الجمعة، 19 ديسمبر 2014

هدايا المجوس


                             

هدايا المجوس

                                                                                                                           د. جورج عوض إبراهيم
لقد ذكر الإنجيلي متى الآتي: " وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ  قَائِلِينَ:«أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ:«أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» فَقَالُوا لَهُ:«فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ».حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ:«اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ" (مت1:2ـ12).
 هل ما ذكره القديس متى للهدايا التي قدمها المجوس للمسيح له أهمية خاصة؟
الإنجيلي متى هو الإنجيلي الوحيد الذي ذكر لنا رواية سجود المجوس وذكر أيضًا أن المجوس قدموا للمسيح ثلاثة هدايا ذهب، ولبان، ومُر.
أول هذه الهدايا، الذهب، كان المعدن الأكثر ثمناً خصوصاً في منطقة فلسطين. من إشارات العهد الجديد إلى الذهب نستنتج بأنه كان يُستخدم فقط بواسطة الأغنياء جدًا الذين قال عنهم يعقوب أخو الرب أنهم لابسون " خواتم من ذهب" (يع2:2). على النقيض، بالنسبة للإنسان ذات الدخل المتوسط في ذلك العصر، امتلاك الذهب كان أمرًا غير مفهوم.
العهد الجديد يتجاوب في بعض الحدود مع المسافة أو الفجوة التي كانت تفصل الكنيسة الأولى عن الذهب حيث أنها كانت تعتبره مثال للازدهار المادي الكبير وأداة للترويج الذاتي:
(مت9:10): " لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ".
(أع6:3): " فَقَالَ بُطْرُسُ:«لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!».
(1تيمو9:2): " وَكَذلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ".
(يع3:5): " ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ! قَدْ كَنَزْتُمْ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ".
(1بط3:3): " وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ".
على الجانب الآخر، يخبرنا العهد الجديد بأن الذهب والأشياء المصنوعة من الذهب تحتل مكانة سواء إيجابية أو سلبية في كل من العبادة اليهودية والأممية.
(أع29:17): " فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ اللهِ، لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ اللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرِ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَاخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ".
(عب4:9): " فِيهِ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَتَابُوتُ الْعَهْدِ مُغَشًّى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِالذَّهَبِ، الَّذِي فِيهِ قِسْطٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ الْمَنُّ، وَعَصَا هَارُونَ الَّتِي أَفْرَخَتْ، وَلَوْحَا الْعَهْدِ".
(1بط18:1): " عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ".
(رؤ20:9): " وَأَمَّا بَقِيَّةُ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا بِهذِهِ الضَّرَبَاتِ، فَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالِ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى لاَ يَسْجُدُوا لِلشَّيَاطِينِ وَأَصْنَامِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُبْصِرَ وَلاَ تَسْمَعَ وَلاَ تَمْشِيَ".
هكذا هيكل أورشليم الذهبي يحتل مكانة هامة في ضمير أو وعي الكتبة والفريسيين لدرجة أنهم يعتبرون أن القسم أي الحلفان على ذهب الهيكل هو أكثر إلزامًا من القسم على الهيكل ذاته: (مت16:23ـ17):       " وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَب الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ. أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ! أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟". أخيرًا يخبرنا سفر الرؤيا بأيقونات العبادة السماوية ومدينة الله الأخروية والتي فيها يضع بالأحرى مادة الذهب كرمز للقوة الإلهية بنقاءها وبهاءها:
(رؤ12:1ـ13): " فَالْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعِي. وَلَمَّا الْتَفَتُّ رَأَيْتُ سَبْعَ مَنَايِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي وَسْطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، مُتَسَرْبِلاً بِثَوْبٍ إِلَى الرِّجْلَيْنِ، وَمُتَمَنْطِقًا عِنْدَ ثَدْيَيْهِ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ذَهَبٍ".
(رؤ20:1): " سِرَّ السَّبْعَةِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى يَمِينِي، وَالسَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ: السَّبْعَةُ الْكَوَاكِبُ هِيَ مَلاَئِكَةُ السَّبْعِ الْكَنَائِسِ، وَالْمَنَايِرُ السَّبْعُ الَّتِي رَأَيْتَهَا هِيَ السَّبْعُ الْكَنَائِسِ".
(رؤ1:2): " اُكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ أَفَسُسَ: «هذَا يَقُولُهُ الْمُمْسِكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ، الْمَاشِي فِي وَسَطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ".
(رؤ18:3): " أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْل لِكَيْ تُبْصِرَ".
(رؤ4:4): " وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا. وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ".
(رؤ8:5): " وَلَمَّا أَخَذَ السِّفْرَ خَرَّتِ الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا أَمَامَ الْخَروفِ، وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ".
(رؤ3:8): " وَجَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ وَوَقَفَ عِنْدَ الْمَذْبَحِ، وَمَعَهُ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَأُعْطِيَ بَخُورًا كَثِيرًا لِكَيْ يُقَدِّمَهُ مَعَ صَلَوَاتِ الْقِدِّيسِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى مَذْبَحِ الذَّهَبِ الَّذِي أَمَامَ الْعَرْشِ".
(رؤ7:9): " وَشَكْلُ الْجَرَادِ شِبْهُ خَيْل مُهَيَّأَةٍ لِلْحَرْبِ، وَعَلَى رُؤُوسِهَا كَأَكَالِيلَ شِبْهِ الذَّهَبِ، وَوُجُوهُهَا كَوُجُوهِ النَّاسِ".
(رؤ13:9): " مَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ السَّادِسُ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةِ قُرُونِ مَذْبَحِ الذَّهَبِ الَّذِي أَمَامَ اللهِ".
(رؤ4:14): " هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً ِللهِ وَلِلْخَرُوفِ".
(رؤ6:15ـ7): " وَخَرَجَتِ السَّبْعَةُ الْمَلاَئِكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتِ مِنَ الْهَيْكَلِ، وَهُمْ مُتَسَرْبِلُونَ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وَبَهِيٍّ، وَمُتَمَنْطِقُونَ عِنْدَ صُدُورِهِمْ بِمَنَاطِقَ مِنْ ذَهَبٍ. وَوَاحِدٌ مِنَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةِ سَبْعَةَ جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مَمْلُوَّةٍ مِنْ غَضَبِ اللهِ الْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ".
(رؤ12:18): " بَضَائِعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَجَرِ الْكَرِيمِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْبَزِّ وَالأُرْجُوانِ وَالْحَرِيرِ وَالْقِرْمِزِ، وَكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ، وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنَ الْعَاجِ، وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنْ أَثْمَنِ الْخَشَبِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْمَرْمَرِ".
(رؤ16:18): " وَيَقُولُونَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُتَسَرْبِلَةُ بِبَزّ وَأُرْجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، وَالْمُتَحَلِّيَةُ بِذَهَبٍ وَحَجَرٍ كَرِيمٍ وَلُؤْلُؤٍ!".
(رؤ15:21): " وَالَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعِي كَانَ مَعَهُ قَصَبَةٌ مِنْ ذَهَبٍ لِكَيْ يَقِيسَ الْمَدِينَةَ وَأَبْوَابَهَا وَسُورَهَا".
(رؤ20:18ـ21): " اِفْرَحِي لَهَا أَيَّتُهَا السَّمَاءُ وَالرُّسُلُ الْقِدِّيسُونَ وَالأَنْبِيَاءُ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَانَهَا دَيْنُونَتَكُمْ، وَرَفَعَ مَلاَكٌ وَاحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظِيمَةٍ، وَرَمَاهُ فِي الْبَحْرِ قَائِلاً: «هكَذَا بِدَفْعٍ سَتُرْمَى بَابِلُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَنْ تُوجَدَ فِي مَا بَعْدُ".
نستطيع أن نقول على أساس كل هذه الشواهد أننا ندرك الأهمية التي لدى الذهب الذي قد قدموه المجوس للمولود المسيح. طالما أن المجوس طلبوا " قَائِلِينَ:«أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ» (مت2:2).
ما الذي كان مناسب أكثر من أثمن المعادن وأكثرها رغبة " الذهب" كهدية لملك كانت ولادته مصاحبة بظهور نجم لامع؟ عن حق إذن التفسير الذي يعتبر ذهب المجوس إشارة للهوية الملوكية للرب.
الهدية الثانية للمجوس، اللبان كان مصدره شجرة تحمل الإسم نفسه تنبت بالأحرى في العربية، وفي ساحل الصومال وفي الهند الشرقية. واللبان كان يُستخدم في كل من العبادة اليهودية والوثنية. لقد فُسرت هذه الهدية على أنها تقدمة البخور التعبدية للأقنوم الثاني للثالوث القدوس.
الهدية الثالثة للمجوس كانت المُر. الكلام أيضًا عن سائل من شجرة تحمل نفس الإسم تنبت في جنوب العربية. المُر قريب الشبه من الميرون الذي نعرفه وبالحري من رائحته ويُستخدم في المشروبات الروحية (أنظر مر23:15): " وَأَعْطَوْهُ خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرّ لِيَشْرَبَ، فَلَمْ يَقْبَلْ"، لكن أيضًا في تصنيع الروائح لإستخدامات مختلفة من بينهما دهن الأموات بحسب إنجيل يوحنا، يخلط المر والصبار كان يهدف حاملات الطيب أن يدهنوا جسد الرب بعد موته (يو39:19). على أساس هذه المعلومة اعتبر مفسري الكتاب أن تقدمة المُر تشير إلى أن الرب صار إنسانًا لكي يموت لأجل خلاصنا.
توجد أيضًا إمكانية لتفسير لاهوتي لهدايا المجوس. الجدير بالذكر أن كلمة "مجوس μάγος" ليس لديها هنا مفهوم سلبي قد يكون موجود في نصوص أخرى في العهد الجديد علي سبيل المثال:
(أع9:8، 11): " وَكَانَ قَبْلاً فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ، يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ، قِائِلاً إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ!. وَكَانُوا يَتْبَعُونَهُ لِكَوْنِهِمْ قَدِ انْدَهَشُوا زَمَانًا طَوِيلاً بِسِحْرِهِ".
(أع6:13): " وَلَمَّا اجْتَازَا الْجَزِيرَةَ إِلَى بَافُوسَ، وَجَدَا رَجُلاً سَاحِرًا نَبِيًّا كَذَّابًا يَهُودِيًّا اسْمُهُ بَارْيَشُوعُ".
هؤلاء المجوس هم حكماء لديهم إمكانية أن يفسروا شروق نجم لامع كـ إعلان عن ولادة ملك لليهود. على الجانب الآخر، في ذلك العصر كان من المُسلمات أن ولادات شخصيات مميزة تُصاحب ظواهر سماوية أو حوادث غير معتادة، وبذلك سيكون من الخطأ أن نقبل شرعية علم النجوم على أساس نص متى هذا. بحسب متى الإنجيلي وجد المجوس المسيح بمساعدة عِلم النجوم «ἀστρολογὶα» لكن في النهاية يتخطى التفاصيل الفنية للقاء المسيح مع المجوس.
المجوس كحكماء وثنيين يمثلون كل العالم الأممي في ذلك العصر والنجم الذي أشرق ليس هو مجرد ظاهرة سماوية بل رمز لملك إسرائيل الماسياني بحسب نبوة العهد القديم: " أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ، فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى" (عدد17:24). هكذا تبع المجوس نجم مادي ومحسوس لينقادوا إلى نجم روحي، ليس هو إلا المسيح ذاته، ملك إسرائيل الحقيقي، الذي وُلِدَ في بيت لحم وفق نبوة ميخا الماسيانية:  «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ». ( ميخا2:5 )
هكذا وصل المجوس أمام الرب وسجدوا وقدموا الهدايا. إن السجود للرب من الأمم في أورشليم وتقديم الهدايا وبالأحرى الذهب واللبان نتقابل معه في العهد القديم: " فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالْمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ. اِرْفَعِي عَيْنَيْكِ حَوَالَيْكِ وَانْظُرِي. قَدِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ. جَاءُوا إِلَيْكِ. يَأْتِي بَنُوكِ مِنْ بَعِيدٍ وَتُحْمَلُ بَنَاتُكِ عَلَى الأَيْدِي. حِينَئِذٍ تَنْظُرِينَ وَتُنِيرِينَ وَيَخْفُقُ قَلْبُكِ وَيَتَّسِعُ، لأَنَّهُ تَتَحَوَّلُ إِلَيْكِ ثَرْوَةُ الْبَحْرِ، وَيَأْتِي إِلَيْكِ غِنَى الأُمَمِ. تُغَطِّيكِ كَثْرَةُ الْجِمَالِ، بُكْرَانُ مِدْيَانَ وَعِيفَةَ كُلُّهَا تَأْتِي مِنْ شَبَا. تَحْمِلُ ذَهَبًا وَلُبَانًا، وَتُبَشِّرُ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ" (إش3:60ـ6).
أيضًا نتقابل مع إشارة لها علاقة بمجد سليمان أيضًا في الهدايا التي قدمتها شعوب الأرض، التي تمثل في نفس الوقت أيضًا النص النبوي عن نسل سليمان، الماسيا: " مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَالْجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً. وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ الْمُلُوكِ. كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ" (مز10:72ـ11). بالتالي، في سجود وتقديم هدايا المجوس تحققت إعلانات العهد القديم وفي نفس الوقت إعلان مسبق لرجوع الأمم إلى الله الحقيقي، وإيمانهم بالمسيح ودخولهم إلى الكنيسة.
من المعروف أن الإنجيل بحسب متى في محصلته يمثل إجابة الكنيسة اللاهوتية على اليهود غير المؤمنين. بالتالي الإشارة في بداية الإنجيل بواسطة هدايا المجوس وسجود وتقديم الهدايا إلى الأمم تجاه المسيح يكتسب أهمية خاصة كبيرة، يُعطي رسالة بأن الأمم كانوا مباشرةً منذ البداية إيجابيون تجاه الماسيا، الذي في اللحظة الأولى كان الشعب المختار رافضًا له. هذا يبدو، لو قارن أحد موقف المجوس بموقف اليهود في أورشليم، الذين إنزعجوا، مثل هيرودوس، عندما علموا بخبر الملك المولود (أنظر مت3:2): " فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ" خاصةً رئيس الكهنة والكتبة هم في موضع أن يمدوا هيرودس بمعلومات من الكتاب المقدس عن مكان ولادة المسيح على أساس النبوات لكن جهلوا حدث الولادة ذاته، الحدث الذي عرفوه المجوس الغرباء بطريقة معجزيه  (أنظر مت4:2ـ6): " فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ:«أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ». لقد اضطر المسيح ذاته بعد ذلك في (مت13:2ـ23) للذهاب إلى مصر ويترك موطنه لكي يكون بين الأمم.  
بالتأكيد يُشدد في الإنجيل بحسب متى على أن المسيح أتى أولاً لليهود "فَأَجَابَ وَقَالَ:«لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ» (مت24:15). للتو في نهاية فصل الإنجيل يبدو أنه تحققت الدعوة المسكونية للكرازة تجاه الأمم، عندما أعطى الرب القائم لتلاميذه وصية " فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (مت19:28)، الوصية التي حلت محل الوصية السابقة أثناء حياته الأرضية: "هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً:«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (مت5:10ـ6). لذلك حين يطرح القديس يوحنا ذهبي الفم سؤال لماذا ظهر النجم؟ يجيب، قائلاً: " لقد ظهر لكي يبرز عدم إحساس اليهود وينزع أي عذر يبرر عصيانهم وعدم إيمانهم. لأنه كان لابد لهذا الذي أتى من السموات ان يعطي نهاية لطريقة الحياة القديمة ويدعو المسكونة لكي تسجد له وتعبده في كل البر والبحر, لقد فتح من البداية الباب لكل البشر, لأنه أراد أن يعطي مثالاً لخاصته من خلال المجوس الغرباء, لأنه بالرغم من أنهم سمعوا باستمرار الأنبياء الذي تحدثوا عن تأنسه, فإنهم لم يعطوا الأهمية المطلوبة, وجعل البرابرة يأتون من أماكن بعيدة ويطلبون الملك الذي كان يوجد بالقرب منهم وأُخبروا عنه عن طريق المجوس الآتين من بلاد فارس, وهم الذين لم يريدوا أن يعرفوه من الأنبياء, لدرجة أنهم لو تبعوه لكان لديهم برهان بأنهم آمنوا بحضوره".
 ثم يستمر القديس يوحنا ذهبي الفم، قائلاً: "ولو حدث العكس وقاوموه بشدة لكان ليس لديهم أي عذر لأن أي عذر سوف يقدمونه لو لم يؤمنوا بالمسيح بعد هذا الكم من النبوات, عندما رأوا أن المجوس آمنوا لمجرد أنهم رأوا نجم وأتوا لكي يسجدوا للطفل؟ وهكذا فعل أيضًا في حالة المجوس كما في حالة أهل نينوي الذي أرسل لهم يونان, وكما في حالة السامرة. لأجل هذا قال: " رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا! "(مت41:12ـ42). لأن أولئك آمنوا بالأمور الصغيرة بينما هؤلاء لم يؤمنوا ولا بالأمور العظيمة"[1].
هكذا في الحقيقة انفتاح الإنجيل تجاه الأمم لا يُطرح كموضوع للمرة الأولى في نهاية الإنجيل بحسب متى، لكن قد سبق وأعلنه الإنجيلي في بدايته، وفق رواية سجود المجوس وتقديم هداياهم إلى" ملك اليهود"، إلى الله مخلص كل الأمم. 






[1]  القديس يوحنا ذهبي الفم، مولود المذود، ترجمة د.جورج عوض و د.سعيد حكيم مراجعة د.نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ص11

السبت، 25 أكتوبر 2014

أعضاء الكنيسة الأحياء والمرضي


أعضاء الكنيسة الأحياء والمرضي


عظات للمعمدين الجدد


العظة السابعة


الأب ايروثيوس فلاخوس – ترجمة د. جورج عوض

1ـ الإبن الأكبر

2ـ أعضاء معافية ومريضة

3ـ ملامح المسيحية الحقيقية

   الأب في المثل الذي درسناه له أبنين, الأصغر والأكبر. الأصغر ذهب بعيدًا عن البيت ورجع تائبًا, بينما الأكبر ظَّل في البيت, وحفظ واجباته النمطية, لكن في النهاية إبتعد, لأنه عُثِر من محبته أبيه تجاه الإبن الأصغر العائد.

   حين رجع  أخية الأصغر, غضب الإبن الأكبر ولم يرد أن يدخل : "وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصًا. فَدَعَا وَاحِدًا مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟ فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِمًا. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. فَأَجَابَ وَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ! فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. وَلكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالُا فَوُجِدَ»" (لو25:15ـ32).

   تشخيص الإبن الأكبر هو واضح لأولئك الذين يبقون نمطيًا في الكنيسة. الذي يحلل الحالة النفسية للإبن الأكبر يلاحظ أن لديه أحساس بأنه يحفظ وصايا أبيه ، هو في الواقع واحد قانوني. وبالطبع لم يكن يحفظ الناموس بطريقة صحيحة, لأن حفظ الناموس بدون المحبة لا يصنع إبن حقيقي لله. ثم شعر أنه له الحق للبقاء في بيت أبيه. لديه مطالب تأتي من حفظه الأمين لوصاياه. أيضًا ليس لديه محبة, وشوق ورحمة. هو عديم الإحساس برجوع أخيه المعذب. وغياب المحبة هذه عبَّر عنها بهجوم شديد. ليس هو أخي, بل "هذا الإبن" هو ضال, "الذي أكل معشيته مع الزواني". بالتالي, الساعة التي أظهر فيها الإبن الأصغر توبة وفرح بالإحتفال في البيت, أظهر الإبن الأكبر مرضه الروحي وظَّل خارج البيت.

   يوجد في الكنيسة أعضاء معافية صحيحة وأعضاء مريضة، بالحري أود أن نري مرض أعضاء الكنيسة الروحي.

   بسر المعمودية والمسحة نصير أعضاء الكنيسة, أعضاء جسد المسيح. يسبق المعمودية فترة نسكية التي هي فترة الوعظ ويتبعها حياة نسكية الذي هو حفظ وصايا المسيح. المعمودية قي الواقع هي بداية الحياة الجديدة في المسيح, ليست هي النهاية. قال المسيح لتلاميذه: " فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت19:28ـ20). كان يجب علي التلاميذ أن يصنعوا أمرين الأول أن يعمدوا الناس وثم بعد ذلك يعلموهم أن يحفظوا وصايا المسيح. بالتالي, لا يكفي المعمودية, بل أيضًا حفظ وصايا المسيح.

   لكي يحصل أحد علي خلاصة يجب أن يكون مُعمَّد وعنده يقين الإيمان كما يقول القديس سمعان اللاهوتي الجديد. هذا يعني أنه يجب أن يُعمَّد, لأن: " مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ" (مر16:16), وبعد ذلك يجب أن يحيا وفق رسالة المسيحي الأرثوذكسي. هذا نراه في كل منظومة بشرية. لا ينبغي ببساطة أن يُسجَّل أحد في نقابة أو جماعة, بل يجب أن يحفظ كل الواجبات التي تخص أعضاء هذه المنظومة.

   بالتأكيد, نعمة المعمودية لا تُفقد إطلاقًا, بل تظَّل داخل قلب الإنسان. لكن, كما يُعَلِم الآباء القديسون, بالخطايا الذي يرتكبها الإنسان, نغطي هذه النعمة  بالشهوات. هكذا, في هذه الحالة النعمة ممكنة لعضو الكنيسة وليست في حالة تفعيل. أي لديه إمكانية أن يصل إلي حياة الشركة مع الله لكن هو ذاته بإختيارة الحر لا يفعَّل هذة الامكانية . إنه يشبه ماكينة لديها إمكانية أن تنتج عمل لكن لم تتصل بالطاقة الكهربائية. يشبه تلفزيون مغلق, بينما لديه كل الإمكانيات أن يعمل ويُظهِر صورة.

   بهذه الأهمية في الكتاب المقدس ونصوص الآباء القديسين يصير حديث عن أعضاء مريضة وأعضاء ميته في الكنيسة . فالكنيسة هي حياة طالما هي جسد المسيح الذي هو نور وحياة للبشر. مَنْ لا يحيا حقًا في الكنيسة ليست له حياة وبالتالي هو ميت. لديه بالطبع حياة بيولوجية لكن ليس لديه نعمة الله فيه.

   سوف نري كيف أن عضو في الكنيسة يشبه الإبن الأكبر في مثل الإبن الضال ولكي نراه من الأفضل ان نعرف كيف يكون المرء عضو حي في الكنيسة.

   عضو الكنيسة الحقيقي والمسيحي الحقيقي هو ذاك الذي تتوفر له الملامح الآتية:

   أولاً: يظل في الكنيسة طالما لا يأتي إليها بإلحاد وهرطقة  ولا يشارك في إجتماعات الهراطقة هذا يعني إنه يقبل قبولاً مطلقًا الإيمان الذي يعترف بقانون الإيمان, يشترك في أسرار الكنيسة, يتقدس منها ويمارس في حياته الشخصية وصايا الله. يشعر بأنه يظل في الكنيسة لكي يخلُّص وليس لكي يُخلصَّها, لأن الكنيسة لا تحتاج للخلاص.

ثانيًا: يشعر بأنه إبن لله, أي له أب, ليس هو يتيم. أبيه العظيم هو الله. لكن أيضًا الإكليريكيون هم آباء, طالما هم في مثال ومكان حضور المسيح. بالتالي, عضو الكنيسة الحقيقي يُطيع الأساقفة, والإكليروس, ولديه حياته الروحية. وبالتأكيد, يقبل تعليم الآباء القديسين ويحاول أن يتمثل بحياتهم, أي ممارستهم وشهادتهم.

ثالثًا: يشعر أنه ينتمي للعائلة وبالتالي لديه إخوة روحيين ليس هو بمفرده في الكنيسة. هذا يعني أولاً أنه يحب إخوته. لا يحكم عليهم أو يدينهم بأخطائهم حتى لو إرتكبوها. يجب أن يكون صبور ومحتمل لضعفاتهم. ثم يعلن محبته بطرق متنوعة. يتقاسم الألم معهم وكذلك الفرح. فرح الآخرين هو فرحه, وحزنهم هو حزنه, المحبة شركة محبة, الإيمان وحدة الإيمان. الكل يجب أن يشعر بأنه مشترك ، يجب أن يشعر بأن الكنيسة هي العائلة, كما بالضبط شعر المسيحيون الأوائل, بحسب وصف سفر الأعمال (أع41:2ـ47). لو حاول أن يحفظ ناموس الله, وليست لديه محبة, لن يكون مسيحي حقيقي, إنه عضو مريض للكنيسة.

رابعًا: في حالة الخطية يتبع تربية شفائية. الإنسان هو متغير هذا يعني أنه يتغير, يتعرض للجرح في أثناء حياته. بالتالي هو يكون لكي يخطئ. الكتاب المقدس يقول: "مَنْ يُخْرِجُ الطَّاهِرَ مِنَ النَّجِسِ؟ لاَ أَحَدٌ! إِنْ كَانَتْ أَيَّامُهُ مَحْدُودَةً، وَعَدَدُ أَشْهُرِهِ عِنْدَكَ، وَقَدْ عَيَّنْتَ أَجَلَهُ فَلاَ يَتَجَاوَزُهُ" (ايوب4:14ـ5). يوحنا الإنجيلي أيضًا يقول: "إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا" (1يو8:1).

الخطايا ليست ذنوب ورفض بسيط للناموس, بل بالحري قبل كل شيء هي جروح وأمراض الإنسان الخاطئ هو مريض روحيًا. بالتالي, لمواجهة الخطية يجب أن يُوضَّع في إطار شفائي وطبي. الكاهن هو طبيب يمارس وظيفته في إسم الطبيب الأعظم, الذي هو المسيح. هو يطهر ويغسل الجروح, يعمل تدخلات جراحية, لو الأمر يستدعي ذلك, وعامةً يشفي الجروح في هذا الإطار, يجب أن نري التوبة والإعتراف ووصايا الأب الروحي, والتي تُدعَّي التأنيبات أو التوبيخات. يجب أن نتوب, أي نشعر بالخطأ والمرض, أن نريد الشفاء, أن نلجأ إلي المعالج (الشافي) لكي نعترف بمرضنا, لكي نكشف كل المخفيات والمراحل الخفية للمرض وبعد ذلك نتبع الإشارات الشفائية للطبيب الروحي بشجاعة وغيرة حسنة. الكنيسة لديها سر التوبة والإعتراف.

عندما يخطئ أحد, في الكنيسة الأولي, عندما يمرض مرضًا خطيرًا ينضم مرة أخري لصف الموعوظين. لأجل هذا النجسين يُحسبوا من فئة الموعوظين والممسوسين والخطاة التائبين. كل هؤلاء يتبعون تربية شفائية مناسبة. بالتأكيد, المسيحيون الذين أخطأوا والتائبون الذين بالفعل قد تعمدوا, لا يتعمدوا مرة أخري, من جديد, بل كان يجب أن يمروا في مرحلة التوبة ويشعروا في قلوبهم بأن نعمة الله تعمل ثانيةً.

عندما يهجر المسيحي المعمد الكنيسة ويسقط في هرطقات, عندئذٍ كان يجب عليه أن يمر في إجراء معين لكي ينضم ثانيةً للكنيسة. الحاجة إلي التوبة, تسجيل إقرار فيه يستنكر هذه الهرطقة التي وقع فيها, والمسحة.

 بالتالي ندرك من كل هذا أنه لا يكفي فقط المعمودية, بل الحاجة أن يحيا المرء وفق وصايا الله لكي يكون عضو حقيقي للكنيسة. ولو مَرَضَ وهذا أمر وارد, عندئذٍ يوجد منهج خاص لكي يجد مرة أخري مسيحيته معافية.

أسئلة وأجوابة

1ـ مَنْ الذي يُوصف بأنه ناموسي؟

   الذي يحفظ خارجيًا الناموس وأيضًا بدون أن تكون لديه محبة.

2ـ هل يكفي فقط المعمودية للخلاص؟

الحاجة أيضًا إلي حياة الفضيلة والنسك بعد المعمودية. المعمدون والمؤمنون إيمانًا ثابتًا يخلصُون. الحاجة إلي معمودية وحفظ الوصايا: "عمدوهم وعلموهم حفظ الوصايا", هكذا قال المسيح.

3ـ هل تُفقد النعمة التي نالها المرء بعد المعمودية عندما يرتكب خطية؟

   لا تُفقَّد بل تتغطي بالشهوات.

4ـ ما هو مفهوم تعبيرات مثل "إمكانية" و "تفعيل" لعضو الكنيسة؟

   الإمكانية «δυνὰμει» تعلن الذين تعمدوا ولديهم إمكانية أن يصلوا إلي الاتحاد بالله . التفعيل «ενεργεία» تعلن الذين فعَّلوا بحريتهم هذه الإمكانية .

5ـ ما هي صفات أعضاء الكنيسة الحية؟

   يظلون في الكنيسة, أي لا يشتركون في إجتماعات هرطوقية, يشعرون أن لهم أب, الله وآباء من الإكليروس, ويشعرون أن لهم أخوة يُظهرون لهم محبة وعندما يخطئوا يرجعون بالتوبة.

6ـ هل الخطية هي مرض. ماذا نفعل لكي نُشفي؟

   نشعر بالمرض, نريد الشفاء, نلجأ إلي المشفي الروحي ونقبل الأدوية ووصاياه.

7ـ كيف يشفون المرضي روحيًا في الكنيسة الأولي؟

   يُحسبوا من ضمن صف الموعوظين حيث يقبلوا التربية الشفائية بدون أن يتعمدوا من جديد. التوبة تعتبر مثل المعمودية التي تُدعَّي معمودية ثانية, معمودية التوبة.

الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

الحياة النسكية


الحياة النسكية


العظة السادسة


الأب ايروثيوس فلاخوس– ترجمة د. جورج عوض عن موقع الدياكونية الرسولية - موقع خاص بالكنيسة اليونانية ΑΠΟΣΤΟΛΙΚΗ ΔΙΑΚΟΝΙΑ

1ـ العقل الضال

2ـ نتائج إبتعاد العقل عن القلب

3ـ جوهر الخطية

4ـ التوبة الحقيقية

   إن مثل الإبن الضال الذي درسناه, فيما عدا الدراسة اللاهوتية, الجانب الأنثروبولوجي والإكليسولوجي لديه أيضًا التعليم النُسكي ، فالقديس غريغوريوس بالأماس وهو يحلل المثل يقول إن الضال هو عقل الإنسان الذي إبتعد عن الله ولكي نُعبر أفضل, يقول إن ثروة الإنسان التي أخذها من أبيه وبذرها بعيش مسرف, هي العقل نفس الإنسان لديها ذهن (عقل), ونُطق وروح (فكر) بحسب النموذج الأصلي للثالوث القدوس. العقل في حالتة الطبيعية هو مستنير ويقود (يوجه) القول أو النطق أو المنطق. هكذا, الإنسان الضال هو ذاك الذي عقله ينصرف في أمور أخري, ليس لديه تذكر الله.

   عندما يتبع الإنسان طرق الخلاص, عندئذٍ العقل يبقي في ذاته وفي العقل الأول الذي هو الله. لكن عندما نفتح الباب للشهوات, عندئذٍ العقل الذي هو قوة تلك النفس التي يمكن أن تُوصف الملاحظ الدقيق, تتشتت للأمور الجسدية والأرضية, للذات والأفكار الشهوانية. التعقل الذي يميز الصالح عن الشرير, هو غني العقل. كلما يحفظ العقل وصايا الله ويبقي في الله, علي قدر ما التعقل يعمل طبيعيًا, يميز الخير عن الشر ويفضل الأول عن الثاني. لكن عندما يجمح أو يشرد العقل, عندئذٍ أيضًا التعقل يتشتت إلي الزنا وعدم التعقل.

   إذن, العقل هو قوة النفس المركزية الذي يوجهها وفي النهاية يوجه كل الإنسان. إنه يحفظ الرغبة محدقة تجاه الله. لكن عندما يكون العقل خامل عندئذٍ قوة النفس التي تُوجه تجاه المحبة, تسقط من الله وتتشتت في أمور أخري, وحينذاك تنمو شهوات حُب اللذة والثرثرة وحُب المجد الباطل. العقل في حالتة الطبيعية يوجه الغضب  ضد الشيطان. لكن عندما يتشتت العقل ويجمد , عندئذٍ الغضب يلتق ضد أناس آخرين ويحارب ضدهم. بالتالي, الإنسان يصير ضال وعقله يتشيطن ويتوحش.

   هذا يعني أن عقل الإنسان هو الذي يتعرض أولاً للتأثر فيما يتعلق بالخطية. بواسطة الأفكار والأمور الحسية والخيالات التجربة تدخل في الإنسان بهدف فريد أن تحتل عقله, إنتابه الرقيق الذي هو مركز شخصية الإنسان . علي سبيل المثال, يأتي فكر ما, لكي يصير شخص ما غني أن يسرق ويظلم الآخرين جمال الغني وكل ما يصاحبة يأتي كصور في النفس, بهدف أن يُحتَّل العقل. لو صار أسيرًا, عندئذٍ تصير الشهوة, ثم الإفتراق وفي النهاية تكرار العمل يصير شهوة ورغبة, هكذا, الإنسان يصير كله أسير للشيطان, مثلما بالضبط الضال صار أسير عند أهل تلك القرية البعيدة.

بالتالي, حرية الإنسان هي في الواقع داخلية. يمكن المرء أن يكون حُر خارجيًا, يسكن في أوطان حُرَة, يحيا مأسويًا في حياته. علي النقيض مع الحرية الوجودية يمكن أن يظل المرء في طغيانات غير حُرة وتشعر أنه حُر. الشهداء في فترة الأضطهادات كان يملكون الحرية الداخلية, بينما كثيرون من المسيحين المعاصرين الذينلديهم حُريات خارجية, لا يحفظون إرادة اللهوهم عبيد. يُقال في المثل: "فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ" (لو15:15ـ16).

أهل تلك القرية التي تُوجد بعيدًا عن البيت, هم الشياطين . في الكنيسة الأرثوذكسية نقول إن الشياطين هي أرواح شريرة يكرهون بشكل بالغ الإنسان ويصنعوا كل شيء لكي يبعدوه عن الله. الشياطين في البداية كانوا ملائكة يمجدون الله , بل من كبريائهم قد سقطوا وصاروا شياطين . هؤلاء وَلدِوا بمفردهم الشر ويريدوا أن يقودوا الإنسان إلي العصيان .

الحياة الخنزيرية هي كل شهوة, بسبب شدة الدنس . الخنازير هي أولئك البشر الذين يهرولون تجاه الشهوات. الشهوة هي الحركة بخلاف الطبيعة ووظيفة قدرات النفس. الشهوات الثلاث الأساسية هي محبة المجد والثرثرة ومحبة اللذة. مركز الشهوات الثلاث هي حُب الذات التي هي محبة الجسد الغير معقولة, أي عندما يحب المرء جسده منفصلاً عن النفس ويريد أن يُرضية جسديًا. من هذه الشهوات تنبت وتنبثق أيضًا الشهوات الأخري, والتي تعذب الإنسان. تقول الكنيسة الأرثوذكسية إن الشهوات هي أفعال نفس الإنسان التي هي بخلاف الطبيعة. أي توجد محبة في الأنسان لكي يلتف تجاه الله ويرغب فيه. لكن عندما هذه المحبة, بدلاً من أن تلتف تجاه الله, تلتف بشوق تجاه المخلوقات, عندئذٍ نتحدث عن شهوة النفس.

الإنسان الضال لا يستطيع أن يشبع من الخروب الذي كانت تأكله الخنازير, أي ليس من الممكن أن يُرضي تمامًا الشهوة. دائمًا يظل صائمًا (جائعًا) كلما يكتسب المرء ثروة كبيرة علي قدر  أيضًا ما يزداد الحرمان, لكن أيضًا الشهوة لكي يكتسب الأكثر. عندئذٍ الإنسان يريد, لو هو قادر, أن يكتسب كل العالم. لكن لأن واحد هو العالم, بينما محبي الأموال هم كثيرون, لأجل هذا لا يستطيع أبدًا أن يشبع.

بالتالي, عندما يكون العقل أسير لفكر أو خيال, ينجذب إلي الشهوة والعاطفة تبتعد عن الله وهكذا كل الإنسان يصير في الأسر ويصبح مريض بنتائج مرعبة لذاته وللمجتمع . هذه هي مأساة الخطية. وبالطبع, كما قلنا سابقًا, هذا ينطلق من العقل الذي وقع في الأسر.

هكذا يدرك جيدًا ما هي الخطية بالضبط؟ نحن قد ربطنا الخطية ببعض الحوادث خارجيًا والأعمال الخارجية. بلا شك هذه الأشياء خطية, لكن نستطيع أن نقول إن هذه الأعمال (السرقة, الأكاذيب, الغضب,...الخ) هي نتيجة وثمرة ظُلمة العقل ووقوعة في الأسر. الخطية هي إظلام العقل وبعد ذلك حركة قدرات النفس تكون بخلاف الطبيعة وإبتعاد الإنسان عن الله, عن بيته الحقيقي. في هذه الحالة أيًا ما فعل الإنسان هو إنسان خاطئ. القديس غريغوريوس بالاماس يصل إلي الحد أن يقول, عندما لا يكون عند الإنسان نعمة الله فيه, عندئذٍ مهما يفعله هو خاطئ والمسيح ذكر في مثل له علاقة بهذا الأمر,  أن الخمس عذاري الجاهلات, بينما مارسوا البتولية والإمساك (الإنضباط), لأنه كان ليس لديهن زيت في مصابيحهن, أي لم يكن لديهن في داخلهم نعمة الله ـ الأمر الذي يبدو من وجود الصلاة الذهنية ـ لم يدخلن إلي ملكوت الله.

لأجل هذا أيضًا النسك يتآلف في كيف نحتفظ بالعقل طاهرًا, كيف من الظلمة سوف يستنار العقل ويكون لديه بلا إنقطاع تذكر الله . النسك الأرثوذكسي لا يُستنزف في بعض الأعمال الخارجية, بل في تطهير القلب وإستنارة العقل . لأنه, عندما يكون العقل متوجه توجهيًا صحيحًا, عندئذٍ كل منظومة الإنسان تعمل قانونيًا.

لو أن الخطية هي إظلام العقل, والإبتعاد عن الله, فالتوبة هي أن يكون العقل مستنير ويتطلع إلي الله . يبدو في مثل الإبن الضال بوضوح ما هي التوبة. مكتوب بوضوح: " فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ" (لو17:15ـ20).

نستطيع في هذا النص أن نري بعض ملامح التوبة الحقيقية.

أولاً: أتي إلي نفسه أو رجع إلي نفسه. هذا يُظهِر أن العقل يرجع إلي القلب من الضلال علي قدر الوقت الذي يموت فيه من الرجوع, يُوجد العقل خارج, مشتت بواسطة الحواس في العالم. تأتي لحظة ما حيث تصير يقظة للإنسان ويدرك حالته المرعبة.

ثانيًا: فضيلة اللوم الذاتي تنمو بشدة. يحكم علي ذاته,ويعتبرها غير مستحق أن يكون إبن الله. لا يلقي المسئولية علي أي أحد آخر,لا يعتبر الآخرين كسبب لإبتعاده عن بيت أبيه. يعتبر أنه غير مستحق أن يكون إبن لأبيه. يعتبر أنه عظيم أن يكون أجير.

ثالثًا: هذه اليقظة واللوم الذاتي ليسا من أعمال بشرية بل ساعة نعمة من الله. بواسطة النعمة الإلهية ويقارن الحالة المرعبة التي يوجد فيها بيت أبيه. حقًا, الله بمحبته للبشر, يعلن بعض المرات, بعض من إشاعات مجده, حتى أن الإنسان يُدرك حالته المرعبة. لا يستطيع المرء أن يدرك حالته لو لم يُلهَّم من نعمة الله. التوبة هي إلهام إلهي.

رابعًا: لا يُكتفي الرغبات الحسنة, بل يفعل الجزء العاطفي لنفسه لا يستطيع المرء أن يرجع إلي الله لو أن الجزء العاطفي θυμικό لم يتعاون في العمل. لأجل هذا يُقال أن الضال مباشرةً بعد أفكاره التي تأملها "قام وذهب إلي أبيه".

خامسًا: نهاية الرجوع هي الدخول إلي البيت ومشاركته في الإحتفال الذي يصير هناك, كذلك أيضًا مشاركته في العشاء الإفخارستي, في الليتورجيا الإلهية وفي أكل وشرب جسد المسيح ودمه. هكذا ندرك أن غفران الخطايا, كما توحي لنا الكلمة في حد ذاتها (συγ - χὼπηση) هي المشاركة في المسيرة وفي الشركة في الكنيسة. بالأسر وإظلام العقل نبتعد عن الكنيسة وبالحرية وإستنارة العقل نأتي مرة أخري إلي الكنيسة.

ما قلناه في هذه العظة يُظهِر أن الخطية هي إبتعاد العقل والإنسان عن الله, إظلام العقل, والتوبة هي رجوع العقل والإنسان إلي الله, الذي يصير بواسطة إستنارة العقل. هذا لديه أهمية عُظمي, لأننا ندرك جيدًا لماذا تُدعَّي المعمودية المقدسة إستنارةالعقل يستنار, وكل قدرات النفس, الإرادية والمنطقية والعاطفية تتقدس ويُنعم عليها وهكذا يتقدس كل الإنسان.

أسئلة وأجوابة

1ـ يقول القديس غريغوريوس بالاماس أن الضال هو عقل الإنسان الذي يبتعد عن الله والقلب. كيف تدرك هذا الأمر؟

   الحياة الطبيعية للعقل هي أن يُوجد في الله والقلب. عندما ينشغل بالمخلوقات بواسطة الحواس, عندما يبتعد عن الله, عندئذٍ هو ضال.

2ـ ما هي الثلاث قدرات التي للنفس؟

   العقل والنطق (المنطق) والفكر.

3ـ ما هو العقل؟

   الإنتباه الرقيق, عين النفس, مركز وجود الإنسان.

4ـ ما هي حركة العقل بحسب الطبيعة وما هي حركته بخلاف الطبيعة؟

   بحسب الطبيعة وفوق الطبيعة, حركة العقل هيعندما يلتف تجاه الله وتحتفظ بإتجاه هذا كل القدرات النفس. بخلاف الطبيعة عندما يبتعد عن الله وبغير إتجاه كل قدرات النفس.

5ـ ما هي الخطية؟

   إظلام العقل, والإبتعاد عن الله, أو حركة قدرات النفس بخلاف الطبيعة.

6ـ ما هي مسيرة الخطية؟

   إقتراح ـ أفكار, إرتباط, رغبة, عمل, شهوة.

7ـ ما هي الحرية الحقيقية؟

   الداخلية والوجودية والحرية من الشهواتع والموت.

8ـ ما هي الشياطين؟

   أرواح شريرة تكره الإنسان.

9ـ ما هي الشهوات؟

حركة أفعال النفس بخلاف الطبيعة. الشهوة هي عندما المحبة, بدلاً من أن تلتف تجاه الله, تلتف تجاه المخلوقات. نفس الأمر يحدث لكل قدرات النفس الأخري.

10ـ ما هي الشهوات الأساسية؟

   الأنانية والتي منها يُولد,محبة المجد, ومحبة المال, ومحبة اللذة.

11ـ ماذا نقصد عندما نتحدث عن النسك الأرثوذكسي؟ 

   حفظ وصايا المسيح بواسطتهما يتطهر القلب ونحصل علي إستنارة العقل.

12ـ ما هي التوبة؟

حركة قدرات النفس بحسب الطبيعة, الرجوع إلي الله, إستنارة العقل.

13ـ ما هي ملامح التوبة الحقيقية؟

   رجوع العقل إلي القلب, اللوم الذاتي, الإلهام للتغيير, تفعيل الجزء العاطفي للنفس أي المشاعر, الدخول إلي الكنيسة والإشتراك في العشاء الإفخارستي.  

الاثنين، 29 سبتمبر 2014

شركة القديسين

    

شركة القديسين

العظة الخامسة

المطران إيروثيوس فلاخوس – ترجمة د. جورج عوض
1ـ عبيد الله
2ـ رُسل المسيح
3ـ رجال الأكليروس
4ـ الكنيسة المنتصره (الأنبياء, الرُسل, القديسين)
       صدر أمر, بعد رجوع الابن الضال وإحتضانه من أبيه, بأن يلبسوه ويجهزوا إحتفال لكي يفرحوا ويحتفلوا برجوعه. في المثل يُقال أن الأب أعطي الأمر لعبيده: " فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ" (لو22:15). مَنْ هم هؤلاء العبيد الذين يتممون مشيئة الآب؟ بحسب آباء الكنيسة, طالما البيت هو الكنيسة, العبيد هم الإكليريكيون هؤلاء أخذوا أمرًا من الله أن يُلبسوا الإبن الضال الذي عاد إلى حضن ابيه.
       أخذ المسح إثني عشر رسل, قدسهم وأعطاهم الروح القدس وأرسلهم إلي كل العالم ليعمدوا ويكرزوا للناس. لقد قال لتلاميذه: "اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (لو16:10). هكذا, الرسل ليسوا هم ممثلون ونائبون عن المسيح, لكن سر حضور المسيح المحسوس بينهم. هذا يعني أن الإكليريكيين ليسوا مثل سفير دولة في دولة أخري, ليسوا مثل ممثلين لرئيس,بل بواسطة الرسل يعمل المسيح ذاته عندما يغفر الرسل, يغفر ويُصدِّق أيضًا الله.
       الأساقفة ينتمون إلي الإكليريكيين وكذلك الكهنة والشمامسة. الأساقفة هم الرأس المنظور لكنيسة محددة, في مكان رأس الكنيسة وكنموذج له. نقبل في شخص الأساقفة المسيح. يوجد تعاقب رسولي. أي, مثلما من لمبة نُشعل الثانية, والثالثة...الخ, وننقل النور إلي كل المكان, هكذا يحدث أيضًا بالتعاقب الرسولي. برسامة ومعايشة التقليد الأرثوذكسي تُنقل من جيل إلي جيل الرسل والبركة التي نالها أولئك من المسيح. إنقطاع التقليد الأرثوذكسي ينشئ الهراطقة. لأجل هذا, له أهمية عظمي أن ندقق مَنْ الذي نذكره من الأساقفة في ساعة الليتورجيا ؟ الأسقف الذي له شركة مع كنائس أرثوذكسية أخري, يعني أنه قانوني وأرثوذكسي, أما لو كان  ليس له, عندئذٍ يجب أن نُبعِده.
       الأساقفة يرسمون كهنة وشمامسة لخلاص البشر. إنهم قادة شعب الله الذين يخدمون الشعب لكي يصلوا إلي الفردوس, إلي أرض الموعد. مثلما موسي العظيم قد قاد ببركة الله الشعب إلي أرض الموعد, نفس الأمر يفعل أيضًا الأكليريكيون. يقودون الشعب  إلي الفردوس.
       لأجل هذا يتطلب التوقير والأحترم للإكليريكيين. لا نستطيع أن نقول أُحِب الكنيسة لكن لا أريد أن تكون لدي علاقة مع الإكليريكيين. هذا يمثل شيزوفرينا روحية. الإكليريكيون يعمدوننا, يمسحوننا, ويُطعموننا بسر الشركة الإلهية, نعترف عندهم ويتوجوننا وعامةً يعملون كل الأسرار. بالتأكيد, يجب أن نقول أن الإكليريكيين يعملون هذا العمل بنعمة وبركة الله وليس بقدراتهم الخاصة. أثناء تسبحة الشاروبيم يصلي الأسقف أو الكاهن للمسيح: "أنت هو المُقدِّم والمُقدَّم, العَاطي والمُعطَّي أيها المسيح...". يصلي الإكليريكيون للآب أن يقدس التقدمات الكريمة, يرسل الآب الروح القدس ويحول الخبز والخمر إلي جسد ودم المسيح وبواسطة الكاهن تُقدَّم هذة الاسرار إلي الشعب.
       أيضًا, الكنيسة هي شركة القديسين, مجمع الملائكة والبشر, السمائيين والأرضيين. هكذا, الكنيسة تٌميز إلي كنيسة مجاهدة وكنيسة منتصره ( المنظورة وغير المنظورة – المترجم ). ينتمي كل المعمدين والمؤمنين إلي المنتصره, أي كل الذين تعمدوا ويحفظون نعمة المعمودية المقدسة مشتعلة والقديسون ينتمون إلي المنتصره.
       لا يُسمِي الناس الطييبين بأنهم قديسيون بل أولئك الذين يشتركون في معاينة وقداسة عمل الله. الله بفعله الخلاَّق خَلق العالم, بعمله المُحَّي وفعله القيادي يقدسه. بالفعل الإحيائي والقيادي لا يخلص, أي لا يعني أن الذين خُلقوا سوف يخلصون. يخلصون الذين يشتركون في فعل الله الإلهي. ولكي يشتركون في هذا الفعل يجب أن يطهرون أولاً القلب من الشهوات, أي الحاجة إلي تهيئة وإستعداد.
       والدة الإله θεοτόκος تحتل مكانة مركزية في الكنيسة, التي أعطت جسدها للمسيح. تُدعَّي والدة الإله لأنها ولدت من الروح القدس الله بحسب الجسد, الأقنوم الثاني للثالوث القدوس. أي لم تَلِد إنسان صالح  وفيما بعد صار نبي عظيم نال نعمة الله وصار إبن الله. كلمة الله كان الله وقبل الحمل أيضًا وبعد الولادة من كلية القداسة. كُلية القداسة وصُفت بأنها دائمة البتولية كانت عذراء قبل الولادة وأثناء الولادة وظلَّت عذراء بعد الولادة. واحد هو الوسيط بين الله والإنسان وهذا هو المسيح. كُلية القداسة هي وسيطة بيننا وبين المسيح. نحن نحب كلية القداسة لسببين. الأول, لأننا نحب المسيح والثاني, لكي نصل إلي محبة المسيح. هكذا, محبتنا تجاه كُلية القداسة إما نتيجة أو هي طريق للمحبة تجاه المسيح.
       يوجد في الكنيسة المنتصره قديسون. وهؤلاء هم الأنبياء وأبرار العهد القديم والرسل والقديسون عبر كل الأزمنة. ثم بعد ذلك ينضم الشهداء الذين أعطوا شهادتهم ونالوا الشهادة لأجل المسيح, الذين تنسكوا في الأديرة والبرية من أجل المسيح, والمتزوجون الذين حفظوا إرادة المسيح في العائلة. يوجد قديسون من كل فئات الشعب الإجتماعية, من كل الأعمار, من كل الأمم ومن كل العصور. وهذا يُظهِر إنه لا نستطيع أن نتعلل بأن اليوم الخلاص والقداسة هي مستحيلة. الهدف الأعمق للإنسان هو أن يصير قديس.
عند هذا الحد نستطيع أن نشير إلي سيرة الحياة, حياة وتعليم بعض القديسين الذين لهم علاقة بالبلد التي أتي منها الموعوظ, بالعمر الذي فيه, بالوظيفة التي يمارسها. الشرح الموسع يجب أن يكون للقديس الذي أحب بالحري وسوف يأخذ إسمه ويُلقَّب بعد المعمودية. هذا هو الأهم, لأنه سوف يُظهر أن الخلاص هو ممكن في كل عصر.
أسئلة العظة الخامسة
1ـ هل الإكليركيين هم ممثلون عن المسيح؟
       لا, ليسوا ممثلين أو نواب, بل سر حضور المسيح الحسي, هم مثال ومكان للمسيح.
2ـ ما هي درجات الكهنوت؟
       ثلاثة, الأسقف والكاهن والشماس.
3ـ بماذا يتآلف التعاقب الرسولي؟
       يتآلف في إستمرارية نعمة الكهنوت من الرسل حتى اليوم وفي حفظ الحق.
4ـ ما هو عمل الإكليروس؟
       أن يشفوا الناس وأن يتمموا أسرار الكنيسة.
5ـ ما هي الكنيسة المجاهدة  والكنيسة المنتصرة؟
       الكنيسة المجاهدة تتكون من المسيحيين الذين يحيون ويجتهدون لكي يتحدوا بالمسيح والمنتصره تتكون من القديسيين الذين رقدوا ويحيون في ملكوت الله.
6ـ مَنْ هم الذين يُدعون قديسون؟
       الذين يشتركون في شركة فعل الله الذي يقدسهم ويجعلهم شركاء الطبيعة الالهية.
7ـ ما هي الألقاب التي أعطيت لأم المسيح في التقليد؟
       كثير من الألقاب, من بينها: والدة الإله, كلية القداسة, دائمة البتولية.
8ـ كيف تكون والدة الإله وسيطة؟
وسيط بين الله والبشر هو المسيح. والدة الإله هي وسيطة بيننا وبين المسيح.
9ـ لماذا نُحِب كلية الطهارة؟
لأننا نُحِب المسيح ولكي نصل إلي محبة المسيح.
10ـ إلي كم فئة ينقسم القديسون؟
       هم الأنبياء والرسل وكل القديسين الآخرين الذين ينقسموا إلي شهداء وشهداء قديسين, ومتزوجون يوجد قديسون من كل الأعمار, من كل الوظائف, من كل الأمم والعصور.
11ـ ما هي حياة وتعليم القديس الذي سوف تأخذ منه اسمه وسوف يكون مدافع عنك؟