الخميس، 15 أكتوبر 2015

هل إرتضى المسيح أن يكون المحرر السياسي لليهود؟


هل إرتضى المسيح أن يكون المحرر السياسي لليهود؟
د جورج عوض ابراهيم

               لقد وُلد المسيح وعاش فى مناخ سياسي حاد ومتوتر بكل نتائجه السيئة على الشعب منذ إحتلال الرومان لفلسطين سنة36 ق.م ، وكانت مشكلة الظلم والقهر هى المشكلة الكبرى من بين بقية مشكلات الشعب . أحكم الرومان قبضتهم على فلسطين ابتداء من سنة 38ق.م . ومن هذا الوقت أصبحت فلسطين لها حكم ذاتى تحت قبضة الرومان . كان هيرودس الكبير هو رئيسهم وملكهم (37-4ق.م) ولأنه كان غير يهودى فقد كرهه الشعب كراهية شديدة . وتشهد جرائمة على حكمة القاسى فهو الذى أمر بقتل أطفال بيت لحم من عمر سنه إلى سنتين (مت16:2). وأعتلى بعد موته الكرسى اليهودى ابنه أرخيلاوس وأيضا حكم بطريقة صارمة وكان قاسي حتى نُفى سنة 6 ب.م بأوامر من أغسطوس قيصر روما ، أثر شكاوى متعددة من اليهود والسامريين . ومن ذلك الوقت صارت الدولة اليهودية مجرد ايبارشية يهودية، تشرف عليها روما مباشرة، والادارة كانت لرئيس رومانى كرسيه فى قيصرية. أما فى الأعياد اليهودية والمواسم كانت تجرى ترتيبات أمنية مشددة ويذهب الرئيس نفسة إلى أورشليم فى قصر خاص ليشرف على الأمن هو وحراسة.
كان بيلاطس البنطى (26-36ب.م) رئيس إيبارشية فلسطين والمسئول الأساسى لصلب المسيح . وكان هيرودس أنتيباس ابن هيرودس الكبير رئيس ربع على الجليل والمنطقة المجارة وهو الذى أمر بقطع رأس يوحنا المعمدان وهو الذى تعاون مع رؤساء الكتبة والفريسيين للحكم على المسيح بالموت.
المشكلة الكبرى فى زمن المسيح كان الجهاد والصراع ضد قوات الرومان. وهذة المشكلة كانت سياسية ودينية . و" حركة الغيوريين" كانت بمثابة التنظيم الدينى السياسى المضاد للرومان. وإسم الحركة يرجع لكلمة "
ζηλος " باللغة اليونانية وهى تعنى الغيرة للناموس ، وأتباع هذه الحركة كانوا يُسمون اسخاريوطيين وهذه التسمية تأتى من الكلمة اللاتينية " sica " والتي تعنى سيف صغير أو سكين وهذه التسمية من قٍبَل الرومان تعنى أن هؤلاء بلطجية ولصوص. لقد تكون هذا التنظيم الأصولي المتطرف من الكتبة والفريسيين وكانوا مجموعة معارضة قوية في فلسطين ، لقد نادى الغيوريون بالحرب المقدسة والتى لها ثلاثة أهداف :
1- تطبيق الشريعة الإلهية ( الناموس )
2- الحكم بما أنزلة الله
θεοκρατια وعلى ذلك ينبغى طرد الرومان وإستعادة السيطرة القومية والتحرر السياسى
3- تحقيق العدل اإجتماعى على أساس الشريعة الإلهية . وهكذا كانت حركة الغيوريين مثل اى حركة اصولية لها ملامح دينية وسياسية واجتماعية .
المسيح يرفض أن يكون محرراً سياسياً:

إن الغالبية العظمى من اليهود- زمن المسيح – قد إنتظروا الماسيا على أساس تفسيرهم السياسى لنبوات العهد القديم بخصوص الماسيا المنتظر بكونة سوف يحرر مملكة إسرائيل من المستعمرين الأجانب ويستعيد السيادة اليهودية على العالم أجمع . هكذا رأى اليهود – فى هذا الأطار السياسى – المسيح على انه الماسيا المحرر السياسى . لقد أكد المسيح نفسه بأنه هو الماسيا المنتظر حين قالت له السامرية : " أنا أعلم ان مسيّا الذى يقال له المسيح يأتى ......" أجاب المسيح ، قائلاً : " أنا الذى أكلمك هو " يو25:4-26 ، لكن الفكر الماسيانى الذى كان يقصده المسيح نفسه يختلف إختلافاً جذرياً عن الفكر اليهودى المعاصر له . لقد رفض المسيح أن يكون الماسيا بالمعنى السياسى المباشر خاصةً كان يدرك عن وعىّ شديد أنه ليس الماسيا القومي لليهود بل ماسيا العالم أجمع كفادى ، كما تنبأ عنه النبى أشعياء (أنظر أش9) . وهكذا كان المسيح ضد الماسيانية السياسية ، وهذا الأمر يظهر جلياً فى التجربة على الجبل (مت1:4-11، مر12:1، لو1:5-13)
"ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ. وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: «لَكَ أُعْطِي هَذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ». فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «ﭐإذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».(لو5:4-8). واضح ان المسيح لم يرفض فقط هذا العرض بل وصفة بأنه شيطاني . ففي قيصرية فيلبس عندما سأل التلاميذ " مَنْ يقول الناس إني أنا " (مر27:8) كانت إجابات التلاميذ : يوحنا المعمدان ، وآخرون إيليا وآخرون نبي من الأنبياء (أنظر مر 28:8) عند هذا المستوى يسألهم ثانيةً " وأنتم مَنْ تقولون إنى أنا " (مر28:8) يجيب بطرس : " أنت هو المسيح " ( مر29:8) فإبتدأ المسيح يعلم التلاميذ ان ابن الإنسان ينبغي ان يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة ويُقتل. وبعد ثلاثة أيام يقوم ( مر 31:8) . هذا الكلام الذى ينبىء عن آلام وصلب وموت وقيامة المسيح قد إستفز بطرس. فأخذه بطرس إلية وإبتدأ ينتهرة ( مر32:8) وقد رد المسيح علية ، قائلاً " إذهب عني يا شيطان لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" ( مر 33:8)
السؤال الذى يفرض نفسة هنا :
ما هو سبب هذا التصادم الذى حدث بين المسيح وبطرس ؟
بلا شك أن التصادم يرجع إلى الأختلاف الجذري بين فكر بطرس عن الماسيا وبين فكر المسيح نفسة . لقد إعترف بطرس بأنه الماسيا لكنه فُوجىء وصُدم بما سمعة من المسيح أنه يجب أن يتألم ويُصلب ويقوم . وسر دهشة بطرس كانت بالتأكيد مرجعها أنه كان يفهم الماسيا مثلما فهموة اليهود وقتذاك . لقد أنتظره كمرسل من الله لكى يحرر الشعب من سيطرة الرومان وسيمنحة حرية مطلقة وسلام وسعادة . لذلك أخذ بطرس المسيح بعيداً وأنتهره محاولاً أن يثنية عن السير فى طريق الجلجثة ويقوده إلى الطريق المضاد الذى تبناه الغيوريون ، قائلاً : " حاشاك يارب . لا يكون لك هذا " ( مت 22:16)
لقد كان للمسيح فكر ماسيانى مختلف والذى تجاوز الأُطر القومية والسياسية ، لذا أعلن ذاتة ك"ابن الانسان" الذى سوف يُقبض علية من رؤساء إسرائيل والرومان، وسيتألم ويُصلب ، وسوف لا يقابل الشر بالشر، إنها إرادة الله أن يسبر فى طريق الجلجثة " يجب – ينبغي " ، وهو متأكد أن المنتصر الأخير لن يكون الشر والموت ولكن المحبة والقيامة سوف تهزم الموت ، القيامة التي فتحت للبشرية المعذبة باب الفداء كما تنبأ أشعياء ( أش1:42- 9 ) . وهكذا لم يكن عند المسيح أى تطلع سياسي قومي كأتباع حركة الغيوريين ، لذلك وصف رد بطرس على أنه شيطاني " أبعد عني يا شيطان " لقد رفض المسيح بوضوح شديد الماسيانية القومية فى اللحظات المأسوية الدرامية للحكم علية أمام اليهود والرومان ، عندما سألة قيافا : " أستحلفك بالله الحى أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله " (مت63:26) ، أجاب المسيح : " أنت قلت " ( مت64:26 ) ، أى أنت تقول هذا الأمر وليست هناك ضرورة أن أؤكد لك ذلك ، فمزق رئيس الكهنة ثيابة ، قائلاً : " قد جدف . ما حاجتنا إلى شهود ها قد سمعتم تجديفة " ( مت 65:26 ) ، هذا يدل على أن إجابة المسيح كانت " نعم " . وبحسب إنجيل لوقا 70:22 أجاب المسيح على قول اليهود له " أ فأنت ابن الله " قائلاً : " انتم تقولون أنى أنا هو " . وهذة الإجابة تعادل قولة فى إنجيل متى " أنت قلت " . وهذا واضحاً من رد فعل أعضاء مجمع السنهدريم فى ( لو 71: 22 ) ، وفى حديث المسيح مع يهوذا ( مت 25:26) أثناء العشاء الأخير " أنت قلت " تعنى " نعم " . مما سبق نجد أن المسيح قد قَبِلَ من أعضاء المجمع اليهودى أن يكون الماسيا ، ولكن ينقلهم إلى نبؤة دانيال " منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله " ( لو69:22 ) . هذة النبؤة مذكورة فى ( دا 13:7-14، مز1:109) على الماسيا الفادى الإلهى للعالم أجمع وليس على الماسيا القومى ، وإجابة المسيح على سؤال بيلاطس " أ أنت ملك اليهود " أجاب " مملكتى ليست من هذا العالم ، لوكانت مملكتى من هذا العالم لكان خدامى يجاهدون لكى لا أسلم إلى اليهود . ولكن الآن ليست مملكتى من هنا " ( يو36:18) . إن مملكة المسيح لها طبيعة روحية ولم يأت لكي يؤسس مملكة عالمية ودنيوية ، لقد رفض تأسيس حكومة إلهية يهودية . هذا ما يفسر تحفظ المسيح على لقب الماسيا لدرجة أنه أوصى التلاميذ في مواقف معينة أن لا يقولوا لأحد عن هويتة : " حينئذٍ أوصى تلاميذة ان لا يقولوا لأحد أنه يسوع المسيح " ( مر30:8، لو21:9) .