تفسير المعجزات في إنجيل يوحنا
عند آباء الكنيسة ومعلّميها
قيامة لعازر
1ـ ملاحظات تمهيدية
إن قيامة لعازر
هي آخرِ معجزة أوردها إنجيل يوحنا. المعجزة تبدأ من أصحاح 11 عدد1 وتنتهي في عدد4,
بينما الأعداد (يو40:10ـ42), (يو45:11ـ54) تمثل إطاراً به مقدمة وخاتمة متوازية.
لقد وضع الإنجيلي يوحنا المعجزة في سلسلة مباشرة وغير مباشرة تتصاعد لتصل إلي موت
الرب يسوع والحياة التي يعطيها للبشر. في الإصحاح السابق للمعجزة تحديداً
(يو1:10ـ30) يتحدث يسوع عن ذاته مستخدماً صورة الراعي الصالح الذي يبذل حياته لأجل
خرافة (يو11:10) ويمنح لهم الحياة الأبدية (يو28:10). وكنتيجة لإعلان وحدته مع
الآب فكر اليهود أن يرجموه (يو31:10) وأرادوا أن يقبضوا عليه (يو39:10) ولكن بدون
نتيجة وفي (يو41:10) تحقق الجمع الذي أتي إلي يسوع بأن ما قاله يوحنا المعمدان عن
شخص المسيح هو صحيح, إذ قال عنه أنه "حمل الله" الذي بواسطة موته يرفع
خطية العالم (يو29:1). الموت الكفاري للمسيح يمثل الموضوع الرئيسي وخاتمة المعجزة,
حيث يتنبأ قيافا بأن يموت المسيح لأجل الأمة: " خير لنا أن يموت إنسان
واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" (يو50:11).
هكذا, معجزة
قيامة لعازر هي ضمن سياق عام يربط موت يسوع بالحياة التي يعطيها بواسطة موته. وهذا
الأمر نجده واضحاً في سرد الإنجيلي يوحنا للمعجزة, وهذه المعجزة تمثل دافعاً للجمع
بقتل يسوع (أنظر يو53:1).
تقسيم المعجزة كالآتي:
1ـ مقدمة (يو40:10ـ42).
2ـ أشخاص المعجزة (يو1:11ـ5).
3ـ حوار يسوع مع التلاميذ (يو6:11ـ16).
4ـ حوار يسوع مع مرثا (يو17:11ـ27).
5ـ مقابلة يسوع مع مريم (يو28:11ـ37).
6ـ قيامة لعازر (يو38:11ـ44).
7ـ خاتمة (يو45:11ـ54).
1ـ مقدمة (يو40:10ـ42)
الأعداد
الثلاثة (يو40:10ـ42) يربطون معجزة إقامة لعازر بالإصحاح العاشر في عدد40 : "
ومضي أيضاً إلي المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولاً ومكث هناك". هذا
هو المكان الذي بدأ يسوع خدمته العلانية وحيث شهد له يوحنا المعمدان (أنظر
يو29:1ـ36). ومسألة أن المسيح "مكث هناك" حيث كان يوحنا المعمدان يعمد
قبل ذلك, تعطي دافعاً لليهود أن يقارنوا الشخصيتين وكذلك تذكرهم بإعتراف يوحنا
المعمدان بالمسيح.
في عدد41 : " فأتي
كثيرون وقالوا إن يوحنا لم يفعل آية واحدة. ولكن كل ما قاله يوحنا عن هذا كان حقاً".
تعبير " إن يوحنا لم يفعل آية واحدة" يعلن تفوق يسوع الذي فعل
معجزات كثيرة. ويمثل هذا التعبير تمهيداً للقارئ للمعجزة العظيمة التي سوف تحدث في
إصحاح11. والتحقيق من أن " كل ما قاله يوحنا عن هذا كان حقاً" هو
بمثابة إعتراف مباشر بحقيقة المسيح. فالقارئ عليه أن يتذكر كل ما قاله المعمدان عن
المسيح ويعقد مقارنة بين المعمدان والمسيح: فالمسيح كائن قبل يوحنا المعمدان
بالرغم من أنه ظهر بعده (أنظر يو1: 30،15). يوحنا ليس آهِلاً أن يحل سيور حذاء
المسيح (أنظر يو27:1). معمودية يوحنا كانت بالماء فقط (يو26:1) أي لا تعطي خلاصاً
بواسطة الروح, بينما علي النقيض المسيح هو " حمل الله الذي يرفع خطية
العالم" (يو29:1) ويعمد " بالروح القدس" (يو33:1), أي
أن هو ذاته يقوم بدور خلاصي وتكفيري, بينما يوحنا يرفض أن يُوصف بـ "
المسيح" أو " إيليا" أو " النبي"
(أنظر يو20:1ـ23). وكان يوحنا يدرك جيداً رسالته كتمهيد لظهور يسوع في إسرائيل
(أنظر يو31:1) يسوع هو حامل الروح (يو32:1) وابن الله (يو34:1). يوحنا كان مرسل من
الله قبل الرب يسوع المسيح (يو28:3). إنه صديق العريس يسوع, ويوحنا ينبغي أن
"ينقص", بينما أن العريس " يزيد" (أنظر يو29:3ـ30). يسوع أتي
من "فوق" بينما يوحنا أتي "من الأرض" (راجع يو31:3). يسوع هو
الإبن الذي هو فوق الجميع (أنظر يو31:3), وله علاقة طبيعية خاصة بالآب الذي منه
يستمد سلطانه علي الكل وهو الإبن الحبيب (راجع يو35:3), والذي يؤمن بيسوع ينال
الحياة الأبدية (أنظر يو36:3).
إن شهادة يوحنا
المعمدان للمسيح تحتوي علي التعليم عن حقيقة المسيح الموجودة في إنجيل يوحنا: يسوع
المسيح هو ابن الله الكائن الأزلي " حمل الله الذي يرفع خطية العالم"
الذي سوف يقيم لعازر بسلطان إلهي مطلق, يسير طوعاً تجاه موته الكفاري لكي يرفع
خطيه العالم كله ويقيمه. لم يؤسس يوحنا المعمدان شهادته عن المسيح علي أي معجزة
كما إعتاد أنبياء العهد القديم. لكن بالإضافة إلي هذا, يتحقق الشعب من أن شهادته
عن شخص المسيح كانت حقيقية.
في (يو42:10): ” فآمن كثيرون به هناك”.
نلاحظ هنا أن
دافع إيمان الكثيرين بالمسيح كان عمل معجزات المسيح (أنظر يو23:2 ،31:7 , 45:11)
لكن هذا الإيمان هو ظاهري ومنحصر في الجانب الخارجي لحدث المعجزة ولا يستطيع أن
يقود إلي الاعتراف بالهوية الحقيقة للمسيح الذي تمم هذه المعجزات. لذلك بحسب إنجيل
يوحنا, الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي يعترف بأن يسوع هو " المسيح, ابن
الله الآتي إلي العالم" (يو27:11).
لكن الإيمان
الذي يؤسس علي المعجزات لا يُرفض رفضاً مطلقاً. فالإنجيلي يوحنا يوضح لنا أن هناك
إمكانية لتجلي هذا الإيمان بواسطة الروح القدس لمجد يسوع (راجع يو38:7 وما بعدة).
الأمر الهام في
عدد42 هو أن إيمان الكثيرين يستند علي شهادة المعمدان عن يسوع, بينما بعد
قيامة لعازر آمن الشعب بدون إحتياج إلي شهادة أحد (أنظر يو45:11). إن معجزات يسوع
كشهادة عن ذاته وكإعلان لمجده تجعل شهادة يوحنا المعمدان مجرد عامل مساعد, وهذا
الأمر واضح من بداية إصحاح 11 فصاعداً.
2ـ أشخاص المعجزة
(يو1:11ـ5).
"وَكَانَ إِنْسَانٌ
مَرِيضًا وَهُوَ لِعَازَرُ، مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا
أُخْتِهَا. وَكَانَتْ مَرْيَمُ، الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ
أَخُوهَا مَرِيضًا، هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ، وَمَسَحَتْ
رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا. فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ
قَائِلَتَيْنِ: «يَاسَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ».
فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ:«هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ
مَجْدِ اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِهِ». وَكَانَ
يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ.” (يو1:11ـ5).
ينطلق الإنجيلي من حقيقة مرض لعازر ثم
يعلن إسمه ومكان إقامته.
لعازر: الاسم العبري: أليعازر ومعناه:
هذا الذي يعينه الله.
بيت عنيا: اسم أرامي معناه "بيت
البؤس أو العناء", وهي قرية في الجنوب الشرقي من جبل الزيتون علي بُعد ميلين
تقريباً من أورشليم, وتُدعي اليوم العازرية, نسبة إلي إقامة لعازر من الموت.
ثم يقدم الإنجيلي الأختين مريم ومرثا.
وذكر مريم أولاً مع أنها الأصغر, ربما لأن مريم كانت معروفة في الكنيسة الأولي,
وهي التي سكبت الطيب علي قدمي السيد المسيح (يو3:12). ومسألة سكب الطيب علي قدمي
السيد المسيح من جانب مريم له دلالة عند القديس كيرلس عمود الدين, إذ يقول:
"يدل علي إن مريم كان لديها عطش للمسيح, حتى أنها مسحت رجليه بشعرها, طالبة
أن تقتني فعلياً لنفسها البركة الروحية التي من جسده المقدس, فهي في الواقع كثيراً
ما تبدو مملوءة بحرارة التعلق به, حتى أنها جلست عند قدميه دون أن يتشتت ذهنها بأي
شئ آخر وإقتربت منه بدالة كبيرة"[1].
في عدد3: ” فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ
قَائِلَتَيْنِ: «يَاسَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ”. هنا الرسالة
بمثابة عرض للحالة دون تقديم أي طلب ولكن الأختان تذكّر ان يسوع بالمحبة التي له
نحو المريض " يا سيد هوذا الذي تحبه مريض". واستخدام مصطلح يا
سيد: "كيريوس" يدل علي أن ق. يوحنا الإنجيلي يريد أن يقول إن المسيح
الذي سوف يذوق الموت هو القيامة وهو الرب الحاضر دائماً في كنيسته. ويعلل ق. ذهبي
الفم عدم مجئ الأختين إلي المسيح ليبلغاه بمرض أخيهم، قائلاً: " كانت لهما
ثقة كبيرة في المسيح ولهما مشاعر قوية أسرية. بجانب هذا فإنهما امرأتان ضعيفتان
حاصرهما الحزن"[2].
والقديس أغسطينوس يناجي المسيح بخصوص
هذا الأمر, قائلاً: "يكفي أن تعرف, فإنك لست بالذي يحب وينسي... لو لم يحب
الله الخطاه لمِا نزل من السماء إلي الأرض"[3].
هكذا كما يقول ق. كيرلس الأسكندري إن
إسلوب الرسالة ومحتواها يدلان علي علاقة الأختين الوثيقة بالمسيح وكذلك علي أن
لديهن إيمان تام به[4].
في عدد 4: ” فَلَمَّا
سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ:«هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ
اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِه" إن عبارة المسيح: "
هذا المرض ليس للموت" لابد أن تُفهم بربطها بآية 25 في نفس الأصحاح:
" أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا". فالمسيح هو
مُعطي الحياة وينبغي علينا أن نري النهاية العجيبة, أي النتيجة النهائية ـ كما
يقول ق. كيرلس الأسكندري ـ فبالرغم من أن لعازر مات فعلاً, إلا أن الرب قرر أن
يُظهرِ ضعف الموت فأقام لعازر وأعلن أن كل ما حدث هو لمجد الله. وهنا نري أن
المسيح يعلن عن ذاته بأنه هو الله بالطبيعة [لأنه بعد أن قال إن المرض "لأجل
مجد الله", أضاف: ليتمجد ابن الله به" متحدثاً عن نفسه][5]
.
أيضاً يحذرنا القديس كيرلس الأسكندري
أن عبارة يسوع: "هذا المرض ليس للموت" ليس معناها أن المرض الذي
أصاب لعازر كان لهذا السبب أي لكي يتمجد الله به بل يؤكد قائلاً: "بما أنه قد
حدث فقد رأي يسوع أيضاً أن هذا المرض سيؤدي إلي نهاية مدهشة. يقول عن نفسه إنه هو
الله بالطبيعة, لأن ما سيتممه (بإقامته للعازر), سيكون لأجل مجده"[6].
في عدد 5: ” وَكَانَ
يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ”.
يعلق القديس أغسطينوس علي هذا العدد,
قائلاً: "واحد مريض واثنتان في حزن, والكل محبوبون. لكن ذاك الذي أحبهم هو
منقذ المرضي, بل بالأكثر هو مقيم الموتى, وهو معزي الحزانى"[7].
وعن سؤال: لماذا الذين يحبهم الله
يمرضون ويموتون؟ يجيب القديس كيرلس الأسكندري, قائلاً: "معاناة المرض هي أمر
طبيعي لكافة البشر, لكن هناك نعمة خاصة لأولئك الذين يحبون الله, وهي أن تُرفع
عنهم مرارة الأمراض الصعبة والموت الناتج من عدم الشفاء منها"[8].
3ـ حوار
يسوع مع التلاميذ (يو6:11ـ16):
عدد6: ” فلما سمع أنه مريض مكث حينئذٍ في الموضع الذي
كان فيه يومين”.
يتسائل القديس
يوحنا ذهبي الفم، قائلاً: {"لماذا مكث؟" ويجيب بكل وضوح: "حتى يخرج
النفس الأخير ويُدفن، فلا يقول أحد إنه لم يكن ميتًا بل كان غارقًا في نومٍ عميق،
أو إنه كان قد غشى عليه، ولم يكن موتًا. لهذا السبب مكث يومين حتى يحدث الفساد،
وتقول مرثا "قد أنتن"}[9].
أيضًا يؤكد
القديس كيرلس الأسكندري هذا الأمر، قائلاً: " لقد تأخر في الوصول لكي لا
يشفيه أثناء مرضه، بل لكي يقيمه بعد الموت، وهذه قوة أعظم، لكي يتمجد بصورة
أكبر"[10].
(يو7:11ـ8): ” ثم بعد ذلك قال لتلاميذه لنذهب إلى اليهودية
أيضًا. قال له التلاميذ يا معلم الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك ونذهب أيضًا إلى
هناك”.
لقد أخبر يسوع
تلاميذه إلى أين هو ذاهب، مع أنه ـ كما يقول القديس ـ يوحنا ذهبي الفم ـ لم يفعل
ذلك في أي موضع آخر. ويضيف قائلاً: "كانوا في رعب شديد.. لذلك أخبرهم حتى لا
يضطربوا أمام عنصر المفاجأة"[11].
ويرى هنا القديس كيرلس الأسكندري رغبة يسوع في توصيل بعض النفع لشعب اليهود بذهابه
إليهم ـ وكأنه يقول "بالرغم من أن الشعب هناك ليسوا مستحقين الرحمة، فهناك
أمامنا فرصة لتوصيل بعض النفع إليهم، لذلك، فلنرجع إليهم"[12].
أما عن نصيحة
التلاميذ له بعدم الذهاب، يعلق عليها القديس أغسطينوس، قائلاً: " أرادوا
بنصيحتهم أن يحفظوا الرب من الموت، ذات الذي جاء ليموت ليخلصهم من الموت"[13].
لم يدرك التلاميذ بعد طبيعة يسوع الحقيقية والروح التي يعمل بها، كذلك لم يدركوا:
أ ـ أن الرب يسوع يسير تجاه أورشليم لكي يقيم لعازر ولم يكن أبدًا ذهابه
بالصدفة أو عشوائيًا. ب ـ لا يمكن أن يحدث أي شيء ليسوع، بدون أن تأتي
ساعته وهو نفسه الذي يحددها (انظر يو30:7، يو20:8). ج ـ أن الرب يسوع يسير
طوعًا تجاه موته الكفاري بكونه "حمل الله الذي يرفع خطية العالم"
(يو29:1). هكذا إقامته للعازر هي بمثابة قمة نشاط الرب يسوع العلني والتي سوف
تقوده إلى قمة صراعه مع اليهود وإلى صلبه. الجدير بالملاحظة هنا، أن الإنجيلي
يوحنا عن قصد يقدم التلاميذ وهم يتحدثون مع يسوع، كحلقة صغيرة وقريبة جدًا منه،
إلا أنهم لا يفهمونه بعد. فالإيمان والإدراك التام سيكون بعد القيامة بواسطة عطية
الروح القدس، ومن وقتذاك فصاعدًا سيكون معهم حاضرًا على الدوام.
(يو9:11ـ10): ” أجاب يسوع أليست ساعات النهار إثنتى عشر. إن
كان أحد يمشي في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم. لكن إن كان أحد يمشي في
الليل يعثر لأن النور ليس فيه”.
هناك ثلاثة عناصر هامة في هاتين
الآيتين:
1ـ لا يخاف يسوع
من أي شيء لأنه يمشي في النهار الذي فيه إثنتى عشرة ساعة. أما ساعته لم تأت بعد،
أي ساعة آلامه لم تأنت بعد، ولأجل هذا السبب لن يعيقه شيء عن الذهاب إلى اليهودية
لكي يقيم لعازر (راجع يو20:7، 30:8، 1:13، 1:17). ذاك الذي يمشي في الظلمة يعثر
لأن ليس لديه النور. لكن يسوع هو ذاته النور (راجع يو12:8، 5:9) ولأجل هذا لن يمشي
أبدًا في ظلمة الليل. أيضًا آلامه ستكون قمة مسيرته نحو النور، إذ يقول القديس كيرلس الأسكندري
{كأن الرب يقول}: "كما أن نور النهار لا يخبو إلا بعد اكتمال اثنتى عشرة
ساعة، هكذا فإن الإنارة الصادرة مني لا تنحجب قبل وقتها، لكني أظل بين اليهود
مقدمًا إليهم ـ مثل نور ـ إدراك معرفة الله، إلى أن أُصلب"[14].
2ـ يعرف يسوع خوف
التلاميذ على أنفسهم، لذلك أراد أن يطمئنهم بأن مَنْ يسير في النور لا يعثر بأن
يحدث له أي أمر شرير. السائر فقط في الظلمة هو الذي يعثر لأن ليس لديه نور، إذ لا
يعرف ولا يثق في يسوع الذي هو النور الحقيقي (راجع يو12:17، 15).
3ـ يوبخ يسوع
التلاميذ لضعف ثقتهم في شخصه، كان عليهم طالما هم بالقرب منه أن يدركوه وأن يثقوا
به. وكأنه يقول لهم وفق تأكيد القديس ذهبي الفم: "مَنْ ينظر نور هذا العالم
هو في أمان، فإن كان مَنْ يرى نور هذا العالم هو هكذا في أمان، كم بالأكثر مَنْ
يكون معي، ما دام لا يعزل نفسه عني؟"[15].
(يو11:11): ” قال هذا، وبعد ذلك
قال لهم: لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لأوقظه”.
واضح أن الجزء
الأول من حوار يسوع مع تلاميذه قد إنتهى، وبدأ الجزء الثاني وهذا يظهر من عبارة:
"قال هذا، وبعد ذلك قال لهم". هنا يتحدث المسيح عن لعازر وليس عن ذهابه
ـ بشكل عام ـ إلى اليهودية. وكأنه يقول ـ كما يرى القديس يوحنا ذهبي الفم:
"إنني لست أذهب بذات الهدف الذي كان قبلاً، أن أجادل وأتناقش مع اليهود،
وإنما لكي أوقظ صديقنا"[16].
يدعو السيد
المسيح الموت "نومًا"، ويرى القديس كيرلس الأسكندري أن هذا صواب تمامًا،
إذ يقول: " أنه من غير المناسب أن يُسميه موتًا وهو الذي خلق الإنسان للخلود،
كما هو مكتوب (انظر حكمة12:1ـ17)، وصنع شفاءً لكل أجيال العالم" ويستمر في
تأكيد هذا الأمر، قائلاً: "لأن الموت المؤقت لجسدنا، هو في نظر الله في الحقيقة
نومًا وليس شيئًا آخر. هذا الموت سيتلاشلا بمجرد إشارة من ذلك الذي هو الحياة
بالطبيعة، أي المسيح"[17].
أيضًا يرى
القديس كيرلس أن المسيح لم يقل: "لعازر مات" وأنا أذهب لأعيده إلى
الحياة، بل قال " قد نام"، لأنه أراد تحاشي أي تفاخر، وذلك لتعليمنا
ومنفعتنا[18].
أما القديس
أغسطينوس، فإنه يؤكد على قدرة المسيح الإلهية، إذ يقول: "بالنسبة لأختيه هو
ميت، أما بالنسبة للرب فهو نائم. هو ميت بالنسبة للبشر غير القادرين أن يقيموه،
أما الرب فأقامه من القبر بسهولة جدًا كمن يوقظ نائمًا على سريره"[19].
(يو12:11ـ13): ” فقال تلاميذه يا سيد إن كان
قد نام فهو يُشفى. وكان يسوع يقول عن موته. وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم”.
يرى القديس
كيرلس أن التلاميذ أرادوا أن يُعيقوه عن الذهاب إلى أورشليم، كأنهم يقولون له
"إنه ليس ملائمًا أن يذهب وسط أولئك القتلة بقصد عمل شيء لا فائدة منه
(للعازر)"[20].
هكذا ظنوا أن
يسوع كان يتكلم عن رقاد النوم، الذي يحتاجه الناس حينما يكونون مرضى.
(يو14:11): ” فقال لهم يسوع حينئذٍ علانية:
لعازر مات”.
يقول القديس
يوحنا ذهبي الفم: {نطق بالكلمة الأولى "نام" راغبًا في تأكيد أنه لا يحب
الافتخار، وإذ لم يفهموا أضاف "مات"}[21].
(يو14:11ـ15): ” فقال لهم يسوع حينئذٍ علانية
لعازر مات. وأنا أفرح لأجلكم لأني لم أكن هناك لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه”.
هنا يوضح لمسيح لتلاميذه الأمر ويقول "لعازر
مات". ويقول أيضًا إنه
"يفرح" لا حُبًا في المجد الناتج عن المعجزة ـ كما يقول القديس كيرلس ـ
بل "بسبب أن هذا الأمر كان سيجعل التلاميذ يؤمنون"[22].
وبقوله "لم أكن هناك" يعني أنه لو كان حاضرًا لِما أمكن أن يهمل حبيبه
حتى يصل إلى الموت ـ ويعلق القديس كيرلس على عبارة "لنذهب إليه"،
قائلاً: "وكأنه يتحدث عن شخص حيّ، فالأموات سيحيون به لذلك فهم يعتبرون أحياء
بالنسبة إليه إذ هو إله الأحياء"[23].
(يو16:11): ” فقال له توما الذي يُقال له التوأم للتلاميذ رفقائه لنذهب نحن أيضًا
لكي نموت معه”.
لقد كان توما
أضعف عزمًا من التلاميذ الآخرين وأقلهم إيمانًا، لذلك يقول القديس يوحنا ذهبي
الفم: {لقد إرتاع التلاميذ من ملاقاة اليهود، أما توما الرسول فكأن أكثرهم رُعبًا،
لذلك قال: "لنذهب نحن أيضًا لكي نموت معه"}[24].
أما القديس
كيرلس، بالرغم من أنه يرى أن توما قال هذه العبارة عن خوفٍ وقِلة إيمان، إلا أنه
يجسد الجانب الإيجابي لهذه العبارة، قائلاً: " كأنه (توما) يتكلم كما يلي:
بالتأكيد إننا إذا ذهبنا سوف نموت، ومع ذلك دعونا لا نرفض أن نتألم، لأننا لا
ينبغي أن نكون جُبناء إلى هذه الدرجة؛ لأنه إن كان هو يقيم الأموات فلا داعي للخوف
لأن معنا مَنْ هو قادر أن يقيمنا بعد أن نموت"[25].
4 ـ حوار
يسوع معه مرثا (يو17:11ـ21):
عدد17:” فلما أتى يسوع وجد أنه قد صار له
أربعة أيام في القبر”.
نعرف من هذا العدد أن لعازر قد مات وبالفعل صار له أربعة أيام في القبر.
وفق التقليد والعُرف اليهودي لذلك العصر، يُدفن الأموات في يوم موتهم. وحقيقة مرور
أربعة أيام من موت لعازر حتى وصول يسوع لبيت عنيا له أهمية خاصة، لأنه، على أساس
الأفكار اليهودية السائدة، إعتبروا لعازر ميت بشكل قاطع ونهائي. ويعلق القديس
كيرلس على هذا الأمر، قائلاً: "يذكر الإنجيلي أيضًا عدد الأيام التي مرت بعد
موت لعازر حتى تكون المعجزة أشد إبهارًا، وأيضًا لئلا يقول أحد إنه جاء بعد يوم
واحد ولم يكن لعازر قد مات فعلاً، بل يكون قد أقامة من المرض فقط"[26]. أما القديس أغسطينوس يرى أن الأربعة أيام التي مرت
ولعازر في القبر بأنها تشير إلى مراحل البشرية، إذ يقول: "اليوم الأول هو يوم
سقوط آدم وحواء حيث ملك الموت على آدم وبنيه. واليوم الثاني يشير إلى الإنسان وقد
كسر الناموس الطبيعي الشاهد لله. واليوم الثالث يشير إلى كسر الناموس الموسوي،
وأخيرًا جاء اليوم الرابع حيث كُرز بالإنجيل، ووهب السيد المسيح الحياة الجديدة
والقيامة للذين كانوا موتى في الخطايا"[27].
إنقضاء أربعة أيام على موت لعازر ذُكِر أيضًا في عدد 39 لكي يستد كل فم يحاول أن
يشكك في قيامة لعازر بواسطة الرب يسوع. الأمر هنا ليس مجرد رجوع النفس للجسد أثناء
حادثة إغماء أو غيبوبة أو ظهور لشبح ميت بل معجزة قيامة حقيقية لميت، تفوق ما فعله
الأنبياء أمثال إيليا وإليشع. أما معلومة عدد 18 بأن بيت عنيا قريبة من أورشليم
فهي تبرر وجود كثيرون من اليهود في هذه القرية الصغيرة، إذ يقول الإنجيلي: "
وكانت بيت عنيا قريبة من أورشليم نحو خمس عشرة غلوة، وكان كثيرون من اليهود قد
جاءوا إلى مرثا ومريم ليعزوهما عن أخيهما" (يو17:11ـ18). ويعلق القديس كيرلس الأسكندري على هذا الأمر، قائلاً:
"إن كثيرين من اليهود كانوا في بيت عنيا رغم أنها ليست كثيفة السكان، فهؤلاء
إذًا قد جاءوا من أورشليم وذلك لأن أورشليم لا تبعد كثيرًا عن بيت عنيا"[28]. الحقيقة
الهامة في كل هذا، إن خبر إقامة لعازر قد إنتشر في كل مكان. لذا فاليهود في هذه
المعجزة لهم دور هام إذ صاروا شهود عيان للمعجزة وأخبروا الفريسيين بكل ما يتعلق
بهذه المعجزة، الأمر الذي جعلهم يطلبون عقد مجمع لإصدار قرار بإدانة يسوع. على
الجانب الآخر، عدد 11 يذكر أورشليم، وهذا يشير إلى أن أورشليم هي بمثابة المحطة
أخيرة في رحلة يسوع بكونها مكان آلامه. وهكذا بيت عنيا ما هي إلا محطة تتوسط مسيرة
يسوع الإختيارية لتميم موته الخلاصي في أورشليم.
(يو20:11): "فلما سمعت
مرثا أن يسوع آت لاقته. وأما مريم فإستمرت جالسة في البيت”. حين علمت بأن الرب يقترب من بيت عنيا، أسرعت لكي تلقاه. الأمر الهام، هو
أن الرب يسوع لم يذهب إلى بيت الأختين على النقيض مع اليهود، لأنه ـ كان قد قال
لتلاميذه بالفعل ـ أنه ذاهب إلى لعازر (في عدد15) وليس للأختين. هكذا فإن هدف يسوع
ليس مجرد تعزية الأختين بسبب موت أخيهما بل إقامته من الموت. ويطرح القديس يوحنا
ذهبي تساؤلاً قد يخطر على بال أي قارئ لهذه المعجزة، إذ قال: "كيف ظهرت مرثا
أكثر غيرة من مريم؟" ويجيب القديس يوحنا ذهبي الفم، قائلاً: "لم تكن
أكثر غيرة منها، إنما ظهرت هكذا لأن مريم لم تكن بعد قد عملت بمجيئه؛ مرثا كانت
أضعف منها، فإنها حتى عندما سمعت مثل هذه الأمور من المسيح تحدثت بطريقة كأنها
تحبو: "لقد أنتن لأن له أربعة أيام" (يو39:11). أما مريم وهي لم تسمع
شيئًا لم تقل هكذا، وإنما في الحال آمنت"[29].
أما القديس كيرلس الأسكندري، فيجيب على هذا السؤال، قائلاً: "ربما كانت مرثا
أكثر حماسًا من جهة الواجبات اللائقة، لذلك فهي التي ذهبت أولاً ولاقته. أما مريم
فقد كانت أكثر هدوءً"[30].
(يو21:11ـ24): ” فقالت مرثا ليسوع
يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي. لكني الآن أيضًا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك
الله إياه. قال لها يسوع سيقوم أخوك. قالت مرثا أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في
اليوم الأخير”.
يمدح القديس يوحنا ذهبي الفم حِكمه مرثا وكذلك مريم التي
قالت نفس كلمات أختها فيما بعد (يو32:11)، إذ يقول: "أرأيت حكمتهما السماوية؟
وإن كان عزمهما ضعيفًا، لكنهما عندما أبصرتا السيد المسيح لم تنهارا في الحال في
العويل، ولا إلى النوح، وذلك كما يحدث عندما نرى أقوامًا من معارفنا داخلين عندنا
في حال نوحنا. إذ إعتبرتا السيد المسيح معلمًا، لأنهما آمنتا به. لكنهما جهلتا
شرفة السامي وإقتداره بالقول: "أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله
إياه" فخاطبتاه كمن يخاطب مَنْ هو ثابت في الفضيلة فينال ما يطلبه"[31]. والقديس
كيرلس الأسكندري، يرى في قول مرثا: "لو كنت ههنا لم يمت أخي" بأنها كانت
تقصد بأن أخاها مات "ليس بسبب أن طبيعة الإنسان هي خاضعة للموت بل بسبب أنك
لم تكن موجودًا. وأنت الذي تستطيع أن تأمر الموت فيُغلب"[32]. هكذا فرّ
القديس كيرلس قول مرثا للمسيح. لقد ظنت مرثا أن الرب لم يعد قادرًا بعد أن يفعل
شيئًا وأن وقت مساعدته قد إنتهى. أما الكلمات التي قالتها فيما بعد "كل ما
تطلب من الله يعطيك الله إياه" تشير إلى أنها توجه كلماتها إليه كأنه أحد
القديسين وليس الله[33].
والدليل على كلام القديس كيرلس، يقوله هو نفسه في
شرحه: {لأنها لو كانت قد عرفت أنه هو الله لما كانت قد قالت "لو كنت
ههنا"، لأن الله هو في كل مكان }[34].
وهنا يلتقط القديس كيرلس تصرف المسيح المتواضع في إجابته، إذ يقول: "لأن الله
هو في كل مكان. لكن الرب بنفوره من الكبرياء والعجرفة لم يقل لها سأقيم أخاك، بل
قال لها "سيقوم أخوك"، وإن كان يوبخها بلطف وكأنه يقول "إنه سيقوم
ليس في اليوم الذي تظنيه، لكنه سيقوم كما ترغبين. لأنك إذا إفترضت أن إقامته سوف
تتم بالصلاة والطلب، فتولي أنت مهمة الطلب، ولكي لا تسأليني أن أفعل هذا، فأنا صانع
العجائب الذي أملك القدرة على إقامة الموتى"[35].
هكذا إختار
المسيح طريقة الحديث المتوسطة، كما يقول ق. ذهبي الفم[36]. ويرى
القديس كيرلس في رد مرثا على المسيح، قائلة "أنا أعلم أنه سيقوم في اليوم
الأخير" دلالة على مدى حزنها بسبب تأخر قيامته، وكأنها أرادت أن تقول، كما
قال القديس كيرلس: "إني أشتاق أن أرى قيامة أخي قبل ذلك الوقت"[37].
4ـ حوار يسوع مع مرثا (يو17:11ـ27)
(يو25:11ـ27): ”
أنا هو القيامة والحياة. مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل مَنْ كان حيًا وهو
يؤمن بي. فلن يموت إلى الأبد. أتؤمنين بهذا. قالت له: نعم يا سيد، أنا قد آمنت أنك
أنت ابن الله الآتي إلى العالم”.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "أنظر كيف يرتفع السيد المسيح بعقل
مرثا، لأنه لم يكن هدفه أن يقيم لعازر فحسب، بل أن تعرف مرثا والحاضرون تلك
القيامة، ولهذا السبب جهر بألفاظه قبل إقامته للعازر"[38].
ويؤكد القديس كيرلس على أن ثمرة الإيمان بالمسيح هي الحياة الأبدية.
فالقيامة هي للجميع أما الحياة الأبدية فهي للمؤمنين فقط. لذا قول المسيح:
"لو مات فسيحيا" يدل على أن الموت الطبيعي يسري أيضًا على المؤمنين لأن
نعمة القيامة قد حُفظت إلى الوقت المناسب. فمَنْ يؤمن بالمسيح سوف ينال في الدهر
الآتي حياة لا تنتهي. اما قوله "أتؤمنين بهذا"، فالقديس كيرلس يقول:
"بعد أن شرح معنى السر الكامن فيه وأظهر فعليًا أنه هو الحياة بالطبيعة، وأنه
الإله الحقيقي، فهو يطالبها بأن تؤمن، مُقدِّمًا بذلك نموذجًا للكنائس ويستمر
قائلاً: "ينبغي أن نُثبّت جذور الإيمان في القلب والذهن ثم ندعه بعد ذلك أن
يثمر في الإقرار بهذا الإيمان"[39].
لقد بدأت مرثا بغرس بذار الإيمان
بحكمة وفطنة، كي تحصد ثماره فيما بعد. وهو الأمر الذي حدث في حالة لعازر. إذ آمنت
قبل أن تحدث المعجزة: " نعم يا سيد، أنا قد آمنت أنك ابن الله الآتي إلى
العالم". وهذا مثال يمارس في الكنائس، كما يقول القديس كيرلس: "لأنه
حينما يُحضرون طفلاً مولودًا حديثًا لكي ينال مسحة الموعوظين، أو يحصل على المسحة
الكاملة بالمعمودية المقدسة، فإن من يُحضره للمعمودية (أي الأشبين) يكرر بصوت عالٍ
قائلاً: "آمين" نيابة عنه"[40].
5 ـ حوار يسوع مع مريم
(يو28:11ـ37).
(يو28:11ـ29): ” ولما قالت هذا مضت ودعت مريم أختها سراً قائلة المعلم
حضر وهو يدعوك. أما تلك فلما سمعت قامت سريعاً وجاءت إليه”.
للتو حين أخذت
مرثا عطية الحياة مؤمنه بالمسيح إذ تحدثت إليه، أسرعت إلي أختها وأعلنت لها أن
"المعلم" قد وصل ويدعوها. هذا الفعل يتوازي مع دعوة نثنائيل من فيلبس
(أنظر يو45:1ـ46) ودعوة أهل السامرة عن طريق السامرية (أنظر يو28:4ـ30). لا يكتفي
الذي يؤمن بإيمانه ومعرفته فقط بل يحاول أن يجذب الآخرين ليسوع حتى يأخذ هؤلاء
عطية الحياة التي تنبع منه. ويري القديس كيرلس أن الإنجيل لم يذكر أن يسوع قال
لمرثا "نادي أختك إليَّ" ففي رأيه [أن مرثا شعرت بضرورة قصوى أنه يجب
عليها أن تدعو أختها لمقابلته قائلة "المعلم قد حضر وهو يدعوك"، ورأت في
تصرفها بديلاً معادلاً لنطق الرب نفسه آمراً بدعوة مريم. وفي الحال قامت مريم
مسرعة لتأتي إليه، وبإشتياق كبير ذهبت لتلاقيه][41].
ويمدح القديس يوحنا ذهبي الفم موقف مريم حين علمت بقدوم المعلم، إذ يقول:
"أنظروا كمثال كيف نالت هذه المرأة مكافئتها بممارستها الحكمة. فإذ كان الكل
جالساً بجوارها إذ كانت تبكي وهي حزينة، لم تنتظر سيدها أن يأتي إليها، ولا طالبت
بما يبدو أنه حقها (فإن النساء الحزينات بجانب بؤسهن لديهن هذا البلاء وهو أنهن
يهولن من وضعهن)، أما هي فلم تفعل شيئاً من هذا، عندما سمعت أسرعت إليه"[42].
(يو30:11ـ31): "ولم يكن
يسوع قد جاء إلي القرية بل كان في المكان الذي لاقته فيه مرثا. ثم إن اليهود الذين
كانوا معها في البيت يعزونها لما رأوا مريم قامت عاجلاً وخرجت تبعوها قائلين إنها
تذهب إلي القبر لتبكي هناك”.
يعلق القديس
يوحنا ذهبي الفم علي عبارة "لم يكن يسوع قد جاء إلي القرية" موضحاً بأن
يسوع كان يمشي ببطء لئلا يُظَّن بأنه يفرض نفسه لعمل هذه المعجزة، لذا إنتظر وتمهل
حتى يطلبوا منه أن يفعل شيئاً، وبذهاب مريم سحبت معها اليهود الذين كانوا معها في
البيت، إذ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم "لم تأت وحدها، بل سحبت معها اليهود
الذين كانوا معها في البيت. بحكمة عظيمة دعتها أختها سراً حتى لا تربك الحاضرين
الذين جاءوا معاً، ولم تشر إلي سبب حديثها، فإنه بالتأكيد لو سمعوا لرجعوا إلي
بيوتهم. أما الآن فخرجت تبكي فتبعوها. ربما أكد هذا موت لعازر"[43].
ويري القديس
كيرلس أن هذا الأمر حدث بتدبير إلهي لكي يذهب جميع اليهود ليروا العمل المعجزي،
وهكذا صاروا شهوداً للمعجزة وأخبروا به الآخرين[44].
(يو32:11):” فمريم لما أتت إلي
حيث كان يسوع ورأته خرت عند رجليه قائلة له يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي”.
مريم هنا تقع
عند قدمي يسوع وتكرر تقريباً نفس الكلام الذي قالته أختها مرثا لكن بتضرع لكي
يُقيم يسوع أخيها. وهذا الموقف نجده كثيراً، نقصد الوقوع والسجود علي الأرض، في
العهد القديم (أنظر علي سبيل المثال 2ملوك 27:4). ويمدح القديس يوحنا ذهبي الفم ما
فعلته مريم، قائلاً: "مريم هذه أحر شوقاً من أختها مرثا، لأنها لم تخجل من
الجمع، ولا من الظنون التي كانت تجول في ذهن أولئك عنه، فقد كان فيهم كثيرون من
أعدائه، الذين قالوا: "ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً
لا يموت؟" لكن عند حضور المعلم أبعدت عنها الأوهام الميتة كلها، وتمسكت في
عزم واحد من تكريمها"[45].
6 ـ حوار يسوع مع مريم (يو28:11ـ37).
(يو33:11 ـ 34): ” فلما رآها يسوع
تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون إنزعج بالروح وإضطرب فقال يسوع أين وضعتموه”.
يعلق القديس
أغسطينوس علي مسألة إنزعاج المسيح، قائلاً: "أنتم تنزعجون بغير إرادتكم، أما
المسيح فإنزعج لأنه أراد ذلك. يسوع جاع، هذا حقيقي، إنما لأنه أراد. كان حزيناً،
هذه حقيقة، لكن لأنه أراد في سلطانه أن يكون هكذا أو كذلك، يتأثر أو لا يتأثر. لأن
الكلمة أخذ نفساً وجسداً حاملاً فيه نفس الطبيعة البشرية واحداً مع الكلمة،
المسيح الواحد. بهذا الكلمة الذي له سلطان فائق يستخدم الضعف رهن إشارة
إرادته، وبهذا فقد "إنزعج"[46].
أما القديس
كيرلس الأسكندري فإنه يعلق علي هذا الأمر واضعاً لنا التعليم الخريستولوجي الصحيح،
إذ يقول: "وحيث إن المسيح لم يكن فقط هو الله بالطبيعة، بل إنساناً أيضاً،
فهو يتألم مع بقية البشر، وعندما تتحرك مشاعر الحزن في داخله ويميل جسده المقدس
إلي البكاء، فإنه لا يدعه يستغرق بدون ضبط، كما هي عادتنا" ويستمر في تعليمه،
قائلاً: "صار كلمة الله القدير في الجسد، أو بالحري صار جسداً، لكي
يُمكن أن يقوَّي الجسد في ضعافاته بواسطة أفعال روحه القدوس، ويحرر طبيعتنا من
المشاعر الأرضية محولاً إياها إلي تلك المشاعر التي هي فقط تُرضي الله"[47].
أما عن مسألة:
أين وضعتموه؟، يقول القديس كيرلس الأسكندري: " ويسأل هؤلاء قائلاً: أين
وضعتموه؟ هل بسبب أنه يجهل المكان، لأن ذلك الذي كان قد عَرِف وهو في موضع آخر،
بموت لعازر، كيف يمكن أن يجهل مكان قبره؟ ولكنه يسأل هكذا، لأنه ينفر من التكبر لذلك
فهو لم يقل "لنذهب إلي القبر لأني سأوقظه، رغم أن توجيهه السؤال بهذه الطريقة
تضمن هذا المعني. وإضافة إلي ذلك، فإنه بقوله هذا، هيأ لكثيرين أن يذهبوا أمامه
لكي يُروه الموضع الذي يسأل عنه. لذلك فهو قصد قصداً أن يقول هذا أيضاً، ليجذب
كثيرين إلي الموضع بواسطة كلماته"[48].
(يو35:11ـ37): ” بكي يسوع. فقال اليهود انظروا كيف كان يحبه. وقال بعض منهم
ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضًا لا يموت”.
يري القديس
جيروم في بكاء المخلص علامة علي أن لديه مشاعر بشرية حقيقية، إذ حزن من أجل ذلك
الذي سيُقيمه من الأموات"[49].
أما القديس
كيرلس الأسكندري فيؤكد علي أن الرب عندما رأي الإنسان المخلوق علي صورته قد تشوه
بالفساد، فإنه بكي لكي يجعلنا نحن لا نبكي[50].
هكذا بكي يسوع
حزناً علي البشرية كلها. أما القديس يوحنا ذهبي الفم يعلق علي عبارة اليهود "
أنظروا كيف كان يحبه" قائلاً "ألا ترون أنه لم يظهر بعد أيه
علامة علي إقامته له، وذهب لا كمن يقيم لعازر بل كمن يبكيه؟ هكذا بدا لليهود أنه
ذاهب لينتحبه لا ليقيمه، وذلك من قولهم: " أنظروا كيف كان يحبه"[51].
ويعترف اليهود
ـ كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم ـ بأن السيد المسيح فتح عيني الأعمى، ولكنهم
استكثروا عليه أن يجعل لعازر لا يموت، وذلك حين قالوا: " ألم يقدر هذا
الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت".
7 ـ قيامة لعازر
(يو38:11ـ44)
(يو38:11):” فَانْزَعَجَ يَسُوعُ
أَيْضًا فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ، وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ
عَلَيْهِ حَجَرٌ. قَالَ يَسُوعُ:«ارْفَعُوا الْحَجَرَ!”.
لقد تحرك يسوع
تجاه القبر وهو منزعج في نفسه, كذلك وُجدِ في مواجهة مع حقيقة الموت, ليس
فقط فيما يتعلق بموت لعازر, لكن أيضاً في مواجهة مع موت اليهود الروحي, الذين
بتعليقهم في عدد37 يثيرون, من جديد, غضبه: " ألم يقدر هذا الذي فتح عيني
الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت". هكذا يقول القديس كيرلس الأسكندري: {
ـ من الآن فصاعداً ـ ينبغي أن نطرح عنا التأثير القوي المخيف للموت. وهذا ما يظهره
بواسطة جسده الخاص ذاته, بتحركه (نحو القبر), مظهراً بذلك ما كان مخيفًا للموت في
داخله (أي قوته في مواجهة الموت)}[52].
أمر يسوع برفع
الحجر حتى يري كل الواقفين الجسد ملقي في القبر ميتاً, ويشمون الرائحة فيتأكدون
أنه أنتن, وعند خروجه من القبر لا يظنون أنه خيال بل هو جسد حقيقي. ويتسائل القديس
يوحنا ذهبي الفم, قائلاً: " ذاك الذي له القوة بصوته أن يجعل من هو مربوط
وملفوف بالأكفان يمشي هل كثير عليه أن يجعل الحجر يتحرك؟ فلماذا لم يفعل
ذلك؟" ويجيب القديس يوحنا ذهبي الفم, قائلاً: " لكي يجعل منهم شهوداً
للمعجزة", فلا يقولون كما قالوا في معجزة الأعمى: "إنه هو",
"إنه ليس هو". فإن أياديهم ومجيئهم إلي القبر تشهد بالحق أنه هو"[53].
والقديس كيرلس الأسكندري, يري أن هناك سببين في
أنه لم يدحرج الحجر بنفسه, إذ يقول: "أولاً, لكي يعلمنا أنه أمر لا لزوم له,
أن يعمل معجزات حينما لا تكون ضرورية, وثانياً, لكي يعلمنا أنه هو نفسه الذي يقيم
الموتى, ولكن ملائكة سيكونون حاضرين ليخدموه, هؤلاء الذين يدعوهم الرب في موضع
آخر, في أحد الأمثال, أنهم الحاصدون (أنظر مت39:13)"[54].
(يو39:11): ” قَالَتْ لَهُ
مَرْثَا، أُخْتُ الْمَيْتِ:«يَاسَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ
أَيَّامٍ”.
لقد جاء إعتراض
مرثا غالباً بعد أن بدأوا يحركون الحجر فاشتمت الرائحة. ويري القديس كيرلس
الأسكندري أنه لا توجد غرابة في أن تنزل مرثا إلي مستوي أقل من الإيمان, ويعلل ذلك
بقوله: "بسبب العظمة الفائقة للمعجزة"[55].
ورد فعل مرثا
جاء, كما يقول القديس كيرلس: " بدافع التكريم للمسيح, أي لكي لا يشمئز من
الرائحة النتنة للجثة, أو أنها قد قالت هذا لشعورها بالخزي. فأقرباء الميت ـ كانوا
عادةً يسرعون بدفن الجثمان في بطن الأرض قبل أن ينتن, وذلك إكراماً للأحياء, لأنهم
كانوا يعتبرون أن تأخير دفن الميت هو عدم إكرام له"[56].
الأمر الهام
والمفيد لنا هو ما شدد عليه القديس جيروم حين قال: "حتى إن كنت راقداً في
قبرك, فالرب يقيمك, وإن كان جسدك قد أنتن"[57].
ويري العلامة
أوريجينوس أن محاولة مرثا عدم رفع الحجر هو بمثابة تأخير من جانب الإنسان في تنفيذ
أمر الرب "إرفعوا الحجر". وهذا التأخير هو عدم إيمان, إذ يقول: "
يليق بنا أن نؤمن أن فترة التأخير في تنفيذ الوصية هي وقت للعصيان بالنسبة لمن
ينفذ الوصية بعد ذلك"[58].
أما القديس أغسطينوس يري أن أمر الرب
"إرفعوا الحجر" تعني إرفعوا ثقل الناموس, وإكرزوا بالنعمة[59].
6 ـ قيامة لعازر
(يو38:11ـ44)
(يو40:11): "قال لها يسوع ألم
أقل لكِ إن آمنت ترين مجد الله".
يثني القديس
كيرلس على الإيمان خصوصًا عندما ينبع من ذهن متقد. ويرى أن هناك صورتين للإيمان:
الأولى هي الإيمان العقيدي ويُعرَّفه بأنه هو موافقة النفس على حقيقة ما مثل:
" الذي يؤمن بالابن لا يُدان"، أما الصورة الأخرى فهي، بحسب
رأيه، طريق الإشتراك في النعمة الموهوبة من المسيح كما يقول الكتاب " لأنه
لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ... ولآخر إيمان بالروح الواحد" (1كو8:12ـ9)[60].
أما مرثا فكان
لها إيمان ضعيف، لذا قدَّم لها الرب يسوع علاجًا سريعًا لضعفها، إذ قال لها "
إن آمنت ترين مجد الله". وهنا كما يقول القديس كيرلس يرسل الرب يسوع
رسالة لكل الجنس البشري كي لا يسقطوا في شرور إنقسام الذهن وعدم التصديق[61].
وينصحنا القديس يوحنا ذهبي الفم بأن نلتصق
بالإيمان ولا نعتمد على الحجج الصادرة عنا، لأن الإيمان، بحسب رأيه، "يجعلنا
حكماء ويبطل إنحطاطنا البشري، ويلقي بالحجج إلى أسفل"[62].
(يو41:11 ـ 42): "ورفع عينيه
إلى فوق وقال أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت في كل حين تسمع لي. ولكن
لأجل هذا الجمع الواقف قلت. ليؤمنوا أنك أرسلتني ".
المدهش في هذه
الأعداد هو استخدام يسوع لأقوال متواضعة وليست سامية وعلوية وهناك أسباب كما يقول
القديس يوحنا ذهبي الفم لاستخدام المسيح لهذه الأقوال،
أولاً: لم يتطلع
المسيح كثيرًا نحو كرامته قدر ما كان يتطلع إلى خلاصنا.
ثانيًا: أصحاب الفكر
الضعيف يأتون إليه حين يسمعون منه أقوالاً تناسب مستواهم. لذا كان يتحدث على
مسامعهم بألفاظ بسيطة ومتواضعة[63].
ويشرح القديس كيرلس هذا الأمر، قائلاً "إنه أمر مناسب لتدبير إخلائه لنفسه
بالتجسد أن يتكلم المسيح هكذا كإنسان بطريقة متواضعة وليس بحسب سمو ألوهيته. وهو
يقدم شكره للآب، ليس من جهة لعازر فقط، بل من أجل حياة كل البشر"[64].
إن الرب يشكر
الآب ـ كما يقول القديس كيرلس عمود الدين ـ ليكون مثالاً لنا في إكرام الآب. أما
عبارة " وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي" تدل على أنه يملك
إرادة واحدة مع أبيه، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم[65].
ويؤكد هذا الأمر القديس كيرلس عمود الدين، قائلاً: "لأن طبيعة الألوهية
الواحدة، لا يمكن أن تتعارض مع ذاتها حيث إن فكر أقانيم الثالوث الآب والابن
والروح هو واحد"[66].
ويرى القديس كيرلس أن الرب يشكر الآب لكي يبين أنه يعمل الأعمال الإلهية بقوة الآب
حتى لا يظنوا أنه يعمل الآيات ببعلزبول. لذا يقول " ولكن لأجل هذا الجمع
الواقف قلت. ليؤمنوا أنك أرسلتني" كأنه يقول ـ كما يرى القديس كيرلس:
"لأني لم آت من نفسي كما يفعل الأنبياء الكذبة، ولكني بمشيئتك ومسرتك الصالحة
أخليت نفسي آخذًا صورة عبد لكي أعيد الحياة للجميع"[67].
ولئلا يظن أحد
أن الإستماع هنا عن طاعة، يقول القديس إمبروسيوس: "الاستماع هنا ليس موضوع
طاعة، بل هو إتحاد أبدي. بنفس الطريقة يُقال عن الروح القدس أنه يستمع للآب ويمجد
الابن. إنه يمجد، لأن الروح القدس علمنا أن الابن صورة الله غير المنظور (كو15:1)،
وبهاء مجده ورسم جوهره (عب3:1)"[68].
7ـ ختام المعجزة (يو45:11 ـ 54):
توجد ثلاثة
مواضيع أساسية في ختام هذه المعجزة، هي الآتي:
1-
إيمان الكثيرين بيسوع (يو45:11ـ48).
2-
النبوة عن موت يسوع الكفاري
(يو49:11ـ53).
3-
رحيل يسوع من أورشليم إلى برية الأردن
بعد إعلان موقف اليهود العدائي ضده (يو54:11).
1- إيمان
الكثيرين بيسوع:
(يو45:11ـ46): "فَكَثِيرُونَ
مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ، وَنَظَرُوا مَا فَعَلَ
يَسُوعُ، آمَنُوا بِهِ. وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا
إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ".
بالرغم من أن كثيرين آمنوا بتأثير المعجزة، إلا
أن الآخرين الذين كانوا مملوؤن بالحسد إنتهزوا فرصة هذا العمل المعجزي لكي ينفذوا
مقاصدهم ضد رب المجد[69].
ومن ضمن الكثيرين الذين آمنوا بالمسيح هؤلاء الذين إستقبلوه بطريقة إحتفالية حين
دخل أورشليم (انظر يو12:12ـ18) وفيما بعد هم أنفسهم صرخوا قائلين " أصلبه
أصلبه" (انظر يو15:19). والدليل على إيمان اليهود الظاهري والخاطئ
والمنحصر فقط في المعجزات بدون التقدم الحقيقي تجاه معرفة شخص المسيح الذي يصنع
هذه المعجزات، هو ذهاب قوم منهم إلى الفريسيين ليس ليقولوا لهم مَنْ يكون يسوع بل
" عما فعل يسوع". (يو46:11). فالمسيح طبقًا لرأي اليهود، كما
نراه في إنجيل يوحنا، لن يكون في أحسن الحالات، إلا نبي (راجع يو19:4. 14:6. 40:7.
17:9) أو الماسيا المحرر (راجع يو 25:4، 14:6، 27:7، 31، 41، 42، يو24:1، يو31:12،
34). هكذا في الحقيقة فإن يسوع ذاته يمكن أن يعلن مَنْ يكون هو في الحقيقة مفسرًا
هكذا الآيات التي أتمها. وإمكانية إدراك شخصية تُمنَّح للمؤمنين به بعد تمجيده
(انظر يو22:2، 39، 16:12، 50:14، 25، 26، 12:16 ـ 15، 26:17).
(يو47:11ـ48): "فجمع رؤساء
الكهنة والفريسيون مجمعًا وقالوا ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. أن
تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا".
لقد أخفت هذه
القيادات مشاعر حسدهم الشريرة تحت ستار الدفاع عن الأمة اليهودية والهيكل، وكما
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم، لقد برهنوا أنهم أغبياء وحمقى: "يا لغباوتهم إذ
ظنوا أن يدفعوا إلى الموت من قهر الموت في أجساد آخرين"[70].
وبقولهم "ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات" يبرهون على أنهم مازالوا
يظنونه مجرد إنسان بالرغم من أنه كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا بسبب هذه المعجزة، إنه
هو المسيح حقًا الذي سبق أن تنبأت عنه الكتب المقدسة[71].
أما العلامة
أوريجينوس فيرى أن ما كان يخشاه رئيس الكهنة والفريسيون تحقق بطريقة رمزية:
"فإن كان رئيس الكهنة يمثل شهوات الجسد التي تقاوم شهوات الروح، فإنه لم يكن
ممكنًا له أن يغلب رئيس الكهنة الأعظم ربنا يسوع المسيح، الذي بالحق إحتل موضعه،
لكن على مستوى سماوي أبدي. وعِوض الفكر الفريسي الحرفي تمتعنا بالروح، فلم يعد
للفريسيين موضع. أما أن يحتل الرومان موضع اليهود، فإن الرومان يمثلون كنيسة الأمم
التي صارت إسرائيل الجديد، وإحتلت موضع إسرائيل القديم كشعب مقدس كهنوتي صاحب
الوعود الإلهية"[72].
2- النبوة عن
موت يسوع الكفاري (يو49:11ـ53).
(يو49:11ـ53): "فَقَالَ
لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي
تِلْكَ السَّنَةِ:«أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا، وَلاَ
تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ
وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا!». وَلَمْ يَقُلْ هذَا
مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ،
تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ، وَلَيْسَ
عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى
وَاحِدٍ. فَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا
لِيَقْتُلُوهُ".
يرى القديس
كيرلس في قول رئيس الكهنة قيافا مفارقات كثيرة: "خير لنا أن يموت إنسان
واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" فهذه العبارة صحيحة، كما يقول القديس
كيرلس، لأنها تحققت ليس بسبب رغبتهم الشريرة بل حسب حكمة الله وقوته، إذ
"إقتادوا المسيح إلى الموت وذلك كان سببًا لهلاكهم". أما هو فقد صار
" مماتًا في الجسد" (1بط8:3)، لكي يصير لنا نبعًا لكل الصالحات،
وما يسميه رئيس الكهنة، هلاكًا للأمة يقصد به أن تكون الأمة تحت سلطان الرومان،
فلا تعود بعد تحت ظل الناموس، وما كانوا يسعون لتحاشيه، صار هو نفسه سبب معاناتهم[73].
هكذا ما نطق به
قيافا كان نبوة تعلن مقدمًا الأمور الصالحة التي ستنتج عن موت المسيح. ويرى القديس
كيرلس أنه لا غرابة في أنه نطق بنبوة لأن هذا الأمر يخص خدمته الكهنوتية ولا يخص
شخصه. لقد إستخدمت النعمة فمه فقط ـ كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم ـ ولم تلمس
قلبه الدنس. "وآخرون كثيرون قالوا أشياء قبل كونها وتنبأوا، وكانوا قد فشلوا
في أن يكونوا أهلاً لذلك، وهم: نبوخذ نصر وفرعون وبلعام. انظر كم هي قوة الروح، إذ
اقتدرت أن تُسخر نية خبيثة للنطق بألفاظ مملوءة نبوة عجيبة"[74].
وإن كان قيافا
قال إن موت المسيح سيكون من أجل اليهود فقط، فإن البشير قال إنه سيكون من أجل كل
البشر: " ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد" (يو52:11). نحن
حقًا ندعى أبناء الله، كما يقول القديس كيرلس "إذ هو أب الجميع، إذ قد أوجدهم
بالخلقة وأتى بهم مِن العدم إلى الوجود. وأعطى لنا أيضًا منذ البداية أن نكون
مخلوقين على صورته، وقد أعطى لنا السيادة على كل المخلوقات الأرضية، وحُسبنا
مستحقين للعهد الإلهي، ووهب لنا التمتع بحياة الفردوس وسعادته. أما الشيطان فلم
يكن يريد أن نظل في تلك الحالة ولذلك شتتنا بطرق متنوعة"[75].
(يو53:11): "فَمِنْ ذلِكَ
الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ".
لقد كان موضوع
قتله مقبولاً من الكل معًا، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "كانوا قبلاً
يطلبون ذلك أما الآن فإنهم قرروا ما قد صمموا عليه وتحركوا للعمل"[76].
3ـ رحيل يسوع
من أورشليم إلى برية الأردن بعد إعلان موقف اليهود العدائي ضده (يو54:11).
(يو54:11): "فَلَمْ يَكُنْ
يَسُوعُ أَيْضًا يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ عَلاَنِيَةً، بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ
إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ، إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا
أَفْرَايِمُ، وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ".
لقد عرف يسوع خطة اليهود الخفية التي تدينهم فترك
المكان ـ كما يقول القديس كيرلس: " ليس لأنه كان خائفًا، بل لكي لا يكون
حضوره سببًا في إثارة أولئك الذين كانوا تواقين لقتله"[77].
إذن ينبغي علينا أن نتجنب إنفعالات أولئك الغاضبين وألا نسلّم أنفسنا للأخطار.
والعلامة
أوريجينوس ركز في شرحه على اسم المدينة التي مكث فيها الرب يسوع مع تلاميذه،
قائلاً: "إفرايم" معناها "إثمار"، وهو أخ منسى الأكبر منه
ويعني "نسيان". فإنه إذ ترك خلفه الشعب "كما في النسيان" جاءت
ثمار الأمم. حينما حول الله أنهار إسرائيل إلى برية ومصادر المياه إلى أرض جافة
والأرض الخصبة إلى أرض قاحلة وذلك بسبب شر الساكنين فيها (مز33:106ـ38). لكنه يحول
البرية التي للأمم إلى أحواض مياه، وأرضهم الجافة إلى مصادر حياة"[78].
[1] القديس
كيرلس الأسكندري, شرح إنجيل يوحنا, الجزء السادس (الأصحاح الحادي عشر), ترجمة د.
نصحي عبد الشهيد ود. جوزيف موريس فلتس, المركز الأرثوذكس للدرسات الآبائية, أكتوبر
2006, ص11.
[10] القديس كيرلس
الأسكندري، شرح إنجيل يوحنا، الجزء السادس (الأصحاح الحادي عشر)، ترجمة د. نصحي
عبد الشهيد ود. جوزيف موريس فلتس، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، أكتوبر
2006، صـ 14.
[26] القديس كيرلس الأسكندري، شرح إنجيل يوحنا، الجزء
السادس (الإصحاح الحادي عشر)، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد ود. جوزيف موريس فلتس،
المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، أكتوبر 2006، صـ19.
[41] القديس كيرلس الأسكندري، شرح إنجيل يوحنا،
الجزء السادس الإصحاح الحادي عشر، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد ود. جوزيف موريس فلتس،
المركز الأرثوذكسي للدارسات الآبائية، اكتوبر2006، ص25.
[52] القديس
كيرلس الاسكندري, شرح إنجيل يوحنا, الجزء السادس, ترجمة د. نصحي عبد الشهيد ود.
جوزيف موريس فلتس, المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية, أكتوبر 2006, ص31.
[60] انظر القديس كيرلس عمود الدين، شرح إنجيل يوحنا،
الجزء السادس، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد ود. جوزيف موريس فلتس، المركز الأرثوذكسي
للدراسات الآبائية، أكتوبر 2006، ص32.
[69] انظر القديس كيرلس عمود الدين، شرح إنجيل يوحنا،
الجزء السادس، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد ود. جوزيف موريس، المركز الأرثوذكسي
للدراسات الآبائية، أكتوبر 2006، ص40.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق