القراءة الروحية والكنسية للكتاب المقدس
د.جورج
عوض إبراهيم
إن الكتاب المقدس ـ كما تعلمنا
الكنيسة ـ هو من نتاج إلهام الروح القدس لأناس الله القديسين فـ" كل الكتاب هو موحى به من الله"
(2تي16:3)، لكن هذا لا يعني أنه يوجد تطابق بين الله الفوقاني وحرف الكتاب المقدس، الرأي الذي يتبناه جماعة Fundmendalists والذي يقود في النهاية إلى تكريم وثني لنص
الكتاب، وإلى عبادة الحرف[1].
علي الجانب الآخر، تؤمن الكنيسة أن
الله يعمل ويتحدث بواسطة الكتاب، اذ يقف الشعب " بجوار الإمبل ليسمع كلام
الله كما وقف الشعب قديمًا بجوار جبل سيناء وفى العهد الجديد علي جبل الجليل"[2] . يقول
بول افدوكيموف " إن نصوص يوحنا الإنجيلي، المتعلقة باللوغوس، يجب علي
المرء أن يقرأها وهو واضع في ذهنه أهمية الكلمة العبرية دافارNTABAP معناها كلمة الله، الكلمة التي صارت إلى
الأنبياء من قبل الرب (أنظر إر1:30) والتي تعني أن ذاك (الله) هو الذي يتحدث.
وعندما يتحدث الله، فإن هذا الذي يتطلبه من المستمع، ليس أن يبدأ في الإدانة أو
الحكم علي الكلمة، ولا أن يتساءل كثيرًا بشأنها ولكن أن يقبلها ويكرز بها (أنظر
لو28:11)، وأن يأخذها كمرشد داخلي وخارجي له"[3].
إن الإنجيل داخل الكنيسة فقط له معنى، لأنه
" حيث الكنيسة هناك الروح القدس"[4] ذلك الروح
الذي يكشف المعنى الروحي للنص الكتابي. كذلك يشدد بول أفدوكيموف على أن "
الطريقة الوحيدة لكي نفهم ونقبل كلمة الله هي في الإصغاء لصوت التقليد الحي. وفى
الامتثال لتعاليم القديسين، فالرسول ينصحنا بأن نتمثل بالتقليد، بطريقه تجعلنا نصير
نحن جزء حي منه " احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا"
(2تي14:1) هذه الشهادة الداخلية للروح القدس تأتي لتعيننا لنتجاوز أي ذاتية. وهذه
الشهادة لكي تفلح وتعطي نتيجة حسنة، يجب أن تعمل فقط في داخل التقليد. أما نحن
فعلينا أن نطهر ذواتنا وأن نخلصها من تحديداتها غير الصحيحة "[5].
وهكذا هناك حاجة ماسةٍ لأن يدخل المرء
في روح الكتاب لكي يفسره تفسيرًا صحيحًا، وهذا لا يصير بدون فعل الروح القدس. يُشدد العلامة أوريجينوس في إحدى
عظاته قائلاً " لا يستطيع أحد أن يكشف بسهولة المعاني والرموز الموجودة في
قصة أبيمالك وسارة. يجب أن نصلي كلنا معًا لكي ينقشع البرقع الذي يغطي قلوبنا وذلك
بالروح. الرب هو الروح. يجب أن نصلي إليه لكي يرفع عنا برقع الحرف ويظهر لنا بريق روحه"[6].
إن فعل الله ينير ويحرر الإنسان. نفس
الشيء يحدث بقراءة النصوص الكتابية، والتي تتكلم عن هذا الفعل لذا يقول أيضًا
العلامة أوريجينوس " لقد تجسد المسيح جاعلا كل ما يخصه مِلك لنا . قدس كلامنا، المكتوب
والشفاهي. لقد كشف وأنار " ذهنية " العهد القديم بنور التأنس"[7].
هذا التفسير الروحي هو بحسب كلام القديس بولس:
أن الله " جعلنا كفاه لأن نكون خدام عهد جديد. لا الحرف بل الروح. لأن
الحرف يقتل ولكن الروح يحيي" (2كو6:3) يقول الأرشمندريت يوستينوس
بوبوفيتس: إن سر اللوغوس هو عظيم جدًا، إنه هو نفسه الأقنوم الثاني للثالوث
القدوس، وربنا يسوع المسيح، دُعيَّ في الكتاب الكلمة. الله هو الكلمة
(يو1:1). كل الكلمات التي تنبثق من الكلمة الأبدية، هي مملوءة من الله، من الحق
الإلهي، والأبدية، والبر. أتسمع كلام الله؟ فأنت تسمع الله. أتقرأ الكتاب؟ فأنت
تقرأ مباشرة كلمات الله. الله الكلمة صار جسدًا، صار إنسانًا (يو14:1)
والإنسان الأصم والثقيل اللسان بدأ يتفوه كلمات الحق الأبدية وبر الله. يوجد عصير
الخلود في كلمات الله والذي بالقراءة يتساقط نقطة نقطة علي نفس الإنسان ليحييها
ويقيمها من الموت والفساد. هذا يعلنه المخلص عندما يقول " الحق الحق أقول
لكم من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتى إلى دينونة
بل انتقل من الموت إلى الحياة " (يو24:5). هذا يعني أنه بقراءة كلمات
الله نتعلم الخلود والأبدية، نتعلم عدم الموت والحياة الأبدية[8]. إن
الوحي الإلهي مَعّنِى بالحوادث الشاهدة للتدبير الإلهي[9].
لأجل هذا السبب، فإن الكتاب المقدس بحسب القديس
كيرلس الأسكندري هو "الفردوس العقلي" وبحسب القديس يوحنا ذهبي الفم "الكنز" و"النور" وبحسب
أوريجينوس: فإن كلمة الله قبل التجسد كان غير مدرك وغير منظور وغير مكتوب
أما بعد التجسد صار بحسب طبيعته الإنسانية مدركاَ ومنظوراً ومكتوباً[10]. وبالتالي
فإن الكتاب يُفسر في سياق لاهوت التجسد طالما هو يؤكد تاريخية وحقيقة التجسد.
الكتاب هو الكلمة المحيية (أنظر1كو11:10، أف7:2)
الذي يتكلم في الحاضر ويُفهم فقط باستنارة النعمة الإلهية. أيضًا بحسب أوريجينوس
" الكتب المقدسة كُتبت بواسطة روح الله وأنها تحوي المفهوم الذي ليس هو فقط
ظاهر (واضح)، وأيضًا، الآخر الذي هو مخفي علي أغلبية القراء... كل الكنيسة متفقة
علي أنه بينما كل الناموس هو روحي، إلاّ أن المفهوم الداخلي لا يُفهم من الكل، لكن
من أولئك الذين لديهم استحقاق الهبة (نعمة الروح القدس) إذ يدخلون إلى عالم حكمة
اللوغوس والي عالم المعرفة"[11]، إن
العهد الجديد، بحسب أوريجينوس، قد أنقذنا من التعليم القديم أي من نظام الحرف إذ
يعلن لنا مفاخر الروح[12]. إن
محاولاتنا يجب أن تكون في التقدم بحذر وتقوى من المفهوم الحرفي التاريخي إلى
المفهوم الروحي أي من الحرف إلى الروح.
إن الاستعداد والتهيئة لسماع وقراءة
الكتاب بحسب الآباء يتم أولاً بالصلاة إلى الرب لكي ينير الذهن حتى يكتسب حاسة فهم
الحق والحياة في هذه الكلمات. ثم بالمخافة والورع لأن كل كلمة تُوجد بها نقطة حق
أبدي وكل الكلمات تمثل محيط من الحقيقة الإلهية بحسب تعبير الأرشمندريت يوستينوس
بوبوفتس[13]. لذلك
قبل قراءة الإنجيل في كل سر كنسي، يصلي الكاهن أوشية الإنجيل قائلاً "
وأفتح حواس نفوسنا ولنستحق أن نكون ليس فقط سامعين بل عاملين أيضًا بأوامرك
المقدسة كمسرة الله أبيك "[14].
وهكذا فإن كشف روح الكلمات هو موضوع إعلان الله
نفسه. لكن الإنسان لا يسمع الكلمة بطريقة سلبية، لكن يوجد حوار وفعل من جانب
الإنسان. فالشركة الكاملة، بحسب رأي بول أفدوكيموف " لا تكون فقط شركة في
الكلمة، لكن في حياة اللوغوس "[15].
أيضًا أثناء قراءة البولس في الكنيسة، يصلي الكاهن صلاة سرية إلى الله
قائلاً " يارب المعرفة ورازق الحكمة، الذي يكشف الأعماق من الظلمة، والمعطي
كلمة للمبشرين بقوة عظيمة. الذي من قبل صلاحك دعوت بولس هذا الذي كان طاردًا
زمانًا، إناءً مختارًا... أنت الآن أيضا أيها الصالح محب البشر، نسألك: أنعم
علينا وعلي كل شعبك بعقل غير منشغل، وفهم نقي، لكي نعلم ونفهم ما هي منفعة تعاليمك
المقدسة التي قُرأت علينا الآن ". الله كمنبع للمعرفة والحكمة،
يعمل في هؤلاء الذين يقبلون الإعلان الكتابي ليس بطريقة موضوعية مجردة تهمش الذات
الإنسانية ودورها ولكن علي أساس نقاء الذهن، مثلما حدث بالضبط مع الرسل.
وهكذا بهذه الطلبات تريد الكنيسة أن
تُظهر أنه من الضروري حضور المسيح بالروح لكي نفهم الكتاب، كما حدث مع تلميذي عمواس حيث الرب
نفسه فسر لهم الكتب " ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما
الأمور المختصة به في جميع الكتب... فقال بعضهما لبعض ألم يكن قلبنا ملتهبا فينا
حين كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب" (لو27:24 وما بعده).
المسيح هو حاضر في الكنيسة ويعمل
(بالروح) لكي ينفتح ذهن الإنسان حتى يستطيع أن يستوعب روح كلمته. وهكذا العمل
الخلاصي والشفائي يعمل داخل الإنسان لكي يرى المعني الإلهي للكتاب. بحسب
أوريجينوس، نحن نشبه العميان وعيوننا تحتاج دائمًا إلي نزع الغشاوة إذ يقول
" يجب أن نكون متيقظين، لأنه بينما نحن دائمًا بالقرب من منابع جريان المياه
أى كتب الله، لكن مازلنا نجد صعوبة في أن نعترف بأن هذا حقيقي... كان يجب ونحن
راكعين أن نترجى الله لكي يفتح عيوننا. أليس الأعمى الذي كان جالسًا في طريق أريحا
لم تكن أعينه مفتوحة، لأنه لو كان له هذه الأعين المفتوحة لما صرخ خلف المخلص.
وأيضًا لماذا أتحدث عن فتح عيوننا، كما لو أنه شيء سيحدث؟ لقد انفتحت عيوننا
بالفعل. فالمسيح قد أتى وفتح عيوننا من العمي وأزال عنها الطين الذي كان عليها
بفعل الناموس "[16].
إن النصوص المكتوبة قد أحييت بشهادة
الروح[17]. الكنيسة
هي التي تقدم للإنسان الضمان الفريد للتفسير الكتابي، أى نور الفهم وحقيقة
التعاليم الإلهية. فإن الشرح الموافق للتقليد الجامع وتعليم الكنيسة، يمثل عنصرًا
أساسيًا للتفسير الأرثوذكسي للكتاب[18]،
والكنيسة تفسر الكتاب المقدس علي ضوء خطة الله المُعلنة، إذ يمثل الكتاب المقدس
جزء منها. وهذا يفسر لنا كيف أن الآباء
الأولين ظلوا متمسكين
بقانون الإيمان (Regula Fidei
)[19]
وآخرون بهدف الإيمان للكنيسة الجامعة[20]. وهذا
يشير فى نفس الوقت إلي أهمية التقليد الشفاهي والإيمان المعاش بالفعل في الكنيسة.
إن التقليد الكنسي لا يُحجم قدرات
وإمكانيات التفسير الكتابي، لكن يسهلها. فالتوافق مع تقليد الآباء يُدخل المفسر
مباشرة في ذهن وفكر الكُتّاب القديسين وهكذا يخلق شركة حية بينهما. بهذا المعني،
يَقبل المفسر نفس الروح، التي ألهمت الكُتّاب القديسين. لذلك تحتل الدراسات
الكتابية والخلفيات اللغوية والتاريخية أهمية كبيرة لكن شرط أن تنير فهمنا للنصوص
في إطار الإيمان المعاش بالفعل في الكنيسة: مازالت كلمة الرب تنمو وتزداد في فهمها
والكشف عن أبعادها الجديدة طبقاً لاحتياجات المؤمنين المعاصرة.
" إن التفسير الأرثوذكسي ليس
تكرار لتفسير الآباء، لكن هو التشبه بالفكر التفسيري لهم، حتي بمعونته يتعلم
المرء أن يفكر بواسطة الكتب في مشاكل هذا العصر وتساؤلاته، مثلما فعل أولئك الآباء
القديسين بواسطة الكتب من جهة مشاكل عصرهم وتساؤلاته " هذا ما كتبه
البروفيسور سافا أغوريدس أستاذ العهد الجديد بجامعة أثينا[21].
[1] راجع كارافيدوبلوس، التفسير الأرثوذكسي للكتاب المقدس، إصدار مكتبة بورنارا،
تسالونيكي 1995 ص14(باللغة اليونانية).
[2] فوندولوس، كلمة الله في
العبادة الالهية، تسالونيكي 1965، ص8 (باليونانية).
[3]
بول افدوكيموف، سر الكلمة، مجلة سيناكس مجلد 15، 1985، ص15 (باليونانية).
[5]
بول افدوكيموف، مرجع سابق، ص17.
[8] الأرشمندريت يوستينوس بوبوفتس ، قراءة الكتاب المقدس، مجلة سيناكس مجلد
15، ص24ـ25(باللغة اليونانية).
[9]
أنظر باناغوبلوس، تفسير الكتاب المقدس في كنيسة الآباء، مجلد1، أثينا1991،
ص39 (باللغة اليونانية).
[11] SC252’84.
[12] SC120’79
[14]
الخولاجي المقدس، مكتبة مارجرجس شيكولاني شبرا، الطبعة الرابعة
1991، ص93.
[15]
بول افدوكيموف، المرجع
السابق ص19
[16] PG.12، 203
[18]
أنظر باناغوبلوس، مرجع سابق،ص331
[20]
مثل القديس أثناسيوس
الرسولى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق