د.جورج عوض إبراهيم
يُعتَبَرْ القرن الرابع والخامس بدون شك العصر الذهبي في
تاريخ التفسير الكتابي، تشكلت فيه مبادئ التفسير حيث تبلور تعليم الكنيسة الخريستولوجي
والعقيدي. لقد بدأ التقليد التفسيري في مدرسة الأسكندرية وترعرع تحت تأثير
أوريجينوس وأصبح كيرلس الأسكندري الممثل الأخير له. ومن بينهم أثناسيوس الرسولي
الذي حدَّد ـ بتعليمه اللاهوتي عن التجسد ـ المحتوى الخريستولوجي لهذا التقليد
التفسيري.
ونشأت في نفس الفترة مدرسة أنطاكية الوعظية بتقليدها
التفسيري الذي يشدّد على التفسير التاريخي، إلا أنه لم يخرج عن
"الثيوريا" Qewr…a أو
"الرمزية النماذجية" Tupik¾ allhgor…a. لقد كان ذهبي الفم أحد
المفسرين الأنطاك العِظام الذي ألهم كل الآباء اللاحقين. والآباء الكبادوك قد سطروا
الخط التفسيري الذهبي الذي يقع بين التقليدين الأسكندري والأنطاكي وعمَّقوا محتواه
الخريستولوجي.
كان الكُتَّاب الكنسيين لهذا العصر يتسابقون في كتابة الكتابات التفسيرية
لخدمة إحتياجات الكنسية الكثيرة كدفاع ضد الهراطقة، وكعمل راعوي كرازي. وظلَّ
التقليد التفسيري لهذه الفترة هو الأساس والمرجع فيما بعد. وظهرت أنواع جديدة من
الأعمال التفسيرية مثل العظات التفسيرية في الأعياد السيدية والمريمية، كذلك أعمال
تفسيرية حول شخصيات مشهورة من العهد القديم، وكذلك أيضاً حول أحداث هامة في العهد
القديم، والرسائل التفسيرية والحوارات ومقدمات مختصرة للكتاب المقدس وعن
أسماء وأماكن مذكورة في الكتاب. كذلك لعب الكتاب المقدس الدور الأساسي في المعارك
العقيدية مع الهراطقة والمرشد للمجامع المسكونية والمحلية، وأيضًا في نمو الحياة
النُسكية والتقاليد القانونية، وبالطبع قدَّم الكتاب المادة الأساسية في تشكيل
العبادة وتسبحة الكنيسة.
لقد إتبع أثناسيوس خطًا جديدًا في التفسير مقارنةً بكليمنضس وأوريجينوس،
فالتفسير الكتابي بحسب أثناسيوس يرتبط إرتباطًا جوهريًا بحدث تجسد كلمة
الله، الذي "يفسر" ويُعلِن خطة الله الأزلية للإنسان. التجسد يُظهِر
"هدف" الإرادة الإلهية التي صارت حدث تاريخي. هذا الهدف هو دائمًا محتوى
الكتاب المقدس الأساسي وهو مطلب التفسير الكتابي الأرثوذكسي. هذا الهدف هو بداية
التفسير والقائد له. " شروحات
المزامير" هي بمثابة أحد الأعمال التفسيرية (PG27, 60-545).
والمواضيع التفسيرية التي إنشغل بها أثناسيوس هي:
+علاقة الكلمة الإلهية بالكلمة
البشرية.
+العهد القديم والجديد.
+ الوحي.
+ أصالة الكتاب المقدس ومصداقيته.
+ طبيعة وهدف الكتاب وتعاليمه
الأخلاقية.
+علاقة الكتاب بالتقليد الكنسي.
+التعاليم العقيدية.
التأنس كـ ”هدف” الكتاب المقدس:
إن خلق كل شيء من العدم بواسطة الكلمة
ومساواة الكلمة بالآب يمثلان الأساس اللاهوتي لتفسير أثناسيوس الكتابي. إنه
المُعلم الكنسي الذي أقر ووضحَّ بشفافية مدهشة نتائج العقيدة الخريستولوجية
بالنسبة لمبادئ التفسير الكتابي. النتيجة الأولى هو الهجران التام ـ من
جانب أثناسيوس ـ للتمييز الأفلاطوني بين العالم الحسي والعالم الذهني، الذي هو
موجود في أساس المنهج الرمزي الأسكندري. والنتيجة الثانية هو إنتقال الثقل
المركزي من الفهم الحرفي للكتاب إلى حدث التدبير الإلهي الذي تشهد عنه الكتب
المقدسة. ومركز التدبير الإلهي هو تجسد الكلمة الذي يحدد بطريقة أساسية
تفسير الكتاب.
التدبير الإلهي والكتاب لا ينفصلا. والأول (التدبير الإلهي) هو حدث تاريخي
حقيقي يمثل "هدف" و "ملمح" و "ذهن" الكتاب المقدس.
فالكتاب المقدس ـ عند القديس أثناسيوس ـ يتطابق مع الإعلان الإلهي طالما أنه يشهد
ويُظهِر "هدف" التدبير الإلهي. بالتالي التفسير الكتابي يبطل الحيرة
التي تنشأ من التمييز بين حرف الكتاب وروحه. هكذا المشكلة الأساسية للتفسير
الكتابي ليست في المقام الأول تفسير النصوص الكتابية في حد ذاتها بطريقة عشوائية بل التعرف على الـ "هدف"
الأساسي لحوادث التدبير الإلهي التي يشهد عليها الكتاب. المواضيع التفسيرية الخاصة
(على سبيل المثال: الوحي، أصالة الكتاب، التقليد، القانون الكنسي، المنهج التفسيري
الأرثوذكسي...الخ)، يجب أن تُدرَّس في ترابط عضوي مع "هدف" التدبير
الإلهي.
إن تأنس الكلمة ـ عند القديس أثناسيوس ـ بمثابة البداية والمركز
والغاية للتفسير الكتابي، هذا الحدث هو "هدف" ومبدأ تفسيري للتدبير
الإلهي. فالكلمة الكتابية هي بحد ذاتها يجب أن تُفَهَم في توافق مع تأنس الكلمة.
بالتالي ينبغي أن تتكيف الكلمات الكتابية مع هذا الجوهر:
" فليست الألفاظ هي التي تقلل من قدر طبيعة الأشياء، بل بالحري فإن
طبيعة الأشياء هي التي تضفي المعنى على الألفاظ وغيرها. لأن الألفاظ تأتي تالية
لها. ولذلك فعندما يكون الجوهر "مصنوعًا" أو " مخلوقًا"
عندئذٍ فإن الألفاظ: "صنع"، و "صار" و "خلق" تُقال
عنه بصفة خاصة ويقصد به أنه "مصنوع"، ولكن حينما يكون الجوهر مولودًا
وابن، عندئذٍ فإن ألفاظ "صنع" و "صار" و"خلق" لا
تُستخدم بحسب مفهومها الحرفي، ولا تعني أنه "مصنوع" بل تكون كلمة
"صنع" قد استخدمت بدلاً من "ولد" بدون تحديد "[1].
ويشرح القديس أثناسيوس بوضوح هذه الفكرة الأساسية معطيًا أمثلة كتابية لكي يزيل
الغموض العالق في ذهن القارئ ، قائلاً: " وفي أحيان كثيرة يلقب الآباء أبناءهم
الذين ينجبوهم عبيدًا لهم، دون أن ينكروا أصالة طبيعتهم وأحيانًا يجاملون عبيدهم
ويسمونهم أبناء دون أن يفقدوا حق إمتلاكهم منذ البداية. إلا أنهم في الحالة الأولى
يسمَّون أبناءهم عبيدًا من خلال سلطانهم كآباء، وفي الحالة الثانية يسمون عبيدهم
أبناء بدوافع إنسانية، فسارة كانت تدعو إبراهيم سيدًا رغم إنها لم تكن عبده له، بل
كانت زوجة. وكان الرسول يصف أنسيموس العبد كأخ لفليمون الذي كان سيدًا"[2]. هنا نرى القديس أثناسيوس في خط مضاد للتفسير الكتابي الآريوسي، الذي
يقتطع الكلمات من جوهر وطبيعة الحدث ويفسره فقط حرفيًا، لذا يشدد القديس أثناسيوس
على أن الكلمات لا ينبغي أن نعتبرها مطلقة وهي لها دور ثانوي بالنسبة لطبيعة وجوهر
حدث التدبير الإلهي. فالكلمات هنا هي محايدة " adi£forej" وتتكيف مع الجوهر الذي
تُعلنه ووفق هذا الإطار تُفهم هذه الكلمات[3]. هكذا في إطار الخريستولوجية نادى القديس أثناسيوس بأن الإقرار والإعتراف
بالابن هو الذي له الأولوية أما الأقوال التي تصف طريقة التجسد فهي في حد ذاتها
محايدة. فكلمات الكتاب تُعلن مفهومها المستقيم عندما نراها في سياق حدث التجسد،
حدث التدبير الإلهي في التاريخ. الكلام هنا عن المبدأ الخريستولوجي الذي في إطاره
يُفَسر الكتاب.
يحدد القديس أثناسيوس في هذا السياق محتوى المصطلحات الكلاسيكية اللاهوتية
للتفسير مثل "هدف"، و "ذهن" و "عقل" الكتاب المقدس.
فهذه المصطلحات المترادفة تعبر عن التجسد والإعلان المزدوج عن المخلص كما يقول
لنا القديس أثناسيوس: [ إن هدف الكتاب المقدس وميزته الخاصة كما قُلنا مرارًا
هو أنه يحوي إعلانًا مزدوجًا عن المخلص: أي أنه كان دائمًا إلهًا وأنه هو الإبن إذ
هو كلمة الآب وشعاعه وحكمته، ثم بعد ذلك أتخذ من أجلنا جسدًا من العذراء
مريم والدة الإله، وصار إنسانًا. وهذا الهدف نجده في كل الكتب الموحى بها، كما قال
الرب نفسه " فتشوا الكتب، وهي تشهد لي" (يو39:5)][4].
هذا الإعلان المزدوج نتحقق منه في كل الكتاب الموحى به من الله ، وعلى أساس
هذا "المفهوم" يجب أن نفسر الكتاب المقدس. إنه الغاية الكنسية أو الهدف
الكنسي الذي إذا إلتزم به الهراطقة لمِا إنكسرت بهم سفينة الإيمان بحسب ما قاله
القديس أثناسيوس[5].
وهذا المبدأ يطبقه القديس أثناسيوس، على سبيل المثال، في تفسيره لـ
(يو14:1) "والكلمة صار جسدًا" والذي هو نص بمثابة المفتاح لِفهم نظريته
التفسيرية. مفهوم هذا النص يشير إلى حضور الكلمة في الجسد، وبناء على ذلك
ينبغي للمرء أن يعترف منذ البداية بالتجسد، وعندئذٍ فقط سوف يتعرف بسهولة على
المفهوم الخاص للكلمات الكتابية. إذن الإيمان المستقيم يسبق التفسير. عندما
يرفض المرء حدث تجسد الكلمة يُفسِد مفهوم الكتاب المقدس وبالتالي يُحَرِف
كلماته: " مِن واجبهم (الهراطقة) أن يفسروا الكلمات تلك المكتوبة بخصوص (حضور
المخلص في الجسد) تفسيرًا صائبًا، وإما،
إن كانوا ينكرون القصد السليم، إذن فلينكروا أن الرب قد صار إنسانًا. لأنه لا يليق
بهم أن يعترفوا بأن " الكلمة قد صار جسدًا". ومن ناحية أخرى يستحون من
المكتوب عنه، ولذلك فإنهم يحرفون معناه"[6]. إذن فإن إعتراف الإيمان المستقيم بالرب يسوع المسيح هو الأساس لتفسير
الكتاب المقدس تفسيرًا صحيحًا.
إن الإيمان المستقيم بالمسيح ـ كما ذكرنا ـ هو المعيار الصحيح لتفسير
الكتاب تفسيرًا مستقيمًا. فحدث التجسد والإيمان بمساواة الابن بالآب في الجوهر
نجدهما في كلمة الكتاب المقدس بطريقة خاصة. المفسر لابد أن يميز بدقة مفهوم
الكلمات ويتعرف على المسيح "الإله المتأنس".
وهذا الأمر قد شَّرحه القديس أثناسيوس بوضوح في رسالته الثانية إلى سرابيون
" يجب إذن مَنْ يقرأ الكتاب، أن يفحص ويميز متى يتكلم (الكتاب) عن ألوهية الكلمة،
ومتى يتكلم عن أموره الإنسانية، لئلا يُفهم أحدهما بدل الآخر، فنقع في نفس الخلط
الذي سقط فيه الآريوسيين". مثلما أن طبيعة الكلمة هي مزدوجة ولكن واحد
وفريد شخصه، هكذا كلمة الكتاب تتجاوب بحسب الطبيعة ومفهومها الخاص مع طبيعة الله الكلمة.
بالتالي يقول القديس أثناسيوس: " بالرغم من أن نفس التعبيرات تُستخدم في
الحديث عن الله والإنسان في الأسفار الإلهية، إلا أن ذا البصيرة الجلية، مثلما
يوحي بولس ـ سوف يفحصها ويدرسها، وبذلك يميز ويُضيف ما قد كُتب بحسب طبيعة كل
موضوع ويتجنب أي إختلاط في المعنى حتى لا تُفهم أمور الله بطريقة بشرية، ولا بالمثل
ننسب أمور الإنسان إلى الله، لأن ذلك معناه أن نخلط الخمر بالماء (اش22:1) وأن نضع
على المذبح نارًا غريبة مع النار الإلهية"[7].
بهذه الطريقة يُفسر القديس أثناسيوس الأناجيل وشهادات العهد الجديد
الخرستولوجية. فهو ينطلق دائمًا من التدبير الإلهي، الذي تممه المسيح لأجل
الإنسان، وعلى أساس هذا يشرع في فِهم هذه القراءات. إن شخص وعمل المسيح يُفسرا على
أساس المبدأ اللاهوتي العام :
" حينما صار إنسانًا. لم يكف عن أن يكون هو الله، ولا بسبب كونه الله،
يتجنب ما هو خاص بالإنسان، حاشا بل بالحري إذ هو الله فقط أخذ الجسد لنفسه،
وبوجوده في الجسد فإنه يؤله الجسد "[8].
ويوضَّح القديس أثناسيوس، في شرحه لنص أعمال الرسل، هذا الأمر، قائلاً: " لأن بطرس عندما قال : " جعله ربًا ومسيحًا" أضاف في الحال " الذي
صلبتموه أنتم"، مما جعل الأمر واضحًا للجميع. ولعله يصير أيضًا واضحًا
لهؤلاء، إن كانوا يتابعون معنى النص، إن كلمة "جعل" ليست عن جوهر الكلمة
ـ بل على ناسوته"[9].
هذا الشرح يعلن لنا عنصرًا آخرًا حاسمًا للتفسير عند القديس أثناسيوس، هذا
العنصر قد تعرفنا عليه من كليمنضس وأوريجينوس، وهو أن ما يخص ناسوت المسيح ليس
هو مجرد معلومة لسيرة ذاتية بل إعلان وبرهان للنعمة التي تتدفق منه لأجل الإنسان.
على سبيل المثال في (عب4:1) لا يقارن فقط الإبن بالملائكة، بل " بقدر ما يختلف
هو بحسب الطبيعة عن الذين أرسلهم قبله، بقدر ما كانت النعمة الصائرة منه وبه أفضل
من خدمة الملائكة"[10].
بخصوص الشواهد الخريستولوجية في الكتاب المقدس يضع أثناسيوس مبدأ هام
فحواه: " عندما يتحدث الكتاب عن طبيعة الكلمة البشرية يذكر دائمًا
السبب الذي من أجله صار هذا الشيء إنسانيًا، أما إذا كان يتحدث عن ألوهيته فإن
الكلمات تكون بسيطة ولا يذكر أي سبب: "عندما يشير (الكتاب) إلى ميلاد الكلمة
بحسب الجسد يذكر السبب الذي من أجله صار إنسانًا. وحينما يتحدث هو وخدامه بخصوص
ألوهيته فإن كل شيء يُقال بألفاظ بسيطة وفكر صاف، ولا يُقال أبدًا بطريقة معقدة.
ذلك لأنه هو بهاء الآب، وهو مثل الآب لم يوجد عن طريق أية عِلة"[11]. هنا نتأكد أيضًا من الفكرة الأساسية لأثناسيوس، بأن المصدر الأساسي
للإعلان الإلهي ليس فقط هو القول الكتابي المكتوب بل أيضًا حدث التدبير الإلهي.
كلمة الكتاب قد توافقت لتنسجم مع " طبيعة" الحوادث الإلهية التي
تعلنها الكلمة، لأجل ذلك الكلمة في حد ذاتها في سياقها اللغوي فقط تُوضع في المرتبة الثانية من جهة الأهمية.
فالخريستولوجية، أي الإيمان المستقيم بشخص المسيح هو الذي يحدد التفسير. بمعنى أن
الخريستولوجية هى التي تحدد المصطلحات الكتابية التي تخص الجوهر الإلهي، وتلك التي
تخص الطبيعة البشرية للكلمة. فبحسب قوله يوجد إيمان واحد وتعليم واحد
للكنيسة مؤسس على الله الواحد مثلث الأقانيم، ومعمودية واحدة وتكميل واحد في
المسيح: " فألوهية الثالوث واحدة، إيمان واحد، وتوجد معمودية واحدة تعطي فيه.
وواحد هو التكميل في يسوع المسيح ربنا"[12]. لكن لأن ألوهية الآب والكلمة والروح القدس لا يمكن للمعرفة
البشرية أن تقترب منها لذلك يحتوي الكتاب على "أمثلة" كثيرة و
"صور" بواسطتها يتعلم الإنسان بوضوح ما يخص الطبيعة الإلهية[13].
ويشرح القديس أثناسيوس الصعوبة التي يواجهها الإنسان عندما يتناول موضوع
ألوهية الثالوث قائلاً : " فإن كان أحدًا أيضًا يسأل ويبحث قائلاً: كيف يوجد
الروح فينا، ويُقال أن الابن فينا؟ وحينما يكون الابن فينا فكيف يُقال إن الآب
فينا؟ وعندما يكون الثالوث حقًا ثالوثًا، فكيف يُفهم أنه واحد. أو لماذا حينما
يكون أحد أقانيم الثالوث فينا، يُقال إن الثالوث موجود فينا؟" ويرد أثناسيوس
على الذي يتساءل قائلاً: " فعلى الذي يسأل أن يفصل أولاً الشعاع عن النور، أو
يفصل الحكمة عن الحكيم، أو فليخبرنا كيف تكون الأمور"[14]. ويضيف القديس أثناسيوس مَنْ يسأل مثل هذه الأسئلة بأن له حماقة جنونية،
قائلاً: " إن توجيه مثل هذه الأسئلة عن الله يكون جرأة جنونية، لأن الألوهية
لا تسلم لنا بواسطة براهين كلامية بل بالإيمان مع التفكير بتقوى ووقار، فإن كان
بولس قد كرز بصليب المخلص " لا بكلام الحكمة بل ببرهان الروح القدس"[15]، وقد سمع في الفردوس " كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم
بها"[16]. فمَنْ يستطيع أن يتكلم عن الثالوث القدوس نفسه"[17]. وهنا يُعالج القديس أثناسيوس هذه الصعوبة قائلاً: " يمكننا أن نعالج
هذه الصعوبة أولاً بالإيمان، وبعد ذلك بإستعمال ما سبق أن ذكرناه من أمثلة أي:
الصورة والشعاع، والينبوع والنهر، والجوهر والرسم، وكما أن الابن هو في الروح الذي
هو صورته الخاصة، هكذا الآب أيضًا في الابن. لأن الكتاب الإلهي ـ لكي يعالج عجزنا
عن شرح وفهم هذه المعاني بالكلمات ـ قد أعطانا مثل هذه الأمثلة، حتى بسبب عدم
إيمان هؤلاء المتجاسرين، يمكننا أن نشرح بأكثر وضوح، وأن نتكلم بدون التعرض لخطر
الضلال، وأن نفكر بطريقة مشروعة، وأن نؤمن بقداسة واحدة مستمدة من الآب بالابن في
الروح القدس"[18].
إذن الأقوال الكتابية هي في حد ذاتها محايدة وتكتسب المفهوم الخاص لها في
إرتباطها بالجوهر الذي له علاقة بها. هكذا الأوصاف
البشرية التي ينسبها الكتاب المقدس لطبيعة المسيح البشرية لا يجب أن تنفصل عن
الأوصاف اللاهوتية بل ينبغي أن تُفسر في سياقها: " حينما نراه يعمل أو يقول
ما يليق بالله بواسطة جسده، فإننا نعرف إنه يعمل هكذا لأنه هو الله، وأيضًا إذ
رأيناه يتكلم أو يتألم إنسانيًا فإننا لا نجهل أنه بإتخاذه الجسد صار إنسانًا
وكذلك فهو عمل هذه الأعمال وتكلم بهذه الكلمات. لأننا عندما نعرف ما هو خاص لكل
منهما (الله والإنسان) نرى ونفهم أن هذه الأمور التي تجري من كليهما، إنما تتم
بواسطة واحد، فإننا نكون مستقيمين في إيماننا، ولن نضل أبدًا "[19].
إن الفهم الحرفي الصحيح ينبغي عليه أن يكون متوافقًا مع الإيمان المستقيم: " يجب أن نفهم بأمانه: الوقت الذي كتب عنه الرسول، والشخص
والموضوع اللذين كتب عنهما، لكي لا يجد القارئ نفسه ـ وهو يجهل هذه الأقوال
أو غيرها، بعيدًا عن المعنى الحقيقي" ويستمر أثناسيوس قائلاً: " عندما
يكون لدى واحد.... معرفة كثيرة، عندئذٍ سيكون له فكر إيمان صحيح ومستقيم. أما إذا
أساء أحد منهم شيء من هذه، فإنه سينزلق في الحال إلى الهرطقة"[20].
إن الفهم الحرفي للكلمة الكتابية ليس هو الهدف في حد ذاته ولا هو أيضًا
كافٍ في حد ذاته، لأن تفسير الكتاب يرتبط دائمًا بإظهار الحق، أي بـ
"هدف" التدبير الإلهي. إنه يهدف إلى التعرف على مفهوم الشهادة الكتابية
التي تخص النِعم الخلاصية للإنسان. هكذا الحرف ليس هو مجرد رمز وصورة
لمفهوم سري ( مثلما يظن الرمزيون المتطرفون) لكن هو شهادة وتأكيد على حدث
التدبير الإلهي. وهذا الأمر لا يُعرف بمجرد استخدام التفسير الرمزي بل بالإيمان
الخريستولوجي المستقيم. ولكي يوفق المفسر في عمله عليه أن ينقاد بواسطة تعليم
وحكمة وحياة الكنيسة. هذا المطلب هو المفتاح الآمن لتفسير القديس أثناسيوس
الكتابي. والجدير بالذكر هو أن الإشارة إلى إيمان وتقليد الكنيسة لا يُكَمِل
نظريته التفسيرية بل هما بمثابة عنصر لا ينفصل عن نظريته التفسيرية.
ويشرح القديس أثناسيوس الملمح الخريستولوجي للإيمان بالإشارة إلى عب3:1،
قائلاً : "هذه هي سمة إيماننا بالمسيح: ابن الله، إذ هو "كلمة"
الله "لأنه في البدء كان الكلمة ... وكان الكلمة الله"[21]،
وهو حكمة الآب وقوته: " لأن المسيح قوة الله وحكمة الله"[22]، وفي ملء الأزمنة صار إنسانًا لأجل خلاصنا"[23]. ويؤكد القديس أثناسيوس على أن سمة إيماننا الخريستولوجي هذا قد
تسلمناه من الرسل بواسطة الآباء: " وسمة إيماننا هذه مأخوذة من الرسل
بواسطة الآباء. فيجب إذن على مَنْ يقرأ الكتاب، أن يفحص ويميز متى يتكلم (الكتاب)
عن ألوهية الكلمة، ومتى يتكلم عن أموره الإنسانية، لئلا يُفهم أحدهما بدل
الآخر، فنقع في نفس الخطأ الذي سقط فيه الآريوسيين"[24].
ومثلما المسيح لا يُفصل بحسب ألوهيته وناسوته، نفس الأمر الإيمان المسيحي
هو متوافق توافقًا مطلقًا مع حدث التدبير الإلهي. بمعنى أن الإيمان المسيحي هو
تعبير مُحدد مع هدفه ويظهره. هوية وهدف التدبير الإلهي يتطابقان بالتالي بطريقة
مطلقة. وهذا الأمر يشرحه القديس أثناسيوس بكل وضوح قائلاً: " لأن أعداء
المسيح بسبب جهلهم لهدف الإيمان قد ضَلَوا عن طريق الحق، وإصطدموا بحجر الصدمة
(انظر رو33:9) معتقدين في أمور لا ينبغي أن يؤمنوا بها"[25].
إن القديس أثناسيوس يفسر الكتاب بدقة داخل خبرة حياة الكنيسة طالما أنها
تُحيي "هدف" التجسد. الكتاب والكنيسة ـ من هذا المنطلق ـ في إتحاد لا ينفصل
بل بالحري يتطابق الواحد مع الآخر. الكتاب المقدس يحدد حياة وعمل الكنيسة، وفي نفس
الوقت هو يُحدد بواسطتها، طالما الحق الذي يشهد عليه الكتاب وتتطابق معه يُعرف
ويعمل داخل الكنيسة. لذا يحدد القديس أثناسيوس ملمح المسيحيين بالإيمان
المستقيم: " أما إيماننا فمستقيم وهو نابع من تعليم الرسل وتقليد الآباء
ويؤكده كل من العهد الجديد والعهد القديم، حيث يقول الأنبياء " أرسل كلمتك
وحقك"[26]، " هوذا العذراء ستحبل وتلد ابنًا وسيدعون أسمه عمانوئيل"[27] الذي تفسيره "الله معنا"[28] ولكن ماذا يعني هذا إن لم يكن أن الله قد جاء في الجسد؟"[29]
إن التعليم الرسولي هو الشهادة الصادقة لأقوال وأعمال الرب، لقد سلموا
الرسل كشهود عيان هذا التعليم بكتاباتهم وكرازتهم. تعليم الآباء هو الفِهم
المستقيم والتفسير الصحيح والتأكيد على التقوى في المسيح، مثلما أُعلنت في الكتاب
المقدس ومثلما سُلِمت بصدق داخل الكنيسة بتعاقب التعاليم الكنسية. الكتاب بعهديه
القديم والجديد يؤكد على التعليم الرسولي والكنسي طالما أن هذا التعليم هو متوافق
مع " مفهوم وهدف" الكتاب. هناك وحدة داخلية مطلقة بين شهادة الكتاب
وتقليد الكنيسة: " دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها،
وإيمانها، الذي هو من البداية والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء"
وعلى هذا الأساس تأسست الكنيسة، ومن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا ولا ينبغي أن يُدعى
كذلك فيما بعد"[30].
الوحدة بين الكتاب المقدس والشهادة الرسولية والتعليم الآبائي والكنسي ليست
هي وحدة خارجية بل داخلية وجوهرية: " وبحسب الإيمان الرسولي المُسلم لنا
بالتقليد من الآباء، فإني قد سلمت التقليد بدون إبتداع أي شيء خارجًا عنه. فما
تعلمته فذلك قد سطرته مطابقًا للكتب المقدسة"[31]. هذه الوحدة الداخلية ترجع إلى الحدث التدبيري الواحد في المسيح وتتفاعل
هذه الوحدة مع حياة الكنيسة وداخلها. أيضاً هذه هي الوحدة الداخلية الجامعة وملء
المسيحية: سبب إيماننا، مبدأ الأناجيل، كرازة الرسل، شهادة الأنبياء وفِهم ملء
التدبير. هذا الملء هو معروف في شهادة العهد القديم وكرازة الرب في التعليم
الرسولي والكنسي. وهؤلاء الثلاثة ( العهد القديم ـ كرازة الرب ـ التعليم الرسولي)
يمثلون إيمان واحد وكرازة واحدة للكنيسة الجامعة. لو أنفصل عنصر واحد من الثلاثة
عن العنصرين الآخرين يتزعزع وحدة الإيمان.
إن تفسير القديس أثناسيوس للكتاب المقدس يرتبط ارتباطًا وثيقًا بجهاده ضد
الآريوسية. ومقالاته ضد الآريوسيين تمدنا بأمثلة عديدة لكيفية تفسير أثناسيوس
للكتاب المقدس، وكيف يطبق هذا التفسير ليرّد على تعاليم الآريوسيين الهرطوقية.
إننا نجده حين يشرح آيات من الأناجيل عن التجسد، يستعرض اعتراضات الآريوسيين
الشائعة: " لو كان الابن ابنًا بالطبيعة، لما كان في احتياج أن يأخذ، بل كل
شئ يكون له بالطبيعة كابن، وكيف يكون هو القوة الطبيعية والحقيقية للآب وهو في وقت
الآلام قال " الآن نفسي قد اضطربت ... " (يو27:12ـ28). لو كان هو
القوة لما كان قد ضَعُف، بل لكان قد أعطى قوة لآخرين ... لو كان هو حكمة الآب
الحقيقية والذاتية، فلماذا كُتب عنه: " وكان يسوع ينمو في الحكمة والقامة
والنعمة عند الله والناس " (لو52:2). وبالمثل عندما جاء إلى نواحي
قيصيرية فيلبس سأل التلاميذ " ماذا يقول الناس إني أنا"
(مت13:16). وأيضًا حينما جاء إلى بيت عنيا سأل عن لعازر " أين دُفن
" (انظر يو18:11). وأيضًا قال لتلاميذه " كم رغيفًا عندكم "
(مر38:6) ... كيف إذًا يكون هو الحكمة وهو ينمو في الحكمة، وكان يجهل الأمور التي
كان يسأل عنها الآخرين؟ ... كيف يمكن وهو الله، أن يصير إنسانًا؟ ... كيف يمكن
لمَن لا جسد له أن يلبس جسدًا؟ ... كيف يمكن أن الذي ينام ويبكي ويطلب أن يعرف
كإنسان، يكون هو الكلمة أو هو الله؟[32].
إن رد القديس أثناسيوس على هذه الأسئلة وغيرها قد تركز على العلاقة بين
لاهوت المسيح وناسوته. وهو مقتنع تمامًا أن الكتاب المقدس يحتوي على تقرير مزدوج
للملخّص: [ والآن فإن هدف الكتاب المقدس وميزته الخاصة، كما قلنا مرارًا، هو أنه
يحوي إعلانًا مزدوجًا عن المخلّص: أى أنه كان دائمًا إلهًا وأنه الابن إذ هو كلمة
الآب وشعاعه وحكمته، ثم بعد ذلك اتخذ من أجلنا جسدًا من العذراء مريم والدة الإله،
وصار إنسانًا][33]. ويؤكد ق. أثناسيوس بأن هذا الإعلان المزدوج هو موجود في كل الكتاب المقدس
الموحى به من الله، ثم يبدأ في تدوين نصوص وفقرات تؤكد على لاهوت وناسوت المسيح.
المشكلة كما يراها أثناسيوس في العلاقة بين المسيح بكونه إله وبكونه إنسان في آنٍ
واحد، مع التركيز على أن الابن قد صار ما نحن عليه "لأجلنا"، لأن الابن
اتحد بنا اتحاد حقيقي، اتحد بجسدنا. وصفات الجسد تخص الابن حقًا لأنها هى خصائصه
في إطار التجسد: [ خواص الجسد هى خاصة به حيث إنه كان في الجسد، وذلك مثل أن يجوع،
وأن يعطش، وأن يتألم، وأن يتعب، وما شابهها من الأمور المختصة بالجسد ][34]. ويستمر القديس أثناسيوس قائلاً: [ بينما من الناحية الأخرى فإن الأعمال
الخاصة بالكلمة ذاته مثل إقامة الموتى، وإعادة البصر إلى العميان، وشفاء
المرأة نازفة الدم، قد فعلها بواسطة جسده، والكلمة حمل ضعفات الجسد كما لو كانت
له، لأن الجسد كان جسده، والجسد خدم أعمال اللاهوت، لأن اللاهوت كان في الجسد،
ولأن الجسد كان جسد الله ][35].
هنا جوهر رد القديس أثناسيوس على الإرتباك الآريوسي بين لاهوت وناسوت
المسيح. فالكلمة لم يكن "خارج" ناسوته الذي أخذه. بالحري حين خدم
الابن المتجسد، فإن اللاهوت والناسوت كانا معًا يعملان في وحدة لا تنفصم:
[ فحينما كان هناك احتياج لإقامة
حماة بطرس التي كانت مريضة بالحُمى فإنه مدّ يده إليها بشريًا، ولكنه أوقف المرض
إلهيًا (انظر مت14:8). وفي حالة الإنسان المولود أعمى فإن تفل البصاق كان من الجسد
ولكن فتح عين الأعمى بالطين إلهيًا. وفي حالة لعازر، فلكونه إنسانًا فقد دعاه
بصوته البشري ولكونه في نفس الوقت إلهًا فقد أقامه من الأموات. وهذه الأمور حدثت
هكذا وظهرت هكذا لأنه كان قد اتخذ لنفسه جسدًا حقيقيًا وليس خياليًا، ولذا كان
يليق بالرب بأخذه جسدًا بشريًا أن يكون لهذا الجسد كل الخواص التي للجسد، حتى كما
نقول إن الجسد كان جسده. هكذا أيضًا نقول إن آلام الجسد كانت خاصة به، أى الكلمة
رغم أنها لم تمسه بحسب لاهوته ][36].
هكذا ركز القديس أثناسيوس على إيضاح حقيقة أن المسيح يعمل لاهوتيًا
وناسوتيًا معًا من خلال جسده الذي أخذه. وحين يعمل بقوة ويشفي المرضى ويقيم
الموتى، ندرك نحن لاهوته في الفعل. وحين يكون متعبًا فإننا نرى مظاهر الناسوت
الأصيل والحقيقي الذي أخذه.
لقد أخطأ الآريوسيين إذ قرأوا الكتاب المقدس قراءة هزيلة غير عميقة، ورأينا
فشلهم في التمييز بين ما يليق بلاهوت الابن وما يناسب بشريته أو ناسوته. وهذا
الإخفاق يقود إلى إنكار لاهوت الابن. وهذا ما نتحقق منه دائمًا حين نرى تيارات
فكرية غريبة تسقط في هذا الإخفاق وتنكر ألوهية الابن. ومن هنا نجد الأهمية العظيمة
لتعليم القديس أثناسيوس التفسيري الذي يساعد أبناء الكنيسة على فِهم الكتاب المقدس
فِهمًا أرثوذكسيًا.
[32] القديس أثناسيوس الرسولي، المقالة الثالثة ضد الآريوسيين،
ترجمة د. مجدي وهبة ود. نصحي عبد الشهيد، مراجعة د. جوزيف موريس ود. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات
الآبائية، طبعة ثانية منقحة، أبريل 2007م ص54ـ59.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق