الروح القدس وأنهار ماء
حى
د. جورج عوض
مقدمة
"الماء
الحى"
هو الموهبة المحيية التي للروح القدس
(يو10:4)
أثناء تفسير القديس
كيرلس للإصحاح الرابع لإنجيل يوحنا حول حديث المسيح مع السامرية[1]
عدد 10 " لو كنت تعلمين عطية الله، ومَن هو الذي يقول لكِ أعطينى لأشرب،
لطلبت أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حيًا" يُعلن أن المسيح يدعو الموهبة المحيية
التي للروح القدس بـ" الماء الحى " ويشدّد على أن الطبيعة البشرية
المتعطشة والمجردة من كل فضيلة تشتاق إلى العودة إلى جمالها الأصلى لتنهل من
النعمة الواهبة الحياة. وهذه النعمة الواهبة الحياة تمنح الصالحات والفضائل.
ويستشهد القديس كيرلس بالكتاب المقدس ففي إشعياء20:43ـ21 : " يمجدنى حيوان
الحقل. الذئاب وبنات النعام لأنى جعلت في البرية ماءً أنهارًا في القفر، لأسقى
شعبى مختارى، الذي جبلته لنفسى ليحّدث برفعتى "، ويذكر نص آخر عن
القديسين يقول إن نفس البار ستكون " كشجرة مثمرة وتنبت كالعشب في وسط
المياه، وتغدوا كالصفصاف بجانب المياه الجارية " (أر12:31س).
موهبة التعليم هى ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية ص14:4
عندما
يفسر القديس كيرلس عدد14: " ولكن مَن يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن
يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أُعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية"،
يؤكد على أن موهبة التعليم الإلهى هى هذا الينبوع الذي ينبع إلى حياة أبدية
وينالها مَن يشترك في نعمة الروح القدس، لذا يقول القديس كيرلس [ " فلا يعود
يصبح بحاجة إلى أن يُعلمه الآخرون، بل بالحرى يتوفر لديه ما يحث هو به المتعطشين
إلى الكلمة الإلهى السماوى، مثلما كان البعض لا يزالون والرسل، وورثتهم في الخدمة
الرسولية، الذين كُتب عنهم " فتسقون مياهًا بفرحٍ من ينابيع الخلاص "
إش3:12 ].
المسيح هو النهر[2]
"
وفي اليوم الأخير، العظيم من العيد، وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحدًا
فليقبل إلىَّ ويشرب " (يو37:7).
يشرح
القديس كيرلس عن سبب قول المسيح في هذا العيد " إن عطش أحدًا فليقبل إلىّ
ويشرب"، وذلك عن طريق الحقيقة التاريخية لهذا العيد، عيد المظال. ففي
رأيه أن هذا العيد يشير إلى الاشتياق إلى القيامة، وأن أخذ الأغصان وثمر الأشجار
البهجة والأشياء الأخرى (لاو39:33ـ40) تعنى استعادة الفردوس الموشك أن يعطى لنا
بواسطة المسيح، ثم يؤكد قائلاً: [ إن ربنا يسوع المسيح كان يقارن بنهر فيه نجد كل
مسرة وتمتع في الرجاء وفيه نفرح فرحًا إلهيًا وروحيًا ] إذن في رأى القديس كيرلس،
قال المسيح " إن عطش أحدًا فليقبل إلىّ ويشرب" لأن المسيح أراد
أن يُبعد ذهن اليهود عن الفهم الحرفى ومحاولة رؤية هذه الأشياء والتي تحدث في هذا
العيد ويصفها سفر اللاويين39:33ـ40 " وتأخذون لأنفسكم في اليوم الأول ثمر
أشجار بهجة وسعف النخل وأغصان أشجار غبياء وصفصاف الوادى (النهر)". أراد
المسيح ـ بحسب القديس كيرلس ـ أن يقول [ إننى أنا " النهر " الذي سبق
وأعلن عنه معطى الناموس في تنبؤه عن العيد ]. المؤمن لا يكتفى
بقبول عطايا الروح ولكن يفيض على الآخرين. عدد 28: " مَن آمن بى، كما قال الكتاب، تجرى من
بطنه أنهار ماء حىّ ". إن الإنسان المؤمن لا يستقبل فقط عطايا الروح ولكن
يفيض أيضًا على قلوب الآخرين لذا يقول القديس كيرلس: [ مَن يؤمن سينعم بأغنى نعمة
الله. لأنه سيمتلئ بعطايا الروح، فلا يسمن ذهنه فقط، بل يصبح قادرًا أيضًا على أن
يفيض على قلوب الآخرين، كتيار النهر المتدفق الذي يفيض بالخير المعطى من الله على
جاره أيضًا ].
إن
الإنجيليين والمعلمين في الكنيسة هم خير مثل لدى كيرلس لأنهم [ يفيضون بغنى على مَن يأتون إلى المسيح
بالإيمان، بكلمة التعليم الموحى به فيفرحونهم روحيًا، ولا يجعلونهم بعد عطشى إلى
معرفة الحق، وبأصواتهم الحكمية، يصيحون عاليًا في قلب أولئك الذين قد تهذبوا
بالتعليم. وإذ يتهلل المرنم بالروح ينادى قائلاً عنهم " رفعت الأنهار يا
رب، رفعت الأنهار صوتها " (مز3:93)، فعظيمة هى ومقتدرة كلمة القديسين
و" في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم " كما هو
مكتوب (مز4:19) ].
هكذا
فإن النعمة التي تُعطى بالروح هى التعليم والحكمة، فأى إنسان ـ بحسب رأى القديس
كيرلس ـ يحب الله سيصير " كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه "
(إش11:58).
حلول الروح القدس بين العهد القديم والجديد
لقد
تسائل القديس كيرلس أمام قول يوحنا الحبيب: " قال هذا عن الروح الذي كان
المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، أن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد، لأن يسوع لم
يكن قد مُجد بعد"، كيف يقول: " الروح لم يكن قد أُعطى بعد
" ولدينا خورسًا كبيرًا من الأنبياء كان قد أعده الرب لينطق بالروح بالأسرار
الإلهية التي تخص المسيح بكلمات كثيرة، ويشهد الرب يسوع عن داود أنه كان بالروح
ينطق بالأسرار؟. يُعطى القديس كيرلس إجابة تحليلية على هذا التساؤل مبتدأ بالخلق
ومرورًا بالسقوط ثم بعد ذلك الفداء. يتكلم عن الخلق قائلاً: [ إن الإنسان قد خُلق
منذ البدء في عدم فساد. وأن عدم الفساد وبقائه في الفضيلة يرجع إلى أن روح الله
كان يسكن فيه، لأن الله " نفح في وجهه نسمة حياة " كما هو مكتوب
(تك7:2)].
أما
عن السقوط يقول: [ بسبب تلك الخدعة القديمة قد انحرف إلى الخطية، ثم تتابع
تدريجيًا في العلو في هذه الأمور، ومع ما تبقى لديه من أمور صالحة عانى من فقدان
الروح، وفي النهاية أصبح خاضعًا ليس فقط للفساد، بل عرضة أيضًا لكل الخطايا
". هكذا نتيجة السقوط فقد الإنسان عطية الروح، لكن يؤكد القديس كيرلس أن الله
أراد أن يرد من جديد طبيعة الإنسان إلى حالتها الأولى ووعد بأن يعطيها من جديد
الروح القدس: [ لذا جدّد وقت حلول الروح القدس علينا إذ قال في يوئيل 28:2 " في تلك الأيام إنى أسكب روحى على
كل بشر"]. التجسد عند القديس كيرلس كان هو الحل الجذرى لاستعادة هذه
الروح التي فُقدت، لذا يقول [ كان
المسيح أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن يوحنا شهد قائلاً : "
إنى قد رأيت الروح نازلاً من السماء فاستقر عليه " (يو32:1)]. وكعادته
يطرح سؤالاً ثم يتطوع هو بالإجابة، فيقول: [ هل كان المسيح بغير روح؟ لأن الروح هو
روح الابن الذاتى، ولا يعطى له من خارجه ]، ويعطى القديس كيرلس إجابة قائلاً: [
قيل عن (المسيح) إنه قَبِل الروح لأنه صار إنسانًا، ويوافق الإنسان أن يأخذ. وهو،
ابن الله الآب، مولود من جوهره حتى قبل التجسد، بل قبل الدهور، فليس من الخزى أن
يقول الله الآب له حين صار (الابن) إنسانًا " أنت ابنى أنا اليوم ولدتك
" (مز7:2). لأن لذلك الذي هو الله قبل الدهور قد وُلد منه، يقول إنه ولده في
هذا اليوم،حيث يدخلنا فيه إلى البنوة، لأن الطبيعة البشرية كلها كانت في المسيح،
إذ أنه كان إنسانًا. لهذا قال (الآب) للابن الذي له روحه (الذاتى) إنه يعطيه
الروح، حتى يمكننا أن ننال الروح فيه هو ]. ويستطرد القديس كيرلس متكلمًا بكل وضوح
عن أن: [ الابن الوحيد لم يقبل الروح القدس لنفسه. لكن حيث إنه قد صار إنسانًا،
فقد صارت له كل طبيعتنا في نفسه، لكى يرفعها كلها مغيرًا شكلها إلى حالتها الأولى
].
يكرر
القديس كيرلس مسألة السقوط قائلاً: [ لأنه إذ قد حاد جدنا آدم بالخديعة فسقط في
العصيان والخطية. فلم يحفظ نعمة الروح، وهكذا فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير
المعطى لها من الله ]، والحل الجذرى عند كيرلس كما ذكره من قبل هو التجسد: [ لهذا
لزم أن الله الكلمة غير المتحول، يصير إنسانًا، حتى إذا ما نال كإنسان، يمكنه أن
يحفظ الصلاح في طبيعتنا على الدوام ].
البراهين الكتابية
دائمًا
يدعم القديس كيرلس شرحه بأدلة كتابية، ويقول: [ ودليلنا في تفسير هذه الأسرار، هو
المرنم الإلهى نفسه إذ يقول للابن " أحببت البر وأبغضت الاثم، من أجل ذلك
مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز7:45)]، وبالطبع يفسر
كيرلس هذه الآية خريستولوجيًا، [
فالابن لأنه بار فقد أحب البر ولأن كراهية الخطية كامنة في طبيعته، لذلك فقد أبغض
الاثم. بناء على ذلك فإن الآب قد مسحه لأنه يملك البر الذي لا يتغير كامتياز
طبيعته الخاصة، ولا يمكن أن يميل إلى الخطية التي لا يعرفها، لذا فالمسيح يحفظ
بدون شك ولصالح الطبيعة البشرية ـ إذ صار إنسانًا ـ المسحة المقدسة من الله الآب
أى الروح ]. لذلك فإن القديس كيرلس يعقد مقارنة كتابية رائعة بين آدم الأول وآدم
الثانى قائلاً: [ فكما إنه في انحراف الأول انتقل خسران الصالحات إلى الطبيعة
كلها، هكذا وبنفس المنوال أحسب أن فيه أيضًا ذاك الذي لا يعرف انحرافًا، يحفظ
لجنسنا كله ربح سكنى المواهب ].
ويتساءل
بعد ذلك قائلاً: [ لماذا دُعى المخلص بواسطة الكتب الإلهية آدم الثانى. لأنه في
آدم الأول، جاء الجنس البشرى إلى الوجود من العدم، وإذ قد جاء إلى الوجود، فسد،
لأنه كسر الناموس الإلهى. ففي آدم الثانى (المسيح)، قد قام (هذا الجنس) مرة أخرى
إلى بداية ثانية، ويُعاد تشكيله مرة أخرى إلى جدة الحياة وإلى عدم الفساد، لأنه
" إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة " كما يقول بولس
(2كو17:5)].
لماذا أُعطى الروح القدس بعد القيامة؟
يجيب
القديس كيرلس قائلاً: [ إن المسيح قد صار وقتئذٍ باكورة الطبيعة الجديدة، حينما
أبطل قيود الموت عاش ثانية (قام) كما قلنا توًا. فكيف ينبغى إذن لأولئك الذين
جاءوا بعده أن يحيوا مثل الباكورة، لأنه كما أن النبات لا يزهر من الأرض، إن لم
يطلع أساسًا من جذره الخاص به لأن هذا هو بدء النمو، كذلك كان من المستحيل أننا إذ
لنا ربنا يسوع المسيح وجذر عدم فسادنا، تُرى الآن، بعد القيامة من الموت "
نفخ في تلاميذه قائلاً: " اقبلوا الروح القدس" (يو22:20). إذ كان
زمن التجديد حقًا على الأبواب حينذاك، أجل، بل كان بالحرى داخل الأبواب].
ويبرهن
القديس على ذلك من الكتاب كعادته: [ لأنه في البدء، كما قال الناموس، المتسربل
بالروح، إن خالق الجميع، إذ أخذ (من تراب الأرض) وخلق الإنسان " نفخ في
أنفه نسمة حياة " (تك7:2). وما هى نسمة الحياة، سوى أنها بالتأكيد روح
المسيح الذي يقول " أنا هو القيامة والحياة " (25:11). لكن حيث إن الروح القادر أن
يجمعنا ويشكلنا إلى الرسم الإلهى، قد غادر الطبيعة البشرية، فإن المخلص يعطينا هذا
الروح من جديد، ليأتى بنا مرة أخرى إلى الكرامة القديمة مجددًا خلقتنا إلى صورته
الذاتية، لهذا يقول بولس أيضًا للبعض " يا أولادى الذين أتمخض بكم ثانيةً
إلى أن يتصور المسيح فيكم " (غلا19:4)].
الفرق بين أنبياء العهد القديم ومؤمنى العهد الجديد
بخصوص
أنبياء العهد القديم، يقول القديس: [ إنه في الأنبياء القديسين بريقًا غنيًا
خاصةً، يستمدونه من مصدر الاستنارة من الروح القدس، القادر أن يقودهم إلى إدراك
أمور عتيدة ومعرفة أنباء مخفية ]، أما عن مؤمنى العهد الجديد يقول: [ ولكننا نثق
أن الذين يؤمنون بالمسيح، لا يكون لهم مجرد استنارة من الروح القدس، بل الروح نفسه
يسكن ويجعل إقامته منهم].
ويبرهن
القديس كعادته من الكتاب متسائلاً: [ من هنا دُعينا بحق بهياكل الله أيضًا، رغم أن
أحدًا من الأنبياء القديسين لم يدع أبدًا بالهيكل الإلهى ]، لذا أيضًا يضيف بسؤال
قائلاً: [ وماذا نقول حين نسمع مخلصنا المسيح يقول: " الحق الحق أقول لكم
لم يقيم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت
السموات أعظم منه؟" (مت11:11)].
ويفسر
القديس معنى " ملكوت السموات" تفسيرًا رائعًا. إذ يقول:
[إنه عطية الروح القدس التي قيل عنها " ملكوت السماء في داخلكم "
(لو21:17)]. وسر تفوق الأصغر في ملكوت السموات على يوحنا المعمدان في رأى القديس
كيرلس أن يوحنا المعمدان من مواليد النساء أما الأصغر في ملكوت السموات أى
المُعمَّد حديثًا فهو " مولود من الله " كما هو مكتوب، وقد أصبح " شريكًا
للطبيعة البشرية " (2بط4:1)، إذ قد سكن فيه الروح القدس ودُعى بالفعل
هيكلاً لله. ويختم القديس كيرلس تفسيره لهذه الآية قائلاً: [حينما يقول الإنجيل
لنا " لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد. لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد"،
فلنفهم أنه يعنى سكنى الروح القدس في البشر سكنى كاملة وبالتمام ].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق