الأحد، 28 نوفمبر 2010




التلاعب فى الأنسان للأب جون بريك

ترجمة د . جورج عوض عن موقع الكنيسة الأرثوذوكسية بأمريكا OCA



على مدى الأشهر القليلة الماضية ركزت وسائل الأعلام حصرياً على التهديد الدائم للإرهاب في الداخل ، وفى أفغانستان وأمكان أخرى . لذلك، فقد إسترعت إنتباهنا بعيداً عن ما قد يمثل تهديداً أكثر خطورة بخصوص الرفاهية :" تحسين جينات الإنسان " بالتلاعب وتدمير الأجنة البشرية لمصلحة مخلوق واحد .بدأت أبحاث الخلايا الجذعية بشكل جدى فى أوائل عام1999م. وقادت الأبحاث إلى قدرة الخلايا المزروعة بأن تتطور فى كل أنسجة وأعضاء جسم الأنسان. وقلق لا يقل عن هذا من ضغوط متزايدة لبراءات الجينات البشرية وقطاعات الحمض النووى التى تحمل رمز الحياة البشرية.ولا يمثل مفاجأة، إن القوة المحركة الدافعة خلف هذة المبادرات هى القوة الأقتصادية: الواعدة بأرباح طائلة من مجال التكنولوجيا الحيوية التى توفر معظم تمويل البحوث. علاوة على أن اليوم التركيز أُ عطى للقدرات الطبية في تتميم خلق أعضاء جديدة لتحل محل الأعضاء القديمة وإزالة التشوهات الجنينية المختلفة – السوق يضغط بالفعل على المتخصصين لخلق " أطفال مصممين " بمواصفات مسبقة بواسطة سحر الإستنساخ ، إنسان بتركيبة جينية.أين موقف الكنيسة الأرثوذكسية بشأن هذة القضية التى تنطوى على تلاعب بالحياة البشرية فى المستوى الأساسى لها؟ لا تعليم الكتاب ولا الآباء تحدثوا عن هذا الموضوع بطريقة مباشرة، إلا أن الكتاب والآباء يقدمون رؤية تواجة هذة القضية بوضوح شديد. هذة الرؤية تقدم صورة ثمينة لمفهوم وقيمة الشخص البشرى.الأنثربولوجية الأرثوذوكسية – عقيدة الشخص الأنسانى – تنطلق من التأكيد لما جاء فى سفر التكوين على خلق الإنسان " بحسب صورة الله ومثالة " . ومع ذلك مصطلح " صورة " يجب أن يكون محدد ، فإنة يعنى ما يدعوة اللاهوتيون اليوم :مَنْ يصنع شركة.
الشخص البشرى ليس هو وحدة منعزلة، بل عضو لمجتمع. والمجتمع الأوّلى والأساسى هو هذة الكنيسة، جسد القائم والممجد :الرب يسوع. الأصل المطلق للمجتمع الكنسى هو الله ذاتة. الحياة الأبدية في شركة الآب والابن والروح القدس. " كونوا كاملين" المسيح يقود أتباعة " كما أن أبوكم الذى فى السماء كامل" الكمال – مثل الله يعبر – يمثل بالحرى ذبيحة الحب الذاتية والتى قدمها كعطية لآخرين، وللعالم المخلوق بالحرى لأشخاص بشرية. لكى نستطيع أن نعكس كمال الثالوث القدوس، لن نستطيع أن نتهرب من تورطنا فى جهاد مستمر ضد ميول الجوانب المظلمة التى فينا، ما يدعوة التقليد النسكى " أهواء ". بناء على ذلك، العديد من آباء الكنيسة يميزون بين " الصورة " و " المثال " فالحرب غير المنظورة للنفس هى التى تحدد أو تحقق " المثال " وهذا هو الهدف من الجهاد النسكى.
وكما أن كل إنسان قد خُلِقَ بحسب " الصورة" الإلهية هكذا كل واحد دُعىَّ لأن يأخذ على عاتقة تحقيق " بحسب المثال" . ال"صورة" بكلام آخر تخص طبيعتنا والتى أُعطيت للحياة البشرية والتى نتقاسمها جمبعاً."بحسب المثال "هو الوجة الآخر، ويمثل هدف كل شخص أو أنسان دُعىَّ لكى يجاهد لتحقيق هذا الهدف. هذا الهدف وُصِفَ من الآباء ك"تألة" ، كلمة يونانية تعنى التألة. يعنى أن الهدف وغاية الحياة البشرية هى الشركة فى حياة الله الأبدية، فى أفعالة أو خصائصة مثل البر والحق والجمال والمحبة.الأرثوذكسية هى معروفة ب" الخريستولوجيا السامية" إنها تؤمن بأن يسوع الذى من الناصرة ليس هو أصغر من" إلة وإنسان"، الابن الأزلى للآب الذى "بدون تغيير صار إنساناً وصُلِبَ" لأجل خلاصنا. على قدم المساواة الأنثربولوجية المسيحية الأرثوذوكسية هى سامية بأدراكها بالقيمة الأبدية للشخص الأنسانى. بقدر ما تشدد على حقيقة الخطية البشرية، المسيحية الأرثوذوكسية تعترف أيضاً بأن الهدف الأساسى للوجود البشرى – والتى تجاهلها كل شخص مدعو أن يبذل محاولات وجهاد – لتمجيد الله والدخول إلى الأبدية والشركة المفرحة بأقانيم الثالوث القدوس.ماذا يعنى هذا فى علاقتة بالسؤال المتعلق بالتلاعب والأسغلال التجاري للجينات والأجنة البشرية؟قبل كل شىء، هذا يعنى أنة لا تلاعب فى الأنسان على المستوى البعيد أو القريب، والكلى أو الجزئى. يمكن أن يصير هذا التلاعب مقبولاً لأهداف شفائية وعلاجية تكون فى صالح الشخص الذى يريد هذا العمل. وممنوع حتماً الإستخدام التجريبى على أجنة بشرية( الذين فى أعين الله هم يحملون الصورة الإلهية وليس مجرد قطرات-نفط من نسيج) تماماً كما يُستَبعَد تسجيل براءات إختراع للجينات البشرية لأغراض تجارية.بالفعل يشكون الأطباء بأن تجارب تشخصية تطورت حديثاً تخص الجينات ( على سبيل المثال مرض الزهايمر) ليست فى حوزتهم ، لأن براءات الأختراع تتم إجراءاتها بشركات خاصة تحتكرها. فى أمريكا نحن صُدِمنا من الطريقة التى تملكت بها الشركات اليابانية موظفيها. الخطر اليوم هو أعظم جداً: بأن المصالح التجارية سوف تصل إلى أن تتحكم في الحمض النووى الخاص بنا " دى إن إية ".
فى 1998 مجمع الكنيسة الأرثوذوكسية فى أمريكا دعى لفرض حظر على التجارب الرائدة فى إتجاة استنساخ البشر.وجُدِّد النداء فى عام2001م مع بيان الأساقفة يدين أبحاث خلايا المنشأ الجينية والأستنساخ البشرى بوجة عام. مع أنتهاء العام الماضى فى وقت مبكر من مشروع الجينوم البشرى، هذا النداء يجب توسيعة ليشمل أى تلاعب فى جميع المواد الجينية البشرية لأغراض تجارية والتى لا تتضمن نتائج علاجية واضحة ومقبولة. وبالتأكيد يجب أن تكون هناك تشريعات لحظر تسجيل براءات إختراع خاصة بالجينات البشرية.
يجب أن تظل هذة المعرفة المكتسبة حديثاً بشأن علم الوراثة مع قدراتها المميزة للخير أو للشر فى العلن. ويجب على المسيحيين الأرثوذوكس الأصرار على هذة النقطة من خلال وسائل الأعلام وبأى وسيلةأخرى تحت تصرفهم. وإلا فأننا سنواجة خطر حقيقى جداً وهو الخضوع لشكل جديد من العبودية فيها إرثنا الجينى فى الأساس سوف تملكة المصالح – تجارية أو حكومية. بالمثل، يجب أن نوضح معارضتنا القاطعة للتلاعب وتدمير الأجنة البشرية، ولا سيما الخلايا الجذعية للبالغين جنباً إلى جنب مع تلك التى تُجمع من الحبل السرى، ومقبول أن هناك قدرات علاجية عظيمة لنظرائها من الأجنة. الشخص البشرى الذى خُلِقَ بحسب صورة الله ويسعى فى المضى بحسب المثال هو ذات قيمة فريدة وأبدية. على أى حال، أى محاولة لتحويل الفرد إلى مخزن لمكونات جينية أو لإنتاج أشخاص بواسطة الإستنساخ هو جريمة ليست فقط ضد حقوق الإنسان والكرامة البشرية ، فهى أول كل شىء جريمة ضد الله الذى يطلب من كل واحد بلا إستثناء المشاركة في حياتة الأبدية.

الأربعاء، 17 نوفمبر 2010


المسيحي وقبول الآخرد. جورج عوض ابراهيممقدمة:منذ نهاية القرن الماضى تجتاح العالم موجة العولمة التى يجرى من خلالها تحوّل هذا العالم إلى ما يشبه القرية الكونية. وبدأت المُسلّمات التقليدية تتراجع مثل الهوية الإثينية والثقافية والاستقلال الفكرى، بينما تخترق الثقافة العالمية بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية الحواجز والحدود لتشكل طريقة حياة إنسان هذا القرن وفق إرادة من يملكون أدوات هذه الثورة. ولقد تحقق لنا من مجريات الأحداث العالمية ـ وبدون أدنى شك ـ أن الثقافة العالمية الحالية كثيرًا ما كانت ستارًا لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية. لكن تظل الثقافة الحقيقية هي تلك التى تتحدث عن مجموعة القيم والمفاهيم التى تتعلق بالإنسان وتعميق إنسانيته وتطوره الحضارى والاجتماعى. هى تلك الثقافة التى تدافع عن إنسانية الإنسان، وتدعم مفاهيم العدالة والتسامح وتأصيل الحرية، حرية الخلق والإبداع والابتكار والانفتاح على الآخر. ومن هنا تطلع الإنسان إلى سيادة ثقافة قبول الآخر لتكون مضادة للثقافة التى تدعو إلى الاضطهاد والعنصرية والكبت والقهر والاستغلال ورفض الآخر. والذي أعطى حافزًا للمناداة بقبول الآخر هو ظهور كتاب "صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمى الجديد" للمفكر صمويل هانتنجتون أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد بأمريكا، الذى نادى بأن الصراع الحالى للعالم الجديد لن يكون بالدرجة الأولى بسبب أيديولوجي أو اقتصادى، بل سيكون بسبب الحضارة. وستكون حدود التوتر الفاصلة بين الحضارات المختلفة، هي ذاتها خطوط المعارك فى المستقبل. هكذا جاءت ثقافة قبول الآخر كرد على نظرية "صراع الحضارات" التى استفزت الإنسان الأصيل الذي يتوق لصنع شركة مع الآخر.
الرؤية المسيحية لتعبير ثقافة ”قبول الآخر”:ومن الجدير بالذكر أن تعبير ثقافة "قبول الآخر" لا تعنى مجرد المناداة بقبول الآخر واحترامه والاعتراف به، بل هي أسلوب حياة يتأسس على محبة الآخر والاعتراف به كشخص وكائن مخلوق على صورة الله ومثاله. هنا نجد أن رسالة المسيح التى هي رسالة المحبة، تلك المحبة التى تجسدت في حياته هي الإجابة الشافية والرد الحاسم على ثقافة الصراع مع الآخر.
لقد بشر المسيح بعالم جديد، عالم ملكوت الله الذى يأتى مضادًا لكل أشكال الفساد في المجتمع، هذا العالم لا يمكن أن يتكيف مع الأنظمة الظالمة العتيقة للمجتمع. وهذا ما كان يعنيه المسيح بكلامه إلى الفريسيين: " ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق. لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمرًا جديدًا في زقاق عتيقة. لئلا تشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمرًا جديدًا في زقاق جديدة فتحفظ جميعًا" (مت16:9ـ17).
فالإنسان الذى ينتمى إلى العالم الجديد الذي ينادى به المسيح هو إنسان من نوع جديد، إنسان نال تغييرًا جذريًا يجعله قادرًا على قبول ذاته، وبالتالى قبول الآخرين بغض النظر عن هويتهم وانتماءاتهم ومذاهبهم، وإنسان جديد قادر على مواجهة التغيرات، إنسان متعدد المهارات والخبرات قادر على التعليم الدائم، إنسان لديه إحساس بالزمن والتحولات التى تجرى بسرعة هائلة من حوله، ليمكّنه مسايرتها حتى لا تعدو بالنسبة له صدمة. إنسان يقبل العمل التربوى الذي ينير العقل وينمى القدرات على النقد والإبداع، وعلى الفهم والتحليل، العمل التربوى الذي يقوم على التعاون مع الآخرين وليس الذوبان فيهم، والذي يقوم على الاختلاف بدلاً من التسليم بالأفكار والمعلومات السائدة. تلك كانت مقدمة ضرورية قبل أن نستعرض موضوعنا " المسيحي وقبول الآخر"، سوف ينقسم موضوعنا إلى خطين رئيسيين: الأول: التعاليم المسيحية عن قبول الآخر، والثانى: خطوات عملية لممارسة قبول الآخر.
أولاً: التعاليم المسيحية عن قبول الآخر:1 ـ من هو الآخر؟:
يذكرنا هذا السؤال بمثل السامرى الصالح الذى كان يتمركز حول سؤال الناموسى للمسيح: مَنْ هو قريبي؟ والمفهوم المحورى للمثل هو بمثابة الإجابة على هذا السؤال. فالمسيح يعلمنا من خلال المثل أن كل إنسان بغض النظر عن هويته الإثنية أو الدينية هو قريبنا.
يقول القديس كيرلس عن معنى القريب: [ لنلاحظ كيف أن المخلص في تعريفه لمعنى القريب لا يحصره في جنس معين ولا يربطه بمستوى الفضائل، لكنه يطلقه على الطبيعة الإنسانية. وبمهارة شديدة نسج مخلص الكل المثل عن الذي سقط بين اللصوص موضحًا أن عمل الخير يجب أن يكون لكل إنسان فيما تحتاجه الطبيعة الإنسانية، في هذا المثل يُظهر السيد كيف أن القريب ليس هو المحب لذاته، لكنه هو ذاك الذي يتجاوز محبة ذاته..]
[1].
وكما قال أوليفيه كليمنت: [ الأعجوبة الحقيقية بالغة الصعوبة هى إذن، تكمن فى تحقيق مثال المحبة العملية بالمفهوم الروحى الإنجيلى لهذه الكلمة: " الأغابى" أى محبة الآخرين خلال محبتنا لله.
الدخول فى علاقة حميمة مع الله هو فى الواقع: الانقياد الواعى لحركة محبته الإلهية الفائقة التى تنسكب فينا بالروح القدس من خلال إيماننا بالمسيح والتى توحى إلينا أن الآخر (وهو كل إنسان أيًا كان) هو "قريب" لنا قرابة حميمة تفوق الأنساب الجسدية بكثير.
العلاقة بهذا "القريب" هى التلاقى مع المسيح الذى جعل ذاته فى كل إنسان يتألم: المنبوذ والمسجون والشرير، كما يذكرنا بذلك مشهد الدينونة الأخيرة فى إنجيل متى (35:25ـ40): " كنت جوعانًا فأطعمتمونى، كنت عطشانًا.. كنت عريانًا.. كنت مسجونًا.. الحق أقول لكم: كل ما فعلتموه بأحد اخوتى هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم".
المحبة "الأغابى" تعلن لنا أن كل إنسان، وعلى وجه أخص كل إنسان يتألم، هو سر المسيح، هو "مسيح آخر" كما يقول ذهبى الفم، فالإنسان جُبِلَ ليكون على علاقة حميمة بالله الواحد المثلث الأقانيم]
[2].

2 ـ الله الثالوث منبع المحبة:
لكن اكتشاف المفهوم الحقيقي للآخر الذى نادى به المسيح في المثل، مرهون بمعرفة الله كآخر بالنسبة للإنسان. والله كما عَلَّمنا الإنجيل لم يراه أحد قط لكن الابن الوحيد ـ كما يخبرنا يوحنا الإنجيلي ـ الذى في حضن الآب، هو الذى كشف لنا الله المحب. ومن هنا فالسامرى الصالح هو المسيح المحب الذى كشف لنا محبة الله لنا. ماذا فعل المسيح لأجلنا؟ يقول القديس كيرلس السكندرى في تفسيره للمثل: [ والمسيح إلهنا صار بداية لجنسنا، فهذا الذى لم يعرف الخطية هو أول من أظهر لنا كيف يمكننا أن نتخطى شهواتنا الحيوانية، إذ أخذ ضعفاتنا وتحمّل أمراضنا، وبإصعاده على دابته ذاك الذى كان في حاجة إلى الشفاء، جعلنا أعضاء لنفسه ولجسده، وقاده إلى الفندق أى الكنيسة. فالكنيسة تدعى الفندق الذي يقبل الكل، ويتسع للكل بعكس المفهوم الضيق للناموس اليهودى والعبادة الشكلية فبدلاً من أن نسمع القول " ولا يدخل عمونى ولا موآبي في جماعة الرب" (تث3:23) نسمع " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (مت19:28) وأيضًا " في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده" (أع35:10)]
[3].
إعلان المسيح عن الله هو إعلان الله الثالوث " الآب والابن والروح القدس":
ففى الخلق نجد أن الله الثالوث يخلق، فالآب بالابن في الروح القدس يخلق المخلوقات: " بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها" (مز6:33). فالآب يخلق بواسطة "كلمته" أى اللوغوس وبواسطة نسمته أى "الروح": " كل شئ به كان" (يو3:1)، و" كان روح الله يرف على وجه المياه" (تك2:1)، لذا فكل المخلوقات تحمل ختم الثالوث
[4].
أيضًا في التجسد نجد أن الروح القدس يُرسل من الآب على العذراء لتلد الابن، كذلك في معمودية المسيح نرى الآب يشهد للابن: " هذا هو ابنى الحبيب الذى به سُرّرت" وفي الوقت نفسه نرى أن الروح القدس ينزل ويستقر على الابن مثل حمامة (انظر مت16:3ـ17).
إذن الله الواحد في جوهره والمثلث في أقانيمه هو نموذج ومثال وأصل الوحدة والتمايز بالنسبة للإنسان. إنه الله المحبة منبع ومصدر كل محبة بالنسبة للإنسان. والإنسان في المسيحية هو مخلوق إلهي، لقد خلقه الله على صورته (انظر تك1:5، مت4:19، وأع8:17، كو10:3، ومثاله يع9:3). فالله بالنسبة للإنسان هو "شركة محبة". وأُعطى للإنسان إمكانية التشبه به ليكون بحسب مثال الله، كإمكانية تتحقق بفعل قوة الروح القدس، لكن يتطلب من الإنسان قبولاً حُرًا لعمل الروح القدس في حياته. هكذا يتمتع كل البشر ـ بغض النظر عن الانتماء القومى، واللون واللغة ـ بكرامة الخلق أى مخلوقات خُلقت بواسطة الله الخالق.
3 ـ الله : أبوناوالسبب في تركيز التعليم المسيحي على الله الثالوث هو أن لا نكتفى بالله الخالق فقط، ولكن بأنه أب لكل البشر. وهذا التعليم يشدد عليه مرارًا العهد الجديد (انظر على سبيل المثال مت6:9، 9:23، رو7:1)، وله علاقة مباشرة بأن كل البشر ـ بدون استثناء ـ هم أولاد الله بحسب النعمة وبالتالى هم اخوة. فالآخر بالنسبة لى هو أخى في الإنسانية. وقد أكد بولس الرسول في آريوس باغوس على هذا التعليم قائلاً: " الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه، هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي.. وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض..." (أع24:17، 26). هكذا كل البشرية مدعوة لأن تظل في وحدة بلا تفتت، وتستمد وحدتها من الله الثالوث الحي: " إله وأب واحد للكل الذى على الكل وبالكل وفي كلكم" (أف6:4).
4 ـ الهدف المعين من الله لكل البشرأيضًا ليس الانحدار المشترك هو الذي يربط البشر في عائلة واحدة، لكن هدف وجودهم المعين من الله، أى الشركة مع الله والذى يتم بتفعيل إمكانياتهم بالنعمة والتحرك نحو مثال الله. هكذا علينا أن نرتفع من الوجود البيولوجي إلى شركة أشخاص كمثال الثالوث القدوس الذي يمثل لنا نبع المحبة، كما قال أوليفيه كليمنت:
[ الإنسان الذى تقدس لا يعود بعد منفصلاً أو منعزلاً عن الآخرين. وبقدر ما يعى جيدًا أنه لم يعد منعزلاً فى شئ أو مقترفًا من أحد، بهذا المعيار فقط يعرف أنه سائر فى طريق القداسة. إنه يحمل فى نفسه البشرية جمعاء كل الناس بآلامهم وقيامتهم، دونما تفرقة بين إنسان وآخر...
إنه فى المسيح يتحد بـ "آدم فى معناه الشامل الكلى ـ أى الطبيعة البشرية كلها". ذاته لا تعود مهمة بعد. إنه يحتوى كل الناس فى صلاته، وفى حبه، دون أن يقضى على أحد أو يدين أحد إلاّ نفسه وحدها، ويحسب نفسه دائمًا آخر الكل.
ثم إن قلبه ينجرح للغاية من أجل قباحة العالم، ومن أجل مآسيه التى تتزايد دائمًا عبر التاريخ، وإذ يحس أنه منسحق مع المسيح يستشعر أيضًا أنه يقوم معه ومع الكل، فيتحقق أن القيامة هى التى ستنتصر أخيرًا، وأن فرحة هذه القيامة ستغلب كل السلبيات الدنيا...]
[5].
5 ـ مفهوم الآخر كشخص يتأسس على المحبةوهنا نأتى إلى مفهوم الشخص وبالتالى رؤيتنا لذواتنا كأشخاص، والآخر كشخص وكيان وليس كشيء يُستخدم. الشخص كائن له حضوره الخاص المتميز الذى يتحقق من خلال علاقة مع أشخاص آخرين يحيا لأجلهم، ويؤكد الأسقف كاليستوس وير على هذه الحقيقة قائلا: [ ما من إنسان يمكن أن يوجد، ما لم يكن اثنان على الأقل في علاقة معًا. ونفس الشئ يُصدق على المحبة، لا يمكن للمحبة أن تقوم في عُزلة، بل هي تفترض وجود الآخر. إن محبة الذات هي إلغاء المحبة. ومثلما أوضح "تشارلز ويليامز" هذا التأثير المُخرّب في روايته " الهبوط إلى الجحيم"، فإن حب الذات هو الجحيم، لأن حب الذات إذا ما بلغ منتهاه، إنما يدل على نهاية كل فرح وكل معنى. ليس الجحيم هو الآخرون، إنما الجحيم هو ذاتى، إذا ما انفصلت عن الآخرين وتمركزت حول نفسها][6].
إذًا لكي يظل الإنسان شخص وليس فرد، عليه أن لا يتمركز حول الأنا، أو أن يكتفى بأن يُعامل كشيء سلبى يُفعل به وليس فاعل، ومبادر في صنع علاقة مع الآخرين. والمسيح نفسه في مثل السامرى الصالح يركز على أنه لابد أن يصنع الإنسان مثلما صنع السامرى الصالح، أى أن يصنع الرحمة وهنا الإنسان هو الفاعل. والفرق بين سؤال الناموسى: مَنْ هو قريبي؟ وسؤال المسيح: فأى هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟ هو فرق شاسع، لأن الناموسى يعتبر القريب هو موضوع يقع عليه فعل المحبة، بينما القريب عند المسيح هو الذى فعل المحبة. فلكى أصير أنا قريبًا للآخر علىّ أن أصنع معه الرحمة، ولا اكتفى باعتناق نظريات عن محبة الآخر، وهذا هو معنى قول المسيح له: " اذهب أنت أيضًا واصنع هكذا" (لو37:10)، لذلك فالآخر بالنسبة لى هو شخص ينبغى علىَّ أن أصنع معه رحمة وأحبه وأتفاعل معه واهتم به. أما اعتبار الآخر وسيلة لتحقيق أغراضى وأهدافى فهو إسقاط الآخر من مرتبة الشخص إلى مرتبة الشيء القابل للاستخدام والامتلاك. وبالتالى يمثل هذا الموقف عدم الإقرار بأن الآخر هو إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، وأيضًا هو إنكار دعوته بأن يصير شخصًا يُحَب لذاته لا لأهداف مصلحية ولا لاعتبارات أخرى. أيضًا الإصرار على إزاحة الآخر من أمامى بشتى الطرق هو عدم اعترافى بأنه كائن له تفرده وتميزه، فالآخر ليس شيئًا يسهل تغييره أو استبداله.
هكذا لخص المسيح الناموس والأنبياء قائلاً: " تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك" (مت37:22ـ40).
فالمحبة نحو الله هي صدى لمحبة الله لنا، فالله أحبنا ومنحنا نعمة المحبة لكي نحبه ونحب الآخرين، ولا نستطيع أن نستقيم في محبتنا ما لم نتصالح مع أنفسنا ونحب ذواتنا ونتمتع بالسلام الدخلى.
إن " ثقافة المحبة والتسامح " التى نادى بها المسيح في تعاليمه، لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس ذكرًا أم أنثى، أو اللون أسود أم أبيض، أو القوام الجسمانى سليم أم مُعاق، ولكن تتطلب المحبة نحو العدو، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصةً في الموعظة على الجبل: " سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم.. باركوا لاعنيكم.. أحسنوا إلى مبغضيكم.. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.." (مت43:5ـ48). هذه المحبة مؤسسة على أن أى إنسان مهما كان لم تسقط عنه الهوية السماوية ولم يتوقف عن أن يكون إنسانًا مخلوقًا على صورة الله ومثاله، وفي هذا الإطار علينا أن نحب الآخر أيًا كان موقفه تجاهنا حتى لو كان عدوًا لنا. وهذا ما فعله المسيح فوق الصليب عندما طلب المغفرة لصالبيه.

6 ـ المسيح أبطل العداوة التى كانت بين البشر:
تبدو وصية المسيح بمحبة الأعداء صعبة جدًا للإنسان العادى الذي لم يختبر بعد قوة المُصالحة: " ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح" (أف13:2). هكذا يؤكد بولس الرسول على عنصر المُصالحة التى تمت بين اليهود والأمم (الأعداء بالنسبة لليهود): " ونقض حائط السياج المتوسط أى العداوة مبطلاً بجسده ناموس الوصايا فى فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا، ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به" (أف14:2ـ16). فالمصالحة تمت بين البشر والله وبين البشر فيما بينهم، وذلك بعمل المسيح الفدائى. وأصبح في مقدور المسيحي أن ينال هذه القوة، أى قوة المُصالحة من المسيح نفسه لكى يستطيع أن يحب حتى الأعداء، فلا يوجد بالنسبة للمسيحى آخر يعتبره عدوًا، ولا تتولد فيه مشاعر الكره والبغضة تجاه آخر، فهو مثل سيده يطلب المغفرة لمن يسيئون إليه. وموقف المسيحي ليس سلبيًا بل إيجابيًا، إذ يبادر في صُنع الرحمة تجاه الآخر ويحبه ويعتبره كائنًا وشخصًا يستحق أن يُحب لذاته، لأن المسيح سبق وأحبه وبذل نفسه لأجله.

7 ـ قبول الآخر رؤية إكليسيولوجية:
الكنيسة جسد المسيح تجمع كل الأمم والأجناس في وحدانية الإيمان والمحبة: " إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التى قصدها في نفسه لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك" (أف9:1، 10). وكون المسيح رأس الكنيسة فإننا " ننمو في كل شئ إلى ذاك الذى هو الرأس المسيح" (أف15:4). والمسيحي هو عضو حي ينمو إفخارستيًا في المسيح ويستمد منه قوة المحبة لكي يستطيع أن يحب الآخر، لأنه بدون هذه المحبة لا يستطيع أن تكون له المقدرة أن يمارس محبته للآخر كشخص، وليس كشيء يُستخدم لتحقيق أغراضه.

ثانيًا: ثقافة قبول تطبيقاتالآخر: عملية لممارسة قبول الآخر
1 ـ المحبة الناضجة:يجب أن نتحدث عن أشكال المحبة غير الناضجة[7] لكى نعرف أسبابها ونتجنبها. وبحسب رأى عالم النفس إيريك فروم، فإن صورة التعايش المشترك بين الجنين والأم (علامة الخضوع)، قد تستمر حتى بعد أن يولد الطفل ويكبر. فإن صارت الأم هى عالمه الخاص، ومازال يشعر أنه جزء منها، عندئذٍ يصير هذا الابن خاضعًا وبلغة علم النفس يصير "مازوشستى". وملامح هذا الفرد هى:
* لا يأخذ قرارات ولا يتحمل مخاطر.
* ليس هو مُستقل إطلاقًا ولا يوجد أبدًا بمفرده.
* لم ينضج بعد.
* له تفسيرات قدرية ـ يستسلم لأى شئ يوصله للنشوة مثل الرتم والموسيقى الصاخبة، إدمان حبوب أو أى شئ آخر.
* يصبح أداة لشخص آخر أو لشئ آخر خارج عن ذاته.
* دائمًا يتجنب العمل الإبداعى.
أما الفرد " السادى" له ملامح أخرى مختلفة عن الأول: فهو يريد أن يهرب من عزلته، وشعوره بأنه مسجون جاعلاً شخص آخر جزءً منه أو قطعة منه. فهو يعظم ويقوى ذاته على حساب هذا الشخص الآخر. وبينما نرى الفرد " المازوشستى": يُؤمر، ويُستغل، ويُجرح، ويُذل، نجد أن الفرد "السادى": يأمر، يستغل، يجرح، يذل. وقد نرى فردًا واحدًا يتصرف بالاثنين معًا، أى مرة نجد تصرفه "سادى" ومرة أخرى نجد تصرفه "مازوشستى"؛ فمثلاً هتلر كان رد فعله تجاه الناس بطريقة "سادية"، بينما تجاه القدر والتاريخ والطبيعة كان رد فعله بطريقة "مازوشستسة".
إذن علينا أن نفحص أنفسنا ونتخلص من هذه الملامح غير السوية لنستطيع أن نقبل الآخر قبولاً حقيقيًا بمحبة ناضجة.
المحبة الناضجة هى علاقة شركة مع آخر فيها حفاظ على سلامة الآخر وتفرده. فهى قوة فعالة داخل الإنسان. قوة تحطم الحوائط التي تفصل الإنسان عن أخيه، وتوّحده مع الآخرين. المحبة تعطيه القوة لأن يتجاوز أو يتخطى شعور العزلة والإنفصال، وتسمح له أن يُكَوِّن ذاته وأن يحفظ فرادته. الاثنين يصيران واحدًا في المحبة، ومع ذلك يظلا اثنين. المحبة هى فعل وليست شعور رومانسى سلبى، المحبة تعنى عطاء وليس أخذ.

ماذا نقصد بالعطاء؟
الإنسان الذي انحصر في الأخذ والاستغلال والاكتناز يشعر بأن العطاء هو الفقدان والتنازل والحرمان، لكنه على استعداد أن يعطى لكى يأخذ "تبادل منفعة". وهناك آخرون يتبنون المفهوم المحزن للعطاء، أى يشجعون على العطاء كفضيلة، على الرغم أنه يصيب النفس بالحزن. أما العطاء الخلاّق فهو مختلف تمامًا: أشعر أثناء العطاء بقوتى، بغنايا، بقدرتى. هذا الشعور بالحيوية الغنية والقوة تملأنى بالفرح. كونى أُعطى، فهذا يسبب لى فرحًا عظيمًا عن أن آخذ، ليس لأن العطاء هو حرمان، لكن لأن في عمل التقدمة حيويتى تعبر عن نفسها، ووجودى يعبر عن نفسه.
لكن ماذا يعطى الإنسان المحب إلى أخيه في الإنسانية؟
يعطى من ذاته
من أغلى ما عنده
يعطى من حياته
يعطيه من فرحه
من اهتمامه
من فهمه
من معرفته
يُغنى أخيه الإنسان، ويقوّى شعوره بحيويته. لا يعطى بهدف أن يأخذ. العطاء هو بمفرده فرح هائل، المحبة قوة تخلق محبة. عكس ذلك فإن المحبة التي لا تخلق محبة في الآخر هى ليست محبة. وقد وضع إيريل فروم أربعة عناصر للمحبة الحقيقية فيها كيف نقبل الآخر قبولاً حقيقيًا:
أ ـ الإهتمام أو العناية بالآخر: فإذا ادعت إمرأة مثلاً بأنها تحب الورود ونراها تهمل في أن ترويها بالماء، فإننا سوف لا نصدقها عندما تقول إنى أحب الورود. هكذا علينا أن نهتم ونعتنى بالآخر الذي نحبه. فالمحبة هى الإعتناء الفعّال بحياة ونمو مَن نحبهم. وحيث يغيب الإعتناء الخلاّق لا توجد محبة.
ب ـ المسئولية: الإعتناء أو الاهتمام مرتبط بملمح آخر للمحبة هو المسئولية. والمسئولية تُفهم دائمًا على أنها واجب أو إلتزام، أى شئ يُفرض علينا من الخارج. لكن المسئولية في المفهوم الحقيقى هى عمل إرادى. فالمسئولية هى تجاوبى مع الإحتياجات الظاهرة والخفية للإنسان. أن تكون "مسئولاً" يعنى أن تكون مستعدًا وقادرًا على أن تتجاوب. فمثلاً يونان النبى لم يشعر أنه مسئول عن سكان نينوى، وقبل ذلك "قايين" قال: " أحارس أنا لأخى ". يجب على الإنسان المحب أن يشعر بأن قضية أخيه هى قضيته هو فقط. عليه أن يشعر بأنه مسئول عن اخوته في الإنسانية مثلما يشعر بأنه مسئول عن ذاته. هذه المسئولية في حالة الأم وعلاقتها بطفلها تعنى الاعتناء بالإحتياجات الجسدية والمادية للطفل. وفي حالة البالغين تعنى مراعاة الإحتياجات النفسية للآخر. لكن المسئولية يمكن أن تتحول إلى سيطرة وتملك، إن لم يوجد عنصر آخر وهو:
ج ـ الاحترام: هو قبول الشخص كما هو واحترام فرادته وإمكانياته ومواهبه. والسماح بنمو الآخر بشخصيته المميزة. والاحترام الحقيقي للآخر يستلزم غياب فكرة إستغلاله. فأنا أريد أن الآخر الذي أحبه أن ينمو وبطريقته، وليس بهدف أن يخدمنى. فإذا أحببت الآخر علىّ أن أشعر بأننى واحد معه، لكن معه كما هو وليس كما أحتاج أنا أن يكون، كمثل شئ لخدمتى. الإحترام إذًا يستلزم الحرية وليس القهر. لكن لا يمكن أن تحترم الآخر بدون أن يتوفر ملمح آخر لهذه المحبة الناضجة وهو:
د ـ المعرفة: لكى أحترم الآخر وأقبله قبولاً حقيقيًا عن محبة حقيقية علىّ أن تكون لدى معرفة عميقة به. فعندما أنظر بعمق لإنسان غضوب وأعرف مبررات غضبه الداخلية أستطيع أن أحتويه ولا أتضجَّر منه. أدرك أن غضبه هو تعبير عن شئ دفين. وأراه كإنسان يتعذب ويعانى أكثر من أنه مجرد إنسان غضوب. بالمعرفة وفعل المحبة نغوص في سر الإنسان والكون.

2 ـ الفجوة بين الأجيال:
مشكلة الفجوة الكبيرة بين الأجيال هى أحد المشاكل التي تقف عائقًا لقبول الواحد الآخر. أصبح لكل جيل فكره وقيمه وسلوكه وثقافته وفلسفته في الحياة، ويرفض ما لدى الآخر ويتبادل كل منهما الإتهامات للآخر.
والشباب بطبيعة مرحلة نموه متمرد لأنه يبحث لنفسه عن مكان متميز في المجتمع، ويريد أن يثبت ذاته ويؤكد إستقلاله. وهو مندفع ومتعجل... ومثالى ومتعصب وقلق ورافض للحياة الرتيبة النمطية أو الروتينية، ويبحث عن التجديد والإثارة... وهو قليل الخبرة شديد الطموح، ومسرف في الثقة بالنفس. وإذا لم ينتبه جيل الآباء، فمن السهل أن ينخدع الشباب، ويقبل أفكارًا فاسدة وزائفة، وهو لا يدرى لأنه لم يكتسب الخبرة التي تمكنه من التمييز والنقد والإنتقاء.
مطلوب حوار فعال فيه قبول حقيقى للآخر:
إن حوار شبابنا المستمر مع شاشة الكمبيوتر من خلال الألعاب الإلكترونية والإبحار المستمر عبر الإنترنت حلَّ محل الحوار الفعال بين الأبناء والآباء. وأصبح سمات حوارات أبنائنا
[8] تنطلق من الحوار الذي تدرب عليه الأبناء مع الكمبيوتر: فالجمل قصيرة تشبه الأرقام في دلالاتها والمفردات العملية جدًا، والطلبات المركزة الصياغة والردود الباترة سواء بالقبول أو بالرفض دون تفسير أو شرح، أيضًا العبارات تحمل نبرة صوت محايدة بلا إنفعال.
ومثل هذا الحوار الذي يتم في الأسرة المصرية الآن يعود أسبابه الأولى إلى: غياب الأب سواء كان هذا الغياب ماديًا أو معنويًا. بالنسبة للغياب المادى قد شهدت العائلات المصرية منذ النصف الثانى من القرن الماضى ظاهرة لم تعتدها في تاريخها من قبل، حيث هاجرت نسبة لا يستهان بها إلى الخارج. ولم تستطع الأمهات سد مكان الأب الغائب في بنية الأسرة. وهنا بدأ الحوار الأحادى الذي استمر حتى بعد عودة الأب الذي لم يستطع إعادة الصيغة الحوارية الثنائية واستعادة الخطاب المتبادل بين الآباء والأبناء. أما الغياب المعنوى فأصاب قطاع طولى في جميع طبقات المجتمع، فانشغال الأب في توفير مستلزمات الحياة أو إنهماكه في تأمين الثروة جعل الأبناء في حالة عدم إلتزام أمام ذلك الأب الذي يعود ليلاً كامل الإجهاد، بما لا يتيح فرصة المراجعة والتقييم والتقويم. وهكذا يجد الأبناء أنفسهم في موقف الحوار الأحادى مع الأب الغائب. أيضًا الإغتراب اللغوى الناتج من اللغة الجديدة لأبنائنا لم نتوقف عندها كآباء. هذا منع التواصل بين الأبناء والآباء. إن اللغة المضادة التي شرع أبناؤنا في استعمالها وتعميم اصطلاحاتها بينهم، هى القطار القادم في مواجهة قطارنا الذي يسير على نفس القضبان، والتهديد بالصدمة قائم كما حذر مفكرينا بحدوث هذا.

3 ـ مطلوب عدم حصار المواهب وحرق البدائل في علاقتنا بالآخر:
يظهر هذا الملمح البغيض في مجال العمل سواء على مستوى الهيئات أو الجمعيات أو المؤسسات ذات العمل الجماعى. وقد ذكر أحد المفكرين
[9].
أسباب هذه الظاهرة الخطيرة التي تدل على عدم قبول للآخر، وهى:
1 ـ الغيرة المهنية القاتلة وكراهية التفوق ومخاصمة الناجحين.
2 ـ حرق البدائل الناجحة والواعدة ومحاصرتها ومحاولة تحطيمها بكافة الطرق، مما يؤدى لاختفاء الكفاءات، أو يتسبب في إحتجاب التواصل بين الأجيال المختلفة.
3 ـ إختفاء المناخ الملائم الذي يكفل تحقق أقصى إستفادة من تزاوج حماس الشباب مع حكمة وتجارب مَن سبقهم من الرواد بشتى المجالات.
4 ـ غياب المعايير الموضوعية وزحف العوامل الشخصية ببعض النواحى والأمور الإدارية أو عند التقييم للمناصب، ربما لا يتماشى مع أصول علم الإدارة.
إن هذه الأسباب نتجت بالتأكيد من عدم قبول الآخر ومن عدم ممارسة المحبة الناضجة التي ذكرنا ملامحها من قبل. فالذي يحب الآخر محبة حقيقية كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا يستطيع أن:
1 ـ يحب التفوق والنجاح ويعمل على إجتذاب المتفوقين والناجحين.
2 ـ يُقدم صف ثانٍ من الشباب ويدفع الكفاءات للأمام ويحقق أكبر قدر من التواصل بين الأجيال.
3 ـ يهيئ المناخ الملائم للإنطلاق نحو النجاح والتفوق، وإعطاء الفرصة لمَن يثبت النجاح في أى مجال لديه.
4 ـ يطبق المعايير الموضوعية عند التقييم في شتى الأمور الإدارية.


خاتمة:
إن أول شئ يجب أن نقاومه في حياتنا لكى ننجح كما يقول قداسة البابا شنودة الثالث هو " الذاتية... أى محبة الذات والإعتماد على الذات والثقة الكبيرة بالذات والتفكير الكثير فيها، بحيث لا يبقى لله مكان بيننا" ويستمر قائلاً: " يجب أن تكون ذات الإنسان عارية أمام الله وأمام النفس، وإذا كان الإنسان متواضعًا فيمكن أن يعريها أمام الناس. إن الإنسان لا يحب أبدًا تعرية ذاته منذ أن تعرى في المرة الأولى بعد الخطية وغطى ذاته بأوراق التين ومازال يبحث حتى الآن عن أوراق التين ليغطى ذاته... يغطى عيوبه بالكذب والرياء ويغطى أخطاءه بالأعذار المكشوفة وغير المكشوفة أو يلصقها بالآخرين"
[10].
هكذا يبدو لنا أن الملامح السلبية التي استعرضناها في موضوع قبول الآخر، تنتج من محبة الذات التي تبيح للإنسان بوجود هذه الفجوة بينه وبين الآخر، بعدم وجود حوار فعّال بينه وبين الآخر، وأيضًا بإباحة حرق البدائل وحصار المواهب. وتظل حتمية قبول الآخر كما ظهرت في رسالة المسيح هى المصباح المنير للبشر، وهى القوة الديناميكية التي تستطيع أن تدفع الإنسان، لأن يموت من أجل الآخر كما علمنا المسيح وظهرت محبته لنا إذ ونحن بعد خطاة مات لأجلنا.
[1] القديس كيرلس الأسكندرى: تفسير إنجيل لوقا، الجزء الثانى، مركز دراسات الآباء، القاهرة 1992، ص 153.[2] أوليفيه كليمنت، المحبة فى المفهوم المسيحى عند الآباء، منابع الروحانية المسيحية فى أصولها الأولى، مرقس، يناير 1989م، ص9.[3] القديس كيرلس الأسكندرى: المرجع السابق، ص 154.[4] انظر كاليستوس وير، الطريق الأرثوذكسي، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، بيت التكريس لخدمة الكرازة، القاهرة 2001، ص 49.[5] أوليفية كليبمنت: المرجع السابق، ص 10.[6] الأسقف كاليستوس وير، المرجع السابق، ص 39.[7] لمزيد من التفاصيل فى هذا الموضوع انظر ايريك فروم، فن الحب، الترجمة اليونانية، اثينا.[8] انظر د. أحمد تيمور، الأهرام في 9/8/2003، ص10 تحت عنوان: الفجوة الإجتماعية والخطاب الأُحادى.[9] د. مصطفى الفقى، الأهرام 1/7/2003 تحت عنوان " حصار المواهب وحرق البدائل ".[10] قداسة البابا شنودة الثالث، عمل الله في حياتنا، جريدة وطنى 5/8/1973، ص2.

الثلاثاء، 9 نوفمبر 2010

المسيح والمجتمع


رسالة المسيح والمجتمعد. جورج عوض ابراهيم









قبل أن نتكلم عن رسالة المسيح لابد أن نعى العصر الذى قارب نعيش فية. ما هى سماته ؟

خصوصاً سمة "العولمة" ذلك المصطلح الذى طغى فى الاونة الأخيرة !!

إن سمة "العولمة" ليست اقتصادية فحسب لكنها فى الواقع تفرض علاقات أكثر تعقيداً فى كل المجالات، فهى تعنى ثورة المعلومات والاتصالات بجانب الثورة العلمية غير المسبوقة والطفرة التقنية ذات الآفاق غير المحدودة وتعاظم الحديث عن حقوق الإنسان بجانب إعلاء قيم الحرية والديموقراطية والسعى إلى أشكال جديدة للعدل الاجتماعى، بالإضافة إلى نمو وتعاظم رأس المال وتحركه من داخل حدود الأوطان قفزاً إلى العولمة، إنها سرعة الحركة التى هى سمة العصر الجديد. أما سلبيات هذا العصر فهى كثيرة: ـ فهو يحمل سمة الإسراف فى الاستهلاك الأمر الذى ينتج عنه إضعاف للاقتصاد والثروة الحقيقية ويعكس انحداراً فى الإحساس بالمسئولية الفردية. كل هذا بسبب سيادة النموذج الرأسمالى والتأكيد على حرية السوق وفتح الحدود أمام تدفق السلع والخدمات والمعلومات فالرأسمالية كنظام اقتصادى يقوم فى الواقع على الفردية والحرية والمنافسة والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا .

لقد علق الإنسان آمالاً كبيرة على العلم والتكنولوجيا ولكن التقدم التكنولوجى والعلمى ليس من شأنه أن يوجد ـ بطريقة آلية ـ ظروفاً أكثر موائمة لسلوك بشرى أفضل، فلم يسبق أن عاشت البشرية قرناً شهد مذابح بالجملة، ومن قسوة فى معاملة الإنسان للإنسان، مما شهده القرن العشرون والأبشع أن المأساة مستمرة وتتفاقم.

التقدم فى مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية وبالذات فى مجال الكمبيوتر قد أتاح للإنسان أن لا يكون أسير موقعه وتاريخه، وبيئته المباشرة فقط وإنما أن تتسع مداركه لتحتوى الكوكب كله دون احتياج للسفر أو للتنقل ولكن رغم أن الثورة الإعلامية أسهمت فى تقريب الناس لكن دون اتصال مباشر، ودون علامات إنسانية عضوية بينها … وبهذا المعنى لا تجعل من تلاحم البشر، وتفاعلهم الحسى المباشر العنصر الأساسى فى هذا التقدم .

على مستوى بلادنا، يمر المجتمع المصرى بمرحلة تحول مهمة خاصة على المستوى الاقتصادى للقفز إلى آفاق القرن الحادى والعشرين، مما يتطلب وبشدة التأكيد على منظومة القيم التى تحكم توجيهه وسلوكه وضبطه نحو الهدف المنشود بدلاً من تصارع الأهداف وتصادم الطموحات لهثاً وراء الثراء وتكديس الثروات بأى وسيلة، الأمر الذى يؤدى إلى تدمير الإطار الاجتماعى من ثوابه ومسخ قيّمه.

إن الأسباب التى أدت لاختلال منظومة القيّم فى المجتمع المصرى هى كثيرة، وابتدأت بتفكك الأسرة والجنوح للعنف والتصادم وصراع الأجيال بانهيار الأسرة الممتدة المتماسكة والتى فيها الأب الكبير هو سر الحب والسيادة والنمو لشجرة العائلة. لقد ظهر بشدة اهتزاز منظومة القيم مع بداية عصر الانفتاح الذى جعل الأغلبية الفقيرة من شعبنا يُصاب بهزة عنيفة إزاء طوفان الدعوة للتغيير والترويج لنمط جديد من قيّم السوق والاستهلاك وأصبحت تواجه الأغلبية قيّم آليات السوق وشراسة قوى رأس المال التى هدفها تحقيق الربح الذى أصبح فوق كل المقدسات والثوابت الاجتماعية. لقد اختلت منظومة القيم لدى الشباب مما سهل على اختراقه من خلال الإدمان والجنس وإدخاله فى صراع محموم لإشباع الاحتياجات الشهوانية وشاعت فى المجتمع ثقافة "القهر" فكل واحد فى موقعه يتحول إلى قاهر لمرءوسيه أو من يملك أمرهم، إنها أخلاقيات القهر التى هى نتاج الخلل فى المنظومة الاجتماعية.

وهكذا ظهرت فئة ثرية جداً فى ظل وجود معدلات تنمية بطيئة مما أحدث استقطاب طبقى وانهيار قيّمى مع توارى الطبقة الوسطى لتفسح مكاناً لطبقات صعدت صعوداً غير طبيعى، ليس من خلال السُلم الاجتماعى المتدرج بل بفضل أخلاقيات القهر والابتزاز لذلك توارت القيّم الاجتماعية والتكافل الاجتماعى وثقافة قبول الآخر واحترام العلم والعمل والإنجاز.

هذا ما يفسر سيطرة وسطوة القيم المادية التى أصبحت تقبض وتدير حركة المجتمع حتى أصبحت شهوة المادة تداهم أى التزام بضوابط معينة من السلوك الخلقى فى الوقت الذى يشهد فيه المجتمع نوعاً من التدين الشكلى فقط الذى لا يمس الجوهر بل المظهر مما أصاب المجتمع بازدواجية أو مرض الفصام الاجتماعى.

المسيح يطلب تغيير جذرى للمجتمع :

إن ملكوت الله كشىء جديد حقيقى، قد بشر به المسيح، يأتى مضاد لكل أشكال الفساد فى المجتمع فهو لا يمكن أن يتكيف مع الروابط الظالمة العتيقة للمجتمع. وهذا ما كان يعنيه المسيح بكلامه للفريسيين : "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق. لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمراً جديدة فى زجاج عتيقة. لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمراً جديدة فى زقاق جديدة فتحفظ جميعاً" (مت16:9ـ17). واضح من كلام المسيح أنه لا يوجد أى تكييف بين ملكوت الله والمجتمع اللاإنسانى. إن مطلب المسيح لتغيير المجتمع نجده واضحاً فى التطويبات : "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون طوباكم أيها الباكون لأنكم ستضحكون، طوباكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيروكم وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. أفرحوا فى ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم فى السماء لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء" (20:6ـ23).

لم يرد المسيح بهذا الكلام أن يقول للفقراء احتملوا فقركم هذا وسأعدكم بسعادة فى الحياة الأخرى. النص هنا يمثل فوران شديد ضد الظلم الموجود فى المجتمع. هذا الكلام موجه لكل الناس المقهورين فى كل عصر، المسيح لا يُطوٌب هؤلاء الذين يملكون ناصية الديانة أو الذين لهم مكانة سياسية، لكن الفقراء والحزانى والجوعى والمظلومين لأنهم يجاهدون لأجل إحقاق العدالة.

لقد كشف المسيح عن زيف معايير هذا العالم وعن زيف الأنظمة غير الإنسانية. وفى نفس الوقت بشر بأن ملكوت الله لم يُعين للذين فى المرتبة الأولى بحسب معايير هذا العالم ولكن للذين هم آخر الكل، للمقهورين. والتطويبات لا تعنى بدون شك أن الفقر والجوع والألم بحد ذاتهم يمثلون تذاكر لملكوت الله. لكن تعبر عن إدانة واستنكار للمعايير التقيمية لهذا العالم فهى تُبشر بإتيان عالم جديد، عالم ملكوت الله الذى يهدف إلى تغيير الإنسان من روابط الخطية والظلم والقهر. ومن الجدير بالذكر أن طلب تغيير المجتمع له بعد أُخروى (اسخاتولوجى) لأن المسيحيون لا يعيشون فقط لأجل الحاضر، لأجل التاريخ فقط ولكن شاخصون للحياة الأبدية، للمستقبليات الاسخاتولوجية حيث تحرر الإنسان وسعادته تكون كاملة. البعد الاسخاتولوجى لا يضعف الاهتمام بالحاضر والتاريخ، لكن العكس يدعو الإنسان أن يجاهد لكى يُغير الحاضر تحت قيادة النور المستقبلى. الأُخروية لا تلغى التاريخ والعالم بل تعمل على تجليهم وتكميلهم. لأجل ذلك فإن نهاية العالم التى تكلم عنها المسيح (مت1:24ـ45 ، مر1:13ـ31 ، لو5:21ـ37) لا تعنى زوال هذا العالم لكن تجليه. المسيح نفسه تكلم عن الميلاد الثانى (مت28:19)، عن الخلق الجديد والرسول بطرس تكلم عن أزمنة رد كل شئ أى رد مجد الخليقة الأولى : "الذى ينبغى أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شئ التى تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" وذلك بإتيان المسيح، بحلول ملكوت الله خاصة بنور البعد الاسخاتولوجى. إن تاريخ سقوط الإنسان ينسحب ويترك مكانه لتاريخ الفداء. فى هذا الإطار فإن ملكوت الله يُعطى للعالم والتاريخ معنى، وكمال ووحدة.

إن دور ملكوت الله فى بعده الاسخاتولوجى هو دور تجديدى، إعادة خلق للواقع التاريخى، "هو ثورة من فوق" تتطلب خلق عالم جديد، عالم ينقاد بنور ملكوت الله ويتجه دائماً للحياة الفضلى والأكثر الإنسانية.

هكذا فإن أخلاق ملكوت الله والتى كرز بها المسيح لا تهدف إلى تثبيت ومساندة الأنظمة الفاسدة والغير إنسانية فى المجتمع، إنها أخلاق التغيير.

والتغيير سمة من سمات مجتمع الألفية الثالثة وتعنى التعديل المستمر نحو بلوغ حياة أفضل على المستوى الشخصى وعلى مستويات المؤسسات والأنظمة لأن جمود الأوضاع لفترات طويلة ضد سرعة الحركة والتطور الأمر الذى يسبب عقم فى الفكر والإبداع والخلق والتى هى سمات خلق الإنسان "على صورة الله ومثاله". على الجانب الآخر فغن التغيير المستمر من أجل التطوير للأفضل يمنع إيجاد الإمبراطوريات وتأليه الأفراد ويزيد الأمل والطموح عند الشباب قبل الكبار.

لذلك فإن "أخلاق التغيير" أو "أخلاق ملكوت الله" تتطلب من المسيحى أن يجاهد ويعمل لكى يواجه المشاكل الاجتماعية حتى يساهم فى بناء عالم أفضل من الآن فصاعداً، أى داخل التاريخ. هذا الجهاد يجب أن يكون مستمر وغير متوقف. لكن علينا أن نأخذ فى الاعتبار أن حالة الكمال التام للعالم الجديد، عالم ملكوت الله لن يتحقق فى الحاضر، لأن هذه الحالة ليست قضية هذا العالم الحاضر ولكن التحقيق يتم فى الحياة الأبدية وهذا نستقيه من البعد الأُخروى (الاسخاتولوجى) لملكوت الله كما ذكرنا سابقاً. إذن الكمال سيتحقق بعد نهاية هذا العالم، فى الأزلية "وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهأ لهم. وسيمسح الله كل دمعة لهم والموت لا يكون فى ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فى ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت. وقال الجالس على العرش ها أنا أضع كل شئ جديداً .." (رؤ3:21ـ5).

هذا التشديد على تحقيق الكمال فى الأبدية لا يسبب إحباط فى مسيرة الجهاد لأجل الأفضل لأن المسيحى يعلم جيداً أن الإمكانيات والقدرات فى هذا الاتجاه هى غير محدودة، وأن الذى يعمل فينا هو روح الرجاء والتفاؤل ومن جهة أخرى هذا التشديد يجعل المسيحى يتجنب أى تطابق لعالم ملكوت الله مع أى نظام اجتماعى أو اقتصادى أو سياسى أو أى تطلع قومى، كما حدث فى زمن المسيح، إذ أن آفاق ملكوت الله كان ضد الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية فى عدم إحقاقهم للعدل بل كان ضد التطلع القومى لليهود أى فكرة "المسيا السياسى".

وعلى هذا الأساس سيظل هناك شد وتوتر بين عالم ملكوت الله (النور) وكل الأنظمة والمؤسسات التى تسعى غلى قهر الإنسان وتحويله إلى "ترس" فى آلة (الظلمة) لتحقيق أغراضها الدنيئة.

مما سبق نجد أن أخلاق التغيير لا تخص الحالة الروحية للإنسان ولكن تشمل كل حياة الإنسان بعلاقاتها المتعددة. وإذا كان القرن الحادى والعشرين يحتاج إلى إنسان من نوع جديد فإن أخلاق ملكوت الله تستطيع أن تخلق هذا الإنسان القادر على مواجهة التغييرات والتعامل مع المجهول، إنسان متعدد المهارات والخبرات قادر على التعليم الدائم، يقبل إعادة التدريب والتأهيل عدة مرات فى حياته حتى يمكنه التنقل من عمل إلى آخر. فإنسان ملكوت الله لديه إحساس بالزمن والتحولات التى تجرى بسرعة هائلة من حوله ليمكنه مسايراتها حتى لا تعدو بالنسبة له صدمة. إن أخلاق التغيير أيضاً تمس تغير المجتمع وذلك بالتربية لإعداد هذا الإنسان الجديد، التربية التى تصقل العقل وتنمى القدرات على النقد والإبداع والابتكار، وعلى الفهم والتحليل، بالتربية التى تحرر الذهن من الخرافة وعتاقة التقاليد، وتؤصل القيم وشمولها وتكاملها، بالتربية التى لا تجد صراع بين الإيمان والعلم بل ترى أنه من الإيمان أن نشجع العلم الذى يرفع الإنسان ويرقى بالمجتمع، بالتربية التى تقوم على التعاون مع الآخرين وليس الذوبان فيهم، بالتربية التى تقوم على الاختلاف بدلاً من التسليم بالأفكار والمعلومات السائدة.

المحبة هى الطريق المؤدى لعالم ملكوت الله وأساس ثان للسلوك الأخلاقى:
لو أن ملكوت الله ـ كما رأينا ـ هو القمة التى يدعونا إليها المسيح فإن المحبة هى الطريق المؤدى إلى لاحتلال هذه القمة. إنها الوصية العظمى للناموس بحسب رأى المسيح فى رده على أحد الناموسيين فى سؤاله عن ما هى الوصية العظمى للناموس؟ "فقال له يسوع تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت37:22ـ40). المسيح نفسه قد لخص فى العظة على الجبل الناموس والأنبياء فى "القانون الذهبى" المعروف للسلوك الإنسانى : "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت12:7).

هذا القانون فى شكله الإيجابى يرفع من شأن الإنسان الآخر وهو عند المسيح كتعبير محدد للمحبة نحو القريب وهذا يعنى أن وصية المحبة بهذه الثنائية (الله والقريب) تظل هى القانون السامى للحياة الأخلاقية للإنسان فى تعاليمه. لقد أخبرنا القديس يوحنا الإنجيلى أن المسيح قبل آلامه اعتبر وصية المحبة ليست فقط وصية جديدة بل ملمح أساسى للمسيحى : "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى إن كان لكم حب بعضنا لبعض" (يو34:13ـ35). كذلك القديس بولس يعتبر المحبة كتكميل للناموس : "لا تكونوا مديونين لأحد بشىء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وإن كانت وصية أخرى هى مجموعة فى هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك، المحبة لا تصنع شراً للقريب. فالمحبة هى تكميل للناموس" (رو8:13ـ10). وهكذا فإن الوصية الثنائية للمحبة تعتبر جوهر الإنجيل أنها الإسهام العظيم للمسيح فى المجال السلوكى الأخلاقى، أنها التعبير الكامل عن الفداء والتحرر فى المسيحية، أنها كل المسيحية.

مما لا شك فيه أن وصية المحبة نجدها فى العهد القديم، محبة نحو الله: "اسمع يا إسرائيل البر إلهنا رب واحد فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك" (تث5:6)، ومحبة نحو القريب : "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك أنا الرب" (لاويين18:19).

أيضاً نجد وصية المحبة عند فيلون اليهودى والرواقيين ونفس الشيء فى القانون الذهبى (فى شكله السلبى) معروف لدى الحضارة اليونانية والرومانية وقد تبنته اليهودية فى شكله السلبى.

لكن هنا سؤال يفرض نفسه ما هو الجديد الذى أضافه المسيح لوصية المحبة؟

المسيح لم يتبنى القانون الذهبى بملمحه السلبى، على العكس، يمثل "القانون الذهبى" الجوهرة الثمينة للضمير البشرى، والجديد هو صياغته وشكله الإيجابى "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت12:7). واضح أن هناك فرق كبير بين "لا تفعل لأخيك ما لا تريده أنت لنفسك" وبين "تصرف هكذا مع اخوتك كما تريد أنت منهم أن يتصرفوا تجاهك".

الصياغة السلبية تُعبر عن سلوك أخلاقى سلبى، أخلاق دفاعية تحاول أن تهرب من الشر. إنها أخلاق يُسيطر عليها خوف الخطية وتجاهد لكى تهرب. بالعكس الصياغة الإيجابية "للقانون الذهبى" يؤسس سلوك أخلاقى لا يكتفى بالهروب من الشر والخطية ولكن سلوك جرئ ينقاد بنور الصلاح إذ يجاهد من أجل تحقيقه.

الصياغة الأولى :ـ تعبر عن سلوك سلبىPaqhtik»

بينما الثانية عن سلوك فعال™nerghtik» هذه الصياغة الإيجابية للقانون الذهبى لم تكن بالصدفة بل هى مضادة لناموس موسى الذى يغلب عليه الشكل السلبى: "لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك ولا عبد ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك (خر13:20ـ17).

إن المسيح لم يكتفى إطلاقاً بالهروب من الشر بل الأخلاق الإيجابية هى ذات قيمة عليا عنده فهو يطالب بأخلاق عملية إيجابية وقد عبر عنها بوضوح فى الموعظة على الجبل. أنها وصية جديدة تماماً فى هذا الإطار مما يجعلنا نتكلم عن عنصرين هامين هما : ـ

+ المكانة المركزية (المحورية) لوصية المحبة فى السلوك الأخلاقى عند المسيح:ـ
عند المسيح ـ كما رأينا ـ نجد أن وصية المحبة تمثل تلخيص للناموس وهى المحور الأساسى للسلوك الأخلاقى أنظر (مت37:22ـ40) هذا الاختزال والإيجاز فى وصية واحدة غير مفهوم لدى الفريسيين الذين كان يوجد عندهم كم هائل من الوصايا تنظم حياة الإسرائيلى . وهكذا فإن وصية المحبة ليست مبدأ أخلاقى أو فضيلة أخلاقية وسط فضائل أخرى ولكن تمثل معيار أساسى لكل الفضائل والمبادئ والنواميس وكل قوانين السلوك الإنسانى إذ تضفى عليهم معنى.

+ شمولية وصية المحبة : ـ

إن هؤلاء الذين سمعوا المسيح يكرز بالمحبة نحو القريب قد أدركوا كيف أن القريب له معنى أشمل وأعم عن ما كان ينادى به الإسرائيليون، القريب هو الإنسان الذى من جنسهم ومن دينهم. فإن أى إنسان غير يهودى لا يمكن أن يُعتبر إنسان يستحق المحبة ولكن المسيح أعطى مفهوم جميل جداً للقريب. لقد سأله أحد الناموسيين عن من هو قريبى فأجابه بطريقة غير مباشرة وطرح مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37).

هل أراد أن يشدد على التزام وواجب أن نساعد ونقف بجانب الإنسان المتألم، والمحتاج؟ الإجابة ليس هذا فقط بل أراد المسيح أن يجيب على سؤال الناموسى عن من هو قريبى؟ أى أراد أن يوضح محتوى مفهوم "القريب" قائلاً للناموسى "اذهب وافعل أنت نفس الشىء" افعل ما فعله السامرى الصالح، عندما وجد أمامه إنسان متألم فقرر أن يساعده بدون أن يفحص قوميته أو ديانته، هكذا لابد أن يفعل مثلما فعل السامرى الصالح: أن يساعد دون أن يفحص هوية المحتاج أى لا تفحص أى قومية ينتمى إليها أو أى مذهب دينى يُعتنق فطالما هو إنسان فهو قريبك، هو أخيك بغض النظر عن القومية التى ينتمى إليها ولا الديانة التى يتبعها ولا اللغة التى يتكلمها ولا حتى اللون الذى لجلده ولا حتى الطبقة الاجتماعية التى هو منها.

هذا المفهوم يمثل صدمة للفكر اليهودى وقتذاك لأنه يختلف اختلاف جذرى عن ما نادى به اليهود فى زمانه، فالإسرائيليين كانوا يعتبرون الأمم الغير يهودية نجسون والمكان الذى يعيشون فيه أيضاً نجس، وعلى ذلك فأى اتصال معهم كان مرفوض تماماً (عاموس13:7 ، هوشع3:2). هكذا كان القريب لدى الإسرائيلى هو فقط من يتفق معه فى الجنس والدين (لاويين18:19)، أيضاً كان هناك هوة فاصلة وكراهية قومية ودينية شديدة تفصل بين اليهودية والسامريين. لقد اختلط السامريون بالأجانب (الأمم) خاصة عندما جلب الآشوريون هؤلاء الأمم ليعيشوا معهم، بينما الإسرائيليون رفضوا بشدة أى اتصال معهم لأنهم فى نظرهم نجسون والمسافة الفاصلة بين السامريين واليهود قد زادت وصارت أكبر عندما أسس السامريون حوالى سنة 320 ق.م. هيكل خاص بهم على جبل "جرزيم" واستمرت هذه الهوة الفاصلة حتى زمن المسيح.

هذا ما يفسر ما قالته السامرية للسيد المسيح : "كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية لأن اليهود لا يعاملون السامريين"(يو9:4).

لذلك عن قصد سرد المسيح مثل السامرى الصالح وعن قصد ووعى أيضاً ذكر الكاهن واللاوى لكى يُعلم أن (القريب) عند الإنسان هو أى إنسان فمع مسكونية الحب نحو القريب تصير كل القيود الطبيعية للإنسان مع أسرته وشعبه نسبية وهكذا قد نزع المسيح عنصر القومية والدين من محتوى مفهوم القريب، فعند المسيح قريبنا هو كل إنسان فقط من المنظور الحقيقى الواقعى أنه إنسان. لقد أشاع المسيح ثقافة "قبول الآخر" التى تتجاوز الهوية الدينية والقومية والوضع الاجتماعى الطبقى ونوع الجنس ذكراً أم أنثى وملامح الوجه أو القوام الجسمانى ...... الخ.

إن "قبول الآخر" هو أساس قواعد التمدن والحضارة ودعوة المسيح للمحبة والتسامح الثقافى إزاء من يختلفون ديناً وثقافة وسلوكاً هى الاحتياج الملح على مستوى الوطن الواحد وعلى المستوى الدولى. فالإرهاب ومشاكل التعصب الدينى والعرقى هى آفات القرن العشرين الذى هو على وشك الانتهاء والكارثة أن تستمر فى مجتمع الألفية الثالثة. فكما أن الحرب العالمية الأولى فى التاريخ المعاصر هى أكثر الحروب بربرية والحرب العالمية الثانية هى أول حرب تستخدم فيها القنبلة الذرية لإبادة البشر بغير تمييز، فإن العقد الأخير من القرن العشرين سيذكر باعتباره الشاهد على همجيته حيث حدثت أخطر حالات الاعتداء على حق الإنسان فى الحياة!! هذا الاعتداء أخذ أشكال متعددة منها ازدواجية المعايير فى تطبيق معايير حقوق الإنسان فى الممارسة الدولية المنحرفة، بروز النزعات القومية المتطرفة وظهور دعوات متعددة للانفصال خاصة مع سقوط الاتحاد السوفييتى، أيضاً ظاهرة التطهير العرقى التى تستند على مبررات تاريخية وسياسية لابسة ثوب النازية من جديد وخطورة التطهير العرقى فى أن يقف الإنسان ضد أخيه الإنسان الذى كانت تضمنها من قبل دولة واحدة وذلك لأنه يختلف معه فى السلالة أو الدين إنها ثقافة إبادة الآخر بدلاً من "قبول الآخر" أو ثقافة "التسامح" أو "المحبة" التى نادى بها المسيح فى تعاليمه.

إن "ثقافة المحبة والتسامح" التى نادى بها المسيح لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس ذكراً أم أنثى أو اللون أبيض أو أسود أو القوام الجسمانى سليم أم معاق ولكن تتطلب المحبة نحو العدو، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصة فى الموعظة على الجبل : "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم .. باركوا لاعنيكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لكى تكونوا أبناء الذى فى السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأى أجر لكم. أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وإن سلمتم على اخوتكم فقط فأى فضل تصنعون. أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت43:5ـ48).

المسيح هنا يطلب شئ أكثر من الذى فعله السامرى الصالح، لأنه ذاك انتصر على تعصبات القومية والدين وعلى الخلفية المتراكمة التى كانت تفصل بين السامريين واليهود وساعد إنسان كان يعانى من الألم. هذا الإنسان الجريح لم يكن عدو شخصى له. ولكن المسيح يطلب المحبة نحو العدو! المحبة نحو العدو الشخصى والقومى والعدو الدينى، والمحبة نحو العدو الذى يكرهنا ويطردنا. لقد أراد المسيح أن يحذرنا من خطوة تقسيم الناس إلى أصدقاء وأعداء بل نحب الكل دون استثناء مثلما يشرق على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. إنها أخلاق "الكمال" فلابد أن نسعى للكمال كما أن أبانا السماوى هو كامل. إذن المعيار هو الله نفسه فى محبته للكل.

تطابق المحبة نحو الله بالمحبة نحو القريب:
هذه المحبة نحو الله تطابق مع المحبة نحو القريب (الأخ فى الإنسانية) خاصة المتألم والمقهور والمظلوم هذا التطابق يصبغ كل تعاليم المسيح جداً فى إصحاح 25 لمتى حيث المسيح يمدح بشدة هؤلاء الذين ساعدوا ووقفوا بجانب اخوتهم المتألمين والمقهورين "بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم" (مت40:25). بينما هؤلاء الذين لم يقفوا بجانب اخوتهم فى الإنسانية يكلمهم بلغة قاسية قائلاً: "الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوا بأحد هؤلاء الأصاغر فبى لم تفعلوا" (مت45:25). وهكذا فى إصحاح الدينونة متى25 تتطابق المحبة نحو الله مع المحبة نحو الأخ فى الإنسانية، خاصة المتألم لدرجة أنه لا يمكن أن تفهم الواحدة بدون الأخرى والذى يدعو للدهشة والإعجاب أن محبة الأخ (الآخر) هو تعبير محدد للمحبة نحو الله. وهذا يعنى أن برهان محبة أحد لله هى فقط محبته للآخر "لأنه من لا يحب أخاه الذى أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذى لم يبصره" (يو20:4) وهذا يعنى أن كل إدعاء محبة نحو الله لا يكون دائماً محبة نحو القريب "الآخر" والعكس صحيح المحبة للآخر عندما تتحقق بدرجة عظيمة من الشفافية هو بحسب الضرورة محبة نحو الله.

التشديد على قيمة الإنسان تصل هنا، بدون شك إلى قمة ذروتها، وهذا واضح فى كل تعاليم المسيح وأعماله. هذا التشديد على الإنسان لا يعنى رفض لله بل على العكس، نُعظم الله عندما نعظم الإنسان وننكر الله عندما ننكر الإنسان. الله الذى كرز به المسيح هو غريب تماماً عن الفكر اليهودى عن الله، فهو ليس فقط كلى القدرة، مُرهب، ومخيف ويعاقب بل الله عند يسوع هو أبونا (مر36:14). الحنون الذى هو رفيق رحلة الإنسان ويشاركه الألم وكل متاعب الحياة (راجع مت31:25، لو4:15ـ7،32:11 على سبيل المثال).

إله يسوع المسيح لا يُقدم محبة فقط بل هو نفسه المحبة: "ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة. بهذا أظهرت محبة الله فينا، أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكى نحيا به. فهذه هى المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطيانا" (1يو8:4ـ10). إله يسوع يُعلن بأكثر من ذلك فى شخص يسوع (انظر مر5:2ـ10 ،مت27:11 ،يو30:10 ،45:12). لقد أعلن الله نفسه فى حياة المسيح، نشاطه، آلامه، وموته إذ يظهرون أن إله يسوع المسيح هو إله لأجل الإنسان مثلما وُجد المسيح كإنسان لأجل الإنسان. أنه الإله الذى يتضامن مع الإنسان وخاصة الإنسان المقهور، والمريض، والشيخ، والغير قادر على العمل، والمجرم البائس والرؤساء وكل من هم فى منصب، وفى نفس الوقت، هو ضد الظلم والاستغلال والفقر والوضاعة وكل أشكال القهر.

إذا كان العصر الراهن بما يحتويه من تقدم (تكنولوجى) قد أعطى العقل قيمته العالية، وأن العقل الذى يخطط للمنفعة الشخصية، وما يحقق المصلحة الفردية هو غاية الإنسان القصوى فإن روح العصر المادية لا ينبغى أن تطمس فى الإنسان جوهره الأصيل المتمثل فى كيانه البشرى وقيمته الحقيقية تلك التى تتجسد ثقافة "المحبة" والتى تنادى باحترام الآخر وذلك من خلال العطاء الخير المخلص الذى يتبادله على مسرح الحياة مع أخيه فى الإنسانية بروح المحبة والخدمة والتعاون. علينا أن نعترف أن سلوك الحياة الجديدة لابد أن تتطلب اعترافاً من العقل رغم قدراته على البحث والتفكير والإبداع بالاحتياج إلى النور الإلهى والكشف المستمر من الله حتى لا ينحرف الإنسان ويضل الطريق اعتماداً على عقله وعلى ذاته (أنانيته)، بل يجد ضالته فى الحُب، فى العطاء بلا مقابل حتى يزدهر الآخر ويبقى سعيداً.

الفعل (العمل) هو معيار المحبة عند المسيح
إن المحبة التى نادى بها المسيح لا تُفهم إلا بارتباطها الشديد بالعمل أو بتفعيلها، فالمسيح لا يُعلم ولا يكرز بمحبة عاطفية ولكن بالمحبة العاملة، لذلك يشدد على ذلك فى الموعظة على الجبل : "ليس كل من يقول لى يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل الذى يفعل إرادة أبى الذى فى السموات.كثيرون يقولون فى ذلك اليوم يارب يا رب ألي باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرخ لهم أنى لم أعرفكم قط فاذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. فكل من يسمع أقوالى هذه ويعمل بها أشبه برجل عاقل بنى بيته على الصخر ..... وكل من يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الرمل ..." (مت21:7ـ27).

واضح من هذا النص أن المسيح يُعطى أولوية ليس لاعتراف الإيمان النظرى المستقيم لكن للعمل والفعل وإتيان الثمار . ذلك الذى له أهمية حاسمة هو ليس قبول حقائق إيمانية نظرية لكن بالمحبة العاملة. المسيح لا يطلب فقط تغيير داخلى لكن ترجمة هذا التغيير إلى عمل وفعل. وهذا يظهر جلياً فى مثل التينة غير المثمرة : "كانت لواحد شجرة تين مغروسة فى كرمه. فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام هوذا ثلاث سنين آتى أطلب ثمراً فى هذه التينة ولم أجد. اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً. فأجاب وقال له يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها وأضع ذبلاً. فإن صنعت ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها". (لو6:13ـ9).

لقد كرز أيضاً يعقوب أخو الرب بالضرورة المطلقة للعمل: "ولكن كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم" (يع22:1).

الإيمان وحده لا يكفى "لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضاً بدون أعمال ميت" (يع26:2). الرسول يعقوب لا يشكك فى قيمة الإيمان، لكنه يرفض الفكر الذى يكتفى فقط بالإيمان، كذلك الفكر الذى ينادى بأنه يستطيع أحد أن ينتظر كل شئ من النعمة الإلهية.

لا يوجد مجال للشك فى أن المسيح أعطى أفضلية أو أولوية مباشرة للعمل، لكن أى عمل يطلب؟ المسيح يطلب العمل الذى تسمح به الوصية الجديدة التى هى المحبة، وهذه الوصية ليست موقف عاطفى عام وحسب، بل محبة عاملة محددة، لشخص محدد، وهذا يعنى المساندة والوقوف بجانبه فى احتياجاته ومشاكله التى يواجهها "هنا والآن" (راجع رو9:12ـ21).

"لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً" (فيلبى4:2).

هذا ما فعله المسيح إذ صار إنسان لأجل الإنسان، وواضح جداً فى مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37) والإصحاح ال25 لإنجيل متى.

علينا أن نتشبه بالسامرى الصالح الذى فعل كل ما عنده لكى يداوى جراحات إنسان وينقذه، على العكس، أدان المثل السلوك القاسى للكهنة واللاويين الذين رأوا كم كان الإنسان جريح بين حى وميت ولكن عبروا عليه دون أن يفعلوا شيئاً. لقد أراد المسيح بهذا المثل أن يعلمنا بأن المحبة نحو أخينا فى الإنسانية تعنى الدفاع والوقوف بجانبه حتى يستطيع أن يواجه مشاكله التى تؤرقه.

أيضاً إصحاح متى25 خصوصاً المقطع الذى يتكلم عن "الدينونة العتيدة" (مت31:25ـ46) فى هذا المقطع نجد أن المعيار الذى سوف يدين به المسيح الإنسان هو موقفه إزاء مشاكل واحتياجات الأخ فى الإنسانية ، فالمحبة نحو الله والقريب تعنى صراعاً لا يهدأ حتى يتخلص الأخ فى الإنسانية من سياط الحرمان والضعف، من المرض، من الأمية، ومن كل أشكال القهر. المحبة تعنى عند المسيح صراع حتى تزال المعطلات فى طريق سعادة الإنسان.

وهنا سؤال يفرض نفسه: هل هذه المحبة العملية التى يطلبها المسيح، يجب أن تمارس على مستوى الفرد أم المجتمع؟
إن الوصية الجديدة للمحبة تتطلب ليس فقط إنسان جديد بل ومجتمع جديد، فأخلاق المحبة وثقافة "قبول الآخر" و "ثقافة التسامح" التى علمها المسيح لها نتائج اجتماعية شاملة تطلب من الإنسان أن يغير الروابط الاجتماعية ويؤسس عالم يسوده العدل، عالم أكثر إنسانية. ومن جهة أخرى، فإن المحبة لا يمكن أن تتصالح مع عادات وروابط وبرامج اجتماعية تعتبر الإنسان شئ أو أداة لكى ترضى أهدافها أو أيدلوجياتها أو محبة المجد الباطل، لقد قاوم المسيح بشدة الظلم "تباعدوا عنى يا جميع فاعلى الظلم" (لو27:13)، وطالب بعالم جديد خالى من أناس مقهورين. لذلك لم يُعطى المسيح لتلاميذه بنود تعليمية ولكن أن يكرزوا بملكوت الله وهذا له أهمية خاصة، أن يحرروا الناس من كل أشكال الضعف والمرض والقهر : "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات اشفوا مرضى. طهروا برصاً. أقيموا موتى. اخرجوا شياطين. مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا". (مت7:10ـ8).





الملامح الاجتماعية لتعاليم المسيح

رغم أن تعاليم لها صبغة شخصية تدعو الإنسان الفرد بأن يعى ويدرك مسئوليته تجاه "الله" إلا أنها لا تتجاهل الحياة الاجتماعية ومشاكلها. فكما اهتم المسيح بخلاص النفس الإنسانية، اهتم أيضاً بالجسد الإنسانى، وكما اهتم بخلاص الفرد، اهتم أيضاً بالمشاكل الاجتماعية.

وفى الحقيقة أن المسيح لم يكن مدركًا فقط لمشاكل عصره الاجتماعية لكنه أيضًا أخذ موقفاً واضحاً تجاهها. فالمسيح لم ينشغل بتفسير وجود الشر بل جاهد وصارع ضد قوات الشر، فكان نشاطه فدائى تحررى، جهاد ضد الاحتياج والضياع الإنسانى.

أن تعاليم المسيح عن ملكوت الله وأيضاً عن وصية المحبة بلا حدود نحو الله والقريب ـ كما رأينا ـ لها نتائج اجتماعية عظيمة ولا يوجد فصل بين الجانب الفردى والاجتماعى للسلوك الأخلاقى.

فإن بناء ملكوت الله ومحبة الله والقريب لا يتطلبان فقط تجديد للإنسان ولكن تجديد المجتمع أيضاً. المشكلة الاجتماعية الواضحة والتى كانت فى زمن المسيح هى الطبقية، فالناس انقسموا إلى قسمين: الأول: المستغِلين. والثانى : المستغَلين ـ أو إلى أغنياء وفقراء فاليهود فى القرن الأول كانوا مضغوطين ومقهورين من الاستغلال الوحشى لهم من الرومان، ومن جهة أخرى من عائلات الرؤساء الدينيين الذين اغلبهم كانوا يتعاونون مع المحتلين الرومان.

(أ) المسيح ـ بلا تحفظ ـ كان بجانب الفقراء

إن اهتمام المسيح الكبير للفقراء قد عبر عنه منذ بداية نشاطه العلنى فقد تكلم فى الناصرة كاشفاً مكرراً كلمة نبوة إشعياء (ص61) مبرهناً أن رسالته هى رسالة تحررية للفقراء والمتألمين. "روح الرب على لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية" (لو18:4).

نفس الكلام قد قاله تقريباً لتلاميذ يوحنا المعمدان عندما سألوه عن هل هو المسيا؟ "اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمى يبصرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (مت4:11ـ5).

لقد التفت المسيح ووضع كل اهتمامه وحنانه نحو الإنسان المتألم. لقد ركز متى الإنجيلى على نشاط المسيح المحب للبشر فى منطقة الجليل " وكان يسوع يطوف فى كل الجليل يعلم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب فذاع خبره فى جميع سورية فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين شفاهم" (مت23:3ـ24).

هنا نجد علاقة متينة بين ملكوت الله ومعجزات المسيح التى أتمها، أى أن معجزات المسيح تمثل برهان على أن عصر الفداء (التحرر) قد بدأ فعلاً. وهذا يعنى دخول المستقبل الاسخاتولوجى فى الحاضر. إن المعجزات وخصوصاً التى تخض إشباع الجياع وشفاء المرضى يظهرون مدى اهتمام المسيح ليس فقط بالنفس ولكن بجسد الإنسان كوحدة واحدة جسد ونفس.

إن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين نجده أيضاً واضحاً فى التطويبات "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو20:6ـ21).

لكن المسيح لا يكتفى بمساندة الفقراء والمجربين فى هذه الحياة بل هو يطابق نفسه بهم، وهذا يظهر بوضوح فى إصحاح 25 من إنجيل متى "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأنى جعت فأطعمتمونى عطشت فسيقيتمونى كنت غريباً فآويتمونى .. يا رب متى رأيناك جائعاً .. ومتى رأيناك غريباً .. الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم.." (مت23:25ـ45).

هنا يطابق المسيح نفسه بالفقراء، بالإنسان المهمش، بالأصغر، بالضعيف، لقد رفع من شأن المرأة وأظهر حباً عظيماً نحو الأطفال، على عكس المجتمع الرومانى واليهودى الذى همش الأطفال لقد أخذ المسيح موقف إيجابى مؤثر تجاههم (انظر مر36:9ـ37 ، 13:10ـ16 ، مت3:18 ،19 ، لو15:18ـ17).

لقد برر المسيح هؤلاء الذين أظهروا اهتمام عملى بالفقراء والمهمشين، بينما استنكر وأدان هؤلاء الذين لا يبالون بهم حتى لو كانوا كهنة ولاويين وذلك فى مثل السامرى الصالح فالمعيار الذى سوف يدانون به البشر هو موقفهم تجاه الفقير والمتألم وهكذا الذى استضافه: "وقال أيضاً للذى دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أخوتك ولا أقربائك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع والعرج والعمى" (لو12:14ـ13).

نفس الشىء والمعنى توبيخ المسيح للشاب الغنى "يعوزك شئ واحد. اذهب بع كل ما لك وأعط للفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعالى اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10) أيضاً فى مثل الغنى ولعازر يعبر عن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين بطريقة واضحة (لو19:16ـ26). لقد كشف المثل عن الهوة الكبيرة بين الغنى والفقير بين الحياة المتلذذة فى القصور وبين الحالة المحزنة الدرامية التى كانت للعازر. ونستطيع أن نقول بلغة اليوم للشمال الغنى والجنوب الفقير لقد عبر المثل عن الظلم الاجتماعى والذى يهدد دائماً الحياة الإنسانية.

والصورة التى وصفها المسيح عن التغير الجذرى الذى حدث بعد الموت لكل من لعازر والغنى، لعازر يعيش حياة سعيدة والغنى يكتوى من النار بطريقة يصعب التعبير عنها، تعبر عن موقف المسيح الاستنكارى للظلم الاجتماعى منحازاً إلى جانب الفقراء. مرة أخرى يشدد المثل على أن المعيار الذى يدين به الله الإنسان هو موقفه تجاه المتألمين فى هذه الحياة.

(ب) المسيح والأغنياء :

لقد أدان المسيح الغنى وهذا ظاهر من التطويبات "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء. لأنكم قد نلتم عزائكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون (لو24:6ـ25) ثم بعد ذلك يشدد المسيح على أنه من الصعب على الأغنياء أن يدخلوا ملكوت الله " ما أعسر دخول المتكلين على الأموال ملكوت الله". "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (مر24:1ـ25). إن موقف المسيح السلبى ضد الأغنياء لا يعنى أن هناك خلفية طبقية أى هناك تحامل عليهم، لكن لدى المسيح يتساوى الغنى والفقير فقد قال عن زكا العشار "وهذا أيضاً ابن إبراهيم" (لو9:19). إن موقفه المضاد مرجعه العدالة الاجتماعية "ابعدوا عنى يا فاعلى الظلم" (لو9:19).

إن عظة المسيح فى الأساس هى عظة ملكوت الله إنها رسالة تحرر وفداء، لذلك يُعطى أولوية مباشرة للمشاكل الوجودية للإنسان ومعنى الحياة الإنسانية. لدى المسيح معنى حياة الإنسان وسعادته ليست فى وفرة الخيرات المادية بل فى سلوكيات الكمال : "كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت4:4). لأن معنى الحياة المسيحية لا يوجد فى أن أتملك بل فى أن أكون ، لذلك المسيح يحذرنا قائلاً : "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء حيث لا يُفسِد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" (مت19:6ـ21). هذا لا يعنى أن المسيح يدعو الإنسان ليتوقف أن يعمل لكى يحصل على ضروريات الحياة. ولا مفهوم الكلام يعوق التقدم العلمى والتكنولوجى والنمو الاقتصادى ولا حتى رفاهية الإنسان. لكن المسيح أراد أن يشدد على أن مهمة الإنسان الأساسية ليست فى أن يكنز الماديات ولكن أن يدرك جيداً ما يتطلبه أصلاً (انحداره) الإلهى ومكانته وما عينه الله له. عندئذ يستطيع أن يُنظم علاقته بكل شئ بناء على ذلك، بحيث لا يُستعبد لشئ من هذه الأشياء المادية.

إن استعباد الإنسان لما يملكه له نتائج خطيرة، إذ يقود إلى الفشل الذريع كذلك يدين المسيح الطمع "انظروا وتحفظوا من الطمع، فأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12) ومثل الغنى الغبى يكشف عن مدى عدم جدوى عبادة الممتلكات فى الحياة" (لو17:12ـ21).

إن معنى ومفهوم المثل يلخصه المسيح فى عدد 21: "هكذا الذى يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله". لأن أى إنسان يضع هدفه الأسمى فى اكتناز الأموال والممتلكات سوف تأتى لحظة الموت وسيرحل عن كل هذا الذى اكتنزه. يركز المثل أيضاً أخلاق "الفقر" أمام الله، استعباد الإنسان للطمع والبحث عن معنى حياته فى الغنى يقود إلى هوة من الإفلاس الأخلاقى والوجودى.

لأجل ذلك لم يطلب المسيح من الإنسان فقط أن يرفض الاستعباد للماديات لكن يطلب شئ أفضل هو أن يتخلص الإنسان من القلق والصراع لأجل احتياجاته المادية محذراً "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون". الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. تأملوا الغربان.. تأملوا الزنابق كيف تنمو .. فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا. فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا أولاً ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم" (لو23:12ـ31).

هنا المسيح يطلب من الإنسان أن يتخلص من القلق والاهتمام الزائد لتدبير احتياجات الحياة. الإنسان الذى يؤمن بالله لا يستسلم لقلق الحياة، على العكس، هناك حيث يُسيطر القلق والصراع والانزعاج المبالغ فيه للغد يغيب الإيمان والثقة فى الله، فالصراع والقلق والانزعاج كلها تتمشى مع الغير مؤمنين.

سيكون خطأ كبير أن يتصور أحد أن المسيح بهذا الكلام يريد من الإنسان أن يواجه احتياجاته المادية باللامبالاة أو بالقدرية أو بكافة التواكل.

على العكس، المسيح يطلب من الإنسان أن يعمل انطلاقا من إيمانه بالله ومن إيمانه بتحقيق ملكوت الله كإطار أساسى لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما قصده المسيح عندما قال : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وكل هذا يزاد لكم" (لو15:12). وهكذا الإيمان بالله الذى يهدف قبل كل شئ إلى تحقيق ملكوت الله هو الشرط الوحيد لأى حلول عملية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وبسبب هذه الأهمية الجوهرية لاتجاه الإنسان فى الحياة، أما نحو الخيرات المادية أو نحو الله، فقد دعانا المسيح أن نختار بين المال أو الله وقال بالتحديد : "لا يقدر خادم أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (لو13:16) كلمة المال هنا (mamwn£j) وهى آرامية وتعنى (مال، ممتلكات، غنى)، لذا يمكن أن تكون (kef£laio) رأس مال. الإنسان مطالب أن يأخذ قرار حاسم أن يختار اختيار نهائى بين الله والمال، إما أن ينتمى لله أو ينتمى للمال، أن يخدم الاثنين هذا مستحيل.

من كل ما سبق نجد أن المسيح ضد الأغنياء والرأسمالية عامة لسببين هما: ـ
الأول :ـ الرأسمالية هى مع تقسيم الناس إلى طبقتين متضادتين، طبقة القليلين الأغنياء وطبقة الفقراء "اللعازريين" المساكين، وهم الأغلبية يُستغلون استغلالاً رهيبًا من الطبقة الأولى.

الثانى :ـ لأن روح الطمع تُغير اتجاه الإنسان نحو هدفه الأساسى أى أخلاق الكمال، وتقوده إلى إفلاس أخلاقى ووجودى. والشاهد على ذلك قيام الأغنياء من رجال الأعمال بممارسات غير مشروعة من أمثلتها الاستيلاء على قروض دون ضمانات من البنوك والهروب بها للخارج بالإضافة إلى حالات التهرب من دفع الرسوم الجمركية والضريبية، فضلاً عن السلوك الاحتكارى لبعض السلع الاستراتيجية وغيرها من سلوكيات الإفلاس الأخلاقى والوجودى.

وهنا سؤال يفرض نفسه : هل كان المسيح ضد التملك؟

إن الأناجيل الإزائية لا تعطينا موقفًا واضحًا للمسيح إزاء التملك، فهناك مواقف كان ضد التملك وأخرى لم يكن فيها ضد التملك.

فقد قال المسيح : "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" (مت20:8).ويطلب المسيح من تلاميذه أن يظلوا كما هو : "وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً، ولا نحاساً فى المنطقة" (مر8:6) ونفس الشئ طلبه من السبعين رسولاً : "لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية ...." (لو4:10) ومن الغنى الشاب الذى سأله كيف يصير كاملاً : طلب منه المسيح أن يوزع ماله على الفقراء. "اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10). من هذه الأقوال نستنتج أن المسيح كان ضد اكتناز الأموال والممتلكات، لكن يوجد حالات ظهر فيها المسيح غير ذلك. فالمسيح لم يطالب زكا العشار بما طلبه من الشاب الغنى. لقد أظهر المسيح سعادته ورضاه لأجل عودة العشار الغنى ولكن لم يطلب منه أن يبيع كل ما له ويعطى الفقراء : "فوقف زكا زقال للرب ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف. فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو8:19ـ10).

أيضاً لقد تبع المسيح أناس كانوا يساعدونه من أموالهم : "وعلى اثر ذلك كان يسير فى مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الإثنا عشر وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض. مريم التى تدعى المجدلية التى خرج منها سبعة شياطين، ويونا امرأة خورى وكيل هيرودس وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن" (مت1:8ـ3 أيضاً انظر مر40:15ـ41). فالمسيح لم يأخذ موقفاً سلبى تماماً ولا إيجابياً تماماً من قضية التملك، لكن الموقف الأساسى للمسيح يظل هو الاحتياج للتحرر من سيطرة المال. فالمسيحى يمكن أن يكون لديه ثروات ومال ولكن لا يمكن أن تسيطر عليه، لأن الاستخدام الأمثل للمال هو فى شفاء احتياجات الإنسان وخدمته.

المسيح يرفض أن يصير المال وسيلة للقهر وسيطرة أقلية على الأكثرية وعظة (123) للقديس كيرلس لإنجيل لوقا عن كيف يخلص الغنى؟ يوضح كيف أن المسيح لم يغلق الباب تماماً أمام الأغنياء، وأنه مهد لهم طريق للخلاص إذ نجده يقول : "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله". ولا يقصد المسيح بالجمل ذلك الحيوان، إنما ذلك الحبل الغليظ لأنها كانت عادة أولئك المتمرسون أن يسموا الحبل الغليظ جملاً. لكن لاحظوا أنه لم يقطع تماماً رجاء الأغنياء بل حفظ لهم موضعاً وطريقاً للخلاص، لأنه لم يقل أنه يستحيل على الغنى أن يدخل ملكوت الله بل قال أنه يمكنه إنما بصعوبة.

عندما سمع التلاميذ الطوباويين هذه الكلمات اعترضوا قائلين : فمن يستطيع أن يخلص؟ وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات لأنهم (التلاميذ) كانوا يقولون أننا نعرف أن لا أحد سيقتنع بأن يتخلى عن ثروته وغناه، فمن يستطيع أن يخلص؟ لكن بماذا أجاب الرب!! "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله". لذلك فقط احتفظ لأولئك الذين يقتنون ثروات، بالإمكانية أن يحسبوا مستحقين لملكوت الله لو أرادوا، لأنه حتى ولو كانوا يرفضون تماماً التخلى عما هو لهم، لكن يمكنهم أن يبلغوا تلك الكرامة بطريقة أخرى. والمخلص نفسه أظهر لنا كيف وبأى طريقة يمكن أن يحدث هذا إذ قال : "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم فى المظال الأبدية" (لو9:16). لأنه لا يوجد شئ يمنع الأغنياء لو أرادوا أن يجعلوا الفقراء شركاء ومقاسمين لهم فى الغنى الوافر الذى يمتلكوه. ما الذى يعيق من له مقتنيات وافرة من أن يكون رءوفاً وممتلئاً بتلك الشفقة الكريمة التى ترضى الله. إننا سوف نجد أن الحرص على تتميم هذا العمل ليس هو بلا مكافأة ولا عديم النفع، لأنه مكتوب : "الرحمة تفتخر على الحكم" (يع13:2).

هناك أيضاً سؤال يفرض نفسه : هل أدخل المسيح برنامج معين أو نظام معين لحل المشكلات الاجتماعية؟ لكى نعرف الإجابة على هذا السؤال لابد أن ننطلق مما قاله المسيح فى (لو13:12) عندما سأله أحد أن يقاسمه الميراث مع أخيه، فقال له : "يا إنسان من أقامنى عليكما قاضياً أو مقسماً" وأكمل قائلاً : "انظروا وتحفظوا من الطمع فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12).

لا يعنى هذا أن المسيح لا يبالى بالمشاكل الاجتماعية لأنه مما سبق وجدنا كيف أن المسيح أظهر اهتماماً شديداً للفقراء وللعدل الاجتماعى. البداية لفهم موقف يسوع هو ما طلبه المسيح نفسه : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت33:6) لقد أراد المسيح بهذا الطلب أن يقول أنه أتى إلى هذا العالم لكى يكرز بملكوت الله : "فقال لهم ينبغى أن أبشر المدن الأُخر أيضاً بملكوت الله لأنى لهذا قد أُرسلت" (لو43:4).

إن الشرط المهم لحل المشكلات الاجتماعية لدى المسيح ـ هو التمسك بملكوت الله فى حياة الفرد والمجتمع الإنسانى . فالمشكلة الاجتماعية لا تُحل فقط بمتغيرات خارجية لكن الحل الأساسى والمُرضى لهذه المسألة هو ممكن بالاحتفاظ بملكوت الله فى قلوب الناس.

فلو تكوّن هذا التغيير العظيم والثورى فى داخل الإنسان ، ولو انتزعت الكراهية من النفس وحلت محلها المحبة، عندئذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ستجد لها حلول . وهذا هو مفهوم ما قاله المسيح : " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم " (لو31:12).

لابد أن نكرر على أن موقف المسيح هذا لا يعنى أن المسيحى يجب أن يأخذ موقف سلبى تجاه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى يواجهها الإنسان . على العكس عندما شدّد المسيح على " اطلبوا أولاً ملكوت الله " فهو يطلب موقف فعّال من جانب المسيحيين لكى تُحل المشكلة الاجتماعية. وهكذا لو أن أحدًا استلهم وانقاد بروح ملكوت الله لا يمكن إلاّ أن يسأل ويفتش ويبحث دائمًا وبطرق كثيرة مقدمًا الحل الأكثر صحة للمشاكل التى تشغل المجتمع . إذن وصية المسيح(اطلبوا أولاً ملكوت الله) لا تعنى التمنى والدعاء فى طلب ملكوت الله ولكن المحاولات العملية والمساهمة الفعّالة للمسيحيين فى تحقيق ملكوت الله الذى هو تحرر البشر من الألم والفقر والظلم والقهر والمرض مثلما كان يفعل المسيح على الأرض ، إنها رسالة الكنيسة اليوم. فالكنيسة تشجع المؤمن أن يواجه بشجاعة مشاكله الاجتماعية منطلقًا من محبته الحقيقية نحو الله ونحو أخيه الإنسان وبمساندة المنطق (العقل) والعلم والخبرة والمناهج والمؤسسات التى تجاهد لتقود المجتمع ليصبح أكثر إنسانية ، المطلوب منا أن نفحص أى نظام على هذه التعاليم فلو كانت مثلاً الرأسمالية تُقسم الناس إلى أقلية أغنياء تُسيطر على أإلبية بائسة (لعازريين جُدد) فهى مرفوضة . وإذا كانت الاشتراكية تساعد على الخمول والكسل والتواكل من الأغلبية منتظرة من الدولة الدعم والنصيب وهم غير فعّالين فى المجتمع فهى أيضًا مرفوضة .

خاتمة :
إن شخص المسيح وتعاليمه وأعماله كما دوّنت الأناجيل هم المصدر الأساسى الذى نستقى منه السلوكيات الأخلاقية للفرد والمجتمع . والمسيح ـ كما رأينا ـ ينطلق من حدث جوهرى وهو تحقيق ملكوت الله ، ومن خلال هذا الحدث العظيم علّم وسلك وهو نفسه سلوكًا أخلاقيًا عظيمًا ، بل وطالب الإنسان (أفرادًا ومجتمعات) بأن يكون له نفس السلوك ونفس الروح ، إنها أخلاق ملكوت الله. وبناء على ذلك وجدنا أن السلوك الأخلاقى للإنسان يتأسس على عنصرين أساسيين هما : ملكوت الله ، ووصية المحبة المزدوجة أى نحو الله ونحو القريب . أيضًا ملامح هذا السلوك الأخلاقى ينبع من الملامح التى نادى بها السيد المسيح وسلك بها فى حياته. إنها الملامح الاجتماعية والملامح السياسية وكما رأينا نؤكد على أن المسيح لم يسع لتأسيس نظام اجتماعى واقتصادى معين ، بل تجاوز الأنظمة والنظريات لأنه لم يأت لهذا الغرض ، فقد كان شغله الشاغل هو الإنسان والمجتمع مؤمنًا بأن جماعة المؤمنين (الكنيسة) هى أفضل مجتمع بشرى وعليها المسئولية بأن يتحول الإنسان ويتغير تغيرًا جذريًا وليس الإنسان فقط بل المجتمع كله .

إن وصية المحبة نحو الله والقريب تكشف بوضوح خاص أن الله يطابق نفسه بالإنسان وخاصة الإنسان المتألم .

التشديد على قيمة الإنسان نجده فى كل تعاليم المسيح ، خاصة عندما كرز بأن " السبت صار لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت " (مر27:2). هذه الكرازة هى كرازة ثورية إنسانية فى التاريخ لأنها تكشف عن أن المسيح هو ضد المادة (ulismÒ) التى تعتبر الإنسان Homo Phenomenon أو animal rational فهو يرى الإنسان كشخص إلهى Personam divinam، مخلوق على " صورة الله ومثال" . لذلك الإنسانية الحقيقية ليست لها مكان فى الأنا، لكن فى " الآخر " الذى يشاركنا إنسانيتنا. ومن هذا الإطار نستطيع أن نرى الملامح الاجتماعية لتعاليم المسيح ومواقفه تجاه الفقراء والمتروكين. لقد أدان الظلم ووقف بجانب المقهورين لأنه كان يهدف إلى إقامة مجتمع جديد .

لم يكن المسيح مصلحًا اجتماعيًا أو صاحب برنامج اجتماعى محدد، لكنه كان المرسل من الله لأجل خلاص الإنسان . لقد قدم للعالم القوة الروحية والأخلاقية ، بل قدم نفسه متحدًا بالإنسان لكى يخلق فيه إمكانية التغيير الجذرى التى هى الأساس الضرورى لأى تغيير أصيل للمجتمع الإنسانى .

هذا يعنى أن السلوك الأخلاقى المسيحى يتطلب أناس مسئولين اجتماعيًا ، إذ يأخذون على عاتقهم تغيير الواقع الاجتماعى والاقتصادى والسياسى ليتوائم مع روح ملكوت الله . الحاجة إلى أناس يأخذون موقفًا نقديًا تجاه الواقع مستخدمين إمكانيات الخلق على " صورة الله ومثاله " من عقل ومنطق وعلم وخبرة وإبداع وجهاد مستمر من أجل حياة أفضل، آخذين المسيح النموذج والموديل الأصيل للإنسان وللمجتمع الإنسانى .










الأربعاء، 3 نوفمبر 2010






الإستنارة بين الفكر العقلاني والفكر المُظلم[1]د. جورج عوض إبراهيميُعرَّف مصطلح "الإستنارة" كما هو مستخدم في الخطاب التحليلي العربي بأن:
العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، وأن عقل الإنسان قادر على الوصول إلى قدر من المعرفة ينير له كل شئ أو معظم الأشياء والظواهر ،ويعمق من مفهومه للواقع ولذاته دون الحاجة إلى أى معرفة تأتيه من علٍ، كما أنه قادر على توليد منظومات أخلاقية من خلال معرفته بالواقع الهادي، لذا يمكن تسمية الإستنارة بـ "العقلانية المادية".

 هذا المصطلح ـ في الخطاب العربي ـ مرتبط ارتباطا تامًا بمفهوم الحداثة. لكن العالم المادي ـ في الخطاب المسيحي ـ خُلِق من قِبل الله وبالتالي هو عطية من الله إلينا. ودعوة الإنسان ليست هي مجرد أن يعيش في العالم قانعًا بالأشياء التي حوله كما هى، لكن أيضًا لكي يستخدم العالم المادي ويطوره ويشكله ولا يكتفي بهذا بل يقدم إبداعاته وإنجازاته إلى الله ليباركها.

إذًا الإنسان المخلوق بحسب صورة الله ـ كما ينادي الخطاب المسيحي ـ يمكنه أن يعمل أمرين: الأمر الأول: تغيير العالم وتجميله وتطويره وذلك بإعطائه هدفًا ومفهومًا ومعنى جديدًا. وقد مارس آدم هذه الإمكانية عندما قام بتسمية كل المخلوقات الحية (تك19:2). هنا نرى أن الإنسان يُشكّل بيئته الطبيعية ويعطي مفهومًا واتجاهًا للأشياء التي توجد حوله. فعندما يوجد شئ ليس له اسم، يظل غير محدد وبلا شكل، ولا يخطر على تفكيرنا ولا نستطيع أن نستخدمه. لكن مجرد أن نعطي اسمًا لشئ، للتو، نحدد علاقته معنا، ونحن عندما نعطي اسمًا لشئ فلكي نميزه عن بقية الأشياء المحيطة بنا، ثم نبدأ بعدها فهم طبيعته المميزة. إذًا أن نعطي اسمًا لشئ يعني أننا أعطيناه مفهوم ومعنى لم يكن لديه قبلاً. وهكذا لأننا مخلوقين بحسب " صورة الله ومثاله " فنحن نشترك في العمل مع الله " (1كو9:3)، بالفن والشعر والتكنولوجيا والبحث العلمي ونُجمل الخليقة المادية ونجعلها قادرة على أن تمجد الله. فالخليقة تمجد الله من خلالنا نحن البشر وهذا هو الأمر الثاني: تقديم الشكر إلى الله من أجل العالم المادي "عطيته لنا". فنحن نقدم كل شئ لله مقرين بأن الفضل له، لأننا لا نستطيع بدونه أن نفعل شيئًا.

نرجع إلى مفهوم الإستنارة كما هى واردة في الخطاب العربي لنقول إن العالم فعلاً يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، وأن عقل الإنسان ـ بالفعل ـ قادر على الوصول إلى قدر من المعرفة ينير له كل شئ ويعمق من مفهومه للواقع ولذاته. ولكن شرط أن يستنير بنعمة تأتيه من فوق أي من الله. هذه النعمة هى نعمة الروح القدس في الخطاب المسيحي. فاستنارة الذهن في حالة غياب النعمة الإلهية هو أمر مستحيل لأن العقل صار بعد انحراف الإنسان وسقوطه غير مستنير بقدر كافي. وإن كان الخطاب الأرثوذكسي يقر بأن الإنسان لم يفقد نعمة الخلق بحسب صورة الله ومثاله تمامًا بل أظلمت هذه الصورة وتشوهت وأصبح الإنسان في مقدوره أن يستنير ولكن برؤية ضبابية غير واضحة وغير كافية حيث يحتاج دائمًا لنعمة آتية له من الله. لذا بالرغم من أن الإنسان ـ في عصر التنوير كما يسمونه ـ قد أصبح أكثر ثقة في قدراته وأكثر تفاؤلا بخصوص حاضره ومستقبله، إلاّ أنه توجد جوانب تفكيكية كامنة في رؤيته العقلانية المادية. هذه الجوانب أشار إليها بعض الفلاسفة الذين تبنوا مصطلح "الإستنارة المظلمة". هؤلاء الفلاسفة ينادون بأنه طالما أن أصول الإنسان طبيعية مادية ـ كما يرى العقلانيون الماديون من دعاة الإستنارة المضيئة، وأنه تسري عليه القوانين المادية التي تسري على كل الظواهر الطبيعية فلا يمكن أن نتحدث عن مركزية الإنسان في الكون، وعن المرجعية الإنسانية، وعن مقدرة الإنسان على تجاوز ذاته المادية، وعن أن الإنسان خيّر بطبيعته واجتماعي بفطرته، وعن أن الذات الإنسانية مبدعة حرة مستقلة.

نحن نرى أن رؤية فلاسفة "الإستنارة المظلمة" هى رؤية صحيحة لأن الإنسان لن يكون مركز الكون بكون أصوله فقط هى طبيعية مادية وتسري عليه القوانين المادية. والخطاب المسيحي يشدد على أن الله خلق الإنسان "بحسب صورة الله ومثاله" ويشرح القديس أثناسيوس هذا الأمر في الفصل الحادي عشر لكتاب " تجسد الكلمة " موضحًا بأن المخلوقات ومن ضمنها البشر المخلوقين ليس لديهم القدرة على إدراك ومعرفة خالقها: " لأنه أية منفعة للمخلوقات لو أنها لم تعرف خالقها؟ " ويستمر قائلاً: " ولكي لا يحدث هذا، ولأنه صالح في ذاته، فقد جعل لهم نصيبًا في صورته الذاتي (الذي هو) ربنا يسوع المسيح، وخلقهم على صورته ومثاله حتى أنه ـ بسبب تلك النعمة ـ فإنهم عندما يرون تلك الصورة أى كلمة الآب، يمكنهم عن طريقه أن يصلوا إلى معرفة الآب، وإذ يعرفون خالقهم فإنهم يحيون حياة حقيقية سعيدة مغبوطة"[2].

هكذا الإنسان بدون نعمة الخلق على صورة الله ومثاله لا يستطيع أن يتعرف على خالقه مصدر الحياة بالنسبة له ويتساوى في هذه الحالة
مع الحيوانات غير العاقلة.إذًا الإستنارة الحقيقية مرهونة بالتعرف على الله الخالق مصدر هذه الإستنارة. وأصحاب مصطلح "الإستنارة المظلمة" يشخصون حقًا حالة الإنسان الذي سقط وأصبح عقله مظلم وفقد التواصل مع النعمة الآتية من الله. فالإنسان عندهم ـ كمخلوق مادي فقط ـ حيوان لا يعرف غير التربص والافتراس والصراع وحب البقاء والأنانية والبحث عن المنفعة واللذة.  إنهم ينزعون، بذلك، الخصوصية والقداسة عن الإنسان ويردونه إلى قوانين الطبيعة / المادة، وهى قوانين الحركة العامة التي لا تعرف ثباتًا أو استقرارًا أو خصوصية أو قداسة، والتي لا يمكن للإنسان الإمساك بها. إذًا مهمة هؤلاء الفلاسفة إنارة أبعاد الواقع المظلمة الحقيقية، فهي بحسب زعمهم "استنارة مظلمة". هذا الوصف يعبر بدقة عن حالة الإنسان الساقط الذي فقد عمق التواصل مع الله لأن صورة الله فيه قد تشوهت وأسودت بحسب تعبير القديس أثناسيوس، حالة الإنسان الذي انحرف بعيدًا عن طريق الحياة وأخذ يبحث عن ارتواء لعطشه دون جدوى. هذا التشخيص وإن كان يوضح حالة الإنسان الساكن في الظلمة إلاّ أنه لا يساعد الإنسان على الخروج من هذا النفق المظلم، أى ذاته المظلمة.

أما الخطاب المسيحي الأرثوذكسي يقدم طوق النجاة من الذات المظلمة والعقل المظلم وحالة فقدان الحكمة والاتزان والرؤية، وذلك بالتبشير بالاستنارة الحقيقية التي تأتي من الله بواسطة الروح القدس بفضل المسيح الذي صالح البشر مع الله واقترب من الإنسان ليقوده إلى الشركة مع الله. إذًا المسيح لم يقتصر دوره على الدعوة الحسنة والتوبة بل وضع على عاتقه خلق الإنسان من جديد ليصبح إنسان جديد " إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة " (2كو17:5)، جديدًا في علاقته مع الآخرين من جنسه، وأيضًا في علاقته مع العالم الطبيعي (المادي) المحيط به، وفوق كل شئ علاقته الحميمية مع الله. هذه الحالة تفرز أخلاق جديدة لا تخص فقط الحالة الروحية للإنسان ولكن تشمل كل حياة الإنسان بعلاقاتها المتعددة. ومصدر هذه الأخلاق ليس الإنسان المادي بل الخليقة الجديدة التي بدأت بشخص المسيح النموذج الأصيل للإنسان المخلوق بحسب صورة الله ومثاله.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] قراءة مسيحية لهذا المقال المأخوذ من كتاب د. عبد الوهاب المسيري " دراسات معرفية في الحداثة الغربية "، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى يناير 2006، ص25ـ32.

[2] أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، ترجمه عن اليونانية وتعليقات د. جوزيف موريس، مراجعة د. نصحي عبد الشهيد، فصل 4:11.



الإستنارة بين الفكر العقلاني والفكر المُظلم([1] (2د. جورج عوض إبراهيم


نحن نقرأ قراءة مسيحية ما عرضه مؤلف كتاب " دراسات معرفية في الحداثة الغربية" وبالتحديد مقال " الإستنارة بين الفكر العقلاني والفكر الظلم". ونتوقف عند التصنيف الذي ذكره بخصوص موقف المفكرين من موضوع الإستنارة، إذ صنفهم في ثلاثة مجموعات:

المجموعة الأولى: التقدميون (على سبيل المثال ماركسي ودوركهايم ومن ينحون نحوهما): هؤلاء يرون إمكانية التصدي للظلمة، فهي ليست حالة نهائية، لكن التصدي للظلمة وفق الخطاب المسيحي بعقل وذهن لم يتجدد بواسطة نعمة آتية من فوق يُعد أمرًا في غاية من الصعوبة بل ونقول من المستحيل. فالإنسان الساقط ليس لديه إمكانية أن يجدد ذاته وعقله ويستنير إستنارة كاملة تجعله يواجه الظلمة الساكنة في داخله. قد يكون لديه قبس من نور خافت بكونه ما زال حتى بعد السقوط يحمل صورة الله في داخله، تلك الصورة التي تشوهت من جراء السقوط والإبتعاد عن مصدر الحياة (الله). والخطاب المسيحي الأرثوذكسي يقر بأن التوبة لا تكفي لتجديد الإنسان فالحاجة إلى تغيير جذري لا يستطيع أن يقوم به إلا الخالق الذي له كل المقدرة أن يجدد خلقته ويُعيدها مرة أخرى في حالة شركة معه. ويشرح القديس أثناسيوس هذا الأمر في كتابه " تجسد الكلمة" قائلاً: " ولا تقدر التوبة أن تغير طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية. فلو كان تعدي الإنسان مجرد عمل خاطيء ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية". ويتسائل القديس أثناسيوس قائلاً: " مَنْ الذي يستطيع أن يُعيد للإنسان تلك النعمة (نعمة الخلق على صورة الله) ويرده إلى حالته الأولى إلا كلمة الله الذي خلق ـ في البدء كل شيء من العدم؟"[2].

ومن هنا نادى الخطاب المسيحي بعقيدة التجسد لأنها طوق النجاة بالنسبة للإنسان الساقط في الفساد. مشكلة الإنسان ليست مجرد مرض يتطلب علاجًا بل الموت الذي يتطلب حياة، قوة محيية لتلك الطبيعة البشرية التي طالها الفساد من جراء إبتعاد الإنسان عن الله.

هكذا لا يمكن لآمال التقدميين أن تتحقق فمن المستحيل للإنسان الذي لم ينال بعد الخليقة الجديدة أن يؤسس مجتمعات عقلانية حديثة من خلال تطوير آليات معينة للإنعتاق ولمحاصرة الظلمة مثل الثورة الإجتماعية والدولة التنين بهيمنتها وتحسين البيئة الإجتماعية، ولا حتى بتحسين الجنس البشري نفسه من خلال الهندسة الوراثية.

كما قلنا، بحسب الخطاب المسيحي، الإنسان لا يستطيع أن يحاصر الظلمة ولا يمكنه أن يتحرر من أهوائه. لابد أن ينال قوة التغيير من الله ليستطيع أن يتحرر وينعتق من مملكة الظلمة وينتقل إلى مملكة النور.

المجموعة الثانية: المأساويون (فيبر وغيرة):

هؤلاء نادوا بأن الإستنارة المظلمة متضمنة في فكر الإستنارة المضيئة والعقلانية المادية، وأنه لا يوجد أي حل لهذه المشكلة. وكذلك نادى العالم الإجتماعي جورج زيميل وماكس فيبر بأن تزايد هيمنة الإنسان على الطبيعة مع تزايد معدلات الإستنارة ستودي بالإنسان وتُدخله القفص الحديدي.

أدرك كُتاب ومفكرون كثيرون مأساة الإنسان وإكتفوا فقط بتشخيص مأساته وفشله في أن يتحرر من ظُلمته هذه. وحذروا من أن تزايد هيمنة الإنسان على الطبيعة وعلى الآخرين يؤدي إلى مزيد من تفتت الإنسان. وقد أدرك حقًا، الأدب الغربي هذه الأبعاد المظلمة للإستنارة، لذا كان الأدب الرومانسي أدب أحتجاجي على عدم إكتراث العالم بالإنسان. وكثر الحديث عن العُزلة والإنتحار والقلق والعبث. هذا هو حال مَنْ يعيش في مملكة الظلمة، وقد أخبرنا، مسبقًا، الخطاب المسيحي عن النتائج الوخيمة لسقوط الإنسان وانحرافه عن طريق الحياة.

المجموعة الثالثة: العدميون البرجماتيون (دريدا): هؤلاء يرون أن لا جدوى من الحرب ضد الظلمة ولابد من تقبلها والتكيف معها، أي الإستسلام لمملكة الظلمة مع كل أبعادها المأساوية ومحاولة التكييف معها والترحيب بالهلاك والرضوخ لليأس. هذه الحالة المؤدية إلى الموت الأبدي كان قد سبق للخطاب المسيحي أن يحذرنا منها مشددًا على أن هناك أُناس طلبوا التوبة بدموع ولكن للأسف لقساوة قلوبهم لم يجدوها لأن المشاعر والأحاسيس قد تبلدت وتقسى القلب وتم الإستسلام لرئيس هذا العالم.

خاتمة:بدون أن نقلل من مساهمات الإنسان ـ اليوم ـ لحل مشاكل المجتمع البشري نؤكد على إن الإستنارة الحقيقية تأتي من الله بالروح القدس، تأتي عندما يتغير الإنسان تغيرًا جذريًا وينال الميلاد الثاني، الخليقة الجديدة حينئذ يستنير بفعل الروح القدس الذي يملئه بالحكمة والتمييز والتعقل ليرى الأمور بعمق ويسلك في الحياة بسلوك جديد تمامًا يليق بالإنسان الجديد. هذا هو فحوى الخطاب المسيحي: تعال وأنظر، تعال وتذوق، تعال ومارس عمليًا مفاعيل النعمة الإلهية في حياتك وأنت تتمتع بعضوية أفضل مجتمع بشري إلهي (الكنيسة).



--------------------------------------------------------------------------------

[1] قراءة مسيحية لهذا المقال المأخوذ من كتاب د. عبد الوهاب المسيري " دراسات معرفية في الحداثة الغربية "، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى يناير 2006، ص25ـ32.

[2] أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، ترجمه عن اليونانية وتعليقات د. جوزيف موريس، مراجعة د. نصحي عبد الشهيد، الفصل السابع: 3ـ4.











>