رسالة المسيح والمجتمعد. جورج عوض ابراهيم
قبل أن نتكلم عن رسالة المسيح لابد أن نعى العصر الذى قارب نعيش فية. ما هى سماته ؟
خصوصاً سمة "العولمة" ذلك المصطلح الذى طغى فى الاونة الأخيرة !!
إن سمة "العولمة" ليست اقتصادية فحسب لكنها فى الواقع تفرض علاقات أكثر تعقيداً فى كل المجالات، فهى تعنى ثورة المعلومات والاتصالات بجانب الثورة العلمية غير المسبوقة والطفرة التقنية ذات الآفاق غير المحدودة وتعاظم الحديث عن حقوق الإنسان بجانب إعلاء قيم الحرية والديموقراطية والسعى إلى أشكال جديدة للعدل الاجتماعى، بالإضافة إلى نمو وتعاظم رأس المال وتحركه من داخل حدود الأوطان قفزاً إلى العولمة، إنها سرعة الحركة التى هى سمة العصر الجديد. أما سلبيات هذا العصر فهى كثيرة: ـ فهو يحمل سمة الإسراف فى الاستهلاك الأمر الذى ينتج عنه إضعاف للاقتصاد والثروة الحقيقية ويعكس انحداراً فى الإحساس بالمسئولية الفردية. كل هذا بسبب سيادة النموذج الرأسمالى والتأكيد على حرية السوق وفتح الحدود أمام تدفق السلع والخدمات والمعلومات فالرأسمالية كنظام اقتصادى يقوم فى الواقع على الفردية والحرية والمنافسة والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا .
لقد علق الإنسان آمالاً كبيرة على العلم والتكنولوجيا ولكن التقدم التكنولوجى والعلمى ليس من شأنه أن يوجد ـ بطريقة آلية ـ ظروفاً أكثر موائمة لسلوك بشرى أفضل، فلم يسبق أن عاشت البشرية قرناً شهد مذابح بالجملة، ومن قسوة فى معاملة الإنسان للإنسان، مما شهده القرن العشرون والأبشع أن المأساة مستمرة وتتفاقم.
التقدم فى مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية وبالذات فى مجال الكمبيوتر قد أتاح للإنسان أن لا يكون أسير موقعه وتاريخه، وبيئته المباشرة فقط وإنما أن تتسع مداركه لتحتوى الكوكب كله دون احتياج للسفر أو للتنقل ولكن رغم أن الثورة الإعلامية أسهمت فى تقريب الناس لكن دون اتصال مباشر، ودون علامات إنسانية عضوية بينها … وبهذا المعنى لا تجعل من تلاحم البشر، وتفاعلهم الحسى المباشر العنصر الأساسى فى هذا التقدم .
على مستوى بلادنا، يمر المجتمع المصرى بمرحلة تحول مهمة خاصة على المستوى الاقتصادى للقفز إلى آفاق القرن الحادى والعشرين، مما يتطلب وبشدة التأكيد على منظومة القيم التى تحكم توجيهه وسلوكه وضبطه نحو الهدف المنشود بدلاً من تصارع الأهداف وتصادم الطموحات لهثاً وراء الثراء وتكديس الثروات بأى وسيلة، الأمر الذى يؤدى إلى تدمير الإطار الاجتماعى من ثوابه ومسخ قيّمه.
إن الأسباب التى أدت لاختلال منظومة القيّم فى المجتمع المصرى هى كثيرة، وابتدأت بتفكك الأسرة والجنوح للعنف والتصادم وصراع الأجيال بانهيار الأسرة الممتدة المتماسكة والتى فيها الأب الكبير هو سر الحب والسيادة والنمو لشجرة العائلة. لقد ظهر بشدة اهتزاز منظومة القيم مع بداية عصر الانفتاح الذى جعل الأغلبية الفقيرة من شعبنا يُصاب بهزة عنيفة إزاء طوفان الدعوة للتغيير والترويج لنمط جديد من قيّم السوق والاستهلاك وأصبحت تواجه الأغلبية قيّم آليات السوق وشراسة قوى رأس المال التى هدفها تحقيق الربح الذى أصبح فوق كل المقدسات والثوابت الاجتماعية. لقد اختلت منظومة القيم لدى الشباب مما سهل على اختراقه من خلال الإدمان والجنس وإدخاله فى صراع محموم لإشباع الاحتياجات الشهوانية وشاعت فى المجتمع ثقافة "القهر" فكل واحد فى موقعه يتحول إلى قاهر لمرءوسيه أو من يملك أمرهم، إنها أخلاقيات القهر التى هى نتاج الخلل فى المنظومة الاجتماعية.
وهكذا ظهرت فئة ثرية جداً فى ظل وجود معدلات تنمية بطيئة مما أحدث استقطاب طبقى وانهيار قيّمى مع توارى الطبقة الوسطى لتفسح مكاناً لطبقات صعدت صعوداً غير طبيعى، ليس من خلال السُلم الاجتماعى المتدرج بل بفضل أخلاقيات القهر والابتزاز لذلك توارت القيّم الاجتماعية والتكافل الاجتماعى وثقافة قبول الآخر واحترام العلم والعمل والإنجاز.
هذا ما يفسر سيطرة وسطوة القيم المادية التى أصبحت تقبض وتدير حركة المجتمع حتى أصبحت شهوة المادة تداهم أى التزام بضوابط معينة من السلوك الخلقى فى الوقت الذى يشهد فيه المجتمع نوعاً من التدين الشكلى فقط الذى لا يمس الجوهر بل المظهر مما أصاب المجتمع بازدواجية أو مرض الفصام الاجتماعى.
المسيح يطلب تغيير جذرى للمجتمع :
إن ملكوت الله كشىء جديد حقيقى، قد بشر به المسيح، يأتى مضاد لكل أشكال الفساد فى المجتمع فهو لا يمكن أن يتكيف مع الروابط الظالمة العتيقة للمجتمع. وهذا ما كان يعنيه المسيح بكلامه للفريسيين : "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق. لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمراً جديدة فى زجاج عتيقة. لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمراً جديدة فى زقاق جديدة فتحفظ جميعاً" (مت16:9ـ17). واضح من كلام المسيح أنه لا يوجد أى تكييف بين ملكوت الله والمجتمع اللاإنسانى. إن مطلب المسيح لتغيير المجتمع نجده واضحاً فى التطويبات : "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون طوباكم أيها الباكون لأنكم ستضحكون، طوباكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيروكم وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. أفرحوا فى ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم فى السماء لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء" (20:6ـ23).
لم يرد المسيح بهذا الكلام أن يقول للفقراء احتملوا فقركم هذا وسأعدكم بسعادة فى الحياة الأخرى. النص هنا يمثل فوران شديد ضد الظلم الموجود فى المجتمع. هذا الكلام موجه لكل الناس المقهورين فى كل عصر، المسيح لا يُطوٌب هؤلاء الذين يملكون ناصية الديانة أو الذين لهم مكانة سياسية، لكن الفقراء والحزانى والجوعى والمظلومين لأنهم يجاهدون لأجل إحقاق العدالة.
لقد كشف المسيح عن زيف معايير هذا العالم وعن زيف الأنظمة غير الإنسانية. وفى نفس الوقت بشر بأن ملكوت الله لم يُعين للذين فى المرتبة الأولى بحسب معايير هذا العالم ولكن للذين هم آخر الكل، للمقهورين. والتطويبات لا تعنى بدون شك أن الفقر والجوع والألم بحد ذاتهم يمثلون تذاكر لملكوت الله. لكن تعبر عن إدانة واستنكار للمعايير التقيمية لهذا العالم فهى تُبشر بإتيان عالم جديد، عالم ملكوت الله الذى يهدف إلى تغيير الإنسان من روابط الخطية والظلم والقهر. ومن الجدير بالذكر أن طلب تغيير المجتمع له بعد أُخروى (اسخاتولوجى) لأن المسيحيون لا يعيشون فقط لأجل الحاضر، لأجل التاريخ فقط ولكن شاخصون للحياة الأبدية، للمستقبليات الاسخاتولوجية حيث تحرر الإنسان وسعادته تكون كاملة. البعد الاسخاتولوجى لا يضعف الاهتمام بالحاضر والتاريخ، لكن العكس يدعو الإنسان أن يجاهد لكى يُغير الحاضر تحت قيادة النور المستقبلى. الأُخروية لا تلغى التاريخ والعالم بل تعمل على تجليهم وتكميلهم. لأجل ذلك فإن نهاية العالم التى تكلم عنها المسيح (مت1:24ـ45 ، مر1:13ـ31 ، لو5:21ـ37) لا تعنى زوال هذا العالم لكن تجليه. المسيح نفسه تكلم عن الميلاد الثانى (مت28:19)، عن الخلق الجديد والرسول بطرس تكلم عن أزمنة رد كل شئ أى رد مجد الخليقة الأولى : "الذى ينبغى أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شئ التى تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" وذلك بإتيان المسيح، بحلول ملكوت الله خاصة بنور البعد الاسخاتولوجى. إن تاريخ سقوط الإنسان ينسحب ويترك مكانه لتاريخ الفداء. فى هذا الإطار فإن ملكوت الله يُعطى للعالم والتاريخ معنى، وكمال ووحدة.
إن دور ملكوت الله فى بعده الاسخاتولوجى هو دور تجديدى، إعادة خلق للواقع التاريخى، "هو ثورة من فوق" تتطلب خلق عالم جديد، عالم ينقاد بنور ملكوت الله ويتجه دائماً للحياة الفضلى والأكثر الإنسانية.
هكذا فإن أخلاق ملكوت الله والتى كرز بها المسيح لا تهدف إلى تثبيت ومساندة الأنظمة الفاسدة والغير إنسانية فى المجتمع، إنها أخلاق التغيير.
والتغيير سمة من سمات مجتمع الألفية الثالثة وتعنى التعديل المستمر نحو بلوغ حياة أفضل على المستوى الشخصى وعلى مستويات المؤسسات والأنظمة لأن جمود الأوضاع لفترات طويلة ضد سرعة الحركة والتطور الأمر الذى يسبب عقم فى الفكر والإبداع والخلق والتى هى سمات خلق الإنسان "على صورة الله ومثاله". على الجانب الآخر فغن التغيير المستمر من أجل التطوير للأفضل يمنع إيجاد الإمبراطوريات وتأليه الأفراد ويزيد الأمل والطموح عند الشباب قبل الكبار.
لذلك فإن "أخلاق التغيير" أو "أخلاق ملكوت الله" تتطلب من المسيحى أن يجاهد ويعمل لكى يواجه المشاكل الاجتماعية حتى يساهم فى بناء عالم أفضل من الآن فصاعداً، أى داخل التاريخ. هذا الجهاد يجب أن يكون مستمر وغير متوقف. لكن علينا أن نأخذ فى الاعتبار أن حالة الكمال التام للعالم الجديد، عالم ملكوت الله لن يتحقق فى الحاضر، لأن هذه الحالة ليست قضية هذا العالم الحاضر ولكن التحقيق يتم فى الحياة الأبدية وهذا نستقيه من البعد الأُخروى (الاسخاتولوجى) لملكوت الله كما ذكرنا سابقاً. إذن الكمال سيتحقق بعد نهاية هذا العالم، فى الأزلية "وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهأ لهم. وسيمسح الله كل دمعة لهم والموت لا يكون فى ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فى ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت. وقال الجالس على العرش ها أنا أضع كل شئ جديداً .." (رؤ3:21ـ5).
هذا التشديد على تحقيق الكمال فى الأبدية لا يسبب إحباط فى مسيرة الجهاد لأجل الأفضل لأن المسيحى يعلم جيداً أن الإمكانيات والقدرات فى هذا الاتجاه هى غير محدودة، وأن الذى يعمل فينا هو روح الرجاء والتفاؤل ومن جهة أخرى هذا التشديد يجعل المسيحى يتجنب أى تطابق لعالم ملكوت الله مع أى نظام اجتماعى أو اقتصادى أو سياسى أو أى تطلع قومى، كما حدث فى زمن المسيح، إذ أن آفاق ملكوت الله كان ضد الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية فى عدم إحقاقهم للعدل بل كان ضد التطلع القومى لليهود أى فكرة "المسيا السياسى".
وعلى هذا الأساس سيظل هناك شد وتوتر بين عالم ملكوت الله (النور) وكل الأنظمة والمؤسسات التى تسعى غلى قهر الإنسان وتحويله إلى "ترس" فى آلة (الظلمة) لتحقيق أغراضها الدنيئة.
مما سبق نجد أن أخلاق التغيير لا تخص الحالة الروحية للإنسان ولكن تشمل كل حياة الإنسان بعلاقاتها المتعددة. وإذا كان القرن الحادى والعشرين يحتاج إلى إنسان من نوع جديد فإن أخلاق ملكوت الله تستطيع أن تخلق هذا الإنسان القادر على مواجهة التغييرات والتعامل مع المجهول، إنسان متعدد المهارات والخبرات قادر على التعليم الدائم، يقبل إعادة التدريب والتأهيل عدة مرات فى حياته حتى يمكنه التنقل من عمل إلى آخر. فإنسان ملكوت الله لديه إحساس بالزمن والتحولات التى تجرى بسرعة هائلة من حوله ليمكنه مسايراتها حتى لا تعدو بالنسبة له صدمة. إن أخلاق التغيير أيضاً تمس تغير المجتمع وذلك بالتربية لإعداد هذا الإنسان الجديد، التربية التى تصقل العقل وتنمى القدرات على النقد والإبداع والابتكار، وعلى الفهم والتحليل، بالتربية التى تحرر الذهن من الخرافة وعتاقة التقاليد، وتؤصل القيم وشمولها وتكاملها، بالتربية التى لا تجد صراع بين الإيمان والعلم بل ترى أنه من الإيمان أن نشجع العلم الذى يرفع الإنسان ويرقى بالمجتمع، بالتربية التى تقوم على التعاون مع الآخرين وليس الذوبان فيهم، بالتربية التى تقوم على الاختلاف بدلاً من التسليم بالأفكار والمعلومات السائدة.
المحبة هى الطريق المؤدى لعالم ملكوت الله وأساس ثان للسلوك الأخلاقى:
لو أن ملكوت الله ـ كما رأينا ـ هو القمة التى يدعونا إليها المسيح فإن المحبة هى الطريق المؤدى إلى لاحتلال هذه القمة. إنها الوصية العظمى للناموس بحسب رأى المسيح فى رده على أحد الناموسيين فى سؤاله عن ما هى الوصية العظمى للناموس؟ "فقال له يسوع تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت37:22ـ40). المسيح نفسه قد لخص فى العظة على الجبل الناموس والأنبياء فى "القانون الذهبى" المعروف للسلوك الإنسانى : "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت12:7).
هذا القانون فى شكله الإيجابى يرفع من شأن الإنسان الآخر وهو عند المسيح كتعبير محدد للمحبة نحو القريب وهذا يعنى أن وصية المحبة بهذه الثنائية (الله والقريب) تظل هى القانون السامى للحياة الأخلاقية للإنسان فى تعاليمه. لقد أخبرنا القديس يوحنا الإنجيلى أن المسيح قبل آلامه اعتبر وصية المحبة ليست فقط وصية جديدة بل ملمح أساسى للمسيحى : "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى إن كان لكم حب بعضنا لبعض" (يو34:13ـ35). كذلك القديس بولس يعتبر المحبة كتكميل للناموس : "لا تكونوا مديونين لأحد بشىء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وإن كانت وصية أخرى هى مجموعة فى هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك، المحبة لا تصنع شراً للقريب. فالمحبة هى تكميل للناموس" (رو8:13ـ10). وهكذا فإن الوصية الثنائية للمحبة تعتبر جوهر الإنجيل أنها الإسهام العظيم للمسيح فى المجال السلوكى الأخلاقى، أنها التعبير الكامل عن الفداء والتحرر فى المسيحية، أنها كل المسيحية.
مما لا شك فيه أن وصية المحبة نجدها فى العهد القديم، محبة نحو الله: "اسمع يا إسرائيل البر إلهنا رب واحد فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك" (تث5:6)، ومحبة نحو القريب : "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك أنا الرب" (لاويين18:19).
أيضاً نجد وصية المحبة عند فيلون اليهودى والرواقيين ونفس الشيء فى القانون الذهبى (فى شكله السلبى) معروف لدى الحضارة اليونانية والرومانية وقد تبنته اليهودية فى شكله السلبى.
لكن هنا سؤال يفرض نفسه ما هو الجديد الذى أضافه المسيح لوصية المحبة؟
المسيح لم يتبنى القانون الذهبى بملمحه السلبى، على العكس، يمثل "القانون الذهبى" الجوهرة الثمينة للضمير البشرى، والجديد هو صياغته وشكله الإيجابى "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت12:7). واضح أن هناك فرق كبير بين "لا تفعل لأخيك ما لا تريده أنت لنفسك" وبين "تصرف هكذا مع اخوتك كما تريد أنت منهم أن يتصرفوا تجاهك".
الصياغة السلبية تُعبر عن سلوك أخلاقى سلبى، أخلاق دفاعية تحاول أن تهرب من الشر. إنها أخلاق يُسيطر عليها خوف الخطية وتجاهد لكى تهرب. بالعكس الصياغة الإيجابية "للقانون الذهبى" يؤسس سلوك أخلاقى لا يكتفى بالهروب من الشر والخطية ولكن سلوك جرئ ينقاد بنور الصلاح إذ يجاهد من أجل تحقيقه.
الصياغة الأولى :ـ تعبر عن سلوك سلبىPaqhtik»
بينما الثانية عن سلوك فعال™nerghtik» هذه الصياغة الإيجابية للقانون الذهبى لم تكن بالصدفة بل هى مضادة لناموس موسى الذى يغلب عليه الشكل السلبى: "لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك ولا عبد ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك (خر13:20ـ17).
إن المسيح لم يكتفى إطلاقاً بالهروب من الشر بل الأخلاق الإيجابية هى ذات قيمة عليا عنده فهو يطالب بأخلاق عملية إيجابية وقد عبر عنها بوضوح فى الموعظة على الجبل. أنها وصية جديدة تماماً فى هذا الإطار مما يجعلنا نتكلم عن عنصرين هامين هما : ـ
+ المكانة المركزية (المحورية) لوصية المحبة فى السلوك الأخلاقى عند المسيح:ـ
عند المسيح ـ كما رأينا ـ نجد أن وصية المحبة تمثل تلخيص للناموس وهى المحور الأساسى للسلوك الأخلاقى أنظر (مت37:22ـ40) هذا الاختزال والإيجاز فى وصية واحدة غير مفهوم لدى الفريسيين الذين كان يوجد عندهم كم هائل من الوصايا تنظم حياة الإسرائيلى . وهكذا فإن وصية المحبة ليست مبدأ أخلاقى أو فضيلة أخلاقية وسط فضائل أخرى ولكن تمثل معيار أساسى لكل الفضائل والمبادئ والنواميس وكل قوانين السلوك الإنسانى إذ تضفى عليهم معنى.
+ شمولية وصية المحبة : ـ
إن هؤلاء الذين سمعوا المسيح يكرز بالمحبة نحو القريب قد أدركوا كيف أن القريب له معنى أشمل وأعم عن ما كان ينادى به الإسرائيليون، القريب هو الإنسان الذى من جنسهم ومن دينهم. فإن أى إنسان غير يهودى لا يمكن أن يُعتبر إنسان يستحق المحبة ولكن المسيح أعطى مفهوم جميل جداً للقريب. لقد سأله أحد الناموسيين عن من هو قريبى فأجابه بطريقة غير مباشرة وطرح مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37).
هل أراد أن يشدد على التزام وواجب أن نساعد ونقف بجانب الإنسان المتألم، والمحتاج؟ الإجابة ليس هذا فقط بل أراد المسيح أن يجيب على سؤال الناموسى عن من هو قريبى؟ أى أراد أن يوضح محتوى مفهوم "القريب" قائلاً للناموسى "اذهب وافعل أنت نفس الشىء" افعل ما فعله السامرى الصالح، عندما وجد أمامه إنسان متألم فقرر أن يساعده بدون أن يفحص قوميته أو ديانته، هكذا لابد أن يفعل مثلما فعل السامرى الصالح: أن يساعد دون أن يفحص هوية المحتاج أى لا تفحص أى قومية ينتمى إليها أو أى مذهب دينى يُعتنق فطالما هو إنسان فهو قريبك، هو أخيك بغض النظر عن القومية التى ينتمى إليها ولا الديانة التى يتبعها ولا اللغة التى يتكلمها ولا حتى اللون الذى لجلده ولا حتى الطبقة الاجتماعية التى هو منها.
هذا المفهوم يمثل صدمة للفكر اليهودى وقتذاك لأنه يختلف اختلاف جذرى عن ما نادى به اليهود فى زمانه، فالإسرائيليين كانوا يعتبرون الأمم الغير يهودية نجسون والمكان الذى يعيشون فيه أيضاً نجس، وعلى ذلك فأى اتصال معهم كان مرفوض تماماً (عاموس13:7 ، هوشع3:2). هكذا كان القريب لدى الإسرائيلى هو فقط من يتفق معه فى الجنس والدين (لاويين18:19)، أيضاً كان هناك هوة فاصلة وكراهية قومية ودينية شديدة تفصل بين اليهودية والسامريين. لقد اختلط السامريون بالأجانب (الأمم) خاصة عندما جلب الآشوريون هؤلاء الأمم ليعيشوا معهم، بينما الإسرائيليون رفضوا بشدة أى اتصال معهم لأنهم فى نظرهم نجسون والمسافة الفاصلة بين السامريين واليهود قد زادت وصارت أكبر عندما أسس السامريون حوالى سنة 320 ق.م. هيكل خاص بهم على جبل "جرزيم" واستمرت هذه الهوة الفاصلة حتى زمن المسيح.
هذا ما يفسر ما قالته السامرية للسيد المسيح : "كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية لأن اليهود لا يعاملون السامريين"(يو9:4).
لذلك عن قصد سرد المسيح مثل السامرى الصالح وعن قصد ووعى أيضاً ذكر الكاهن واللاوى لكى يُعلم أن (القريب) عند الإنسان هو أى إنسان فمع مسكونية الحب نحو القريب تصير كل القيود الطبيعية للإنسان مع أسرته وشعبه نسبية وهكذا قد نزع المسيح عنصر القومية والدين من محتوى مفهوم القريب، فعند المسيح قريبنا هو كل إنسان فقط من المنظور الحقيقى الواقعى أنه إنسان. لقد أشاع المسيح ثقافة "قبول الآخر" التى تتجاوز الهوية الدينية والقومية والوضع الاجتماعى الطبقى ونوع الجنس ذكراً أم أنثى وملامح الوجه أو القوام الجسمانى ...... الخ.
إن "قبول الآخر" هو أساس قواعد التمدن والحضارة ودعوة المسيح للمحبة والتسامح الثقافى إزاء من يختلفون ديناً وثقافة وسلوكاً هى الاحتياج الملح على مستوى الوطن الواحد وعلى المستوى الدولى. فالإرهاب ومشاكل التعصب الدينى والعرقى هى آفات القرن العشرين الذى هو على وشك الانتهاء والكارثة أن تستمر فى مجتمع الألفية الثالثة. فكما أن الحرب العالمية الأولى فى التاريخ المعاصر هى أكثر الحروب بربرية والحرب العالمية الثانية هى أول حرب تستخدم فيها القنبلة الذرية لإبادة البشر بغير تمييز، فإن العقد الأخير من القرن العشرين سيذكر باعتباره الشاهد على همجيته حيث حدثت أخطر حالات الاعتداء على حق الإنسان فى الحياة!! هذا الاعتداء أخذ أشكال متعددة منها ازدواجية المعايير فى تطبيق معايير حقوق الإنسان فى الممارسة الدولية المنحرفة، بروز النزعات القومية المتطرفة وظهور دعوات متعددة للانفصال خاصة مع سقوط الاتحاد السوفييتى، أيضاً ظاهرة التطهير العرقى التى تستند على مبررات تاريخية وسياسية لابسة ثوب النازية من جديد وخطورة التطهير العرقى فى أن يقف الإنسان ضد أخيه الإنسان الذى كانت تضمنها من قبل دولة واحدة وذلك لأنه يختلف معه فى السلالة أو الدين إنها ثقافة إبادة الآخر بدلاً من "قبول الآخر" أو ثقافة "التسامح" أو "المحبة" التى نادى بها المسيح فى تعاليمه.
إن "ثقافة المحبة والتسامح" التى نادى بها المسيح لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس ذكراً أم أنثى أو اللون أبيض أو أسود أو القوام الجسمانى سليم أم معاق ولكن تتطلب المحبة نحو العدو، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصة فى الموعظة على الجبل : "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم .. باركوا لاعنيكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لكى تكونوا أبناء الذى فى السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأى أجر لكم. أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وإن سلمتم على اخوتكم فقط فأى فضل تصنعون. أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت43:5ـ48).
المسيح هنا يطلب شئ أكثر من الذى فعله السامرى الصالح، لأنه ذاك انتصر على تعصبات القومية والدين وعلى الخلفية المتراكمة التى كانت تفصل بين السامريين واليهود وساعد إنسان كان يعانى من الألم. هذا الإنسان الجريح لم يكن عدو شخصى له. ولكن المسيح يطلب المحبة نحو العدو! المحبة نحو العدو الشخصى والقومى والعدو الدينى، والمحبة نحو العدو الذى يكرهنا ويطردنا. لقد أراد المسيح أن يحذرنا من خطوة تقسيم الناس إلى أصدقاء وأعداء بل نحب الكل دون استثناء مثلما يشرق على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. إنها أخلاق "الكمال" فلابد أن نسعى للكمال كما أن أبانا السماوى هو كامل. إذن المعيار هو الله نفسه فى محبته للكل.
تطابق المحبة نحو الله بالمحبة نحو القريب:
هذه المحبة نحو الله تطابق مع المحبة نحو القريب (الأخ فى الإنسانية) خاصة المتألم والمقهور والمظلوم هذا التطابق يصبغ كل تعاليم المسيح جداً فى إصحاح 25 لمتى حيث المسيح يمدح بشدة هؤلاء الذين ساعدوا ووقفوا بجانب اخوتهم المتألمين والمقهورين "بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم" (مت40:25). بينما هؤلاء الذين لم يقفوا بجانب اخوتهم فى الإنسانية يكلمهم بلغة قاسية قائلاً: "الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوا بأحد هؤلاء الأصاغر فبى لم تفعلوا" (مت45:25). وهكذا فى إصحاح الدينونة متى25 تتطابق المحبة نحو الله مع المحبة نحو الأخ فى الإنسانية، خاصة المتألم لدرجة أنه لا يمكن أن تفهم الواحدة بدون الأخرى والذى يدعو للدهشة والإعجاب أن محبة الأخ (الآخر) هو تعبير محدد للمحبة نحو الله. وهذا يعنى أن برهان محبة أحد لله هى فقط محبته للآخر "لأنه من لا يحب أخاه الذى أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذى لم يبصره" (يو20:4) وهذا يعنى أن كل إدعاء محبة نحو الله لا يكون دائماً محبة نحو القريب "الآخر" والعكس صحيح المحبة للآخر عندما تتحقق بدرجة عظيمة من الشفافية هو بحسب الضرورة محبة نحو الله.
التشديد على قيمة الإنسان تصل هنا، بدون شك إلى قمة ذروتها، وهذا واضح فى كل تعاليم المسيح وأعماله. هذا التشديد على الإنسان لا يعنى رفض لله بل على العكس، نُعظم الله عندما نعظم الإنسان وننكر الله عندما ننكر الإنسان. الله الذى كرز به المسيح هو غريب تماماً عن الفكر اليهودى عن الله، فهو ليس فقط كلى القدرة، مُرهب، ومخيف ويعاقب بل الله عند يسوع هو أبونا (مر36:14). الحنون الذى هو رفيق رحلة الإنسان ويشاركه الألم وكل متاعب الحياة (راجع مت31:25، لو4:15ـ7،32:11 على سبيل المثال).
إله يسوع المسيح لا يُقدم محبة فقط بل هو نفسه المحبة: "ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة. بهذا أظهرت محبة الله فينا، أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكى نحيا به. فهذه هى المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطيانا" (1يو8:4ـ10). إله يسوع يُعلن بأكثر من ذلك فى شخص يسوع (انظر مر5:2ـ10 ،مت27:11 ،يو30:10 ،45:12). لقد أعلن الله نفسه فى حياة المسيح، نشاطه، آلامه، وموته إذ يظهرون أن إله يسوع المسيح هو إله لأجل الإنسان مثلما وُجد المسيح كإنسان لأجل الإنسان. أنه الإله الذى يتضامن مع الإنسان وخاصة الإنسان المقهور، والمريض، والشيخ، والغير قادر على العمل، والمجرم البائس والرؤساء وكل من هم فى منصب، وفى نفس الوقت، هو ضد الظلم والاستغلال والفقر والوضاعة وكل أشكال القهر.
إذا كان العصر الراهن بما يحتويه من تقدم (تكنولوجى) قد أعطى العقل قيمته العالية، وأن العقل الذى يخطط للمنفعة الشخصية، وما يحقق المصلحة الفردية هو غاية الإنسان القصوى فإن روح العصر المادية لا ينبغى أن تطمس فى الإنسان جوهره الأصيل المتمثل فى كيانه البشرى وقيمته الحقيقية تلك التى تتجسد ثقافة "المحبة" والتى تنادى باحترام الآخر وذلك من خلال العطاء الخير المخلص الذى يتبادله على مسرح الحياة مع أخيه فى الإنسانية بروح المحبة والخدمة والتعاون. علينا أن نعترف أن سلوك الحياة الجديدة لابد أن تتطلب اعترافاً من العقل رغم قدراته على البحث والتفكير والإبداع بالاحتياج إلى النور الإلهى والكشف المستمر من الله حتى لا ينحرف الإنسان ويضل الطريق اعتماداً على عقله وعلى ذاته (أنانيته)، بل يجد ضالته فى الحُب، فى العطاء بلا مقابل حتى يزدهر الآخر ويبقى سعيداً.
الفعل (العمل) هو معيار المحبة عند المسيح
إن المحبة التى نادى بها المسيح لا تُفهم إلا بارتباطها الشديد بالعمل أو بتفعيلها، فالمسيح لا يُعلم ولا يكرز بمحبة عاطفية ولكن بالمحبة العاملة، لذلك يشدد على ذلك فى الموعظة على الجبل : "ليس كل من يقول لى يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل الذى يفعل إرادة أبى الذى فى السموات.كثيرون يقولون فى ذلك اليوم يارب يا رب ألي باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرخ لهم أنى لم أعرفكم قط فاذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. فكل من يسمع أقوالى هذه ويعمل بها أشبه برجل عاقل بنى بيته على الصخر ..... وكل من يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الرمل ..." (مت21:7ـ27).
واضح من هذا النص أن المسيح يُعطى أولوية ليس لاعتراف الإيمان النظرى المستقيم لكن للعمل والفعل وإتيان الثمار . ذلك الذى له أهمية حاسمة هو ليس قبول حقائق إيمانية نظرية لكن بالمحبة العاملة. المسيح لا يطلب فقط تغيير داخلى لكن ترجمة هذا التغيير إلى عمل وفعل. وهذا يظهر جلياً فى مثل التينة غير المثمرة : "كانت لواحد شجرة تين مغروسة فى كرمه. فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام هوذا ثلاث سنين آتى أطلب ثمراً فى هذه التينة ولم أجد. اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً. فأجاب وقال له يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها وأضع ذبلاً. فإن صنعت ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها". (لو6:13ـ9).
لقد كرز أيضاً يعقوب أخو الرب بالضرورة المطلقة للعمل: "ولكن كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم" (يع22:1).
الإيمان وحده لا يكفى "لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضاً بدون أعمال ميت" (يع26:2). الرسول يعقوب لا يشكك فى قيمة الإيمان، لكنه يرفض الفكر الذى يكتفى فقط بالإيمان، كذلك الفكر الذى ينادى بأنه يستطيع أحد أن ينتظر كل شئ من النعمة الإلهية.
لا يوجد مجال للشك فى أن المسيح أعطى أفضلية أو أولوية مباشرة للعمل، لكن أى عمل يطلب؟ المسيح يطلب العمل الذى تسمح به الوصية الجديدة التى هى المحبة، وهذه الوصية ليست موقف عاطفى عام وحسب، بل محبة عاملة محددة، لشخص محدد، وهذا يعنى المساندة والوقوف بجانبه فى احتياجاته ومشاكله التى يواجهها "هنا والآن" (راجع رو9:12ـ21).
"لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً" (فيلبى4:2).
هذا ما فعله المسيح إذ صار إنسان لأجل الإنسان، وواضح جداً فى مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37) والإصحاح ال25 لإنجيل متى.
علينا أن نتشبه بالسامرى الصالح الذى فعل كل ما عنده لكى يداوى جراحات إنسان وينقذه، على العكس، أدان المثل السلوك القاسى للكهنة واللاويين الذين رأوا كم كان الإنسان جريح بين حى وميت ولكن عبروا عليه دون أن يفعلوا شيئاً. لقد أراد المسيح بهذا المثل أن يعلمنا بأن المحبة نحو أخينا فى الإنسانية تعنى الدفاع والوقوف بجانبه حتى يستطيع أن يواجه مشاكله التى تؤرقه.
أيضاً إصحاح متى25 خصوصاً المقطع الذى يتكلم عن "الدينونة العتيدة" (مت31:25ـ46) فى هذا المقطع نجد أن المعيار الذى سوف يدين به المسيح الإنسان هو موقفه إزاء مشاكل واحتياجات الأخ فى الإنسانية ، فالمحبة نحو الله والقريب تعنى صراعاً لا يهدأ حتى يتخلص الأخ فى الإنسانية من سياط الحرمان والضعف، من المرض، من الأمية، ومن كل أشكال القهر. المحبة تعنى عند المسيح صراع حتى تزال المعطلات فى طريق سعادة الإنسان.
وهنا سؤال يفرض نفسه: هل هذه المحبة العملية التى يطلبها المسيح، يجب أن تمارس على مستوى الفرد أم المجتمع؟
إن الوصية الجديدة للمحبة تتطلب ليس فقط إنسان جديد بل ومجتمع جديد، فأخلاق المحبة وثقافة "قبول الآخر" و "ثقافة التسامح" التى علمها المسيح لها نتائج اجتماعية شاملة تطلب من الإنسان أن يغير الروابط الاجتماعية ويؤسس عالم يسوده العدل، عالم أكثر إنسانية. ومن جهة أخرى، فإن المحبة لا يمكن أن تتصالح مع عادات وروابط وبرامج اجتماعية تعتبر الإنسان شئ أو أداة لكى ترضى أهدافها أو أيدلوجياتها أو محبة المجد الباطل، لقد قاوم المسيح بشدة الظلم "تباعدوا عنى يا جميع فاعلى الظلم" (لو27:13)، وطالب بعالم جديد خالى من أناس مقهورين. لذلك لم يُعطى المسيح لتلاميذه بنود تعليمية ولكن أن يكرزوا بملكوت الله وهذا له أهمية خاصة، أن يحرروا الناس من كل أشكال الضعف والمرض والقهر : "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات اشفوا مرضى. طهروا برصاً. أقيموا موتى. اخرجوا شياطين. مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا". (مت7:10ـ8).
الملامح الاجتماعية لتعاليم المسيح
رغم أن تعاليم لها صبغة شخصية تدعو الإنسان الفرد بأن يعى ويدرك مسئوليته تجاه "الله" إلا أنها لا تتجاهل الحياة الاجتماعية ومشاكلها. فكما اهتم المسيح بخلاص النفس الإنسانية، اهتم أيضاً بالجسد الإنسانى، وكما اهتم بخلاص الفرد، اهتم أيضاً بالمشاكل الاجتماعية.
وفى الحقيقة أن المسيح لم يكن مدركًا فقط لمشاكل عصره الاجتماعية لكنه أيضًا أخذ موقفاً واضحاً تجاهها. فالمسيح لم ينشغل بتفسير وجود الشر بل جاهد وصارع ضد قوات الشر، فكان نشاطه فدائى تحررى، جهاد ضد الاحتياج والضياع الإنسانى.
أن تعاليم المسيح عن ملكوت الله وأيضاً عن وصية المحبة بلا حدود نحو الله والقريب ـ كما رأينا ـ لها نتائج اجتماعية عظيمة ولا يوجد فصل بين الجانب الفردى والاجتماعى للسلوك الأخلاقى.
فإن بناء ملكوت الله ومحبة الله والقريب لا يتطلبان فقط تجديد للإنسان ولكن تجديد المجتمع أيضاً. المشكلة الاجتماعية الواضحة والتى كانت فى زمن المسيح هى الطبقية، فالناس انقسموا إلى قسمين: الأول: المستغِلين. والثانى : المستغَلين ـ أو إلى أغنياء وفقراء فاليهود فى القرن الأول كانوا مضغوطين ومقهورين من الاستغلال الوحشى لهم من الرومان، ومن جهة أخرى من عائلات الرؤساء الدينيين الذين اغلبهم كانوا يتعاونون مع المحتلين الرومان.
(أ) المسيح ـ بلا تحفظ ـ كان بجانب الفقراء
إن اهتمام المسيح الكبير للفقراء قد عبر عنه منذ بداية نشاطه العلنى فقد تكلم فى الناصرة كاشفاً مكرراً كلمة نبوة إشعياء (ص61) مبرهناً أن رسالته هى رسالة تحررية للفقراء والمتألمين. "روح الرب على لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية" (لو18:4).
نفس الكلام قد قاله تقريباً لتلاميذ يوحنا المعمدان عندما سألوه عن هل هو المسيا؟ "اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمى يبصرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (مت4:11ـ5).
لقد التفت المسيح ووضع كل اهتمامه وحنانه نحو الإنسان المتألم. لقد ركز متى الإنجيلى على نشاط المسيح المحب للبشر فى منطقة الجليل " وكان يسوع يطوف فى كل الجليل يعلم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب فذاع خبره فى جميع سورية فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين شفاهم" (مت23:3ـ24).
هنا نجد علاقة متينة بين ملكوت الله ومعجزات المسيح التى أتمها، أى أن معجزات المسيح تمثل برهان على أن عصر الفداء (التحرر) قد بدأ فعلاً. وهذا يعنى دخول المستقبل الاسخاتولوجى فى الحاضر. إن المعجزات وخصوصاً التى تخض إشباع الجياع وشفاء المرضى يظهرون مدى اهتمام المسيح ليس فقط بالنفس ولكن بجسد الإنسان كوحدة واحدة جسد ونفس.
إن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين نجده أيضاً واضحاً فى التطويبات "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو20:6ـ21).
لكن المسيح لا يكتفى بمساندة الفقراء والمجربين فى هذه الحياة بل هو يطابق نفسه بهم، وهذا يظهر بوضوح فى إصحاح 25 من إنجيل متى "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأنى جعت فأطعمتمونى عطشت فسيقيتمونى كنت غريباً فآويتمونى .. يا رب متى رأيناك جائعاً .. ومتى رأيناك غريباً .. الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم.." (مت23:25ـ45).
هنا يطابق المسيح نفسه بالفقراء، بالإنسان المهمش، بالأصغر، بالضعيف، لقد رفع من شأن المرأة وأظهر حباً عظيماً نحو الأطفال، على عكس المجتمع الرومانى واليهودى الذى همش الأطفال لقد أخذ المسيح موقف إيجابى مؤثر تجاههم (انظر مر36:9ـ37 ، 13:10ـ16 ، مت3:18 ،19 ، لو15:18ـ17).
لقد برر المسيح هؤلاء الذين أظهروا اهتمام عملى بالفقراء والمهمشين، بينما استنكر وأدان هؤلاء الذين لا يبالون بهم حتى لو كانوا كهنة ولاويين وذلك فى مثل السامرى الصالح فالمعيار الذى سوف يدانون به البشر هو موقفهم تجاه الفقير والمتألم وهكذا الذى استضافه: "وقال أيضاً للذى دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أخوتك ولا أقربائك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع والعرج والعمى" (لو12:14ـ13).
نفس الشىء والمعنى توبيخ المسيح للشاب الغنى "يعوزك شئ واحد. اذهب بع كل ما لك وأعط للفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعالى اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10) أيضاً فى مثل الغنى ولعازر يعبر عن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين بطريقة واضحة (لو19:16ـ26). لقد كشف المثل عن الهوة الكبيرة بين الغنى والفقير بين الحياة المتلذذة فى القصور وبين الحالة المحزنة الدرامية التى كانت للعازر. ونستطيع أن نقول بلغة اليوم للشمال الغنى والجنوب الفقير لقد عبر المثل عن الظلم الاجتماعى والذى يهدد دائماً الحياة الإنسانية.
والصورة التى وصفها المسيح عن التغير الجذرى الذى حدث بعد الموت لكل من لعازر والغنى، لعازر يعيش حياة سعيدة والغنى يكتوى من النار بطريقة يصعب التعبير عنها، تعبر عن موقف المسيح الاستنكارى للظلم الاجتماعى منحازاً إلى جانب الفقراء. مرة أخرى يشدد المثل على أن المعيار الذى يدين به الله الإنسان هو موقفه تجاه المتألمين فى هذه الحياة.
(ب) المسيح والأغنياء :
لقد أدان المسيح الغنى وهذا ظاهر من التطويبات "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء. لأنكم قد نلتم عزائكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون (لو24:6ـ25) ثم بعد ذلك يشدد المسيح على أنه من الصعب على الأغنياء أن يدخلوا ملكوت الله " ما أعسر دخول المتكلين على الأموال ملكوت الله". "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (مر24:1ـ25). إن موقف المسيح السلبى ضد الأغنياء لا يعنى أن هناك خلفية طبقية أى هناك تحامل عليهم، لكن لدى المسيح يتساوى الغنى والفقير فقد قال عن زكا العشار "وهذا أيضاً ابن إبراهيم" (لو9:19). إن موقفه المضاد مرجعه العدالة الاجتماعية "ابعدوا عنى يا فاعلى الظلم" (لو9:19).
إن عظة المسيح فى الأساس هى عظة ملكوت الله إنها رسالة تحرر وفداء، لذلك يُعطى أولوية مباشرة للمشاكل الوجودية للإنسان ومعنى الحياة الإنسانية. لدى المسيح معنى حياة الإنسان وسعادته ليست فى وفرة الخيرات المادية بل فى سلوكيات الكمال : "كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت4:4). لأن معنى الحياة المسيحية لا يوجد فى أن أتملك بل فى أن أكون ، لذلك المسيح يحذرنا قائلاً : "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء حيث لا يُفسِد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" (مت19:6ـ21). هذا لا يعنى أن المسيح يدعو الإنسان ليتوقف أن يعمل لكى يحصل على ضروريات الحياة. ولا مفهوم الكلام يعوق التقدم العلمى والتكنولوجى والنمو الاقتصادى ولا حتى رفاهية الإنسان. لكن المسيح أراد أن يشدد على أن مهمة الإنسان الأساسية ليست فى أن يكنز الماديات ولكن أن يدرك جيداً ما يتطلبه أصلاً (انحداره) الإلهى ومكانته وما عينه الله له. عندئذ يستطيع أن يُنظم علاقته بكل شئ بناء على ذلك، بحيث لا يُستعبد لشئ من هذه الأشياء المادية.
إن استعباد الإنسان لما يملكه له نتائج خطيرة، إذ يقود إلى الفشل الذريع كذلك يدين المسيح الطمع "انظروا وتحفظوا من الطمع، فأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12) ومثل الغنى الغبى يكشف عن مدى عدم جدوى عبادة الممتلكات فى الحياة" (لو17:12ـ21).
إن معنى ومفهوم المثل يلخصه المسيح فى عدد 21: "هكذا الذى يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله". لأن أى إنسان يضع هدفه الأسمى فى اكتناز الأموال والممتلكات سوف تأتى لحظة الموت وسيرحل عن كل هذا الذى اكتنزه. يركز المثل أيضاً أخلاق "الفقر" أمام الله، استعباد الإنسان للطمع والبحث عن معنى حياته فى الغنى يقود إلى هوة من الإفلاس الأخلاقى والوجودى.
لأجل ذلك لم يطلب المسيح من الإنسان فقط أن يرفض الاستعباد للماديات لكن يطلب شئ أفضل هو أن يتخلص الإنسان من القلق والصراع لأجل احتياجاته المادية محذراً "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون". الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. تأملوا الغربان.. تأملوا الزنابق كيف تنمو .. فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا. فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا أولاً ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم" (لو23:12ـ31).
هنا المسيح يطلب من الإنسان أن يتخلص من القلق والاهتمام الزائد لتدبير احتياجات الحياة. الإنسان الذى يؤمن بالله لا يستسلم لقلق الحياة، على العكس، هناك حيث يُسيطر القلق والصراع والانزعاج المبالغ فيه للغد يغيب الإيمان والثقة فى الله، فالصراع والقلق والانزعاج كلها تتمشى مع الغير مؤمنين.
سيكون خطأ كبير أن يتصور أحد أن المسيح بهذا الكلام يريد من الإنسان أن يواجه احتياجاته المادية باللامبالاة أو بالقدرية أو بكافة التواكل.
على العكس، المسيح يطلب من الإنسان أن يعمل انطلاقا من إيمانه بالله ومن إيمانه بتحقيق ملكوت الله كإطار أساسى لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما قصده المسيح عندما قال : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وكل هذا يزاد لكم" (لو15:12). وهكذا الإيمان بالله الذى يهدف قبل كل شئ إلى تحقيق ملكوت الله هو الشرط الوحيد لأى حلول عملية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وبسبب هذه الأهمية الجوهرية لاتجاه الإنسان فى الحياة، أما نحو الخيرات المادية أو نحو الله، فقد دعانا المسيح أن نختار بين المال أو الله وقال بالتحديد : "لا يقدر خادم أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (لو13:16) كلمة المال هنا (mamwn£j) وهى آرامية وتعنى (مال، ممتلكات، غنى)، لذا يمكن أن تكون (kef£laio) رأس مال. الإنسان مطالب أن يأخذ قرار حاسم أن يختار اختيار نهائى بين الله والمال، إما أن ينتمى لله أو ينتمى للمال، أن يخدم الاثنين هذا مستحيل.
من كل ما سبق نجد أن المسيح ضد الأغنياء والرأسمالية عامة لسببين هما: ـ
الأول :ـ الرأسمالية هى مع تقسيم الناس إلى طبقتين متضادتين، طبقة القليلين الأغنياء وطبقة الفقراء "اللعازريين" المساكين، وهم الأغلبية يُستغلون استغلالاً رهيبًا من الطبقة الأولى.
الثانى :ـ لأن روح الطمع تُغير اتجاه الإنسان نحو هدفه الأساسى أى أخلاق الكمال، وتقوده إلى إفلاس أخلاقى ووجودى. والشاهد على ذلك قيام الأغنياء من رجال الأعمال بممارسات غير مشروعة من أمثلتها الاستيلاء على قروض دون ضمانات من البنوك والهروب بها للخارج بالإضافة إلى حالات التهرب من دفع الرسوم الجمركية والضريبية، فضلاً عن السلوك الاحتكارى لبعض السلع الاستراتيجية وغيرها من سلوكيات الإفلاس الأخلاقى والوجودى.
وهنا سؤال يفرض نفسه : هل كان المسيح ضد التملك؟
إن الأناجيل الإزائية لا تعطينا موقفًا واضحًا للمسيح إزاء التملك، فهناك مواقف كان ضد التملك وأخرى لم يكن فيها ضد التملك.
فقد قال المسيح : "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" (مت20:8).ويطلب المسيح من تلاميذه أن يظلوا كما هو : "وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً، ولا نحاساً فى المنطقة" (مر8:6) ونفس الشئ طلبه من السبعين رسولاً : "لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية ...." (لو4:10) ومن الغنى الشاب الذى سأله كيف يصير كاملاً : طلب منه المسيح أن يوزع ماله على الفقراء. "اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10). من هذه الأقوال نستنتج أن المسيح كان ضد اكتناز الأموال والممتلكات، لكن يوجد حالات ظهر فيها المسيح غير ذلك. فالمسيح لم يطالب زكا العشار بما طلبه من الشاب الغنى. لقد أظهر المسيح سعادته ورضاه لأجل عودة العشار الغنى ولكن لم يطلب منه أن يبيع كل ما له ويعطى الفقراء : "فوقف زكا زقال للرب ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف. فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو8:19ـ10).
أيضاً لقد تبع المسيح أناس كانوا يساعدونه من أموالهم : "وعلى اثر ذلك كان يسير فى مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الإثنا عشر وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض. مريم التى تدعى المجدلية التى خرج منها سبعة شياطين، ويونا امرأة خورى وكيل هيرودس وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن" (مت1:8ـ3 أيضاً انظر مر40:15ـ41). فالمسيح لم يأخذ موقفاً سلبى تماماً ولا إيجابياً تماماً من قضية التملك، لكن الموقف الأساسى للمسيح يظل هو الاحتياج للتحرر من سيطرة المال. فالمسيحى يمكن أن يكون لديه ثروات ومال ولكن لا يمكن أن تسيطر عليه، لأن الاستخدام الأمثل للمال هو فى شفاء احتياجات الإنسان وخدمته.
المسيح يرفض أن يصير المال وسيلة للقهر وسيطرة أقلية على الأكثرية وعظة (123) للقديس كيرلس لإنجيل لوقا عن كيف يخلص الغنى؟ يوضح كيف أن المسيح لم يغلق الباب تماماً أمام الأغنياء، وأنه مهد لهم طريق للخلاص إذ نجده يقول : "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله". ولا يقصد المسيح بالجمل ذلك الحيوان، إنما ذلك الحبل الغليظ لأنها كانت عادة أولئك المتمرسون أن يسموا الحبل الغليظ جملاً. لكن لاحظوا أنه لم يقطع تماماً رجاء الأغنياء بل حفظ لهم موضعاً وطريقاً للخلاص، لأنه لم يقل أنه يستحيل على الغنى أن يدخل ملكوت الله بل قال أنه يمكنه إنما بصعوبة.
عندما سمع التلاميذ الطوباويين هذه الكلمات اعترضوا قائلين : فمن يستطيع أن يخلص؟ وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات لأنهم (التلاميذ) كانوا يقولون أننا نعرف أن لا أحد سيقتنع بأن يتخلى عن ثروته وغناه، فمن يستطيع أن يخلص؟ لكن بماذا أجاب الرب!! "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله". لذلك فقط احتفظ لأولئك الذين يقتنون ثروات، بالإمكانية أن يحسبوا مستحقين لملكوت الله لو أرادوا، لأنه حتى ولو كانوا يرفضون تماماً التخلى عما هو لهم، لكن يمكنهم أن يبلغوا تلك الكرامة بطريقة أخرى. والمخلص نفسه أظهر لنا كيف وبأى طريقة يمكن أن يحدث هذا إذ قال : "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم فى المظال الأبدية" (لو9:16). لأنه لا يوجد شئ يمنع الأغنياء لو أرادوا أن يجعلوا الفقراء شركاء ومقاسمين لهم فى الغنى الوافر الذى يمتلكوه. ما الذى يعيق من له مقتنيات وافرة من أن يكون رءوفاً وممتلئاً بتلك الشفقة الكريمة التى ترضى الله. إننا سوف نجد أن الحرص على تتميم هذا العمل ليس هو بلا مكافأة ولا عديم النفع، لأنه مكتوب : "الرحمة تفتخر على الحكم" (يع13:2).
هناك أيضاً سؤال يفرض نفسه : هل أدخل المسيح برنامج معين أو نظام معين لحل المشكلات الاجتماعية؟ لكى نعرف الإجابة على هذا السؤال لابد أن ننطلق مما قاله المسيح فى (لو13:12) عندما سأله أحد أن يقاسمه الميراث مع أخيه، فقال له : "يا إنسان من أقامنى عليكما قاضياً أو مقسماً" وأكمل قائلاً : "انظروا وتحفظوا من الطمع فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12).
لا يعنى هذا أن المسيح لا يبالى بالمشاكل الاجتماعية لأنه مما سبق وجدنا كيف أن المسيح أظهر اهتماماً شديداً للفقراء وللعدل الاجتماعى. البداية لفهم موقف يسوع هو ما طلبه المسيح نفسه : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت33:6) لقد أراد المسيح بهذا الطلب أن يقول أنه أتى إلى هذا العالم لكى يكرز بملكوت الله : "فقال لهم ينبغى أن أبشر المدن الأُخر أيضاً بملكوت الله لأنى لهذا قد أُرسلت" (لو43:4).
إن الشرط المهم لحل المشكلات الاجتماعية لدى المسيح ـ هو التمسك بملكوت الله فى حياة الفرد والمجتمع الإنسانى . فالمشكلة الاجتماعية لا تُحل فقط بمتغيرات خارجية لكن الحل الأساسى والمُرضى لهذه المسألة هو ممكن بالاحتفاظ بملكوت الله فى قلوب الناس.
فلو تكوّن هذا التغيير العظيم والثورى فى داخل الإنسان ، ولو انتزعت الكراهية من النفس وحلت محلها المحبة، عندئذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ستجد لها حلول . وهذا هو مفهوم ما قاله المسيح : " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم " (لو31:12).
لابد أن نكرر على أن موقف المسيح هذا لا يعنى أن المسيحى يجب أن يأخذ موقف سلبى تجاه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى يواجهها الإنسان . على العكس عندما شدّد المسيح على " اطلبوا أولاً ملكوت الله " فهو يطلب موقف فعّال من جانب المسيحيين لكى تُحل المشكلة الاجتماعية. وهكذا لو أن أحدًا استلهم وانقاد بروح ملكوت الله لا يمكن إلاّ أن يسأل ويفتش ويبحث دائمًا وبطرق كثيرة مقدمًا الحل الأكثر صحة للمشاكل التى تشغل المجتمع . إذن وصية المسيح(اطلبوا أولاً ملكوت الله) لا تعنى التمنى والدعاء فى طلب ملكوت الله ولكن المحاولات العملية والمساهمة الفعّالة للمسيحيين فى تحقيق ملكوت الله الذى هو تحرر البشر من الألم والفقر والظلم والقهر والمرض مثلما كان يفعل المسيح على الأرض ، إنها رسالة الكنيسة اليوم. فالكنيسة تشجع المؤمن أن يواجه بشجاعة مشاكله الاجتماعية منطلقًا من محبته الحقيقية نحو الله ونحو أخيه الإنسان وبمساندة المنطق (العقل) والعلم والخبرة والمناهج والمؤسسات التى تجاهد لتقود المجتمع ليصبح أكثر إنسانية ، المطلوب منا أن نفحص أى نظام على هذه التعاليم فلو كانت مثلاً الرأسمالية تُقسم الناس إلى أقلية أغنياء تُسيطر على أإلبية بائسة (لعازريين جُدد) فهى مرفوضة . وإذا كانت الاشتراكية تساعد على الخمول والكسل والتواكل من الأغلبية منتظرة من الدولة الدعم والنصيب وهم غير فعّالين فى المجتمع فهى أيضًا مرفوضة .
خاتمة :
إن شخص المسيح وتعاليمه وأعماله كما دوّنت الأناجيل هم المصدر الأساسى الذى نستقى منه السلوكيات الأخلاقية للفرد والمجتمع . والمسيح ـ كما رأينا ـ ينطلق من حدث جوهرى وهو تحقيق ملكوت الله ، ومن خلال هذا الحدث العظيم علّم وسلك وهو نفسه سلوكًا أخلاقيًا عظيمًا ، بل وطالب الإنسان (أفرادًا ومجتمعات) بأن يكون له نفس السلوك ونفس الروح ، إنها أخلاق ملكوت الله. وبناء على ذلك وجدنا أن السلوك الأخلاقى للإنسان يتأسس على عنصرين أساسيين هما : ملكوت الله ، ووصية المحبة المزدوجة أى نحو الله ونحو القريب . أيضًا ملامح هذا السلوك الأخلاقى ينبع من الملامح التى نادى بها السيد المسيح وسلك بها فى حياته. إنها الملامح الاجتماعية والملامح السياسية وكما رأينا نؤكد على أن المسيح لم يسع لتأسيس نظام اجتماعى واقتصادى معين ، بل تجاوز الأنظمة والنظريات لأنه لم يأت لهذا الغرض ، فقد كان شغله الشاغل هو الإنسان والمجتمع مؤمنًا بأن جماعة المؤمنين (الكنيسة) هى أفضل مجتمع بشرى وعليها المسئولية بأن يتحول الإنسان ويتغير تغيرًا جذريًا وليس الإنسان فقط بل المجتمع كله .
إن وصية المحبة نحو الله والقريب تكشف بوضوح خاص أن الله يطابق نفسه بالإنسان وخاصة الإنسان المتألم .
التشديد على قيمة الإنسان نجده فى كل تعاليم المسيح ، خاصة عندما كرز بأن " السبت صار لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت " (مر27:2). هذه الكرازة هى كرازة ثورية إنسانية فى التاريخ لأنها تكشف عن أن المسيح هو ضد المادة (ulismÒ) التى تعتبر الإنسان Homo Phenomenon أو animal rational فهو يرى الإنسان كشخص إلهى Personam divinam، مخلوق على " صورة الله ومثال" . لذلك الإنسانية الحقيقية ليست لها مكان فى الأنا، لكن فى " الآخر " الذى يشاركنا إنسانيتنا. ومن هذا الإطار نستطيع أن نرى الملامح الاجتماعية لتعاليم المسيح ومواقفه تجاه الفقراء والمتروكين. لقد أدان الظلم ووقف بجانب المقهورين لأنه كان يهدف إلى إقامة مجتمع جديد .
لم يكن المسيح مصلحًا اجتماعيًا أو صاحب برنامج اجتماعى محدد، لكنه كان المرسل من الله لأجل خلاص الإنسان . لقد قدم للعالم القوة الروحية والأخلاقية ، بل قدم نفسه متحدًا بالإنسان لكى يخلق فيه إمكانية التغيير الجذرى التى هى الأساس الضرورى لأى تغيير أصيل للمجتمع الإنسانى .
هذا يعنى أن السلوك الأخلاقى المسيحى يتطلب أناس مسئولين اجتماعيًا ، إذ يأخذون على عاتقهم تغيير الواقع الاجتماعى والاقتصادى والسياسى ليتوائم مع روح ملكوت الله . الحاجة إلى أناس يأخذون موقفًا نقديًا تجاه الواقع مستخدمين إمكانيات الخلق على " صورة الله ومثاله " من عقل ومنطق وعلم وخبرة وإبداع وجهاد مستمر من أجل حياة أفضل، آخذين المسيح النموذج والموديل الأصيل للإنسان وللمجتمع الإنسانى .
قبل أن نتكلم عن رسالة المسيح لابد أن نعى العصر الذى قارب نعيش فية. ما هى سماته ؟
خصوصاً سمة "العولمة" ذلك المصطلح الذى طغى فى الاونة الأخيرة !!
إن سمة "العولمة" ليست اقتصادية فحسب لكنها فى الواقع تفرض علاقات أكثر تعقيداً فى كل المجالات، فهى تعنى ثورة المعلومات والاتصالات بجانب الثورة العلمية غير المسبوقة والطفرة التقنية ذات الآفاق غير المحدودة وتعاظم الحديث عن حقوق الإنسان بجانب إعلاء قيم الحرية والديموقراطية والسعى إلى أشكال جديدة للعدل الاجتماعى، بالإضافة إلى نمو وتعاظم رأس المال وتحركه من داخل حدود الأوطان قفزاً إلى العولمة، إنها سرعة الحركة التى هى سمة العصر الجديد. أما سلبيات هذا العصر فهى كثيرة: ـ فهو يحمل سمة الإسراف فى الاستهلاك الأمر الذى ينتج عنه إضعاف للاقتصاد والثروة الحقيقية ويعكس انحداراً فى الإحساس بالمسئولية الفردية. كل هذا بسبب سيادة النموذج الرأسمالى والتأكيد على حرية السوق وفتح الحدود أمام تدفق السلع والخدمات والمعلومات فالرأسمالية كنظام اقتصادى يقوم فى الواقع على الفردية والحرية والمنافسة والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا .
لقد علق الإنسان آمالاً كبيرة على العلم والتكنولوجيا ولكن التقدم التكنولوجى والعلمى ليس من شأنه أن يوجد ـ بطريقة آلية ـ ظروفاً أكثر موائمة لسلوك بشرى أفضل، فلم يسبق أن عاشت البشرية قرناً شهد مذابح بالجملة، ومن قسوة فى معاملة الإنسان للإنسان، مما شهده القرن العشرون والأبشع أن المأساة مستمرة وتتفاقم.
التقدم فى مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية وبالذات فى مجال الكمبيوتر قد أتاح للإنسان أن لا يكون أسير موقعه وتاريخه، وبيئته المباشرة فقط وإنما أن تتسع مداركه لتحتوى الكوكب كله دون احتياج للسفر أو للتنقل ولكن رغم أن الثورة الإعلامية أسهمت فى تقريب الناس لكن دون اتصال مباشر، ودون علامات إنسانية عضوية بينها … وبهذا المعنى لا تجعل من تلاحم البشر، وتفاعلهم الحسى المباشر العنصر الأساسى فى هذا التقدم .
على مستوى بلادنا، يمر المجتمع المصرى بمرحلة تحول مهمة خاصة على المستوى الاقتصادى للقفز إلى آفاق القرن الحادى والعشرين، مما يتطلب وبشدة التأكيد على منظومة القيم التى تحكم توجيهه وسلوكه وضبطه نحو الهدف المنشود بدلاً من تصارع الأهداف وتصادم الطموحات لهثاً وراء الثراء وتكديس الثروات بأى وسيلة، الأمر الذى يؤدى إلى تدمير الإطار الاجتماعى من ثوابه ومسخ قيّمه.
إن الأسباب التى أدت لاختلال منظومة القيّم فى المجتمع المصرى هى كثيرة، وابتدأت بتفكك الأسرة والجنوح للعنف والتصادم وصراع الأجيال بانهيار الأسرة الممتدة المتماسكة والتى فيها الأب الكبير هو سر الحب والسيادة والنمو لشجرة العائلة. لقد ظهر بشدة اهتزاز منظومة القيم مع بداية عصر الانفتاح الذى جعل الأغلبية الفقيرة من شعبنا يُصاب بهزة عنيفة إزاء طوفان الدعوة للتغيير والترويج لنمط جديد من قيّم السوق والاستهلاك وأصبحت تواجه الأغلبية قيّم آليات السوق وشراسة قوى رأس المال التى هدفها تحقيق الربح الذى أصبح فوق كل المقدسات والثوابت الاجتماعية. لقد اختلت منظومة القيم لدى الشباب مما سهل على اختراقه من خلال الإدمان والجنس وإدخاله فى صراع محموم لإشباع الاحتياجات الشهوانية وشاعت فى المجتمع ثقافة "القهر" فكل واحد فى موقعه يتحول إلى قاهر لمرءوسيه أو من يملك أمرهم، إنها أخلاقيات القهر التى هى نتاج الخلل فى المنظومة الاجتماعية.
وهكذا ظهرت فئة ثرية جداً فى ظل وجود معدلات تنمية بطيئة مما أحدث استقطاب طبقى وانهيار قيّمى مع توارى الطبقة الوسطى لتفسح مكاناً لطبقات صعدت صعوداً غير طبيعى، ليس من خلال السُلم الاجتماعى المتدرج بل بفضل أخلاقيات القهر والابتزاز لذلك توارت القيّم الاجتماعية والتكافل الاجتماعى وثقافة قبول الآخر واحترام العلم والعمل والإنجاز.
هذا ما يفسر سيطرة وسطوة القيم المادية التى أصبحت تقبض وتدير حركة المجتمع حتى أصبحت شهوة المادة تداهم أى التزام بضوابط معينة من السلوك الخلقى فى الوقت الذى يشهد فيه المجتمع نوعاً من التدين الشكلى فقط الذى لا يمس الجوهر بل المظهر مما أصاب المجتمع بازدواجية أو مرض الفصام الاجتماعى.
المسيح يطلب تغيير جذرى للمجتمع :
إن ملكوت الله كشىء جديد حقيقى، قد بشر به المسيح، يأتى مضاد لكل أشكال الفساد فى المجتمع فهو لا يمكن أن يتكيف مع الروابط الظالمة العتيقة للمجتمع. وهذا ما كان يعنيه المسيح بكلامه للفريسيين : "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق. لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمراً جديدة فى زجاج عتيقة. لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمراً جديدة فى زقاق جديدة فتحفظ جميعاً" (مت16:9ـ17). واضح من كلام المسيح أنه لا يوجد أى تكييف بين ملكوت الله والمجتمع اللاإنسانى. إن مطلب المسيح لتغيير المجتمع نجده واضحاً فى التطويبات : "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون طوباكم أيها الباكون لأنكم ستضحكون، طوباكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيروكم وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. أفرحوا فى ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم فى السماء لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء" (20:6ـ23).
لم يرد المسيح بهذا الكلام أن يقول للفقراء احتملوا فقركم هذا وسأعدكم بسعادة فى الحياة الأخرى. النص هنا يمثل فوران شديد ضد الظلم الموجود فى المجتمع. هذا الكلام موجه لكل الناس المقهورين فى كل عصر، المسيح لا يُطوٌب هؤلاء الذين يملكون ناصية الديانة أو الذين لهم مكانة سياسية، لكن الفقراء والحزانى والجوعى والمظلومين لأنهم يجاهدون لأجل إحقاق العدالة.
لقد كشف المسيح عن زيف معايير هذا العالم وعن زيف الأنظمة غير الإنسانية. وفى نفس الوقت بشر بأن ملكوت الله لم يُعين للذين فى المرتبة الأولى بحسب معايير هذا العالم ولكن للذين هم آخر الكل، للمقهورين. والتطويبات لا تعنى بدون شك أن الفقر والجوع والألم بحد ذاتهم يمثلون تذاكر لملكوت الله. لكن تعبر عن إدانة واستنكار للمعايير التقيمية لهذا العالم فهى تُبشر بإتيان عالم جديد، عالم ملكوت الله الذى يهدف إلى تغيير الإنسان من روابط الخطية والظلم والقهر. ومن الجدير بالذكر أن طلب تغيير المجتمع له بعد أُخروى (اسخاتولوجى) لأن المسيحيون لا يعيشون فقط لأجل الحاضر، لأجل التاريخ فقط ولكن شاخصون للحياة الأبدية، للمستقبليات الاسخاتولوجية حيث تحرر الإنسان وسعادته تكون كاملة. البعد الاسخاتولوجى لا يضعف الاهتمام بالحاضر والتاريخ، لكن العكس يدعو الإنسان أن يجاهد لكى يُغير الحاضر تحت قيادة النور المستقبلى. الأُخروية لا تلغى التاريخ والعالم بل تعمل على تجليهم وتكميلهم. لأجل ذلك فإن نهاية العالم التى تكلم عنها المسيح (مت1:24ـ45 ، مر1:13ـ31 ، لو5:21ـ37) لا تعنى زوال هذا العالم لكن تجليه. المسيح نفسه تكلم عن الميلاد الثانى (مت28:19)، عن الخلق الجديد والرسول بطرس تكلم عن أزمنة رد كل شئ أى رد مجد الخليقة الأولى : "الذى ينبغى أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شئ التى تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" وذلك بإتيان المسيح، بحلول ملكوت الله خاصة بنور البعد الاسخاتولوجى. إن تاريخ سقوط الإنسان ينسحب ويترك مكانه لتاريخ الفداء. فى هذا الإطار فإن ملكوت الله يُعطى للعالم والتاريخ معنى، وكمال ووحدة.
إن دور ملكوت الله فى بعده الاسخاتولوجى هو دور تجديدى، إعادة خلق للواقع التاريخى، "هو ثورة من فوق" تتطلب خلق عالم جديد، عالم ينقاد بنور ملكوت الله ويتجه دائماً للحياة الفضلى والأكثر الإنسانية.
هكذا فإن أخلاق ملكوت الله والتى كرز بها المسيح لا تهدف إلى تثبيت ومساندة الأنظمة الفاسدة والغير إنسانية فى المجتمع، إنها أخلاق التغيير.
والتغيير سمة من سمات مجتمع الألفية الثالثة وتعنى التعديل المستمر نحو بلوغ حياة أفضل على المستوى الشخصى وعلى مستويات المؤسسات والأنظمة لأن جمود الأوضاع لفترات طويلة ضد سرعة الحركة والتطور الأمر الذى يسبب عقم فى الفكر والإبداع والخلق والتى هى سمات خلق الإنسان "على صورة الله ومثاله". على الجانب الآخر فغن التغيير المستمر من أجل التطوير للأفضل يمنع إيجاد الإمبراطوريات وتأليه الأفراد ويزيد الأمل والطموح عند الشباب قبل الكبار.
لذلك فإن "أخلاق التغيير" أو "أخلاق ملكوت الله" تتطلب من المسيحى أن يجاهد ويعمل لكى يواجه المشاكل الاجتماعية حتى يساهم فى بناء عالم أفضل من الآن فصاعداً، أى داخل التاريخ. هذا الجهاد يجب أن يكون مستمر وغير متوقف. لكن علينا أن نأخذ فى الاعتبار أن حالة الكمال التام للعالم الجديد، عالم ملكوت الله لن يتحقق فى الحاضر، لأن هذه الحالة ليست قضية هذا العالم الحاضر ولكن التحقيق يتم فى الحياة الأبدية وهذا نستقيه من البعد الأُخروى (الاسخاتولوجى) لملكوت الله كما ذكرنا سابقاً. إذن الكمال سيتحقق بعد نهاية هذا العالم، فى الأزلية "وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهأ لهم. وسيمسح الله كل دمعة لهم والموت لا يكون فى ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فى ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت. وقال الجالس على العرش ها أنا أضع كل شئ جديداً .." (رؤ3:21ـ5).
هذا التشديد على تحقيق الكمال فى الأبدية لا يسبب إحباط فى مسيرة الجهاد لأجل الأفضل لأن المسيحى يعلم جيداً أن الإمكانيات والقدرات فى هذا الاتجاه هى غير محدودة، وأن الذى يعمل فينا هو روح الرجاء والتفاؤل ومن جهة أخرى هذا التشديد يجعل المسيحى يتجنب أى تطابق لعالم ملكوت الله مع أى نظام اجتماعى أو اقتصادى أو سياسى أو أى تطلع قومى، كما حدث فى زمن المسيح، إذ أن آفاق ملكوت الله كان ضد الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية فى عدم إحقاقهم للعدل بل كان ضد التطلع القومى لليهود أى فكرة "المسيا السياسى".
وعلى هذا الأساس سيظل هناك شد وتوتر بين عالم ملكوت الله (النور) وكل الأنظمة والمؤسسات التى تسعى غلى قهر الإنسان وتحويله إلى "ترس" فى آلة (الظلمة) لتحقيق أغراضها الدنيئة.
مما سبق نجد أن أخلاق التغيير لا تخص الحالة الروحية للإنسان ولكن تشمل كل حياة الإنسان بعلاقاتها المتعددة. وإذا كان القرن الحادى والعشرين يحتاج إلى إنسان من نوع جديد فإن أخلاق ملكوت الله تستطيع أن تخلق هذا الإنسان القادر على مواجهة التغييرات والتعامل مع المجهول، إنسان متعدد المهارات والخبرات قادر على التعليم الدائم، يقبل إعادة التدريب والتأهيل عدة مرات فى حياته حتى يمكنه التنقل من عمل إلى آخر. فإنسان ملكوت الله لديه إحساس بالزمن والتحولات التى تجرى بسرعة هائلة من حوله ليمكنه مسايراتها حتى لا تعدو بالنسبة له صدمة. إن أخلاق التغيير أيضاً تمس تغير المجتمع وذلك بالتربية لإعداد هذا الإنسان الجديد، التربية التى تصقل العقل وتنمى القدرات على النقد والإبداع والابتكار، وعلى الفهم والتحليل، بالتربية التى تحرر الذهن من الخرافة وعتاقة التقاليد، وتؤصل القيم وشمولها وتكاملها، بالتربية التى لا تجد صراع بين الإيمان والعلم بل ترى أنه من الإيمان أن نشجع العلم الذى يرفع الإنسان ويرقى بالمجتمع، بالتربية التى تقوم على التعاون مع الآخرين وليس الذوبان فيهم، بالتربية التى تقوم على الاختلاف بدلاً من التسليم بالأفكار والمعلومات السائدة.
المحبة هى الطريق المؤدى لعالم ملكوت الله وأساس ثان للسلوك الأخلاقى:
لو أن ملكوت الله ـ كما رأينا ـ هو القمة التى يدعونا إليها المسيح فإن المحبة هى الطريق المؤدى إلى لاحتلال هذه القمة. إنها الوصية العظمى للناموس بحسب رأى المسيح فى رده على أحد الناموسيين فى سؤاله عن ما هى الوصية العظمى للناموس؟ "فقال له يسوع تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت37:22ـ40). المسيح نفسه قد لخص فى العظة على الجبل الناموس والأنبياء فى "القانون الذهبى" المعروف للسلوك الإنسانى : "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت12:7).
هذا القانون فى شكله الإيجابى يرفع من شأن الإنسان الآخر وهو عند المسيح كتعبير محدد للمحبة نحو القريب وهذا يعنى أن وصية المحبة بهذه الثنائية (الله والقريب) تظل هى القانون السامى للحياة الأخلاقية للإنسان فى تعاليمه. لقد أخبرنا القديس يوحنا الإنجيلى أن المسيح قبل آلامه اعتبر وصية المحبة ليست فقط وصية جديدة بل ملمح أساسى للمسيحى : "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى إن كان لكم حب بعضنا لبعض" (يو34:13ـ35). كذلك القديس بولس يعتبر المحبة كتكميل للناموس : "لا تكونوا مديونين لأحد بشىء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وإن كانت وصية أخرى هى مجموعة فى هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك، المحبة لا تصنع شراً للقريب. فالمحبة هى تكميل للناموس" (رو8:13ـ10). وهكذا فإن الوصية الثنائية للمحبة تعتبر جوهر الإنجيل أنها الإسهام العظيم للمسيح فى المجال السلوكى الأخلاقى، أنها التعبير الكامل عن الفداء والتحرر فى المسيحية، أنها كل المسيحية.
مما لا شك فيه أن وصية المحبة نجدها فى العهد القديم، محبة نحو الله: "اسمع يا إسرائيل البر إلهنا رب واحد فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك" (تث5:6)، ومحبة نحو القريب : "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك أنا الرب" (لاويين18:19).
أيضاً نجد وصية المحبة عند فيلون اليهودى والرواقيين ونفس الشيء فى القانون الذهبى (فى شكله السلبى) معروف لدى الحضارة اليونانية والرومانية وقد تبنته اليهودية فى شكله السلبى.
لكن هنا سؤال يفرض نفسه ما هو الجديد الذى أضافه المسيح لوصية المحبة؟
المسيح لم يتبنى القانون الذهبى بملمحه السلبى، على العكس، يمثل "القانون الذهبى" الجوهرة الثمينة للضمير البشرى، والجديد هو صياغته وشكله الإيجابى "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت12:7). واضح أن هناك فرق كبير بين "لا تفعل لأخيك ما لا تريده أنت لنفسك" وبين "تصرف هكذا مع اخوتك كما تريد أنت منهم أن يتصرفوا تجاهك".
الصياغة السلبية تُعبر عن سلوك أخلاقى سلبى، أخلاق دفاعية تحاول أن تهرب من الشر. إنها أخلاق يُسيطر عليها خوف الخطية وتجاهد لكى تهرب. بالعكس الصياغة الإيجابية "للقانون الذهبى" يؤسس سلوك أخلاقى لا يكتفى بالهروب من الشر والخطية ولكن سلوك جرئ ينقاد بنور الصلاح إذ يجاهد من أجل تحقيقه.
الصياغة الأولى :ـ تعبر عن سلوك سلبىPaqhtik»
بينما الثانية عن سلوك فعال™nerghtik» هذه الصياغة الإيجابية للقانون الذهبى لم تكن بالصدفة بل هى مضادة لناموس موسى الذى يغلب عليه الشكل السلبى: "لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك ولا عبد ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك (خر13:20ـ17).
إن المسيح لم يكتفى إطلاقاً بالهروب من الشر بل الأخلاق الإيجابية هى ذات قيمة عليا عنده فهو يطالب بأخلاق عملية إيجابية وقد عبر عنها بوضوح فى الموعظة على الجبل. أنها وصية جديدة تماماً فى هذا الإطار مما يجعلنا نتكلم عن عنصرين هامين هما : ـ
+ المكانة المركزية (المحورية) لوصية المحبة فى السلوك الأخلاقى عند المسيح:ـ
عند المسيح ـ كما رأينا ـ نجد أن وصية المحبة تمثل تلخيص للناموس وهى المحور الأساسى للسلوك الأخلاقى أنظر (مت37:22ـ40) هذا الاختزال والإيجاز فى وصية واحدة غير مفهوم لدى الفريسيين الذين كان يوجد عندهم كم هائل من الوصايا تنظم حياة الإسرائيلى . وهكذا فإن وصية المحبة ليست مبدأ أخلاقى أو فضيلة أخلاقية وسط فضائل أخرى ولكن تمثل معيار أساسى لكل الفضائل والمبادئ والنواميس وكل قوانين السلوك الإنسانى إذ تضفى عليهم معنى.
+ شمولية وصية المحبة : ـ
إن هؤلاء الذين سمعوا المسيح يكرز بالمحبة نحو القريب قد أدركوا كيف أن القريب له معنى أشمل وأعم عن ما كان ينادى به الإسرائيليون، القريب هو الإنسان الذى من جنسهم ومن دينهم. فإن أى إنسان غير يهودى لا يمكن أن يُعتبر إنسان يستحق المحبة ولكن المسيح أعطى مفهوم جميل جداً للقريب. لقد سأله أحد الناموسيين عن من هو قريبى فأجابه بطريقة غير مباشرة وطرح مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37).
هل أراد أن يشدد على التزام وواجب أن نساعد ونقف بجانب الإنسان المتألم، والمحتاج؟ الإجابة ليس هذا فقط بل أراد المسيح أن يجيب على سؤال الناموسى عن من هو قريبى؟ أى أراد أن يوضح محتوى مفهوم "القريب" قائلاً للناموسى "اذهب وافعل أنت نفس الشىء" افعل ما فعله السامرى الصالح، عندما وجد أمامه إنسان متألم فقرر أن يساعده بدون أن يفحص قوميته أو ديانته، هكذا لابد أن يفعل مثلما فعل السامرى الصالح: أن يساعد دون أن يفحص هوية المحتاج أى لا تفحص أى قومية ينتمى إليها أو أى مذهب دينى يُعتنق فطالما هو إنسان فهو قريبك، هو أخيك بغض النظر عن القومية التى ينتمى إليها ولا الديانة التى يتبعها ولا اللغة التى يتكلمها ولا حتى اللون الذى لجلده ولا حتى الطبقة الاجتماعية التى هو منها.
هذا المفهوم يمثل صدمة للفكر اليهودى وقتذاك لأنه يختلف اختلاف جذرى عن ما نادى به اليهود فى زمانه، فالإسرائيليين كانوا يعتبرون الأمم الغير يهودية نجسون والمكان الذى يعيشون فيه أيضاً نجس، وعلى ذلك فأى اتصال معهم كان مرفوض تماماً (عاموس13:7 ، هوشع3:2). هكذا كان القريب لدى الإسرائيلى هو فقط من يتفق معه فى الجنس والدين (لاويين18:19)، أيضاً كان هناك هوة فاصلة وكراهية قومية ودينية شديدة تفصل بين اليهودية والسامريين. لقد اختلط السامريون بالأجانب (الأمم) خاصة عندما جلب الآشوريون هؤلاء الأمم ليعيشوا معهم، بينما الإسرائيليون رفضوا بشدة أى اتصال معهم لأنهم فى نظرهم نجسون والمسافة الفاصلة بين السامريين واليهود قد زادت وصارت أكبر عندما أسس السامريون حوالى سنة 320 ق.م. هيكل خاص بهم على جبل "جرزيم" واستمرت هذه الهوة الفاصلة حتى زمن المسيح.
هذا ما يفسر ما قالته السامرية للسيد المسيح : "كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية لأن اليهود لا يعاملون السامريين"(يو9:4).
لذلك عن قصد سرد المسيح مثل السامرى الصالح وعن قصد ووعى أيضاً ذكر الكاهن واللاوى لكى يُعلم أن (القريب) عند الإنسان هو أى إنسان فمع مسكونية الحب نحو القريب تصير كل القيود الطبيعية للإنسان مع أسرته وشعبه نسبية وهكذا قد نزع المسيح عنصر القومية والدين من محتوى مفهوم القريب، فعند المسيح قريبنا هو كل إنسان فقط من المنظور الحقيقى الواقعى أنه إنسان. لقد أشاع المسيح ثقافة "قبول الآخر" التى تتجاوز الهوية الدينية والقومية والوضع الاجتماعى الطبقى ونوع الجنس ذكراً أم أنثى وملامح الوجه أو القوام الجسمانى ...... الخ.
إن "قبول الآخر" هو أساس قواعد التمدن والحضارة ودعوة المسيح للمحبة والتسامح الثقافى إزاء من يختلفون ديناً وثقافة وسلوكاً هى الاحتياج الملح على مستوى الوطن الواحد وعلى المستوى الدولى. فالإرهاب ومشاكل التعصب الدينى والعرقى هى آفات القرن العشرين الذى هو على وشك الانتهاء والكارثة أن تستمر فى مجتمع الألفية الثالثة. فكما أن الحرب العالمية الأولى فى التاريخ المعاصر هى أكثر الحروب بربرية والحرب العالمية الثانية هى أول حرب تستخدم فيها القنبلة الذرية لإبادة البشر بغير تمييز، فإن العقد الأخير من القرن العشرين سيذكر باعتباره الشاهد على همجيته حيث حدثت أخطر حالات الاعتداء على حق الإنسان فى الحياة!! هذا الاعتداء أخذ أشكال متعددة منها ازدواجية المعايير فى تطبيق معايير حقوق الإنسان فى الممارسة الدولية المنحرفة، بروز النزعات القومية المتطرفة وظهور دعوات متعددة للانفصال خاصة مع سقوط الاتحاد السوفييتى، أيضاً ظاهرة التطهير العرقى التى تستند على مبررات تاريخية وسياسية لابسة ثوب النازية من جديد وخطورة التطهير العرقى فى أن يقف الإنسان ضد أخيه الإنسان الذى كانت تضمنها من قبل دولة واحدة وذلك لأنه يختلف معه فى السلالة أو الدين إنها ثقافة إبادة الآخر بدلاً من "قبول الآخر" أو ثقافة "التسامح" أو "المحبة" التى نادى بها المسيح فى تعاليمه.
إن "ثقافة المحبة والتسامح" التى نادى بها المسيح لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس ذكراً أم أنثى أو اللون أبيض أو أسود أو القوام الجسمانى سليم أم معاق ولكن تتطلب المحبة نحو العدو، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصة فى الموعظة على الجبل : "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم .. باركوا لاعنيكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لكى تكونوا أبناء الذى فى السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأى أجر لكم. أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وإن سلمتم على اخوتكم فقط فأى فضل تصنعون. أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت43:5ـ48).
المسيح هنا يطلب شئ أكثر من الذى فعله السامرى الصالح، لأنه ذاك انتصر على تعصبات القومية والدين وعلى الخلفية المتراكمة التى كانت تفصل بين السامريين واليهود وساعد إنسان كان يعانى من الألم. هذا الإنسان الجريح لم يكن عدو شخصى له. ولكن المسيح يطلب المحبة نحو العدو! المحبة نحو العدو الشخصى والقومى والعدو الدينى، والمحبة نحو العدو الذى يكرهنا ويطردنا. لقد أراد المسيح أن يحذرنا من خطوة تقسيم الناس إلى أصدقاء وأعداء بل نحب الكل دون استثناء مثلما يشرق على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. إنها أخلاق "الكمال" فلابد أن نسعى للكمال كما أن أبانا السماوى هو كامل. إذن المعيار هو الله نفسه فى محبته للكل.
تطابق المحبة نحو الله بالمحبة نحو القريب:
هذه المحبة نحو الله تطابق مع المحبة نحو القريب (الأخ فى الإنسانية) خاصة المتألم والمقهور والمظلوم هذا التطابق يصبغ كل تعاليم المسيح جداً فى إصحاح 25 لمتى حيث المسيح يمدح بشدة هؤلاء الذين ساعدوا ووقفوا بجانب اخوتهم المتألمين والمقهورين "بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم" (مت40:25). بينما هؤلاء الذين لم يقفوا بجانب اخوتهم فى الإنسانية يكلمهم بلغة قاسية قائلاً: "الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوا بأحد هؤلاء الأصاغر فبى لم تفعلوا" (مت45:25). وهكذا فى إصحاح الدينونة متى25 تتطابق المحبة نحو الله مع المحبة نحو الأخ فى الإنسانية، خاصة المتألم لدرجة أنه لا يمكن أن تفهم الواحدة بدون الأخرى والذى يدعو للدهشة والإعجاب أن محبة الأخ (الآخر) هو تعبير محدد للمحبة نحو الله. وهذا يعنى أن برهان محبة أحد لله هى فقط محبته للآخر "لأنه من لا يحب أخاه الذى أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذى لم يبصره" (يو20:4) وهذا يعنى أن كل إدعاء محبة نحو الله لا يكون دائماً محبة نحو القريب "الآخر" والعكس صحيح المحبة للآخر عندما تتحقق بدرجة عظيمة من الشفافية هو بحسب الضرورة محبة نحو الله.
التشديد على قيمة الإنسان تصل هنا، بدون شك إلى قمة ذروتها، وهذا واضح فى كل تعاليم المسيح وأعماله. هذا التشديد على الإنسان لا يعنى رفض لله بل على العكس، نُعظم الله عندما نعظم الإنسان وننكر الله عندما ننكر الإنسان. الله الذى كرز به المسيح هو غريب تماماً عن الفكر اليهودى عن الله، فهو ليس فقط كلى القدرة، مُرهب، ومخيف ويعاقب بل الله عند يسوع هو أبونا (مر36:14). الحنون الذى هو رفيق رحلة الإنسان ويشاركه الألم وكل متاعب الحياة (راجع مت31:25، لو4:15ـ7،32:11 على سبيل المثال).
إله يسوع المسيح لا يُقدم محبة فقط بل هو نفسه المحبة: "ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة. بهذا أظهرت محبة الله فينا، أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكى نحيا به. فهذه هى المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطيانا" (1يو8:4ـ10). إله يسوع يُعلن بأكثر من ذلك فى شخص يسوع (انظر مر5:2ـ10 ،مت27:11 ،يو30:10 ،45:12). لقد أعلن الله نفسه فى حياة المسيح، نشاطه، آلامه، وموته إذ يظهرون أن إله يسوع المسيح هو إله لأجل الإنسان مثلما وُجد المسيح كإنسان لأجل الإنسان. أنه الإله الذى يتضامن مع الإنسان وخاصة الإنسان المقهور، والمريض، والشيخ، والغير قادر على العمل، والمجرم البائس والرؤساء وكل من هم فى منصب، وفى نفس الوقت، هو ضد الظلم والاستغلال والفقر والوضاعة وكل أشكال القهر.
إذا كان العصر الراهن بما يحتويه من تقدم (تكنولوجى) قد أعطى العقل قيمته العالية، وأن العقل الذى يخطط للمنفعة الشخصية، وما يحقق المصلحة الفردية هو غاية الإنسان القصوى فإن روح العصر المادية لا ينبغى أن تطمس فى الإنسان جوهره الأصيل المتمثل فى كيانه البشرى وقيمته الحقيقية تلك التى تتجسد ثقافة "المحبة" والتى تنادى باحترام الآخر وذلك من خلال العطاء الخير المخلص الذى يتبادله على مسرح الحياة مع أخيه فى الإنسانية بروح المحبة والخدمة والتعاون. علينا أن نعترف أن سلوك الحياة الجديدة لابد أن تتطلب اعترافاً من العقل رغم قدراته على البحث والتفكير والإبداع بالاحتياج إلى النور الإلهى والكشف المستمر من الله حتى لا ينحرف الإنسان ويضل الطريق اعتماداً على عقله وعلى ذاته (أنانيته)، بل يجد ضالته فى الحُب، فى العطاء بلا مقابل حتى يزدهر الآخر ويبقى سعيداً.
الفعل (العمل) هو معيار المحبة عند المسيح
إن المحبة التى نادى بها المسيح لا تُفهم إلا بارتباطها الشديد بالعمل أو بتفعيلها، فالمسيح لا يُعلم ولا يكرز بمحبة عاطفية ولكن بالمحبة العاملة، لذلك يشدد على ذلك فى الموعظة على الجبل : "ليس كل من يقول لى يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل الذى يفعل إرادة أبى الذى فى السموات.كثيرون يقولون فى ذلك اليوم يارب يا رب ألي باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرخ لهم أنى لم أعرفكم قط فاذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. فكل من يسمع أقوالى هذه ويعمل بها أشبه برجل عاقل بنى بيته على الصخر ..... وكل من يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الرمل ..." (مت21:7ـ27).
واضح من هذا النص أن المسيح يُعطى أولوية ليس لاعتراف الإيمان النظرى المستقيم لكن للعمل والفعل وإتيان الثمار . ذلك الذى له أهمية حاسمة هو ليس قبول حقائق إيمانية نظرية لكن بالمحبة العاملة. المسيح لا يطلب فقط تغيير داخلى لكن ترجمة هذا التغيير إلى عمل وفعل. وهذا يظهر جلياً فى مثل التينة غير المثمرة : "كانت لواحد شجرة تين مغروسة فى كرمه. فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام هوذا ثلاث سنين آتى أطلب ثمراً فى هذه التينة ولم أجد. اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً. فأجاب وقال له يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها وأضع ذبلاً. فإن صنعت ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها". (لو6:13ـ9).
