتساب الفضائل المقدسة. بالنسك يُعايش الإنسان عطايا الله العظيمة ويصير وعاء غير فاسد للمواهب الروحية، للامتلاء بالروح القدس لأن هذا هو قانون الحياة الروحية: " أعطِ دمًا لتأخذ روحًا"
[7].
إن نسك الكنيسة هو مسيرة ممتلئة بالمواهب وشاهدة لحرية المؤمن بواسطة الملء الأخروي، والتى بها يصنع علاقات حقيقية بالله وبالعالم، والمسيرة تُلهب الإنسان بوعد إتيان الرب والتغيير الكامل لكل شئ. إن النسك يصير ذو قيمة وكامل في المحبة نحو الله، إنه عطش الحرية. إن نهاية النسك هو تمجيد الله، الزواج الأبدى بالمحبوب أى اتحادنا بالله الذي هو ثمرة قوة محبته التي وضعها هو نفسه في قلب الإنسان، إنه الشوق الذي زرعه الله في نفس الإنسان. لكن هذا الاتحاد المحبوب بالله يُدرك بالمحبة نحو الإنسان. لأن المحبة نحو الله والمحبة نحو الإنسان يمثلان حركة تصاعدية جامعة فيها يتسع الواحد للآخر. إن المحبة نحو القريب ليست إحساسًا بشريًا معينًا وإنجازًا بشريًا، لكنها إعلان سر الثالوث القدوس وعطيته.
لقد اتفق الآباء على أن النسك لا يُغرِب ولا يقود إلى العزلة لأن هدفه أن يصالح ويوّحد ليس فقط الإنسان بالله ولكن أيضًا يصالح ويوّحد البشر فيما بين بعضهم البعض. هدف النسك هو أن نتجاوز الفردية والعزلة والرغبة الفردية والعشوائية ونصل إلى مستوى المحبة الإنجيلية، لأنه بدون المحبة فالنسك لا يقدمنا بالقرب من الله. نعم سنُدان على الشر الذي نعمله، لكن أول كل شئ سنًدان لأننا أهملنا أن نفعل الخيرات ولم نستطع أن نحب قريبنا. إن كل مَن قصّر في مساعدة إنسان أثناء حزنه، يُعتبر مسئولاً عن هلاكه. والإنسان راهبًا كان أم علمانيًا إذا كان في قلبه أثر للشر فهو غير مستحق لمحبة المسيح
[8].
إن كل نسك في عمقه هو إعداد للمحبة، وهذه المحبة هى الدافع ونتيجة لهذا النسك الحقيقى كما نشهده في حياة القديسين ورجال البرية العظام والمتوحدين. ينادى القديس باسيليوس الكبير بأنه بواسطة حفظ وصايا الله تُضرم المواهب العظيمة ولكن بدون المحبة تُحسب هذه الأعمال على أنها معصية
[9]. لأنه بدون محبة نحاول أن نحفظ الوصايا لمصلحة فردية بعيدًا عن هدفها الكنسى الذي هو محبة الله ومحبة البشر، فالشيطان ناسك عظيم لكن يظل شيطانًا لأنه لا يعرف أن يتضع وأن يحب.

هـ ـ النسك الجسدى:
إن الجسد هو الشكل الحى لجوهر الإنسان، والتعبير الحتمى لأقنومه الشخصى. الإنسان يكون ويعمل في الجسد ويكتسب مفهوم الحياة الأبدية ويتذوقها في الجسد وبالجسد. إن الخلق والخلاص يخصّان الطبيعة البشرية ويرفعان أى ثنائية أنثروبولوجية والتي تقيم تضادًا بين النفس والجسد أو تُحقّر الجسد بالنسبة للنفس. السقوط هو الذي جعل الجسد منبعًا للرغبات الخاطئة وعائق في سبيل الكمال الجامعى. بعد السقوط صار الجسد البشرى له موقف عدائى تجاه الله، إذ صار في تضاد معاكس لناموس الله الروحى. وعبّر عنه بمصطلح بيولوجى ساركس s£rx "جسد" "وتدبير الجسد" sarkikÒn frÒnhma. الإنسان مدعو لأن يرفض ليس الجسد بل شهوات الجسد
[10].
النسك الأرثوذكسى ليس له علاقة بالاحتقار الأفلاطونى أو المانوى للجسد. لذا لا يعتبر الجسد على أنه عائق، وكشىء ليس له علاقة بالحياة الروحية، وكشىء غريب وخارجى عن الطبيعة الحقيقية للإنسان. القول بأنه "يجب أن أقتل الجسد حتى لا يقتلنى" ليس هو كتابى ولا آبائى لكن أفلاطونى ومانوى. لدى الهراطقة الجسد شرير وخلقة شريرة. لكن الجسد خُلق من الله ويُستخدم بحسب الله وليس شريرًا. الشر ليس مخلوقًا وليس له مكان في عالم الله. وبالتالى لا العالم ولا الطبيعة ولا أعضاء الجسد هى في الحقيقة شريرة. أما الذهن فيعتبر فقط شريرًا في انشغاله بالأفكار الجسدية التي تضاد الله
[11]. النسك الجسدى لا يطالب بالألم والحزن ولكن احتمال وانضباط ومقاومة في الظروف ويقظة القلب الدائمة. فالنسك الجسدى هدفه هو تحجيم تمرد الجسد، رفعه من السقوط وتجليه لكى يكون مساهمًا في التغيير بحسب نعمة الله. فالنسك أيضًا يساعد الجسد على التجاوب مع الدعوة الإلهية لكى يصير بيتًا لمجد الله وهيكل إقامة للروح القدس.
إذن النسك الجسدى لا يكون مضادًا للجسد ولكن الاهتمام الجسدى من متطلبات زائلة وشهوات حيوانية ولذات فردية وأهواء، نحن كما يقول الأب بيمن " لا نقتل الجسد بل نقتل أهواء الجسد"
[12].

و ـ النسك والصوم :
الصوم هو أحد الأشكال التقليدية للنسك والتعبير الأساسى للنسك الجسدى. وأهميته تنبع من أنه يُذكّر المسيحيين ـ كما يقول الأب مايندورف ـ بحالتهم الساقطة، وفي نفس الوقت يمنح لهم يقين الخلاص الكامل
[13]. الصوم ليس هدفًا في حد ذاته ولكنه وسيلة. الصوم هو طريق مقدس إلى الله. ليس هدف الصوم مجرد السيطرة الذاتية على الجسد، أى سيطرة الذهن على المادة ولا يهدف فقط إلى ترويض الطبيعة الجسدية حال تمردها، لكن هو الرفض الاختيارى لأن يكون الجسد هدفًا في حد ذاته. بالنسك يشارك الجسد في الطاعة الشاملة للإنسان لإرادة الله، بالنسك يصير الجسد تقدمةشخصية إلى الله.
هناك تعبير للقديس غريغوريوس النيصى عن " الصوم غير الجسدى " asèmath nhste…a
[14]. ويقصد به رفض الإنسان للشراهة والفساد والتفاهة وهضم حقوق المظلومين. إنه الصوم الاجتماعى الذي ينحاز إلى المساكين والمتألمين وضحايا التفرقة العنصرية وسد احتياجات اخوتنا في الإنسانية. عندئذٍ يصير هذا الصيام هو فعل الإحسان والخير وانتشار المحبة بين البشر. لذا تعبر الكنيسة عن هذا الجانب الجوهرى فى الصوم في مديحة الصوم الكبير: "طوبى للرحماء على المساكين.. فإن الرحمة تحل عليهم. والمسيح يرحمهم في يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم"، في الصوم الأربعينى كما يقول المتنيح الأنبا بيمن " تطلب الكنيسة من أبنائها أن يجاهدوا كما جاهد المسيح في البرية وانتصر، فتطلب منهم أن يجوعوا معه لينتصروا على جوعهم ويصعدوا طاقتهم إلى صعيد روحى ويفضحوا الأكذوبة القائلة إن الإنسان يأكل ليحيا، ويؤكدوا حقيقة أن الله وحده هو الخبز الحقيقى والحياة الحقيقية، وكل مَن يأكله يحيا به إلى الأبد "[15].
الإنسان الذي يختبر بالحقيقة أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، يستطيع بسهولة أن لا ينسى فعل الخير والتوزيع على الفقراء (عب16:13). نعم الصوم كما قال الله في (إش3:58ـ7) هو " حل قيود الشر. فك عقد النير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عريانًا أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك". حقًا كما قال القديس يعقوب " الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه، افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم " (يع27:1).

[1] filokal…a, I. G', sel.213.
[2] Isa£k O Súroj, Ta eureqšnta askhtik£ ekd. SPANOS, sel.56.
[3] P.Evodkimov, H P£lh mš tÒ qeÒ, qess. 1970 sel.194.
[4] cr. Giannara, H metafusik» tou sèmatoj, sel.122.
[5] P.Evdokimov, OP. par, sel.75,76.
[6] Mak£rioj o AigÚptioj, filokal…a, T.G', sel.217.
[7] Abb©j Logg…noj, GerntikÒn, sel.63.
[8] Poim»n tou Erm£, Ñrasij 10,3,4. P.Evodokimov, Ñp. Par, sel.154,221.
[9] PG 31,1568.
[10] أنظر رو21:3، 5:7، 5:8ـ8، غلا16:5... الخ.
[11] أنظر باسيليوس الكبير PG 31,1341 ، غريغوريوس النيصى PG 46,549 .
[12] Abb©j Poim»n, GerontikÒn,sel.101.
[13] J.Meyendorff,Die orthodoxe kirche gesterm und heute, Salzburg1963, sel.80.
[14] PG 46,454.456.
[15] المتنيح الأنبا بيمن ـ أسقف ملوى السابق، الصوم الكبير. لاهوتيًا ـ كنسيًا ـ روحيًا. مطبعة مطرانية ملوى. الطبعة السادسة 2001م، ص 11.

الأحد، 26 سبتمبر 2010


الخليقة رؤية إفخارستية
” موقف تجاه أزمة البيئة ”
د. جورج عوض ابراهيم

أنين الخليقة والأزمة البيئية
إن الأزمة البيئية هى مشكلة تواجه المجتمع الإنسانى في أيامنا، وهذه الأزمة ـ على عكس المشاكل الأخرى ـ تخص كل الكائنات البشرية على الأرض بغض النظر عن أين يسكنون وإلى أى طبقة اجتماعية ينتمون. فأزمة البيئة هى مشكلة تتعلق لا بنوعية الحياة ولكن بالحياة البشرية في حد ذاتها، وربما كل الخليقة جمعاء.
لذا من الصعب أن يحدث شر آخر يمكنه أن يهدد الكون بالدمار الشامل مثل الشر البيئى. قد يرى البعض أن الأمر بهذه الصورة هو
مبالغ فيه، لكن واقعيًا لا نجد اليوم علماء ومسئولين جادين ولا سياسيون لا يوافقون على خطورة الأزمة البيئية.
والمتتبع للأمور الجارية يرى أن كل الأنباء والأخبار تحذر بقرب النهاية المأساوية للحياة فوق كوكبنا، وهذا ليس فقط موضوع نبوى أو تخمين ولكنه أمر لا مناص منه إن بقى الأمر على ما هو عليه. لكن ما الذي يمكن أن يقدمه التعليم المسيحى إلى البشرية. فمن غير المعقول أن تصمت الرسالة المسيحية أمام هذه الأزمة خصوصًا أن الإيمان له علاقة جوهرية بكل ما يخص الحياة والموت، وازمة البيئة هى على نفس هذا المستوى. فالكنيسة تأخذ على عاتقها هموم ومشاكل المجتمع البشرى، ولا تكتفى بتقديم نصائح وحلول نظرية بل تشترك فعليًا وعمليًا، وتتعاون لحل مشاكل وأزمات البشر. فالرسالة المسيحية التي تعرف الحق وتنادى بذلك، إن لم تقدّم حياة للعالم تصبح بلا معنى أو مفهوم.
لو تتبعنا المحاولات التي يبذلها المجتمع البشرى لأجل احتواء الأزمة البيئية، نجد أن كل الآمال تتجه ناحية السلوك الأخلاقى .
فالأوامر الأخلاقية سواء فرضتها الحكومات أو الهيئات المهتمة بأزمة البيئة تبدو أنها تسند أو تعضد الآمال البشرية وسط الأزمة الحالية.
تنادى التعاليم الأخلاقية بالسلوكيات الفُضلى، فتدعو مثلاً أن نستخدم بقدر الإمكان طاقة أقل، وأن نتفق على تقليل أو إنقاص مستوى الاستهلاك اليومى، ونصائح كثيرة مثل هذه، لكن السلوك الأخلاقى سواء كان مفروضًا أو حرًا يستلزم، في الواقع، دافعًا وجوديًا عميقًا جدًا لكى يكون له فاعلية. فالبشر لن يهجروا بسهولة أسلوب الحياة باللجوء إلى المنطق أو الأخلاق، خصوصًا إذا كانت القوانين الأخلاقية منفصلة عن الإيمان الدينى للإنسان. فخبرة الحربين العالميتين بنتائجهما المدمرة أتت لكى تطفئ تفاؤل أنبياء النهضة والتنوير فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الذين ظنوا أنه بالعقل والمعرفة سيكون القرن العشرون هو فردوس الجنس البشرى. إذن هناك عوامل أخرى ـ أبعد من المنطق أو العقل البشرى ـ تقرر الاتجاه الذي سوف يسير إليه مصير العالم.
إن الكنيسة تحتضن وتهتم بأعماق الوجود الإنسانى ـ الأمر الذي هو أبعد من السلوك الأخلاقى ـ ولذا فهي ضرورية ونافعة للمجتمع البشرى وفي قدرتها أن تبرهن على ذلك. لقد نجح عصر التنوير في أن يدمر كل شئ، ما هو خيال وأسطورى بدعوى المنطق والعقل، لقد أزال عصر التنوير النظرة المقدسة للعالم، ونحن نتفهم الخوف من عبادة الأصنام وكل ما يترتب عليها، الأمر الذي قاد إلى سيطرة المذهب العقلى. لكن هذا التخوف كان له ردود أفعال أبعد مثل الثنائية بين الطبيعة والتاريخ، بين العقل والأسطورة، بين المقدس
والنجس، بين الفن والفلسفة... الخ، هكذا ترك هذا التخوف بصماته في طرق التفكير المعاصر وخصوصًا في الغرب.
الكنيسة يمكنها أن تجد طرق أفضل للرد على هذا التخوف، بالطبع ليس بالتأكيد على الانفصال بين العقل والأسطورة والمقدس
والعالمى. لأن الإيمان بالمسيح يستلزم الوحدة بين السماوي والأرضي، إذ جمع كل شئ في شخصه (أنظر كو16:1).
وبناء على ذلك فإننا عندما نلجأ إلى الحل السلوكى الأخلاقى ـ الأمر الذي يفعله كثير من المسيحيين ـ فإننا سوف لا نفلح بتاتًا سوى أننا نُقوّى الأسباب التي أدت من البداية إلى الأزمة البيئية.
لذا قناعتنا هي أن المناداة بقيّم أخلاقية جديدة لا تنفعنا، ولا هو خطوة جوهرية ناحية الحل الجذرى لهذه المشكلة. أما الطرح العميق لهذه الأزمة من وجهة نظر التعليم المسيحى ـ كما نراها ـ شعاره هو "الإنسان هو كاهن الخليقة". فإننا نعتقد أن حضارتنا تحتاج إلى الإيمان بأن تفوق الإنسان عن باقى الخليقة ليس في العقل أو المنطق بل بالحرى في إمكانية الإنسان أن يصنع شركة مع أخيه الإنسان وكل المخلوقات الأخرى. وأن هذه الشركة تقوده إلى أن يتحرر من الأنانية (التمركز حول الأنا) والانفتاح على كائن آخر أبعد
من ذاته، على الله. هذا يمكن أن يحققه الإنسان عندما يتحول من فرد إلى شخص .
إن مفهوم " كهنوت الإنسان " عليه أن يتحرر من أى مفهوم سلبى ويتطابق مع مفهوم " التقدمة " أى انفتاح البشر على علاقة سماوية " بآخر" في إطار المحبة. وهذا يستلزم وجود اعتماد متبادل وعلاقة بين الإنسان والطبيعة (الخليقة)، ومع اعتبار أن كمال الإنسان لن يكتمل إلاّ في صيرورته رأس يجمع كل الطبيعة. وهكذا الإنسان والطبيعة ليس بينهما صراع أو تضاد لكن علاقة إيجابية. ولا توجد طريقة أخرى لتحقيق هذا إلاّ في العمل الليتورجى الكنسى، إذ أن الطبيعة داخل هذا العمل لها مكان في هذه العلاقة الإيجابية. والإنسان عليه أن يصير كائنًا ليتورجيًا داخل هذه العلاقة، لو أراد أن يجتاز هذه الأزمة البيئية.

لمحة تاريخية
كتب المؤرخ الأمريكى Lynn White
[1] عن الجذور التاريخية للمشكلة البيئية عام 1967 وألقى المسئولية حينئذٍ على الفكر الغربى وآرائه العقلانية. وأيضًا ألقى على الكنيسة وتعاليمها جزءً كبيرًا من المسئولية[2]. وأيًا كانت عدم موافقتنا على ذلك، فلا يمكننا أن نشكك في أن التاريخ لديه شئ ليعلّمنا إياه عن جذور هذه الأزمة المعاصرة. لذلك من الضرورى أن نرجع إلى المراحل الأولى لتاريخ المسيحية ونحاول أن نحدد الأسباب التي قادت البشرية إلى هذه الأزمة حتى أيامنا هذه.
لقد نشأت المسيحية بين حضارتين، الواحدة اليهودية أو الطريقة السامية في التفكير والأخرى هى اليونانية. وعلينا أن نتعرف على طريقة استيعاب المسيحية لهاتين الحضارتين بخصوص علاقة الإنسان بالطبيعة وما هى مكانة الله في هذه العلاقة.
لقد شددت الطريقة اليهودية في التفكير على إعطاء أهمية كبيرة إلى التاريخ (خاصةً تاريخ شعب الله المختار) ونرى الله يُعلن أعماله في مسيرة التاريخ. والطبيعة لعبت دورًا ثانويًا في هذا الإعلان. ومرات كثيرة كان مثل هذا الدور مرفوضًا تمامًا خصوصًا تحت تأثير التخوف من عبادة الأوثان. وهذا التخوف كان سمة من السمات الخاصة لهوية الشعب الإسرائيلى. هذا الاهتمام بالتاريخ عن الطبيعة قاد إلى نمو الكلام النبوى الإعلاني على حساب الكلام عن العالم والكون في الحضارة اليهودية. النظرة النبوية صارت تفحص الحوادث الهامة في تاريخ إسرائيل، وأيضًا الشعوب الأخرى (الأمم) وركزت على النتيجة النهائية لهذه الحوادث بأن الله يعلن عن ذاته في النبوة ويعطى مفهومًا ومعنىً خاصًا لهذه الحوادث، التى للحدث الأخروى كما يوضح ذلك كُتّاب العهد الجديد.
على الجانب الآخر، فإن الحضارة اليونانية أعطت أهمية صغيرة للتاريخ. لقد كانت نظرة الفلاسفة والعلماء اليونانيين إلى التاريخ يشوبها الظن والارتياب، إذ كان التاريخ في نظرهم مجال يتسم بالتغيرات والاضطرابات الدائمة. أما الطبيعة فقد قدمت لليونانيين الاحساس بالأمان، وذلك من حركة النجوم المنتظمة، والتكرار الدائرى للفصول والجمال والتناسق الذي قدم المناخ اللطيف والمتزن للعصر الأتيكى Attik» . لذا كان محور اهتمام الفلاسفة اليونان هو الكوزمولوجيا (الكلام عن العالم . وقد رأوا أن الله حاضر في العالم ومنظم له بقوانينه عن طريق الحركة الدائرية المنتظمة للزمن والإخصاب الطبيعى.
هذا ما يفسر لنا كيف أن أناسًا من الذين شكلوا الفكر اليونانى بتعاليمهم المستنيرة ـ مثل أرسطو ـ لم يتجنبوا عبادة النجوم.
إن أفلاطون الفيلسوف العظيم لم يستطع أن يرى الله الخالق إلاّ فنانًا خلق الكون من مادة أزلية كانت موجودة من قبل
[3].
بالمقارنة بين الحضارة اليهودية واليونانية فيما يخص الخليقة المادية نخلص إلى:
أ ـ إن الموقف اليهودى يبدو أنه يقلل من شأن الاهتمام بالكون الكوزمولوجى، بينما اليونانى يقلل من شأن الملمح الإعلانى النبوى. استطاعت المسيحية أن تستخدم الحضارتين اليهودية واليونانية وانتهت إلى ما يسمى "بالنبوة الكوزمولوجية " أو " الرؤيوية الكونية "، وهذا بالضبط ما فعله يوحنا الإنجيلى في سفر الرؤيا، إذ تجاوز وسَمَا فوق التاريخ ورأى نهايته ليس فقط من جهة إسرائيل، لكن من جهة كل الخليقة، من جهة الكل أى العالم والكون الطبيعى وذلك من الزاوية الأخروية، من عمل الله النهائى في التاريخ. بهذا المفهوم فإن الرؤيوية الكونية هذه تبدو كنموذج جديد يصير بداية جديدة لتناول موضوع علاقة الإنسان بالطبيعة وهذا ما فعلته الكنيسة.
ب ـ بالنسبة للحضارة اليونانية كان للعالم حقيقة واقعة أزلية. فالكون أزلى عند اليونانيين، أما لدى اليهودية فإن العالم والكون عطية من الله يجب أن تعود إلى خالقها. والعالم لكى يحيا ويعيش فلابد أن يحتفظ بعلاقة مستمرة مع الخالق. استطاعت الكنيسة الأولى أن تربط بين مفهوم الطبيعة التي هى أزلية وتحتوى في ذاتها على عِلة وجودها والمفهوم اليهودى الذي يعتبر أن الطبيعة عطية من الله وحقيقة استمراريتها باعتمادها على خالقها. لقد نادت المسيحية الأولى "بإفخارستية العالم"، إذ تعتبر العالم محدد لكن هو مُهيئ أن يحيا وأن يعتمد دائمًا على خالقه. هكذا العالم هو حسن وجميل ويستحوذ على مكانة محورية في وعى الإنسان. لكن لدى الكنيسة فإن جمال العالم وديمومته رهن باعتماده على كل ما هو ليس عالم أو طبيعة أى على الله. هكذا الطلبات الأولى الإفخارستية في صلوات الكنيسة كُتبت وفق التقليد اليهودى الليتورجى وتحتوى على مباركة ثمار الأرض، وتعبر في نفس الوقت عن النظرة اليونانية للكون في التأكيد على أن خلاص الخليقة والطبيعة يستحوذ على مفهوم الإيمان الكنسى.
إن الرؤيوية الكونية والافخارستيا الكونية اللتين نتجتا من التكوين اليونانى واليهودى في نطاق الإيمان المسيحى أعلنتا أن العالم هو " واقع " وحقيقة مُسلّم بها لكن لكى يستمر ويكون له ديمومة عليه أن يصعد دائمًا إلى خالقه الأزلى وغير الفانى. وهنا تأتى مسئولية الإنسان في إصعاد الكون إلى خالقه ولذا عليه أن يصير " كاهن الخليقة " .

التقليد المسيحي الآبائي ورؤيته للخليقة:
+ تحتوى كل الليتورجيات القديمة، خاصةً في الشرق، على تقديس المادة والمكان. ولا توجد في هذه الليتورجيات اتجاهات تدفع الإنسان إلى الانكفاء على الذات، فهدف الليتورجيات هو مشاركة المصلى في حدث الشركة مع أعضاء الجماعة العابدة ومع الإطار المادى لليتورجية. وبجانب الخبز والخمر اللذين هما جزء من العالم المادى تتوجه الليتورجيات القديمة إلى كل أحاسيس الإنسان: إلى الرؤية بالأيقونات والملابس الكهنوتية، إلى السمع بالتسابيح والابصلموديات، إلى الشم برائحة البخور... الخ. كما أن الصلوات والطلبات من أجل الهواء، وثمار الأرض، والمياه، ونهر النيل... الخ. تضع الليتورجية في قلب الخليقة.
+ نرى كل الليتورجيات القديمة تهتم بمصطلح الصعيدة أو الإفخارستيا الذي يؤكد على العمل الكهنوتى للإنسان كنائب عن الخليقة. وهنا نجد أن هذه الليتورجيات لم تنحصر فقط في تقديس الخبز والخمر ليصيرا جسد المسيح ودمه ولكن على تقديم هذه التقدمة إلى الله. ولذا سُميت " صعيدة " وهذا الجانب يظهر عمل الإنسان ككاهن للخليقة. لذا فإن الليتورجية الإفخارستية القديمة تبدأ بطلبة الشكر على الخليقة قبل كل شئ ثم بعد ذلك على فداء يسوع المسيح. وهذا ما يفسر لنا أن الليتورجية الإفخارستية التي انشغل بها كيرلس الأورشليمى في عظاته السرائرية تجعل الشكر من أجل الخليقة هو المحتوى الرئيسى للشكر الإفخارستى، وهذا يدلل على المكانة المحورية لصعود الخليقة إلى الله في الليتورجيا القديمة.
+ بجانب الليتورجية المسيحية نجد أن النسك في الكنيسة الأولى يساعدنا في مواجهة مشكلة البيئة. لكن علينا أن ننظر نظرة صحيحة للنسك، لأن البعض يعتبرونه مرادفًا للعداوة تجاه العالم المادى أو احتقار العالم المادى. فالتقليد يحفظ لنا أقوال شيوخ نُساك وقصص نسكية لآباء بكوا على موت الطيور وآخرين عاشوا مع حيوانات أليفة ومتوحشة (على سبيل المثال: الأنبا برسوم العريان).
هدف الأعمال النسكية فى الكنيسة الأولى هو الحرب ضد الإرادة الفردية والأنانية، فالناسك يسعى لكي لا يجعل ذاته مركزًا للخليقة، ويحارب الميل الذي يوجد داخله نحو السيطرة على العالم الخارجى ونحو استخدامه لإرضاء ذاته. هذه الروح النسكية يحتاجها الإنسان المعاصر حتى تساعده على حل المشكلة البيئية. هذا ليس مجرد تعليم أخلاقي بل خبرة ليتورجية تخلق كيانًا جديدًا يسلك سلوكًا جديدًا لا يحتاج إلى قوانين لكى يتممها.
هناك عناصر أخرى من التقليد مثل استخدام المكان والمادة في البناء المعمارى، استخدام الألوان، النور، الأيقونات، الأصوات والموسيقى... الخ.
علينا أن نحترم هذا التقليد الذي لم ينادِ بعبادة الأوثان ولم يحتقر في نفس الوقت العالم المادى، ويجب علينا أن نتعلم منه.


الإنسان المسيحي: كاهن الخليقة:
ينتمى الإنسان إلى شعب الله بواسطة المعمودية بالماء والروح، ففى المعمودية يموت الإنسان عن حياته العتيقة، ويُولد بالروح فيكون خليقة جديدة لحياة جديدة في الكنيسة. والحياة في الكنيسة هي خدمة الله في الكنيسة
[4]. وأشار بولس الرسول إلى هذه الخدمة قائلاً: " لذلك ونحن قابلون ملكوتًا لا يتزعزع ليكن عندنا شكر به نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوى" (عب28:12).
إنها الخدمة الخاصة بكهنوت شعب الله، فنحن ننال نعمة المعمودية لأجل أن نعبد الله. ويخاطب الرسول بطرس المؤمنين قائلاً: " كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حيّة بيتًا روحيًا كهنوتًا مقدسًا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1بط5:2). فالعبادة تخص شعب الله وأيضًا كل عضو من أعضائه. وهذه العبادة يمارسها المؤمنون أثناء الاجتماع الإفخارستي، فالكاهن يقوم بالصلاة الليتورجية ومعه المؤمنون يمارسون ايضًا كهنوتهم الملوكى العام مقدمين تشكرات وطلبات وتسابيح إلى الله رافعين أيادى طاهرة.
وطلبة صلاة "الحميم" المعروفة بصلاة "الطشت" والتى تتم في اليوم السابع لولادة الطفل تؤكد أن الإنسان يستطيع أن يفعل أمرين
[5] لا تستطيع المخلوقات غير العاقلة أن تفعلها: الأمر الأول هو أن الإنسان قد منحه الله إمكانية تغيير العالم وتجميله وإعطائه هدفًا ومفهومًا ومعنى جديدًا.
والثاني: هو تمجيد وتقديم الشكر إلى الله من أجل كل الخليقة. وهذا هو ما يُتمم في القداس الإلهي أى في سر الإففخارستيا أو سر الشكر. ونحن نشكر الله من أجل العالم الذي هو عطية الله. فبالشكر نتقبل العالم أيقونة وشركة وتقديسًا. ففى كل مرة نلفظ فيها كلمات الشكر ـ كما يقول الأب ألكسندر شميمن: [ نشهد الولادة الثانية للعالم ليصير مجددًا "الفردوس المشتهى" الذي فيه كل خليقة الله تدعونا إلى الدخول في شركة مع الحب الإلهي والحياة الأبدية]
[6]. هكذا فمهمة الإنسان ليست مجرد أن يعيش داخل العالم، قانعًا بالأشياء التى حوله كما هي، لكن أيضًا يستخدم العالم ويطوره ويشكِّله، ولا يكتفى بهذا، بل يرى العالم كعطية من الله، لذا يقدم مرة أخرى هذه العطية الإلهية إلى الله كإفخارستيا. فالخليقة تمجد الله من خلالنا نحن البشر وهذا ما يصليه المؤمنين في تسبحة الهوس الثالث: " باركى الرب أيتها السموات سبحيه وزيديه علوًا إلى الأباد... باركي الرب يا جميع المياه التى فوق السماء سبحيه وزيديه علوًا إلى الأباد.. باركا الرب أيتها الشمس والقمر سبحاه وزيداه علوًا إلى الأباد... باركى الرب يا سائر نجوم السماء سبحيه وزيديه علوًا إلى الأباد..."[7].
إن كل ما هو مخلوق هو بمثابة ظهور إلهي أى ثيؤفانيا
[8]، والمسيحي هو ذلك الإنسان الذي يرى الله في كل شئ، فالمزمور يقول: " السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه".
إذن الكون والبيئة المحيطة وكل شئ هو حامل للإعلان الإلهي، فكلها مقدسة لأن سر وجودها يكمن في الشركة بينها وبين الله، وعلى الإنسان أن يرى الخليقة في هذا الإطار، فالخليقة هي ثيوفانيا والتعامل معها يكون من هذا المنطلق، فهي خليقة الله وتستمد وجودها منه، فهو سر حياتها، والإساءة إليها إنكار لقدسيتها وتجاهل لكونها تحمل ختم الله. ويؤكد القديس أثناسيوس على عمل النعمة الذي يشمل تجديد الخليقة كلها، وليست البشرية فقط قائلاً: [ لأن هذا ما وعد الله به على لسان حزقيال قائلاً: " وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم، وانزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم وأجعل روحي في داخلكم" (حز26:36ـ27). فمتى كمّل هذا، إلاّ عندما جاء الرب وجدد كل شئ بنعمته؟ كما يقول المرنم في المزمور الثالث بعد المائة " ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض"] (الرسالة إلى سرابيون9:1). حقًا " تشترك الخليقة المادية مع أجسادنا في نوال حرية مجد أولاد الله ويصبح الكون شفافًا للنعمة إذ ستُعتق الخليقة من عبودية الفساد بفعل الروح القدس"
[9].

الإفخارستيا وانعتاق الخليقة من عبودية الفساد:
تُعتق الخليقة من عبودية الفساد أثناء تتميم سر الإفخارستيا حيث تمارس كل الكنيسة عبادتها.
فالخبز والخمر (الخليقة المادية) يتقدسان ويصيران جسد ودم يسوع المسيح: " نسأل ونطلب من صلاحك يا محب البشر، إظهر وجهك على هذا الخبز، وعلى هذه الكأس. هذين اللذين وضعناهما على هذه المائدة الكهنوتية التى لك. باركهما. قدسهما. وانقلهما لكي هذا الخبز يصير جسدك المقدس. والمزيج الذي في هذه الكأس يصير دمك الكريم"
[10].
نلاحظ هنا أن الصلاة هي بصيغة الجمع (نسأل، ونطلب...)، وهذا يشير إلى أن المؤمنين المجتمعين يصلون معًا مع الكاهن ويمارسون كهنوتهم الملوكى
[11] ليقدس الله هذه القرابين التى هي نتاج الخليقة المادية. وهنا تُعطى فرصة لهذه الخليقة أن تصير وسيلة لتحقيق شركة الإنسان واتحاده مع الله، لأن الكاهن يستمر في الصلاة قائلاً: " وليكونا (أى الخبز والخمر المقدسين) جميعًا ارتقاءً وشفاءً وخلاصًا لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا". هنا نرى قمة انعتاق هذه الخليقة المادية من عبودية الفساد.
أيضًا يصلى الكاهن أثناء سر الإنجيل في القداس الباسيلي
[12] من أجل أن يبارك الله:
* أهوية السماء وثمرات الأرض * الهواء الصالح وثمار الأرض
* مياه النهر * الزروع والعشب ونبات الحقل
* الأمطارالصالحة وزراعات الأرض * البهائم
* الدواب
يصلى الكاهن كل هذه الطلبات أثناء قراءة الإنجيل المقدس، فالخليقة كلها لها نصيب في بشارة الإنجيل المفرحة. بالإضافة إلى تكرار هذه الصلوات في الأواشى قبل المجمع. وسر احتضان الكنيسة للخليقة المادية ينطلق من المسيح "الكلمة المتجسد"، الذي بتجسده قد تم استعادة الوحدة بين الله والعالم المخلوق، فقد اتحدت الطبيعة الإلهية بالطبيعة الناسوتية بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. لقد تقدس العنصر المخلوق باتحاده بالخالق، وهكذا أخذ الإنسان دور الوسيط ـ في الإفخارستيا ـ فهو يقدم الخليقة المادية إلى الله كذبيحة شكر. وأيضًا يصلى من أجل كل المخلوقات. فالإنسان المخلوق بحسب "صورة الله ومثاله" يمارس سيادته كملك على العالم الطبيعى وتحكمه وصية الله في سفر التكوين " اعملها واحفظها"، أي عليه أيضًا أن يحافظ على الكون، أى القيام "بالعمل الاعتنائي" بجانب "العمل الإبداعى".
إن صلوات الكنيسة تحدد لنا العلاقة الصحيحة بين الإنسان والبيئة قبل أن تعى البشرية أزمة البيئة، فالبيئة في نظر الكنيسة هي الفردوس الأرضى، وهدف الكنيسة هو تجلى العالم كله ليصير هو نفسه كنيسة، فالكاهن يصلى في أوشية السلام قائلاً: أذكر يارب سلام كنيستك الواحدة، المقدسة، الجامعة، الرسولية"، ويكمل قائلاً: هذه الكائنة من أقاصى المسكونة إلى أقصاها...". هنا المسكونة كلها هي في حالة صيرورة دائمة لتكون كنيسة أى فردوس على الأرض: " إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نُحسب كالقيام في السماء". حقًا الكنيسة تُصيّر الأرض سماءً. فالكنيسة هي المكان الذي يتم فيه تبديل وتجلى العالم إلى فردوس على الأرض، فالسماء والأرض الجديدة تبدأن من داخل الكنيسة وتنتشران انتشار الخميرة في العجين.
هكذا نرى أن العالم والاهتمام بالطبيعة لهما مكانة مركزية في الوعى الكنسى، إذ أن هذا الوضع مرهون بارتفاع العالم أو صعوده المستمر إلى الله. وعلى عكس الإيمان الوثنى الذي يرى أن خلاص العالم ينبع من الإيمان بأزليته وتكاثره أو إخصابه المستمر، فإننا نرى في المسيحية أن العالم هو دائمًا في حالة اعتماد وليس عنده وسيلة خلاص مضمونة سوى أن يوجد في شركة دائمة بالله غير المخلوق. في هذا الإطار فإن مسئولية الإنسان هى عظيمة لكى يحيا العالم، إذ هو أمل الكون في صعوده المستمر إلى الخالق.

[1] Lynn White, The Histοrical Roots of our Ecological Crisis, Wachington 1967.
2 يُُعدد البروفيسور يورغوس ماتزاريدس بعض الأسباب التي جعلت Lynn White وأمثاله يلقون بالمسئولية على التعليم المسيحى لظهور مشكلة البيئة في الآتي:
1 ـ الانفصال الواضح والشديد بين الله والعالم مما جعل الإنسان يفقد الاحساس بحضور الله في العالم.
2 ـ التعليم عن تفوق الإنسان عن بقية المخلوقات مما أعطاه الحرية لكى يتسلط على الكائنات المادية.
3 ـ اعتبار الزمن أنه خطى تصاعدى الأمر الذي خلق في الإنسان نوع من الإصرار على التقدم في مسيرته التاريخية حتى يحقق كل أهدافه بدون أن يراعى سلامة الخليقة (لمزيد من التفاصيل. يورغوس ماتزاريدس، مقدمة في علم الأخلاق، تسالونيكى 1990 باللغة اليونانية).
[3] هناك ثلاثة آراء مختلفة عن موضوع أصل العالم. الرأى الأول يُنسب إلى هيراقليطس Hraklšitj في (ApÒspasma 3 Diels I, 157-158) ويرفض خلق العالم بواسطة الوهية ما ويعتبره أزلى. الرأى الثانى يُنسب إلى أفلاطون (NÒmoi I, 886 a 2-5) وينادى بأن علِة العالم هى خارج هذا الكون وفي نفس الوقت يؤله الطبيعة. الرأى الثالث يُنسب إلى ارسطو (per… filosof…aj 12 a, Fragmenta Solecta ed. D. Ross, Oxonii 1964, p.80) يقبل بأن علة العالم ترجع إلى بداية إلهية لإله خالق.
[4] انظر الأب نيقولا أفاناسييف: كنيسة الروح القدس، تعريب جورج أسبر، منشورات النور 1986، ص64.
[5] انظر جورج عوض إبراهيم: إنسان جديدة وخليقة جديدة، دورية دراسات آبائية ولاهوتية، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، يوليو 2001، العدد الثامن، ص60.
[6] الأب ألكسندر شميمن: الإفخارستيا سر الملكوت، تعريب سامر عبود، منشورات النور 1993، ص267.
[7] الإبصلمودية السنوية، لجنة التحرير والنشر بمطرانية بنى سويف، الطبعة الثالثة 1991، ص 47 ـ 55.
[8] راجع جورج عوض إبراهيم: اللاهوت والبيئة، دورية دراسات آبائية ولاهوتية، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، يوليو 1999، العدد الرابع، ص49 ـ 50.
[9] د. نصحي عبد الشهيد، التجلى ومجيئ الملكوت، الكتاب الشهرى للشباب والخدام، إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة، أغسطس 1997، ص8.
[10] الخولاجي المقدس، لجنة التحرير والنشر بمطرانية بنى سويف والبهنسا، الطبعة الثالثة 1993، أوشية التقدمة، القداس الباسيلي، ص 224 ـ 225.
[11] يظل الكاهن المشرطن والمُقام بواسطة الكنيسة هو الوحيد الذي يمارس صلاة القداس عن الشعب الذي يشترك معه في أداء الصلوات ويمارس كهنوته الملوكى من موقعه.
[12] المرجع السابق، ص 260 ـ 261.

السبت، 25 سبتمبر 2010


تدبير الخلاص
عند القديس غريغوريوس اللاهوتى
د. جورج عوض ابراهيم

عندما يتعرض القديس غريغوريوس اللاهوتى لموضوع الخلاص، يركز دائمًا على مراحل التدبير الإلهى الثلاثة وهي: الخلق والسقوط والفداء. لذا علينا أن نتتبع معه هذه المراحل لكى نفهم تعاليمه عن الخلاص.

أولاً: الخلق :
1 ـ الله هو أزلى وكائن قبل كل الدهور :
" مستحق وعادل. مستحق وعادل. مستحق وعادل. مستحق بالحقيقة وعادل. أن نسبحك ونباركك، ونخدمك، ونسجد لك، ونمجدك. أيها الواحد وحده الحقيقي، الله محب البشر، الذى لا يُنطق به، غير المرئي، غير المحوى، غير المبتدئ، الأبدي، غير الزمني، الذي لا يُحد، غير المفحوص، غير المستحيل، خالق الكل " (القداس الغريغوري)
يقول أيضًا القديس غريغوريوس: [ الله كان دائمًا ويكون وسيكون بل قُل هو كائن ويكون دائمًا. لأن قولنا "كان" و"سيكون" هى مقاطع زمنية من طبيعتنا الزائلة. أما قولنا: إن الله كائن موجود وواجب الوجود فيعبر عن الأزلية، وبهذا المعنى سمى الله ذاته عندما ظهر لموسى على الجبل ]
[1].
ويشدد القديس على أزلية الله لكى يُظهر أنه من طبيعة أخرى تختلف اختلافًا جذريًا عن طبيعة بقية المخلوقات، فجوهر الله يُشبه [ المحيط الذى لا يحده حد ولا نهاية له، ويتجاوز كل معنى للزمان والطبيعة المادية ]
[2].
ويؤكد القديس على أن الله لا يمكن إدراكه ولكن [ يستشفه العقل بعض الاستشفاف]، وذلك لكي يُعطى للعقل دافع وحافز لينجذب إلى الله، لأنه حسب رأيه [ عدم إدراكه كليًا فيه إحباط وفشل وخيبة أمل من الدنو منه]
[3]. وهكذا احتجاب الله عنا كما يقول القديس غريغوريوس: [ يوّلد فينا ـ من جهة ثانية ـ الإعجاب به والتطلع إليه، وبالشوق والتطلع إليه يطهرنا وينقينا، وبالتنقية والتصفية يجعل عقولنا عقولاً متألهة][4].
وعندما يتحدث القديس غريغوريوس عن الله، فإنه يقصد الله الثالوث الآب والابن والروح القدس، ويحذرنا القديس من أن الألوهية لا تفيض خارج الثالوث، حتى لا نقع فى الاعتقاد بتعدد الآلهة، وأيضًا يحذرنا من المناداة بالضمور فى واحد حتى لا نُتهم بقبول ألوهية فقيرة هزيلة: [عندما أقول الله أعنى به الآب والابن والروح القدس، والألوهية لا تسيل ولا تتوزع خارج هؤلاء الثلاثة ، فلا يُستطاع القول بآلهة كثيرة، كما أنها لا تتحدد، ضمورًا، بأحد الثلاثة حتى لا نُتهم بقبول ألوهية فقيرة هزيلة. وفى هذا لا يُقال إننا يهود بسبب توحد الآلهة. ولا يُقال إننا يونانيون بسبب تعدد الآلهة ]
[5].
2 ـ دافع الخلق عند الله :
" قدوس، قدوس، قدوس أنت أيها الرب وقدوس فى كل شئ، وبالأكثر مختار هو نور جوهريتك، وغير موصوفة قوة حكمتك، وليس شيئًا من النطق يستطيع أن يحد عمق محبتك للبشر" (القداس الغريغوري).
يؤكد القديس غريغوريوس، مثل كل الآباء الشرقيين أن دافع الله للخلق هو صلاحه وإحسانه، فالخلق هو [ برهانًا على فيض الصلاح الإلهى غير المتناهى ]
[6].

3ـ الله يخلق أولاً الخليقة الروحية (العقلية) ثم الخليقة المادية:
(أ) الخليقة الروحية:
خلق الله أولاً الملائكة والقوات السماوية، وعند القديس الخلق يصير بالكلمة ويتكمل بالروح القدس. أما عن هذه المخلوقات فيصفها القديس بأنها عالم جديد جميل [ وجُعلوا خدامًا وحاشية للجمال الإلهى الأول]
[7].
أما عن طبيعة هذه المخلوقات فيقول عنها إنها " أرواحًا عقلية أو نارية بطريقة ما، بدون مادة وجسد"
[8].
أما الأمر الهام الذي يشدد عليه القديس بخصوص هذه المخلوقات هو هل كانت لدى هذه المخلوقات ميل ناحية الخير والشر أم لا؟ عن هذا التساؤل الهام يجيب القديس مؤكدًا على أن هذه المخلوقات كانت لديها ميل وتحرك نحو الخير وأنها خُلقت بغير شر، ولكن يقر القديس بأنها كانت صعبة التحرك نحو الشر ولكنها ليست مطلقًا بغير تحرك نحو الشر. ويبرهن على ذلك بكوكب الصبح (يوسيفوروس) الذى صار ظلمة بسبب كبريائه وأيضًا القوات التى أرسلها برئاسته، ابتدعوا الشر وسقطوا مبتعدين عن الله، وجلبوا شرهم على البشر أيضًا
[9].

(ب) الخليقة المادية:
لقد خلق الله خلقًا ثانيًا ماديًا ومرئيًا، ويصف هذا العالم بأنه عالم متناسق يستحق كل إعجاب بسبب كمال كل جزء على حدة، ويؤكد القديس بأنه أكثر إعجابًا بسبب التناسق والتوافق بين كل جزء فيما بينهما، إذ يشكلون مجموعة واحدة متناسبة. ويركز القديس على الاختلاف بين المخلوقات الروحية والمخلوقات المحسوسة، فالأولى تدرك بالعقل، أما الثانية تُدرك بالإحساس
[10].

4 ـ خلقة الإنسان :
" خلقتني إنسانًا كمحب للبشر، ولم تكن أنت محتاج إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك، من أجل تعطفاتك الجزيلة كونتني إذ لم أكن " (القداس الغريغوري)
يؤكد القديس غريغوريوس، أنه قبل أن يُخلق الإنسان كانت الخليقة العقلية والخليقة المحسوسة فى حالة انفصال تام، إذ ظل كل منهما فى طبيعته يحملان عظمة الكلمة الخالق. ومقاصد الله كانت أن يخلق الإنسان فى وحدة بين العقل والمادة، بين المادة المنظورة والمادة غير المنظورة. ويشرح قصة خلق الإنسان كما جاءت فى سفر التكوين قائلاً: [ بعدما خلق الله من المادة الكائنة جسدًا، وبعدما وضع فيه نفخته (التى حدد الكلمة أن تكون نفسًا عقلية وصورة لله)، أقامه فى الأرض كعالم كبير فى صغره أو كملاك سماوى متسربل ثوبًا بشريًا ]
[11].
وتصلى الكنيسة بالقداس الغريغوري لتؤكد على ذلك قائلة: [ أقمت لي السماء سقفًا وثبّت لي الأرض لأمشي عليها. من أجلى ألجمت البحر، من أجلي أظهرت طبيعة الحيوان، أخضعت كل شئ تحت قدمي، لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك. أنت الذي جبلتني ووضعت يدك عليَّ، ورسمت فيَّ صورة سلطانك ووضعت فيَّ موهبة النطق وأعطيتني علم معرفتك أظهرت ليَّ شجرة الحياة وعرفتني شوكة الموت].

5 ـ قصد الله من الإنسان :
يشرح القديس بالتفصيل قصد الله من الإنسان من خلال خطين متوازيين (الخط الروحى والخط المادى)، أى الرتبة الكهنوتية والملوكية، قائلاً: [ جعله حارسًا على الطبيعة المنظورة وخادمًا روحيًا للطبيعة غير المنظورة، ملكًا على موجودات الأرض، ومحكومًا فى نفس الوقت بحكم السماء، أرضيًا وسماويًا معًا، مؤقتًا يسيرًا وخالدًا، منظورًا ومعقولاً، كائنًا فى منزله بين منزلتى العظمة والدعة بين الروح والجسد. الروح بالنعمة والجسد لإمكان النهوض، والسمو بالواحد ليعيش ويمجد المحسن، وبالآخر يعانى ويحتمل، ليذكر ويتربى بالشوق والوجد مستهدفًا الارتفاع إلى العظمة فى مراتبها. الإنسان مقيم فى الأرض، ولكنه ينتقل إلى عالم آخر، وفى نهاية السير والمطاف يصير إلهًا
[12] من شوقه إلى الإله والتأله. لأنه، بحسب رأيى، إلى مثل هذه النتيجة، يقودنا بهاء الحقيقة المعتدل، البهاء الذى يظهر لنا فى الأرض، أعنى فى أن نرى ونستشعر بهاء الله وجلاله، بهاء من جعل مُرَكبنا من الروح والمادة والذى سيحل هذا المركب ثم يعيد تركيبه على وجه أبهى وأمجد][13].
إنه واضح جدًا أن الله خلق الإنسان وأعطاه الرتبة الملوكية والتى يُشار إليها بجعل الإنسان حارسًا على الطبيعة، والرتبة الكهنوتية التى يُشار إليها دائمًا فى كلام القديس غريغوريوس بالتوجه الروحى للإنسان نحو السماء، نحو الله، والتشبه بالله والاستشعار الدائم بجلال وبهاء الله .
ويؤكد القديس على هوية الإنسان الأساسية التى هى فى السماء، وعلى مسيرة الإنسان التصاعدية نحو الله بدون أن يُغيّب أو يُسطح مهمة الإنسان على الأرض، بل على العكس يؤكد على أن الإنسان هو سماوى وأرضى، ولكن يشدد على وجود الإنسان المؤقت على الأرض وخلوده فى السماء .

ثانيًا: سقوط الإنسان :
" غرس واحد نهيتني أن آكل منه، فأكلت بإرادتي وتركت عني ناموسك برأيي. وتكاسلت عن وصاياك. أنا اختطفت لي قضية الموت " (القداس الغريغوريوي)
يعطى القديس غريغوريوس بُعدًا جديدًا للوصية التى أُعطيت للآباء الأولين، مدللاً على أن " شجرة المعرفة " لم تُغرس بقصد سئ، ولا مُنعت عن آدم بسبب الغيرة والحسد. فالشجرة عند القديس هى [ مرأى الله، أو رؤية الله التى كان من الممكن أن يقترب أو يدنو منها أولئك الذين بلغوا الكمال بالتدرب والمران ]
[14].
وبذلك يشير القديس هنا على أن آدم كان فى طريقه إلى الكمال ولم يُخلق كاملاً تمامًا وهذا ما نادى به إيريناؤس من قبل، إذ يؤكد غريغوريوس فكرته هذه قائلاً: [ لم يكن من الحسن لغير المختبرين أن يأكلوا، وهم غير قادرين على الأطعمة القاسية التى لا تنفعهم، إذ هم محتاجون إلى اللبن الحليب]
[15].
وبالرغم من ذلك لا ينسى القديس أن يشرح أسباب السقوط ويلقى على الشيطان وعلى ضعف الطبيعة البشرية مسئولية السقوط قائلاً: [ولكن بسبب حسد الشيطان وضعف حال المرأة التى خضعت لإغراء الحية والشيطان، نسيت الوصية التى أُعطيت لها، فطُرد الجدان الأولان من الفردوس، ولبسا ألبسة جلدية (لعلها سماكة اللحم القابل الزوال المعاكس للحال الأول). وبأول نتائج هذه السقطة تدرك المرأة والرجل حال الخجل والحياء ويختفيان من وجه الله ]
[16].
والجدير بالملاحظة أن القديس غريغوريوس لا يجد فى طرد الأبوين الأولين عقابًا لمجرد العقاب، ولكن إحسانًا وخيرًا للبشرية إذ يقول: [يربح الإنسان الأول من هذه النتيجة: أنه يصبح مائتًا، وأنه يقطع عليه طريق الخطيئة، لكي لا يبقى الشر خالدًا عادم الزوال. وهكذا يصير العقاب إحسانًا وخيرًا للبشرية]
[17]. وهذا ما تؤكده الكنيسة فى قداس القديس غريغوريوس : " حولت لي العقوبة خلاصًا ".
ويشرح القديس بإسهاب كيف أن الله يسمح بالعقاب بغرض زوال الشر نفسه، ويصف هذه الأمور بأنها أدوية ضعيفة، لذا احتاج الإنسان إلى أدوية قوية للأمراض الرهيبة. وبذلك لا يحصر القديس نفسه فى الفهم القانوني للسقوط، الرأي الذي يختزل السقوط فى أنه مجرد مخالفة لوصية الله. فالقديس يتكلم عن السقوط على أنه مرض أصاب الطبيعة البشرية، لذا تصلي الكنيسة قائلة: " ربطتني بكل الأدوية المؤدية إلى الحياة". يوضح القديس غريغوريوس هذه الحقيقة قائلاً: [ لأني أنا أعتقد بأن الله يجازي هكذا مثل هذا الجزاء، وينساب تاريخ السقطة والعقاب بالخطايا والمآثم والإحسانات، والتهديد والوعيد، والعقوبات والغرق والسيول، والحرائق، والحروب، والانتصارات والإنكسارات، وعلامات السماء، وعلامات فى الريح والأرض والبحر، وتغيرات غير متوقعة فى الهيئة البشرية فى المدن والشعوب، وكل الأمور التي كان يسمح ويقصد بها زوال الشر. وبعد كل هذا تبقى الحاجة إلى أدوية أقوى فعلاً لهذه الأمراض الرهيبة، من جرائم قتل الأخ، والزنى، والخبث، والشهوات الشاذة، والانحرافات الأخلاقية والتى أقواها جميعًا عبادة الأوثان، ونقل العبادة من الخالق إلى المخلوق]
[18]. هكذا السقوط لم يكن مخالفة قانونية، ولكن انحراف الإنسان عن الهدف المرسوم له والابتعاد عن مصدر حياته الذى هو الله، وبذلك لم يحقق الإنسان القصد الإلهي من وجوده الذي شرحناه فى عنصر الخلق. وابتعاد الفرع عن الجذر سبب له ضعف وضمور ومرض، لذا ـ بحسب رأي القديس غريغوريوس ـ احتاج الإنسان إلى أدوية قوية تقوده إلى الحياة.

ثالثًا : الفداء :

" أنت يا سيدي حولت لي العقوبة خلاصًا. كراعٍ صالح سعيت فى طلب الضال. كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط. ربطتني بكل الأدوية المؤدية إلى الحياة "
(القداس الغريغوري)
عندما يشرح القديس غريغوريوس موضوع الفداء، لا يتعرض من قريب أو من بعيد للشق القانونى الذى ظهر فيما بعد فى الغرب المسيحى، لكن كما سبق أن أشرنا السقوط عنده هو مرض أصاب الطبيعة البشرية، لذا عبارة القداس الإلهى المسمى باسمه " ربطتنى بكل الأدوية المؤدية إلى الخلاص " تُفهم من خلال هذا الإطار. فالمسيح عنده هو الطبيب الشافى لنفوسنا وأجسادنا . ويركز القديس على هوية الكلمة المتجسد، وحقيقة كونه إله، إذ يقول [ وبما أن الإنسان صار ذو حاجة إلى معونة أكبر فتُعطى له من قِبل الله. كان المعين هو الكلمة يسوع المسيح نفسه الأزلى غير المنظور الذى لا يُحد ، البدء والآتى من البدء الأول، النور الآتى من النور، نبع الخلود ونبع الحياة، صورة الجمال الأول، الختم الذى لا يتغير، الصورة التى تشابهها صورة، كلمة الآب ونطقه ]
[19].
ويشرح القديس التجسد بحسب القول الشائع عند الآباء: [ أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له ]، وهذا تم عندما صار الكلمة إنسانًا كاملاً، إذ يقول: [أجل هذا (الكلمة) يدخل فى الصورة ذاتها ويلبس جسدًا من أجل الجسد، ويأخذ نفسًا روحية من أجل نفسي منقيًا هكذا الشبه بالشبه، شبهي أنا بشبهه، ويصير فى كل شئ إنسانًا كاملاً ما عدا الخطيئة. يولد من العذراء التي كان قد قدس نفسها وجسدها قبلاً بالروح القدس (لأنه وجب أن تُكرّم الولادة ولكن أن تُكرّم قبلها بتوليتها)، ويبقى المسيح إلهًا بعدما أخذ الطبيعة الإنسانية، صائرًا واحدًا من العنصرين المتغايرين من الجسد والروح ]
[20].
ودائمًا ينظر القديس إلى الوحدة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية فى شخص المسيح بنظرة إعجاب ودهشة، إذ يقول: ] يا لها من وحدة جديدة مستحقة الإعجاب والتعظيم! يا له من مركب إلهي غريب عجيب! غير المخلوق يخلق، وغير المحدود يصير محدودًا بواسطة النفس العقلية التى تتوسط بين الألوهية والطبيعة المادية طبيعة الجسد. والذي يوزع الغنى يصبح فقيرًا! لأنه يصير فقيرًا بحسب ما يأخذ جسدي على ذاته لأصبح أنا غنيًا بألوهيته. وذاك الذي هو بطبيعته مليء، يفرغ ذاته من مجده لوقت محدد لأذوق أنا الملء والسعة. يا لغنى الصلاح! يا للسر الذي يغمرني! أخذت الصورة الإلهية ولم أستطع أن أحافظ عليها ويأخذ المسيح جسدي. ولكي يحفظ الصورة، بل لكي يجعل جسده خالدًا. يأتي إلىّ، تقرب مني تقربًا أغرب وألزم من التقرب الأول. وبقدر ما أعطي أولاً الأفضل يأخذ الآن الأسوأ. وهذا ما هو أليق بالألوهة وبالله عند الذين يميزون تمييزًا رفيعًا]
[21].
واضح جدًا أن القديس يشدد على عنصر الإخلاء فى عمل المسيح الخلاصي ونفس المعنى نجده فى القداس الإلهي للقديس: " أيها الغير المحوى إذ أنت الإله لم تضمر اختطافًا أن تكون مساويًا لله، لكن أخليت ذاتك وأخذت شكل العبد، وباركت طبيعتي فيك ".
يلخص القديس غريغوريوس التدبير الخلاصى فى عظة له عن الثيوفانيا بكلمات واضحة ومختصرة مبينًا كيف أن الله خلق الإنسان، لكى يربط بين السماء والأرض ويملأ العالم بمجد الله، لقد أكرم الله الإنسان بالصورة الإلهية. وعندما يتعرض لمسألة السقوط يؤكد على أن الإنسان سقط فى الخطية بحسد إبليس. لكن الأمر الهام هو أن موقف الله تجاه الإنسان الساقط لم يكن سلبيًا بل على العكس كان إيجابيًا ، إذ يقول القديس: " لم يتغافل عنه ولم يهمله "
[22].
أما عن طبيعة هذا الخلاص وملامحه، يتحدث القديس غريغوريوس عن تجديد الطبيعة البشرية وذلك بتجسد الله وتأنسه: [ ابن الله يرتضى أن يصير إنسانًا ويسمى ابن الإنسان! لا يعنى هذا أنه تغير مما هو عليه، فهو غير متغير، بل اتخذ ما لم يكن له (لأنه محب للبشر) فيصير غير المُحوى محويًا، ويخاطبنا بالجسد كما هو وراء الحجاب. لأن الطبيعة البشرية الخاضعة للفساد لا تستطيع أن تحتمل ألوهيته إذا ظهرت. ولذلك اتحد الشيئان المتضادان: الولادة مع البتولية، وغير المتألم مع الألم، وغير المائت مع الجسد المائت]
[23].
وعندما يتكلم القديس غريغوريوس عن نصرة المسيح على الشيطان، يحدثنا عن مقابلة رائعة، إذ يشرح كيف أن الشيطان أسقط الإنسان بالخداع، وبالخداع أيضًا سقط هو بظهور المسيح، إذ عندما أراد أن يهاجمه اصطدم بالله: " وبما أن مخترع الشر ظن أنه لا يُغلب ما دام قد خدعنا، انخدع هو ذاته بظهور المجد بمهاجمته لآدم الجديد فاصطدم بالله، وهكذا خلّص آدم الجديد آدم القديم، وحل دينونة الجسد مميتًا الموت بالموت "
[24].
وهكذا بالفداء قد أزاح الله عنا الموت وأباده، ولم يعد يعوق مسيرة الإنسان نحو الكمال والاتحاد بالله، وأصبح من السهل على الإنسان بنعمة المسيح أن يحقق قصد الله من خلقته والتى تحدثنا عنه سابقًا فى مرحلة الخلق. لقد أعطى فداء المسيح إمكانية للإنسان أن يصير خليقة جديدة. ولكي يتحقق هذا، علينا أن نستعرض مفهوم "الزمن" عند القديس غريغوريوس الذى هو زمن الخلاص " اليوم يوم خلاص والوقت وقت مقبول ".

الزمن والخلاص عند القديس غريغوريوس:
نادى الفكر اليوناني بالمفهوم الدائري للزمن، فالزمن هو حركة تكرار لا نهاية لها ولا يحدث فيها شئ جديد، وقد تأثر بهذه الفكرة كاتب سفر الجامعة2:1ـ14: " باطل الأباطيل قال الجامعة باطل الأباطيل الكل باطل.. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس. دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد. والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال تذهب دائرة دورانا وإلى مداراتها ترجع الريح... ما كان فهو ما يكون والذي صنع فهو الذي يصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وُجد شيء يُقال عنه: انظر. هذا جديد. فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا..".
إن القديس غريغوريوس والآباء الكبادوك استخدموا هذا الفكر، لأنهم عبروا عن لغة عصرهم. ولكن نظروا لهذا الفكر تحت نور الإعلان الإلهي، فقد حفظوا فقط الشكل، ولكن بمحتوى جديد تمامًا. ويري القديس أن هناك تمييز واضح بين الزمن العالمي وزمن الله (الأبدية)، والعنصر الجديد الذى أضافه غريغوريوس هو الملمح التربوي التصاعدي للزمن الحاضر . فالإنسان مدعو فى حياته الأرضية لأن يجعل من الزمن الحاضر وسيلة لتذوق الأبديات
[25]. فعلى الإنسان أن يلتفت وينتبه ويحول بصره من الأمور الوقتية إلى الأبدية ويقترب من الله. بهذا المفهوم نستطيع أن نفهم الكلام المستمر لغريغوريوس عن حياة الملائكة والتشبه بهم، إذ أنهم متحررين من الزمن العالمي وهكذا هم موجودون بالقرب من الله[26].
يشرح القديس غريغوريوس أهمية الزمن الحاضر للخلاص فى عظة له عن المعمودية قائلاً: [ كل وقت هو وقت موافق للمعمودية لأن كل وقت هو وقت محتمل فيه موتك. إني أصرخ الآن وأناديك مع بولس الرسول بالصوت العظيم قائلاً: " هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص". "فالآن" لا تعنى فقط وقتًا بل كل وقت. وكذلك قوله: " أستيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح" حالاً ليل الخطية. أزرع حين الوقت زرع، وأجمع الحصاد، وأصنع الأهراء فى الوقت المناسب. واغرس فى الوقت اللازم، واقطف العنب حين ينضج، وإحدر قاربك إلى البحر فى الربيع. واسحبه أيضًا إلى البر حين يأتي الشتاء ويهيج البحر. كل أمر فى وقته إذا أردت أن تتمشى مع خطة سليمان الحكيم وهذا شئ لازم لأن نصيحة الحكيم نافعة. أما أمر خلاصك فاجعله موضوع إكمال دائمًا. وليكن الوقت المناسب لمعموديتك (لخلاصك) كل وقت من أوقاتك. وإذا كنت دائمًا تهمل اليوم وتؤجل إلى غد. فإن عملك خطأ من خدعة الشيطان بواسطة التأجيلات لأن هذا الأسلوب هو أسلوبه. (يقول لك): "اعطني حاضرك وأعط الله مستقبلك. أعطني وقت شبابك، وإلى الله وقت شيخوختك. أعطني شهواتك وإلى الله عجزك وعدم نفعك". فيا للخطر الذي تجتازه]
[27].
لقد تخلص غريغوريوس من الفكر الرواقي عن دوران الزمان والتكرار الأبدي للتاريخ، إذ أظهر تمييزًا واضحًا بين الزمن العالمي وأبدية الله، لكنه لم يرفض الزمن العالمي، بل كان يحث الإنسان بأن يفتدي الوقت ليجعله وقت خلاص. إذ على الإنسان أن يختار ويقرر مصيره بنفسه وليس للزمن سطوة عليه، فلم يعد خاضعًا للزمن بل الزمن خاضعًا له. لقد أراد غريغوريوس أن يتحرر الإنسان من المفهوم الدائري للزمن والذى يفترض أن هناك أحداث لابد أن تحدث وتفرض نفسها على الإنسان. وعلم التنجيم يفترض أن مصيرنا محدد مسبقًا، فالكواكب ـ بحسب اعتقاد هذا العلم ـ التى شاهدت ما حدث على الأرض قبلا، وما تم فى حياتنا السابقة، تستطيع أن تكشف لنا ما سيؤول إليه مستقبلنا. ولهذا يُسرع الكثيرون إلى قراءة الصحيفة اليومية ليعلموا ما سيكون عليه يومهم. إن هذا الاعتقاد يؤمن بأن برنامج الإنسان كُتب مُسبقًا وهو قدر محتوم. لكن التحرر من هذا المفهوم يجعل الإنسان يقرر بنفسه مصيره، كما يدعونا القديس غريغوريوس.
لعل المفهوم الدائري للزمن الذي يجعل الزمن يحمل حوادث تتكرر تكرارًا أبديًا له جذور فى المجتمعات الريفية . فالفلاح يري دورة الفصول المتكررة فى الطبيعة طوال أيام حياته. فالشمس تشرق وتغرب، والنيل يفيض فى أغسطس وينحسر فى أكتوبر. ويأتى الليل بعد النهار، والعكس النهار بعد الليل. تتابع فصول الأزمنة سنويًا فى مواعيدها: ربيع وصيف وخريف وشتاء. على العكس، فإن الإنسان فى المدينة والمجتمع الصناعي يتحمل مسئولية مصيره ويتخلص من قدرية الزمن الدوري ويؤمن بالزمن الخطي. أصبح للزمن غاية وهدف يسعى الإنسان لتحقيقه. لكن عند القديس غريغوريوس ليس الزمن هو دائريًا ولا مستقيمًا، بل هو لولبي، أى أن فيه تكرارًا وتقدمًا فى الآن نفسه. فقد رأى هذا الزمن تحت نور الإعلان الإلهي فالأسبوع الذي هو سبعة أيام الخليقة قد انتقل إلى اليوم الثامن الذى هو الأبدية. لقد ارتبط اليوم الثامن (في فكر الآباء) بزمن ملكوت الله ورجوع الإنسان إلى حالة ما قبل السقوط. لقد تطابق اليوم الثامن بيوم الأحد أى البصخة، عيد العبور، لأننا به قد تحررنا من نتائج السقوط ونسلك " نحو أرض الميعاد "
[28].
إذن ليس التكرار الذي ينادي به المفهوم الدائري للزمن فيه عودة محضة إلى نقطة الانطلاق، بل تقدم بمقدار خطوة واحدة. فالشمس التى أشرقت اليوم هي ذاتها الأمس وكذلك غدًا. لكن شيئًا جديدًا قد حدث، فالإنسان تغير والتاريخ تطور. فهناك إذًا تكرار يصاحبه تقدم وتحقيق هدف ومسيرة وغاية نهائية. وهكذا فإن الفكر الأفلاطوني عن الزمن أخذ محتوى مختلف، لأنه أبطل حالة اللا مخرج التى نتجت من سطوة مفهوم الزمن الدائري، طالما أن الرب قام أعطى الإنسان المقدرة بأن يكون له تاريخ شخصي وقصد خاص هو التشبه بالله
[29].
إن القديس غريغوريوس يقر بأن الإنسان يعي ويدرك جيدًا كيف أن العالم نسبي ومحدود، ولو أعطي قيمة للزمن الحاضر سيتمكن عندئذٍ أن يحقق خلاصه. وهكذا بينما المؤمنون يسلكون فى مسيرة ليقابلوا الله الصالح، يستطيعون أن يصنعوا " تاريخ " ويهربون من السيطرة المطلقة للزمن الدائري. فالفكرة المسيحية عن الزمن هي فكرة تطوّر يكون فيها الزمن خلاّقًا والتاريخ له غاية. أصبح للإنسان إمكانية الحصول على الخلاص، فشخص الرب بتجسده وآلامه وقيامته يمثل محتوى الخليقة الجديدة للإنسان. لم يرفض القديس غريغوريوس قيمة الزمن الحاضر، فهو ليس عائق فى سبيل حصول الإنسان على الحياة الأبدية، فالعالم الحاضر له ملمح تربوي
[30].
الخليقة ليست فى حد ذاتها مرفوضة، ولكن اعتبارها هدف فى حد ذاته وليس وسيلة تربوية، هي رؤية مرفوضة. فقيامة المسيح تنتصر على الموت وتؤسس تاريخ الإنسان وتجعله يصب فى الأبدي واللا نهائي: "وصرت وسيطًا لدي الآب والحاجز المتوسط نقضته والعداوة القديمة هدمتها، وأصلحت الأرضيين مع السمائيين". ففى المسيح عبرت الإنسانية إلى الشاطئ الآخر إلى الأبدية والانتصار على الموت. لذا يقول بولس الرسول: " فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح فى الله.." (كو1:3ـ3).
الإنسان لم يعد يحتاج للهروب من الزمن الحاضر باللجوء إلى ذكريات الماضي والجلوس هناك بلا حراك، فعليه أن يتحرك فى مسيرة تصاعدية نحو الله، فتّذكر الماضي لدى المؤمن قوة تدفعه للتحرك " كان يجول يصنع خيرًا" (أنظر أع38:10). فالمؤمن مدعو إلى القيام بأعمال جديدة فى الحاضر، فكل لحظة فى حياتنا هي فريدة، ولحظة "الآن" هي فريدة وتحمل رسالة فريدة من نوعها. فالمؤمن ليس سجين الماضي، وعليه أن يستند على الرجاء فى المسيح، فرجاؤنا مبنيًا على ما أتمه المسيح لأجلنا، بالمسيح نتخلص من سلطان الموت والظلمة، ونحن نسير نحو المدينة السماوية عابرين هذا العالم الزائل ممتلئين بسلام الله الذى يفوق كل عقل: " وعند صعودك إلى السموات جسديًا إذ ملأت الكل بلاهوتك، قلت لتلاميذك ورسلك القديسين سلامي أعطيكم، سلامي أنا أترك لكم. هذا أيضًا الآن أنعم به علينا يا سيدنا وطهرنا من كل دنس ومن كل غش ومن كل رياء... ".
إن الأبدية دخلت التاريخ بالمسيح وأن هذا العنصر الجديد يعطينا رجاءً عظيمًا، حينذاك يسمو التاريخ على نفسه وبفعل الخميرة (مت33:13)، وحبة الخردل التى صارت شجرة كبيرة (مت31:13): "أتيت إلى الذبح مثل حمل حتى إلى الصليب. أظهرت عظم اهتمامك بي. قتلت خطيئتي بقبرك. أصعدت باكورتي إلى السماء. أظهرت لي إعلان مجيئك. هذا الذى تأتى فيه لتدين الأحياء والأموات.. ". فرجاؤنا أن الرب أتى ـ والرب يأتى ـ والرب سيأتى، رجاؤنا يستند على الإيمان بالمستقبل والاتكال على الله الخالق الذى صنع العالم. فاختراق الأبدية للزمن يضفي على هذا الزمن ملء معناه وتأخذ حقيقته وكيانه وزنًا، وهي أمور يعجز الزمن على الحصول عليها من ذاته. لذا لم يعد فى حياتنا شئ بدون معنى أو اعتباطي، وأبسط الأعمال تتخذ صورة أخرى بفضل هذه الحقيقة الإيمانية. فكل لحظة تمر، هي لحظة خلاصية وفريدة " مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة " فالله فى قلب التاريخ، وفى قلب الزمان وفى قلب الإنسان، نعم كل لحظة امتلأت منذ التجسد بحضوره، لأن الأبدية هي في قلب الزمان.
خاتمة :
لقد رأينا كيف أن القديس غريغوريوس عندما يشرح الخلاص يبدأ من الخلق ثم يمر بمرحلة السقوط وينتهي إلى مرحلة الفداء. هذه المراحل الثلاثة هي متصلة ولا يستطيع المرء أن يري كل مرحلة على حدة، منفصلة عن المرحلتين الأخرتين. فالخلاص هو استعادة عطايا الخلق، فالإنسان يستعيد إمكانيات الخلق "على صورة الله ومثاله"، يستعيد الطريق نحو الاتحاد بالله بإمكانيات تفوق العطايا الأولى، إذ يصبح المسيح هو رفيق المسيرة، مانح القوة ومصدر الحياة. المسيح يصبح الطبيب الشافي للطبيعة البشرية التى أصابها المرض بالسقوط، إذ يصير هو نفسه دواء الخلود " ربطتنى بكل الأدوية المؤدية إلى الحياة "، وهو الراعي " كراعٍ صالح سعيت فى طلب الضال"، وهو الأب الحنون " وكأب حقيقي تعبت معي أنا الذى سقطت". لقد " أخذ الذي لنا وأعطانا الذى له"، " فلقد تقرب مني تقربًا أغرب وألزم من التقرب الأول. وبقدر ما أعطي أولاً الأفضل يأخذ الآن الأسوأ". والقداس الغريغوري يعبر عن هذه الحقيقة تعبيرًا رائعًا عندما يقول: "أيها الغير المحوى إذ أنت الإله لم تضمر اختطافًا أن تكون مساويًا لله، لكن أخليت ذاتك وأخذت شكل العبد، وباركت طبيعتي فيك". نعم بالتجسد واتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية فى شخص المسيح صار شفاءً للطبيعة البشرية من الفساد الذي تسلل إليها بسقوط الإنسان وابتعاده عن طريق الحياة. ويؤكد القديس غريغوريوس على الملامح الشفائية للفداء، لأنه يري مثل كل الآباء الشرقيين ـ السقوط هو مرض يتطلب شفاءً. هكذا لم يحصر مفهوم السقوط فى الإطار القانوني باعتباره مجرد مخالفة قانونية. فالفداء لا يُختزل في قرار براءة، ولكن الفداء يستلزم شفاء الطبيعة البشرية، لذا فالتجسد لا غنى عنه، لأن الطبيعة البشرية لا تُشفى إلاّ باتحادها بالطبيعة الإلهية، وهذا هو معنى القول الشائع عند الآباء: [هو أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له ].
أيضًا حديث القديس غريغوريوس عن الزمن وعن اللحظة الحاضرة، ينبع من رؤيته للزمن التى تختلف عن رؤية البيئة اليونانية للزمن بالفهوم الدائري الذي فيه تكرارًا مملاً للأحداث. فالقديس غريغوريوس يؤمن بأن الزمن الحاضر له ملمح تربوي فى مسيرة تصاعدية نحو الاتحاد بالله. فالزمن لدى المسيحية هو زمن خلاّق والتاريخ له غاية. وأصبح للإنسان إمكانية الحصول على الخلاص، فمحتوى الخليقة الجديدة للإنسان هو في عمل المسيح الفدائي. والقديس غريغوريوس لا يرفض الزمن الحاضر ولا يعتبره عائقًا فى سبيل حصول الإنسان على الحياة الأبدية. فالخليقة ليست هدفًا فى حد ذاته، بل وسيلة لصنع شركة مع الله. والمؤمن مدعو لأن يقوم بأعمال جديدة فى الحاضر، فكل لحظة فى حياتنا هي فريدة وتحمل رسالة فريدة من نوعها " أذهب وخبر بكم صنع الرب بك ورحمك " (أنظر مر19:5).

[1] EPE 27, Grh. Qeol. 5;3, Logoj ME, sel. 157 Eij to P£sca.
عظة للقديس غريغوريوس عن البصخة، والترجمة العربية للعظة تعريب الأسقف اسطفانوس حداد، مختارات من القديس غريغوريوس اللاهوتي النزينزي، منشورات النور 1994، ص178.
2 المرجع السابق. ومن الجدير بالذكر أننا نجد هذا الكلام يكرره القديس غريغوريوس فى العظة (38) عن الثيوفانيا، نفس المرجع السابق ص37ـ71.
3 المرجع السابق.
4 المرجع السابق ص 178.
5 المرجع السابق ص 171.
6 المرجع السابق ص 179.
7 المرجع السابق ص 179.
8 المرجع السابق ص 179.
9 أنظر المرجع السابق ص179.
10 المرجع السابق، ص 179.
11 المرجع السابق ص 180.
12 طبعًا ليس المقصود أن يصير الإنسان إلهًا مثل الله قادر على كل شئ، ولكن يكتسب الإنسان الفضائل الإلهية عندما يصنع شركة مع الله.
13 المرجع السابق ص 180.
14 المرجع السابق ص 180.
15 المرجع السابق ص 180.
16 المرجع السابق ص 180، 181.
17 المرجع السابق ص181.
18 المرجع السابق، ص 181.
19 المرجع السابق ص 181.
20 المرجع السابق ص 181.
21 المرجع السابق ص181.
22 المرجع السابق، عن الثيوفانيا فى عماد المسيح ص 171، مختارات من القديس غريغوريوس اللاهوتى النزينزى، تعريب الأسقف استفانوس حداد، منشورات النور 1994.
23 المرجع السابق.
24 المرجع السابق.
25 أنظر : LÕgoj17, 4, P.G. 36, 625C, LÕgoj44, 3, P.G. 36, 609C .
[26] LÒgoj28, 31, P.G. 36, 72D; LÒgoj7, 9, P.G. 35, 765B.
27 عظة عن المعمودية، المرجع العربي السابق، ص 143.
[28] Epistol»120, P.G. 37, 216A.
[29] LÕgoj1, 3, P.G. 35, 397, LÒgoj18, 3, P.G. 35, 988BD.
[30] LÕgoj43, 13, P.G. 36, 512C.