الأحد، 4 نوفمبر 2012

حان الوقت لرسالة المصالحة


حان الوقت لرسالة المصالحة


د. جورج عوض

 

مفهوم المصالحة

          إن مصطلح مصالحة في اللغة اليونانية هوκαταλαγη [1] ويتكون من:αλλαγη)  +   (kataأى التغيير التام أو الكامل.

          والتغيير في هذا السياق يعنى التجديد ، خليقة جديدة (2كو17:5)، هذا التجديد كمنهج جديد للوجود يقوم على علاقة جديدة للإنسان مع الله، ومع ذاته، ومع أخيه الإنسان وأيضًا مع كل الخليقة. فالمصالحة هى طريقة الوجود الجديدة التي يمنحها لنا الله، وفي الرسالة إلى تيطس نجد توضيح موجز لمحتوى هذه المصالحة: " لأننا كُنا نحن أيضًا قبلاً أغبياء غير طائعين ضالين مُستعبدين لشهوات ولذات مختلفة عائشين في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف الله وإحسانه خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلّصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية " (تيطس 3:3ـ7).

          أن التجديد يأتى من الله لأن " الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح " (2كو18:5). إذ أن " الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو19:5).

          هكذا فإن " فاعل " المصالحة هو الله و" موضوع " المصالحة هو الإنسان الخاطئ. فالرسول بولس هنا لم يقل أن الله قد صُلح مع الخاطئ أو أن المسيح صالح الله معنا أو أن الله صالح نفسه معنا، لكن قال إن الله قد صالحنا لنفسه، صالح مع نفسه كل العداوة التي للبشرية (2كو18:5 وما بعده). ومن جانبه فإن الله نفسه قد أبطل عداوة الإنسان الخاطئ بالصليب، ووضعه في علاقة صحيحة معه، في حالة " سلام " كما ذُكر في (رو1:5). المصالحة تعنى إبطال العلاقة السلبية مع الله والتي أعاقت وجود الخاطئ أمام الله. فالله لم يتصالح مع الإنسان بل العكس الإنسان تصالح مع الله. المصالحة هى عطية الله ومصدرًا للحياة الجديدة: " إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا. ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة. أى أن الله كان في المسيح مُصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو17:5ـ19). فالإنسان مدعو لأن يرد إيجابيًا على نداء المصالحة: " تصالحوا مع الله " (2كو21:5)، وأن يشترك أيضًا مع الله في بناء ملكوته: " فإننا نحن عاملان مع الله " (1كو9:3، كو11:4، 3يو8)، ويتصرف تجاه العالم كإنسان جديد خلاق ويمارس خدمة المصالحة.

          المصالحة هى عطية الله المُغيرة للإنسان التي تدفعه في مسيرة الحياة الجديدة. في هذه الحياة الجديدة يكون الروح القدس بمثابة قوة وديناميكية هذا التغيير: " ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآه نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح " (2كو18:3). التغيير هنا هو حدث دينامي وليس استاتي، إنه حدث مستمر " تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة " (رو2:12). عندئذٍ نكتشف أن المصالحة الأصيلة تقودنا إلى قبول الآخر: " حيث ليس يونانى ويهودى، ختان وغرلة بربرى وسكثينى عبد حر بل المسيح الكل وفي الكل " (كو11:3) " ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعًا واحد في المسح يسوع " (غلا28:3).

          ولقد لخص الرسول بولس في النشيد الخريستولوجى لرسالته إلى أهل كولوسى (15:1ـ20) الرؤية الصحيحة للكنيسة والعالم في إطار المصالحة قائلاً: " الذي (المسيح) هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شئ وفيه يقوم الكل. وهو رأس الجسد الكنيسة. الذي هو البداءة بكر من الأموات لكى يكون هو متقدمًا في كل شئ. لأنه فيه سُر أن يحل كل الملء. وأن يُصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السموات ".

          الكنيسة هنا تحتضن كل الخليقة، وأوشية السلام في الطقس القبطى تعبر بوضوح عن هذه الحقيقة. يقول الشماس: صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله.

يقول الشعب: يا رب ارحم.

يقول الكاهن: هذه الكائنة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها. ومن هنا نستطيع أن نُعرّف مصطلح المسكونية على أنه ليس مرادف للعالمية universal بل مرادف لمصطلح الكنيسة الجامعة καθολικη

          إن أول مَن وصف الكنيسة " بالكاثوليكية " هو القديس اغناطيوس الانطاكى. والمصطلح يتكون من مقطعين olo + kαqe " كاث، أولو " أى الكل معًا في وحدة، وقد ذكرها اغناطيوس في رسالته إلى " سميرنا ". وهذه الكلمة مستخدمة في الليتورجيات الشرقية كما رأينا في أوشية السلام حسب الطقس القبطى: " صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة (الكاثوليكية) الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله ". والمؤمن الكاثوليكى هو الذي يجتمع مع اخوته في سر الإفخارستيا، سر الوحدة والشركة، لذا يؤكد القديس اغناطيوس في رسالته إلى فيلادلفيا 1:4 على أن اشتراك المؤمنيين في إفخارستيا واحدة " لأنه ليس لربنا سوى جسد واحد، وكأس واحدة توحدنا بدمه، ومذبح واحد، وأسقف واحد مع القساوسة والشمامسة … ". هكذا تتحقق الوحدة في الافخارستيا. هذه الوحدة هى وحدة في العمل والصلاة والفكر لذا ينصحنا القديس اغناطيوس : " لا تحاولوا أن تدعموا بالبرهان ما تنفردون بعمله بل اعملوا عملكم حسب الشركة وهى صلاة واحدة .. فكر واحد .. هذا هو يسوع المسيح " (مغنسيا 1:7). علينا إذن أن نتمسك بالسلوك الذي يؤدى إلى الوحدة لكى تتحقق كاثوليكية الكنيسة. هكذا فالمسكونية أو الكاثوليكية لها محتوى وجودى روحى وليس جغرافى بالنسبة للكنيسة. من أجل هذا نجد في رسائل اغناطيوس التأكيد على الوحدة الروحية للكنيسة والتي تتمثل في وحدة الأسقف والشعب " حيثما يكون الأسقف فهناك يجب أن تكون الجماعة (أى الكنيسة) " (أزمير 2:8) ووجود الأسقف يعنى عدم وجود انقسام ووجود المسيح معناه وجود الوحدة " لازموا الأسقف ملازمة المسيح لأبيه " (أزمير 1:8). أن وحدة الكنيسة الروحية تحفظ العالم من الفساد: "لا تجعلوا شيئًا يفرق بينكم بل اتحدوا بالأسقف والرؤساء كمثال ودرس لعدم الفساد" (مغنسيا 2:6). فالكنيسة الكاثوليكية هى الكنيسة الكائنة في المسكونة (إيرينيوس، ضد الهرطقات 10:1). هنا الكنيسة ليست عالمية بالمعنى الجغرافى ولكن هى "جسد المسيح" لا رأس لها سوى المسيح، إذ أن كاثوليكيتها تأتى من المسيح الذي " يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد " (يو52:11). وهذا ما شرحه اغناطيوس عندما قال: " اجتمعوا في هيكل واحد لله، حول مذبح واحد، في يسوع المسيح الوحيد، الذي خرج من آب واحد، وكان معه واحدًا، وإليه عاد وهو واحد " (مغنسيا2:7).

 



[1]  أيضًا هناك مصطلحات أخرى تحمل نفس المحتوى مثل: " وأن يصالح apokatal£ssein به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه … " (كو20:1)، " فاترك قربانك قُدام المذبح واذهب أولاً اصطلح diall£sseqai مع أخيك " (مت24:5)، " وفي اليوم الثانى ظهر (موسى) لهم وهم يتخاصمون فساقهم إلى المصالحة (sunall£ssein) … " (أع26:7).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق