الثلاثاء، 26 مارس 2013


الابن الضال

والتوبة الحقيقية

إعداد د. جورج عوض ابراهيم

     

إن مصطلح التوبة باليونانية: met£noia ويتكون من: noÚj + met£ أى تغيير الذهن أو تغيير طريقة التفكير، وتحتوي التوبة على مفهوم الرجوع  epistrof»أى العودة إلى الله. والإنسان يميل دائما نحو الله، يشتاق إلى التحرر والفداء من الشر، لكن هذه العودة هى نتيجة الشعور بالذنب. وهذا ما يمثل مدينتي الحياة للقديس أغسطينوس: حياة مملوءة صراع أو جهاد نتيجة الرهبة التي يشعر بها الإنسان تجاه الله بسبب ذنبه. والثانية شوق الإنسان إلى الحرية وذلك بالقرب من الله. لقد احتل "الرجوع" مكانة هامة في تعليم أغسطينوس، وهو نتيجة لشعور الإنسان بأنه خاطئ، وهذا الشعور، كما يؤكد على ذلك القديس اسحق السرياني، هو أسمى من إمكانية أن يُقيم أحد بصلاته الأموات[1]. وقد أشار إلى هذه الحقيقة مبكرًا. العلاّمة أوريجينوس الذي أكد على أن التغيير الجذري للإنسان بالتوبة هو في مستوى المعجزات التي أتمها المسيح بكل المقاييس[2].

      إكتشاف الذات والرجوع إلى الله هو ما فعله الابن الضال في المثل الذي سرده يسوع المسيح، فعلينا أن نرى محتوى هذا المثل الذي يعتبر "إنجيل الأناجيل". فالمسيرة الروحية للإنسان تدخل ـ بحسب المثل ـ في مراحل ثلاث: مرحلة الخطية، مرحلة التوبة، ومرحلة الخلاص، وهذه المسيرة تمثل تفسير لمفهوم الذنب والرجوع:


المرحلة الأولى: الخطية (خوف ـ قلق ـ يأس)

      قبلما يصل الابن الضال إلى "الضلال" كان لديه كل شئ. ولكن شيئًا لم يكن ـ في النهاية ـ قادرًا على أن يمسك به بالقرب من أبيه. هكذا يومًا ما، طلب نصيبه من الميراث وترك بيته " سافر إلى كورة بعيدة". ذهب مثل طير مهاجر، راحلاً مثل كثيرون من الشباب ـ اليوم ـ ينشدون حياة أخرى. هكذا رحل الابن الضال باحثًا عن حياة أخرى وبلد بعيد، قانعًا بأن هذه الحياة لا يمكن أن توجد في موطنه وفي بيته.

      لكن ما الذي جعله يترك البيت الذي وُلد فيه، حيث هناك الراحة والهناء؟! لقد اعتقد هذا الابن أنه في حاجة للتحرر من أبيه، ليكتسب حرية مطلقة حتى ينال ما يريده. وفور حصوله على الحرية، أطلق لجناحيه العنان وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان. وأخيرًا استقر في واحدة من الكورة البعيدة. وبدأ حياة ضالة مليئة باللذات والشهوات.

      الابن الضال الذي "سافر إلى كورة بعيدة " يشبه، كما ذكرنا، طير مهاجر، أو بالحرى يشبه الصياد الذي في الأسطورة الروسية S£ntko الذي ترك قريته في يوم من الأيام وجال في أماكن بعيدة لكي يصيد "طائر السعادة ".

      لكن ما هى السعادة التي ينشدها الكثيرون؟ في رأى الكثيرين، السعادة تعتمد على الخيرات المادية. بين هؤلاء: " الغني الغبي " عندما ازدادت موارده فكر في أن يهدم مخازنه ويبني أكبر منها، بدون أن يتوقع بأنه في نفس الليلة سيأتي إليه الموت. أيضًا الاسكندر الأكبر الذي احتل كل العالم (المعروف آنذاك)، وجلس على ضفاف نهر في الهند ينتحب ويبكي لأنه لا يوجد عالم آخر لكي يحتله. أو مثل دون جوان الذي أظهر نوع آخر من الاحتلال أو الامتلاك.

      لقد كان دون جوان يُشبه الاسكندر الأكبر من جهة ميله للامتلاك، لكن الأمور التي كان يريد أن يمتلكها هى مختلفة: الحصول على علاقات غرامية. لقد كان يرمي إلى أن يمتلك كل نساء العالم. لقد اهتم بالكم وليس بالنوعية فيما يخص العلاقات الغرامية. لذلك خوفه العظيم كان عندما يكبر في العمر، سيأتي يومًا لا يستطيع أن يمارس علاقاته المحبوبة. أى خوفه كان من عامل الزمن الذي سوف يسلب منه الهدف من وجوده أو علة وجوده التي هى إرضاء شهواته مع الجنس الآخر. لكن خوف دون جوان لم يكن فقط بسبب تقدم العمر الذي سوف يأتي إجباريًا بمرور الزمن ، إنما في أن الموت يمكن أن يأتي إليه في أى لحظة ويحرمه من حياة المتعة. وهذا هو بالضبط الخوف الذي يدفعه للاستمتاع الجسدي والالتصاق بالأمور الأرضية. وبحسب رأى الابن الأكبر ـ في المثل ـ فإن الابن الضال يشبه دون جوان إذ أكل معيشة أبوه "مع الزواني". في الحالتين، المرأة هى التي تُمثل وسيلة اللذة.

      الاختلاف في الحالتين، هو أن "دون جوان" كان يقوم بالإغراء وإفساد المرأة، أما في حالة الابن الضال فالمرأة كانت تبيع جسدها بالمال: " ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ".

      في الكورة البعيدة التي رحل إليها الابن الأصغر " بذر ماله بعيش مسرف "، وصرف كل ماله ولم يكن لديه شيئًا، " حدث جوع عظيم في تلك الكورة ". وبدأ يُحرم من كل شئ حتى الحد الأدنى الذي يمكن أن يحتاجه. لقد إمتلئت نفسه بالخوف من تهديد الجوع وبالطبع من الموت الذي يمكن أن يسببه الحرمان من الأكل. لقد كان الخوف من المجهول، من ما الذي ينتظره؟ أجبره أن يطلب سند أو معونة لكي يبقى على قيد الحياة. الخطر من أن يموت من الجوع جعله يلجأ إلى واحد من أهل الكورة الذي أرسله إلى حقول ليرعى الخنازير. لكن المكافأة كانت عديمة النفع، غير كافية تقريبًا، لم تكفيه لقطعة من الخبز. لذا تمنى أن يملئ بطنه من الخرنوب التي كانت الخنازير تأكله: " فلم يعطه أحد شيئًا " كما ذكر لوقا. لقد انتابه شعور بعدم الأمان وهو يرى كيف أنه لا يمكن أن يأمل في مساعدة، عدم الأمان جعله يشعر بقلق عظيم، قلق حقيقي.

      هكذا مع الخوف شعر الآن بالقلق الذي أنشأه في نفسه ـ ليس فقط تهديد الجوع، لكن قلق لأي شئ ممكن أن يحدث له، لأى تهديد غير منظور. على عكس الخوف ممن شئ معين، فموضوع القلق هو غير محدد. إنه العدم. حالة تجعله يشكك في كل شئ. صارت كل قيمة في الحياة صفر(عدم)، الحياة نفسها بمتعتها صارت عدم، تلك الحياة التي جعلها فقط هدف له. لقد رأى كم زائلة هذه المُتع التي وضع كل آماله فوقها واستولى عليه اليأس.

      قد ولد في داخله اليأس وتحقق من نهايته المأساوية. فكر وتأمل الخدم عند أبيه الذين كان لديهم خبز أكثر وقارنهم بنفسه التي كانت تحتضر من الموت جوعًا. بدأ ـ وهو في يأسه العظيم ـ يضرب رأسه بيديه لطيشه وعدم تبصره في تركه للخير الكثير وذهابه إلى هذا المكان البعيد بين الخنازير منتظرًا الموت. لكن ـ تساءل ـ لماذا ينتظره؟ ربما سيكون أفضل أن يحمله ساعة مبكرًا واضعًا نهاية لحياته؟ فأى معنى لمثل هذه الحياة التي وصلت لهذه المرحلة؟

      لماذا، إذًا، بدلاً من أن يضرب رأسه بيديه، أن لا يضربها بحجر لكي يكسرها؟ مثل هذا الرأس الذي كان "رأس عنيد" تحتاج ذلك.

      الحقيقة لم يكن رأسه "عنيد" كثيرًا، مثلما كان في بداية الرحيل، لقد فكر بطريقة أخرى مختلفة، لأنه شعر بخجل وندم على حياته السابقة. لكن الندم والخجل هذا لم يتقدم بعد إلى مرحلة التوبة.


المرحلة الثانية: التوبة: (شعور ـ اختيار أو قرار ـ اعتراف)

      شعر الابن الضال ـ وهو يتأمل حالته الوضيعة ـ بضرورة أن يقف وقفة صريحة مع نفسه، كأنه كشف داخله طير ساكن وفجأة فتح جناحيه لكي يطير عاليًا: هذا ما يقوله المثل "رجع إلى نفسه" أى وجد ذاته. احساس الذنب بأنه خاطئ كان الخطوة الأولى لتصحيح الأمر، لرجوعه إلى الحياة الجديدة.

      كم مختلف كثيرًا شعور الابن الضال عن الحالة النفسية التي شعر بها الفريسي في مثل "الفريسي والعشار". مثل ممثل استخدم القناع المستخدم في المسرح القديم، وحامل القناع يريد أن يُخفي شكله الحقيقي، هكذا الفريسي حمل قناعه الخاص. وصعد إلى الهيكل لكي يصلي كأنه يصعد إلى خشبة المسرح لكي يلعب دورًا ما. لقد وقف متكبرًا وأناني أمام الله يُدين العشار لأنه خاطئ، بينما الخاطئ الحقيقي كان هو نفسه.

      يصف الإنجيل منظر وقوف الفريسي للصلاة هكذا: " أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا. اللهم أشكرك أني لست مثل الباقي الناس الخاطئين الظالمين الزناة ولا هذا العشار .. " (لو9:18ـ14). ومعنى عبارة "فوقف يصلي في نفسه" هى "وقف تجاه ذاته ليصلي" أو "وقف أمام ذاته وصلى". بالتالي لم يقف الفريسي ليس أمام الله لكن أمام ذاته التي قام بتأليهها بتعظيم الأنا، جعلها الله، لذا فقوله: " اللهم أشكرك" ليست موجهة إلى الله بل إلى ذاته التي أخذ يكرها ويمدحها لأنها بلا خطية، حتى أنه ميّزها عن الآخرين الذين هم خطاة في رأيه مثل العشار.

      إن موقف العشار المتواضع كان مضاد تمامًا للموقف المتكبر الذي أخذه الفريسي، فالعشار وقف من بعيد ولم يتجرأ لأن يرفع عينه نحو السماء. لقد قرع صدره وقال: " اللهم ارحمنى أنا الخاطئ ". إنها مثل عبارة الابن الضال "رجع إلى نفسه" والتي تختلف اختلافًا جذريًا عن عبارة الفريسي "وقف يصلي أمام ذاته". لقد ضرب رأسه بدون أن يقصد كسرها وذلك بسبب طيشه. لقد استولى عليه الاحباط واليأس ولكن ليس كل يأس يقود إلى الدمار. فاليأس عندما لا يكون تدميري فهو فعل خيّر. فأحيانًا يقود اليأس إلى الضياع والهلاك وأحيانًا إلى الخلاص والفداء.

      فالإنسان اليائس ليس له اختيار آخر بخلاف هذا: إما الانتظار في اليأس وينقاد إلى الدمار الكامل، أو الاحساس والشعور بوضاعته، الأمر الذي يقود لاتخاذ قرار التغيير واختيار حياة جديدة.

      هكذا في حالة الابن الضال، بعد الاحساس بالذنب لأجل خطاياه، كان أمامه إما أن ينتظر في حالته هذه حيث خطر الموت من الجوع يهدده، أو تفضيل حالة أخرى هى حالة العبيد الذين عند أبيه: " كم أجير عند أبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا ". وأخيرًا أخذ قرار الرجوع إلى أبيه:   " أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له أخطأت يا أبتاه في السماء وقدامك ولست مستحقًا أن أُدعى لك ابنًا بل اجعلني كأحد أُجراءك ".

      والأب من وقت رحيل ابنه يصعد يوميًا فوق كل تل متلهفًا لرؤياه، ربما يرجع، إنه يراه الآن بعد هذه السنين العديدة، أسرع بالقرب منه وهو مملوء بالرحمة والرأفة، أخذه في حضنه وأمطره بالقبلات.

      والابن وهو نادم على عصيانه، يركع أمام أبيه بتواضع قائلاً: " أبي أخطأت يا أبتاه في السماء وقدامك ولا أستحق أن أُدعى لك ابنًا " التكرار هنا أمام أبيه للاعتراف الذي حدث عندما "رجع إلى نفسه" وبنفس الكلمات هو إشارة أولى للاعتراف كسر مقدس.


المرحلة الثالثة: الخلاص: (الصلاة ـ الليتورجية الإلهية ـ الفداء)

      إن التوبة التي وصلت إلى قمتها بالاعتراف هى الرجوع إلى الله، وإصلاح العلاقة معه بشركة الصلاة. هكذا عندما نفكر: كيف أن الآب في مَثَل الابن الضال ليس هو فقط رمز للأب الروحي وأمامه يصير الاعتراف لكن هو أيضًا الله نفسه، عندئذٍ نستطيع أن نفهم كيف أن اعتراف الابن الضال هو في نفس الوقت صلاة نحو الله، حوار بين الأنا والأنت. إنها الصلاة الفردية والتي قبل أن يعبر عنها، كان هناك فحص للنفس ونقد للذات. وكما قلنا إن فحص النفس والشعور بالذنب ـ في حالة الابن الضال ـ قادته إلى التوبة، والرجوع إلى الله ومحاولة الاتصال به مرة ثانية بالصلاة.  

      بعد الصلاة الفردية للأنا نحو الأنت (الله) يتبعه الصلاة الجماعية، العبادة العامة باشتراك "نحن". هى الصلاة الافخارستية، العشاء الافخارستي الذي قدمه الأب إلى الأصدقاء والجيران للاحتفال برجوع ابنه المحبوب بالموسيقى والإبتهاج، ذابحًا "العجل المسمن" لكي يأكل الجميع ويفرحون. إنه عشاء العرس الذي أعدّه الأب إلى الابن الضال بعد عودته، لذلك أعطى أوامره للخدم بأن يلبسوه خاتم في اصبعه وحُلة جديدة.

      هذا العشاء هو رمز لليتورجيا الإلهية التي تحتل مكانة مركزية في العبادة الجماعية، حيث الافخارستيا تمثل مركز العبادة ونواتها. إن "العجل المسمن" في المثل يرمز إلى سر كنيستنا، ذبيحة الصليب الذبيحة الكفارية لابن الله، الجسد المقدس والدم الكريم ليسوع المسيح، الذي قدم الفداء إلى كل ضال، والمشاركة في العشاء  هو مشاركة في الشركة الإلهية "كدواء الخلود" التي ترمز إلى القيامة الروحية من موت الخطية. إنه حدث علينا أن نفرح به كلنا، كما قال الآب إلى الابن الأكبر: " كان ينبغي أن نفرح ونُسر لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوجد ". هنا الفرح والابتهاج قد شعر به بالأكثر الابن الضال برجوعه إلى المسكن الأبوي، والذي هو في نفس الوقت، الرجوع إلى الحياة. إنها السعادة التي كان ينشدها S£ntko في الأسطورة: بطائر السعادة الذي فتش عنه بعيدًا، وبعد بحث مُضني قرر أيضًا أن يرجع إلى أرض أبيه، شاعرًا أنه قد تحرر من ضلالاته غير المتناهية. هكذا بعد رجوع الابن الضال من "الكورة البعيدة" اكتملت المسيرة النفسية بهذه المرحلة الثالثة والتي كانت مثل الأولى والثانية تتميز بثلاث محطات: الصلاة والعبادة الإلهية والتكفير أو الفداء. هذا الفداء يتدفق من ذبيحة الصليب كاعلان لمحبة الله: " هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد .. ". المحبة هى قمة مسيرة الابن الضال الذي بدأ بالخوف من الموت جوعًا إلى عشاء المحبة " فالمحبة تطرد الخوف خارجًا".



مستويات التوبة:

1 ـ المستوى الأول: يركز التائب التوبة في ذاته، وهذه التوبة يصاحبها تعبيرات تبريرية: " ساعة شيطان "، " لا أعرف كيف فعلت ذلك "؟ بها يدافع المعترف ـ أمام الله والكاهن ـ عن نفسه بكافة الطرق. دافع التوبة ليس هو ارتكاب الخطية ولكن النتيجة المؤسفة المترتبة على ذلك مثل االسجن والاستنكار الظاهر من جانب الوسط المحيط أو الجحيم الأبدي.

2 ـ ثم يبدأ المستوى الثاني: الذي يخص علاقة الفاعل والضحية، حيث مصطلح "الضحية" لا يجب أن يُفهم فقط على أنه المُضار مباشرةً، لكن الوسط المتسع المحيط به: البشري أو الطبيعي. في هذا المستوى، نوعية التوبة تتعمق لأن الإنسان يبدأ في مسيرة المحبة غير المتناهية. وفي هذه الدرجة تعبيرات كثيرة منها:

      + أتوب لأني سببت ضررًا للآخر على المستوى المادي.

      + أتوب لأني، بغض النظر عن الثقل المادي على الآخر، قد جرحته نفسيًا.

      + أتوب لأن عملي هذا قد أصاب البيئة الطبيعية.

      + أتوب لأني صِرت بعملي المعين هذا دافع للعثرة لدائرة المؤمن.

      + أتوب لأني أثرت تأثيرًا سلبيًا على آلاف المؤمنين في علاقتهم بالكنيسة.

      + أتوب لأني جرحت رجاء الإنسان غير المؤمن في بحثه عن الكنيسة من أجل خلاصه.

3 ـ المستوى الثالث:
يُسمى حالة التوبة: فيها يدرك الإنسان العمق الأخروي لنوعية التوبة، ينطلق من معرفة هادئة بأنه خاطئ تقود إلى شعور بالضعف لكي ينتهي إلى التواضع. دائمًا يصل من يشعر بذلك إلى أنه أول الخطاة. هذه الحالة تمثل الشرط لخطوة أعمق حيث الاشتراك في التوبة بمعنى توبة القديس لحساب الأخ الضعيف. أيضًا في هذه الدرجة توجد أشكال كثيرة مثل:

      المشاركة في آلام الأخ المتألم. أيضًا القيام بإصلاح الأضرار التي تسببت نتيجة العمل الساقط للخاطئ. حمل مسئولية الآخر، والاشتراك في الدينونة الأُخروية للآخر، مثل حالة موسى: " والآن إن غفرت خطيتهم. وإلاّ فامحني من كتابك الذي كتبت " (خر32:32)، أو في حالة بولس الرسول: قبول الدينونة كفدية من أجل خلاص الإسرائيليين (رو3:9):     " فإني كنت أود أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد " (رو3:9) أيضًا قمة ما فعله المسيح بأن يموت من أجل الآخرين بما فيهم الأعداء.


طُرق التوبة بحسب تعليم القديس ذهبي الفم:

      يقول القديس ذهبي الفم إن " طرق التوبة هى كثيرة " لكي يصير خلاصنا سهلاً، لأنه لو حدد الله طريق واحد فقط للتوبة، سنقول: " لا نستطيع أن نسلك فيه، لا نستطيع بالتالي أن نخلص ". لكن الله، طرح عنا هذه الحُجة، وأعطانا طرق كثيرة للتوبة، لكي يجعل الصعود إلى السماء سهل[3].

      الطريق الأول للتوبة هو الاعتراف بخطايانا:
 احكم انت على ذاتك والرب يخلصك من ثقل الخطية. يقول ذهبي الفم: " اترف بالخطية تُمحى الخطية "[4].

      الطريق الثاني للتوبة هو الحزن على خطايانا:
 " أخطأت؟ أحزن وأمحي الخطية " يقول ذهبي الفم[5].

      الطريق الثالث للتوبة هو الوداعة:
" إظهر وداعة وامحي الخطايا "[6].

      الطريق الرابع: الصدقة:
 " ملكة الفضائل التي تصعد مباشرةً البشر إلى علو السموات .. أعطي الفقير "[7].

      الطريق الخامس: الصلاة:
" فلنصل كل ساعة ولا تكون مصليًا بنفس خائفة، ولا تطلب محبة الله بلا مبالاة، وتكون متيقن فإنه سوف لا تمقت صبرك لكن سوف يغفر لك خطاياك "[8].

      الطريق السادس: الدموع:
 يعتبرها ذهبي الفم " عمل سهل جدًا .. تعب صغير يريد منك، وذاك (أى المسيح) يعطيك الأمور الأعظم. عمل يريده منك، لكي يعطيك كنز الخلاص. أسكب دموع ويعطيك المسيح غفران "[9].




[1] Ta eureqšnta askhtik£ LÒg. ld', EKd. NikhfÒrou ieromon£cou, Leiy…a 1770.
[2] BEP 9, 127, 22-34.
[3] EPE 30, 136
[4] EPE 30, 120.
[5]  المرجع السابق.
[6] EPE 30, 126. ذهبي الفم
[7] EPE 30, 138-142. ذهبي الفم
[8] EPE 30, 150.
[9] EPE 30, 156.

الخميس، 21 مارس 2013

المسيح المعلم - بمناسبة عيد المعلم


المسيح المعلم


د.جورج عوض إبراهيم

                                                                         


           إن تعليم المسيح امتد عبر الأزمنة واحتفظ حتى اليوم ببريقه وجاذبيته. وبالرغم من التقدم التكنولوجى المذهل والتطور العلمى الهائل الذى يهدف إلى جعل الإنسان قادرًا على إيجاد حلولاً لمشاكله اليومية، إلاّ أن الواقع يعلن لنا العكس. فالإنسان يوميًا ينقاد إلى أزمات أعمق نراها على كل المستويات المعيشية ونسمعها من خلال صرخات القلق التى تنتاب الإنسان المعاصر الذى كاد يغرق وسط أمواج الحياة المتلاطمة.

          مازال تعليم المسيح له فاعليته الفريدة، ومازال يفتح آفاقًا جديدة. إنه دعوة مستمرة: " تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم" (مت28:11)، " الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة" (يو63:6).

          لكن ما الذى أعطى لتعليم المسيح هذه الجاذبية الدائمة؟ وكيف احتفظ هذا التعليم بفاعليته فى كل العصور؟ للإجابة على هذه التساؤلات نجد أنفسنا فى احتياج لمعرفة الملامح الخاصة والفريدة لتعليم المسيح.


1 ـ الظروف التربوية التى علّم فيها المسيح:

          إن الظروف تلعب دورًا واضحًا لممارسة العمل التعليمى، إذ تشكل المفتاح التعليمى وتساهم في تحقيق النتيجة المرجوة للتعليم. ونقصد بالظروف تلك الرؤية الواسعة للعناصر المرتبطة بممارسة العمل التعليمى ولها ملامح تربوية. لذا فمصطلح "ظروف" يشمل على المعطيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية للمكان الذي مارس فيه المسيح عمله التعليمى.

          وهذه الظروف لها أهمية لأن التعليم كان يهدف إلى مساعدة الإنسان لكى يفهم مدى انحرافه وسقوطه الأخلاقى ووضاعته الروحية في كل مستويات حياته اليومية، ولكى تظهر مدى مأساة هذا الإنسان الوجودية والناتجة عن تغربه. بالتأكيد لقد كان تعليم المسيح يهدف إلى تقديم طريقة حياة أخرى مضادة للطريقة الحالية المعاشة. وقبول هذه الحياة يضمن إنضمام قابلها إلى مجتمع آخر جديد، إلى مجتمع ملكوت الله: " إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة " (2كو17:5).

          تغيير العالم أو تجليه يعنى للإنسان دينونة داخلية تقوده إلى ولادة سلوك روحى جديد. هذه الحقيقة لا يمكن أن تظل على مستوى الشعور أو العاطفة، لأن تعليم المسيح يدعو إلى رجوع واضح، وتغيير كيانى لكل حياة الإنسان يُعبر عنه في كل مستويات الحياة اليومية.

          بالتالى فإن تعليم المسيح كان يدفع الإنسان إلى اختبار ولادة شخصية، وتجديد يصير للعالم بواسطة هذه الولادة. ونجاح هذا التعليم كان يعتمد على عظته المقنعة الموجه إلى إرادة الإنسان باستخدام أساليب تعليمية. المبدأ الأساسى لتأمين النتائج التعليمية المنتظرة هو وجود ظروف مناسبة لهذا الهدف وشروط واستلزمات تعليمية معينة. ومن الجدير بالملاحظة أن المسيح مارس عمله التعليمى وسط ظروف صعبة، منها على سبيل المثال: الموقف السلبى للرؤساء تجاه المسيح، بالتالى فإنه قدّم تعليمه في أماكن مفتوحة: الأسواق، التلال، الشواطئ، الخلاء.

ولكى يكون التعليم ذو فعالية يتطلب الشروط الآتية:

          أ ـ مكان للتعليم حتى يضمن عدم تشتت الذهن لكى يكون لدى المستمع إمكانية التركيز لفهم محتوى التعليم[1].

          ب ـ يجب على المعلّم أن يبرهن أنه من أول لحظة يمكنه أن يشد انتباه المستمع. لكن هذا له شرط توفر الهدوء، الأمر الذي كان غير متوفر في حالة المسيح، لأنه كان دائمًا يعلّم في أماكن مفتوحة[2]. وبالرغم من ذلك فإن مستمعيه استطاعوا أن يظلوا في مكانهم يتابعون تعليمه، كما لو كانوا في قاعة مخصصة للتعليم[3].

          ج ـ ضرورة وجود أعمار واحدة للمستمعين وذلك لضمان الفهم وبالعكس في حالة المسيح كان مستمعيه أُناس على مستوى فكرى وثقافى متنوع، لهم أعمار مختلفة ومن طبقات إجتماعية مختلفة.

          بالرغم من ذلك فإن المسيح كانت له إمكانية عظيمة لجذب انتباه الجموع بحيوية حديثه وخاصةً البشر البسطاء (مر38:12) مستخدمًا طريقة التكرار، دون أن يعنى هذا أنه لم يجذب انتباه مفكرى عصره (انظر مر12:12ـ44). كان يشعر المسيح بارتياح شديد تجاه كل نوع من المستمعين مثل مستمع الهيكل، والمجمع، والسوق، والخلاء وفي الوقت نفسه لم يصد أحد، بالعكس كان قريبًا من الكل.

 

2 ـ ملامح تعليم المسيح

أ ـ بساطة الحديث:

          لم يكتب المسيح أى كتاب، لكن كان المستمعون يتذكرون حديثه بسهولة ويسترجعونه في ذاكرتهم بسهولة شديدة مثل الأمثال: الابن الضال، السامرى الصالح،... والروايات أيضًا التي كانت معروفة في البيوت وصارت أمثال تُحكى.

          ومثل معاصريه استخدم المسيح المتناقضات والمفارقات الشديدة في تعليمه، على سبيل المثال: الله أم المال. لم يتردد في استخدام تعبيرات صعبة أو مبالغة، لكى يشدد على نقطة ما جالبًا نوعًا من الاضطراب أو الهزة النفسية لكى يساعد المستمعين لكى يدركوا الحقيقة، على سبيل المثال: " فقال يسوع لتلاميذه الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غنى إلى ملكوت السموات. وأقول لكم أيضًا أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله " (مت23:19ـ24)، منح الغفران 77 مرة، وعلى التلميذ أن يبغض أباه وأمه أو زوجته وأولاده لكى يشدد على الولاء والاستعداد والتضحية من جانب التلميذ الحقيقى. مرات كثيرة يصل بتعليمه إلى نقطة مطلقة بـ "ولا" أو "بـ "أو" على سبيل المثال: الله أو المال. يشدد يوحنا في إنجيله على الطريقة التي كان يستخدمها المسيح ولها مفاهيم مزدوجة، على سبيل المثال: "الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتى ولا أين تذهب. هكذا كل مَن وُلد من الروح" (يو8:3). أيضًا تعبير "ماء حياة" (يو10:4). استخدم أيضًا المسيح التوبيخ كما في تلك الصورة المؤثرة: " ولماذا تنظر القذى التي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها" (مت3:7). واستطاع أيضًا أن يستخدم بسهولة كبيرة الأمثال (مت23:16)، انظر أيضًا (يو8:3، إر11:1ـ12، عا1:8ـ2).

          أيضًا ملمح آخر غير معتاد بالمقارنة بمعلّمى عصره هو استخدام المسيح لكلمات تبدو غامضة، والتي لم تثير فقط مستمعيه، لكن كل الناس في كل عصر. على سبيل المثال: " الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه" (مت11:11)، ويستمر قائلاً: " ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يُغتصب والغاصبون يختطفونه " (مت12:11). أيضًا العرض التصورى المؤثر للجديد والقديم:  " ليس أحد يخيط رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق وإلاّ فالملء الجديد يأخذ من العتيق فيصير الخرق أردأ " (مر21:2). أيضًا عن وجوده بيننا بالجسد: " نحن سمعناه يقول إنى أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادى وفي ثلاثة أيام أبنى آخر غير مصنوع بأياد " (مر58:14). أيضًا انظر (لو49:11، مت34:10، لو36:22) والتي تخص موته على الصليب وقيامته (مر11:9، لو32:13). وبالنسبة لشروط الدخول لملكوت السموات التي فيها تحدى لعادات عصره: " لأنه يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. ومَن استطاع أن يقبل فليقبل" (مت12:19).

          أيضًا يجب أن نلفت النظر إلى عنصر فعال في تعليم المسيح وهو استخدام التعبيرات البرجماتية (العملية) والتي كانت تُكتب في الذاكرة بطريقة مدهشة: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (مت26:16) أو " لأن كل من يرفع نفسه يتضع ومَن يضع نفسه يرتفع " (لو11:14).

          أيضًا استخدم تناقضات تثيز الفكر وتحفزه، على سبيل المثال: " فإن مَن أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومَن يهلك نفسه من أجلى فهذا يخلصها " (لو24:9) أو " من قَبِل هذا الولد باسمى يقبلنى. ومن قبلنى يقبل الذي أرسلنى. لأن الأصغر فيكم جميعًا هو يكون عظيمًا " (لو48:9). أو " كل مَن يرفع نفسه يتضع ومَن يضع نفسه يرتفع " (لو11:14). التطويبات أيضًا على نفس المنوال (مت1:5ـ وما بعدها، لو20:6، مت3:8، لو25:18).

ب ـ التكرار أو التوازى المترادف

          هذا الشكل التعبيرى الذي نجده في تعليم المسيح يعنى أن النصف الثانى من العبارة لا يضيف شيئًا على المفهوم، حتى أنه يمكن أن يُحذف بدون أن تفقد العبارة مفهومها: " أحبوا أعداءكم. احسنوا إلى مبغضيكم" (لو27:6، انظر مر22:4ـ30، 38:10، مت6:7، 24:10)

ج ـ التوازى المتباين:

          في هذا الشكل التعبيرى نلاحظ أن النصف الثانى من العبارة هو تكرار بتعبيرات عكسية مثل: " مَن أراد أن يخلص نفسه يهلكها. ومَن يهلك نفسه من أجلى فهذا يخلّصها" (لو24:9). الحديث يعكس توازيًا متباينًا لأنه يتكلم عن اثنين من المفاهيم المتباينة فالواحد يضاد الآخر، مثل: " لأن ما من شجرة جيدة تثمر ثمرًا رديًا ولا شجرة ردية تثمر ثمرًا جيدًا" (لو43:6، انظر مر27:2، مت14:6ـ15، 17:7، 39:10، 16:20). هذه الحقيقة تقود المستمع إلى تشكيل موقف بحسب المنطق وإلى قبوله، طالما يهدف إلى مصلحة الإنسان.

د ـ التوازى التكميلى أو التصاعدى التربوى:

          حيث النصف الثانى من العبارة هو استمرارية للأول وفيه نمو واتساع وتصاعد للمفهوم الأول، مثل: " من قبل هذا الولد باسمى يقبلنى. ومَن قبلنى يقبل الذي أرسلنى " (لو48:9، راجع مت40:10، 5:25ـ10، مر37:9). هنا التوازى متدرج وتصاعدى ويصل إلى قمته في الجزء الأخير من العبارة.

          إن التوازى المضاد يمثل الملمح السائد في النهج التعليمى للمسيح، فنحن نتقابل مع هذا التوازى أكثر من مائة مرة في الأناجيل الثلاثة الأولى، وأكثر من ثلاثين مرة في إنجيل يوحنا[4]. كان يستخدم المسيح التوازى المعتاد ليعقد مقارنة مع العبادة اليهودية في عصره والاستخدام اليهودى للتوازى المضاد من جانب المسيح كان لأجل تشكيل أمثال وقوانين، وحقائق من الحياة، وحِكَمْ سلوكية (انظر مر2: السبت لأجل الإنسان ...، مر35:8، مت14:6، مت3:7ـ5، مت12:23). أيضًا في النصوص التعبدية استخدم المسيح التوازى المضاد في مناسبات كثيرة كوسيلة هجوم (مر17:8) وتأنيب (مت18:11) واتهام (مت 23:23)، أو إنباء مسبق أو تحذير (مت24:7)، صّد (مر18:10)، تخويف (مت34:10)، إرشاد للتلاميذ (مت2:6ـ4)، نصائح عن نشاطهم (مر10:6)، وعد (مت46:25)، تعضيد أخلاقى لتلاميذه (مر20:13)، مقارنة متماثلة (مر44:12)، تحديد رسالته (مت17:5).

          لقد لجأ المسيح إلى التوازى المضاد، لأن هذا التوازى يُظهر الإدانة المباشرة وأيضًا لسهولة تسجيلها وقوة تأثيرها وانعكاسها في ذاكرة البشر.

2 ـ استخدام المنطق في تعليم المسيح

          لقد استخدم المسيح المنطق كوسيلة صياغة، ليس فقط لآرائه ومواقفه لكن كمعيار، بواسطته تظهر بسهولة الأخطاء وكذلك النتائج. واستطاع أن يعزل خصومه في قمة الحيرة باستخدام المنطق.

+ الحيرة ـ التشكك

          عندما ندرس الأشكال المختلفة لمبرراته المنطقية نرى الآتى:

 

أ ـ جذب الاهتمام  Argumentum ad hominem

          لقد جعل المبرر فردى وطرح سؤال:

          "  مَن منكم بلا خطية فليرمها بحجر " (يو7:8).

          " هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر " (مر4:3).

          " معمودية يوحنا هى من السماء أم من الناس " (مر30:11).

 

ب ـ مبرر يعضد العقل لكى يندفع من حقيقة معروفة إلى اعتقاد مستنتج

Argumentum a fortiori uperocikÒthta       

          نرى مثلاً في (لو13:11) " فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحرى الآب الذي من السماء يعطى الروح القدس للذين يسألونه " (لو3:11، راجع مر11:7، مت46:5). لدينا هنا تصاعد تربوى anagwg» مؤسس على الخبرة الشخصية العامة لمستمعيه.

 

ج ـ تقليل بواسطة إظهار عدم المنطقية Reductio ad absurdum

          مثلاً عندما اتهمه اليهود بأنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين، أجاب بسؤال قائلاً: " كيف يمكن أن يخرج شيطان شيطانًا " (مر22:3ـ23، مت24:6).

د ـ القياس H analog…a

          منطق القياس عن طريق عرض أمثلة يستطيع فيها الإنسان أن يقيس بها نفسه ويحدد موقفه تجاه الله[5]. هنا نجد استخدام الخبرة المعيشية، فمثلاً يذكر لنا لوقا أمثلة توضيحية: الغنى الغبى (لو13:2ـ21)، السامرى الصالح (لو25:10ـ37)، الفريسى والعشار (لو9:18ـ14) وهذه الأمثلة تصوّر حالات لتصرفات الإنسان، وهذه التصرفات يُدعى إليها المستمع ليقتدى بها أو يتجنبها.

          أيضًا ثلاثة أمثلة لإنجيل لوقا (القاضى الظالم 1:18ـ8، وكيل الظلم 1:16ـ13، والتينة غير المثمرة 6:13ـ9). وهناك ثلاث أنواع من القياسات:

أ ـ القياس المباشر:

          هو المقارنة المباشرة بشئ أو شخص أو فكرة، وبواسطة هذه المقارنة ننقاد إلى الفهم. مثلاً لكى يجعل المسيح المستمع يعيد التفكير ثانية في تقليده الدينى، عرض عليه أمثال مثل: "مثل الزارع"، مثل "حبة الخردل"، مثل "الكنز المخفى"،... وكلها مذكورة في (مت1:13ـ52). هنا يدفع المسيح المستمع إلى تقييم تقليده الدينى.

ب ـ القياس الشخصى:

          استخدم المسيح هذا القياس لكى يُحفز مستمعيه مستغلاً الخبرات الشخصية والمعيشية، فمثلاً في (مت12:7) يقول لليهود: " فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم ".

ج ـ التصادم المكثف:

هو قياس مباشر لكن في فكرة مطلقة ومستوى مجرد يقود إلى التناقض. على سبيل المثال (مت39:10) " مَن وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلى يجدها"، (26:14): " إن كان أحد يأتى إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته واخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لى تلميذًا".

 

3 ـ التحديد Sugkekrimenopo…hsh

          يبتعد المسيح دائمًا عن الاقتراحات المجردة، ويميل دائمًا للتحديد الذي يميز المعلّم الصالح. لذا كان يعرض الموضوع بطريقة محددة:

          " ولماذا تنظر القذى التي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تنظر لها" (مت3:7ـ5، 224:23).

          الصورة التي يعرضها تحتوى على عنصر تقليل أو توبيخ مثل عرض العقوبة الظاهرة والمحددة في (مر25:10) " مرور جمل من ثقب إبرة". المسيح يشجع إظهار المحبة للناس: " فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق" (مت2:6). أيضًا يعطى تشديد على تأثير العلاقات الشخصية على علاقتنا بشخص الله: " فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك..." (مت23:5ـ24).

          كان يقدم أمثلة محددة من الخبرة الشخصية لمستمعيه: " سمعتم أنه قيل عين بعين..." (مت38:5ـ39). لقد كان المسيح محدد وفعّال في تعليمه عن الله وعن ذاته. فالله يهتم بالإنسان (مت29:10). والمسيح هو "ابن الإنسان"، "رافع خطية العالم" الذي قدم ذاته" كطريق وحق وحياة " وهو الذي أعلن " ما جئت لأُخدم بل لأخدم".

4 ـ السرد الروائى والقصصى

          لقد وجه المسيح تعليمه لكل الإنسان (العقل، والمشاعر والأحاسيس)، واستخدم الأمثال ذات السرد المأساوى: مثل لعازر المسكين، الفريسى والعشار، العذارى الجاهلات،.. الخ، مع التشديد على نهاية المثل أو القصة، نستطيع أن نجد الشكل الثلاثى التعبيرى في الأناجيل الثلاثة الأولى. على سبيل المثال:

* ثلاث أنواع من العناية: زرع، حصاد، تخزين: " انظروا طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن " (مت26:6).

* ثلاث أنواع من التهديدات الطبيعية: المطر، الطوفان، إنهيار البيوت: " فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط لأنه كان مؤسسًا على الصخر. وكل مَن يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط. وكان سقوطه عظيمًا" (مت24:7ـ27).

* ثلاث أنواع من الخصيان: " لأنه يوجد خصيان..." (مت12:19).

* ثلاث أنواع من الاحتياجات المعيشية: طعام، وماء، وملبس: " لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست... " (مت25:6).

أيضًا في سرده للأمثلة نتحقق من حفظ المبدأ السابق وهو الشكل الثلاثى للتعبير. فثلاثة هم العبيد في مثل العشارين، ثلاثة هم الذين مرّوا في مثل السامرى. أيضًا التكرار هو ملمح هام في المنهج التعليمى للمسيح، ونلاحظ هذا في مثل الوزنات (مت14:25ـ30) أو مثل الرجل العاقل والرجل الجاهل (مت24:7ـ27، كو47:6ـ49).

                                                                  




[1] crusostÒmou I, per… 'Annhj, omil…a E/, PG 54, 670.
[2] crusostÒmou I, Eij Matqa‹on, omil…a IE/, PG 57,233.
[3] crusostÒmou I, prÒj egkaloÚntaj I, PG 51,123.
[4] Burney F.C. The Poetry of our Lord, Oxford university press, London 1975. P.135.
[5] Curtis, A.W.Jesus Christ the teacher, oxford university press. London 1944, P.72-79.