لقد كرز أيضاً يعقوب أخو الرب بالضرورة المطلقة للعمل: "ولكن كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم" (يع22:1).
الإيمان وحده لا يكفى "لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضاً بدون أعمال ميت" (يع26:2). الرسول يعقوب لا يشكك فى قيمة الإيمان، لكنه يرفض الفكر الذى يكتفى فقط بالإيمان، كذلك الفكر الذى ينادى بأنه يستطيع أحد أن ينتظر كل شئ من النعمة الإلهية.
لا يوجد مجال للشك فى أن المسيح أعطى أفضلية أو أولوية مباشرة للعمل، لكن أى عمل يطلب؟ المسيح يطلب العمل الذى تسمح به الوصية الجديدة التى هى المحبة، وهذه الوصية ليست موقف عاطفى عام وحسب، بل محبة عاملة محددة، لشخص محدد، وهذا يعنى المساندة والوقوف بجانبه فى احتياجاته ومشاكله التى يواجهها "هنا والآن" (راجع رو9:12ـ21).
"لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً" (فيلبى4:2).
هذا ما فعله المسيح إذ صار إنسان لأجل الإنسان، وواضح جداً فى مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37) والإصحاح ال25 لإنجيل متى.
علينا أن نتشبه بالسامرى الصالح الذى فعل كل ما عنده لكى يداوى جراحات إنسان وينقذه، على العكس، أدان المثل السلوك القاسى للكهنة واللاويين الذين رأوا كم كان الإنسان جريح بين حى وميت ولكن عبروا عليه دون أن يفعلوا شيئاً. لقد أراد المسيح بهذا المثل أن يعلمنا بأن المحبة نحو أخينا فى الإنسانية تعنى الدفاع والوقوف بجانبه حتى يستطيع أن يواجه مشاكله التى تؤرقه.
أيضاً إصحاح متى25 خصوصاً المقطع الذى يتكلم عن "الدينونة العتيدة" (مت31:25ـ46) فى هذا المقطع نجد أن المعيار الذى سوف يدين به المسيح الإنسان هو موقفه إزاء مشاكل واحتياجات الأخ فى الإنسانية ، فالمحبة نحو الله والقريب تعنى صراعاً لا يهدأ حتى يتخلص الأخ فى الإنسانية من سياط الحرمان والضعف، من المرض، من الأمية، ومن كل أشكال القهر. المحبة تعنى عند المسيح صراع حتى تزال المعطلات فى طريق سعادة الإنسان.
وهنا سؤال يفرض نفسه: هل هذه المحبة العملية التى يطلبها المسيح، يجب أن تمارس على مستوى الفرد أم المجتمع؟
إن الوصية الجديدة للمحبة تتطلب ليس فقط إنسان جديد بل ومجتمع جديد، فأخلاق المحبة وثقافة "قبول الآخر" و "ثقافة التسامح" التى علمها المسيح لها نتائج اجتماعية شاملة تطلب من الإنسان أن يغير الروابط الاجتماعية ويؤسس عالم يسوده العدل، عالم أكثر إنسانية. ومن جهة أخرى، فإن المحبة لا يمكن أن تتصالح مع عادات وروابط وبرامج اجتماعية تعتبر الإنسان شئ أو أداة لكى ترضى أهدافها أو أيدلوجياتها أو محبة المجد الباطل، لقد قاوم المسيح بشدة الظلم "تباعدوا عنى يا جميع فاعلى الظلم" (لو27:13)، وطالب بعالم جديد خالى من أناس مقهورين. لذلك لم يُعطى المسيح لتلاميذه بنود تعليمية ولكن أن يكرزوا بملكوت الله وهذا له أهمية خاصة، أن يحرروا الناس من كل أشكال الضعف والمرض والقهر : "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات اشفوا مرضى. طهروا برصاً. أقيموا موتى. اخرجوا شياطين. مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا". (مت7:10ـ8).
الملامح الاجتماعية لتعاليم المسيح
رغم أن تعاليم لها صبغة شخصية تدعو الإنسان الفرد بأن يعى ويدرك مسئوليته تجاه "الله" إلا أنها لا تتجاهل الحياة الاجتماعية ومشاكلها. فكما اهتم المسيح بخلاص النفس الإنسانية، اهتم أيضاً بالجسد الإنسانى، وكما اهتم بخلاص الفرد، اهتم أيضاً بالمشاكل الاجتماعية.
وفى الحقيقة أن المسيح لم يكن مدركًا فقط لمشاكل عصره الاجتماعية لكنه أيضًا أخذ موقفاً واضحاً تجاهها. فالمسيح لم ينشغل بتفسير وجود الشر بل جاهد وصارع ضد قوات الشر، فكان نشاطه فدائى تحررى، جهاد ضد الاحتياج والضياع الإنسانى.
أن تعاليم المسيح عن ملكوت الله وأيضاً عن وصية المحبة بلا حدود نحو الله والقريب ـ كما رأينا ـ لها نتائج اجتماعية عظيمة ولا يوجد فصل بين الجانب الفردى والاجتماعى للسلوك الأخلاقى.
فإن بناء ملكوت الله ومحبة الله والقريب لا يتطلبان فقط تجديد للإنسان ولكن تجديد المجتمع أيضاً. المشكلة الاجتماعية الواضحة والتى كانت فى زمن المسيح هى الطبقية، فالناس انقسموا إلى قسمين: الأول: المستغِلين. والثانى : المستغَلين ـ أو إلى أغنياء وفقراء فاليهود فى القرن الأول كانوا مضغوطين ومقهورين من الاستغلال الوحشى لهم من الرومان، ومن جهة أخرى من عائلات الرؤساء الدينيين الذين اغلبهم كانوا يتعاونون مع المحتلين الرومان.
(أ) المسيح ـ بلا تحفظ ـ كان بجانب الفقراء
إن اهتمام المسيح الكبير للفقراء قد عبر عنه منذ بداية نشاطه العلنى فقد تكلم فى الناصرة كاشفاً مكرراً كلمة نبوة إشعياء (ص61) مبرهناً أن رسالته هى رسالة تحررية للفقراء والمتألمين. "روح الرب على لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية" (لو18:4).
نفس الكلام قد قاله تقريباً لتلاميذ يوحنا المعمدان عندما سألوه عن هل هو المسيا؟ "اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمى يبصرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (مت4:11ـ5).
لقد التفت المسيح ووضع كل اهتمامه وحنانه نحو الإنسان المتألم. لقد ركز متى الإنجيلى على نشاط المسيح المحب للبشر فى منطقة الجليل " وكان يسوع يطوف فى كل الجليل يعلم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب فذاع خبره فى جميع سورية فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين شفاهم" (مت23:3ـ24).
هنا نجد علاقة متينة بين ملكوت الله ومعجزات المسيح التى أتمها، أى أن معجزات المسيح تمثل برهان على أن عصر الفداء (التحرر) قد بدأ فعلاً. وهذا يعنى دخول المستقبل الاسخاتولوجى فى الحاضر. إن المعجزات وخصوصاً التى تخض إشباع الجياع وشفاء المرضى يظهرون مدى اهتمام المسيح ليس فقط بالنفس ولكن بجسد الإنسان كوحدة واحدة جسد ونفس.
إن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين نجده أيضاً واضحاً فى التطويبات "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو20:6ـ21).
لكن المسيح لا يكتفى بمساندة الفقراء والمجربين فى هذه الحياة بل هو يطابق نفسه بهم، وهذا يظهر بوضوح فى إصحاح 25 من إنجيل متى "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأنى جعت فأطعمتمونى عطشت فسيقيتمونى كنت غريباً فآويتمونى .. يا رب متى رأيناك جائعاً .. ومتى رأيناك غريباً .. الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم.." (مت23:25ـ45).
هنا يطابق المسيح نفسه بالفقراء، بالإنسان المهمش، بالأصغر، بالضعيف، لقد رفع من شأن المرأة وأظهر حباً عظيماً نحو الأطفال، على عكس المجتمع الرومانى واليهودى الذى همش الأطفال لقد أخذ المسيح موقف إيجابى مؤثر تجاههم (انظر مر36:9ـ37 ، 13:10ـ16 ، مت3:18 ،19 ، لو15:18ـ17).
لقد برر المسيح هؤلاء الذين أظهروا اهتمام عملى بالفقراء والمهمشين، بينما استنكر وأدان هؤلاء الذين لا يبالون بهم حتى لو كانوا كهنة ولاويين وذلك فى مثل السامرى الصالح فالمعيار الذى سوف يدانون به البشر هو موقفهم تجاه الفقير والمتألم وهكذا الذى استضافه: "وقال أيضاً للذى دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أخوتك ولا أقربائك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع والعرج والعمى" (لو12:14ـ13).
نفس الشىء والمعنى توبيخ المسيح للشاب الغنى "يعوزك شئ واحد. اذهب بع كل ما لك وأعط للفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعالى اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10) أيضاً فى مثل الغنى ولعازر يعبر عن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين بطريقة واضحة (لو19:16ـ26). لقد كشف المثل عن الهوة الكبيرة بين الغنى والفقير بين الحياة المتلذذة فى القصور وبين الحالة المحزنة الدرامية التى كانت للعازر. ونستطيع أن نقول بلغة اليوم للشمال الغنى والجنوب الفقير لقد عبر المثل عن الظلم الاجتماعى والذى يهدد دائماً الحياة الإنسانية.
والصورة التى وصفها المسيح عن التغير الجذرى الذى حدث بعد الموت لكل من لعازر والغنى، لعازر يعيش حياة سعيدة والغنى يكتوى من النار بطريقة يصعب التعبير عنها، تعبر عن موقف المسيح الاستنكارى للظلم الاجتماعى منحازاً إلى جانب الفقراء. مرة أخرى يشدد المثل على أن المعيار الذى يدين به الله الإنسان هو موقفه تجاه المتألمين فى هذه الحياة.
(ب) المسيح والأغنياء :
لقد أدان المسيح الغنى وهذا ظاهر من التطويبات "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء. لأنكم قد نلتم عزائكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون (لو24:6ـ25) ثم بعد ذلك يشدد المسيح على أنه من الصعب على الأغنياء أن يدخلوا ملكوت الله " ما أعسر دخول المتكلين على الأموال ملكوت الله". "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (مر24:1ـ25). إن موقف المسيح السلبى ضد الأغنياء لا يعنى أن هناك خلفية طبقية أى هناك تحامل عليهم، لكن لدى المسيح يتساوى الغنى والفقير فقد قال عن زكا العشار "وهذا أيضاً ابن إبراهيم" (لو9:19). إن موقفه المضاد مرجعه العدالة الاجتماعية "ابعدوا عنى يا فاعلى الظلم" (لو9:19).
إن عظة المسيح فى الأساس هى عظة ملكوت الله إنها رسالة تحرر وفداء، لذلك يُعطى أولوية مباشرة للمشاكل الوجودية للإنسان ومعنى الحياة الإنسانية. لدى المسيح معنى حياة الإنسان وسعادته ليست فى وفرة الخيرات المادية بل فى سلوكيات الكمال : "كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (مت4:4). لأن معنى الحياة المسيحية لا يوجد فى أن أتملك بل فى أن أكون ، لذلك المسيح يحذرنا قائلاً : "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء حيث لا يُفسِد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" (مت19:6ـ21). هذا لا يعنى أن المسيح يدعو الإنسان ليتوقف أن يعمل لكى يحصل على ضروريات الحياة. ولا مفهوم الكلام يعوق التقدم العلمى والتكنولوجى والنمو الاقتصادى ولا حتى رفاهية الإنسان. لكن المسيح أراد أن يشدد على أن مهمة الإنسان الأساسية ليست فى أن يكنز الماديات ولكن أن يدرك جيداً ما يتطلبه أصلاً (انحداره) الإلهى ومكانته وما عينه الله له. عندئذ يستطيع أن يُنظم علاقته بكل شئ بناء على ذلك، بحيث لا يُستعبد لشئ من هذه الأشياء المادية.
إن استعباد الإنسان لما يملكه له نتائج خطيرة، إذ يقود إلى الفشل الذريع كذلك يدين المسيح الطمع "انظروا وتحفظوا من الطمع، فأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12) ومثل الغنى الغبى يكشف عن مدى عدم جدوى عبادة الممتلكات فى الحياة" (لو17:12ـ21).
إن معنى ومفهوم المثل يلخصه المسيح فى عدد 21: "هكذا الذى يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله". لأن أى إنسان يضع هدفه الأسمى فى اكتناز الأموال والممتلكات سوف تأتى لحظة الموت وسيرحل عن كل هذا الذى اكتنزه. يركز المثل أيضاً أخلاق "الفقر" أمام الله، استعباد الإنسان للطمع والبحث عن معنى حياته فى الغنى يقود إلى هوة من الإفلاس الأخلاقى والوجودى.
لأجل ذلك لم يطلب المسيح من الإنسان فقط أن يرفض الاستعباد للماديات لكن يطلب شئ أفضل هو أن يتخلص الإنسان من القلق والصراع لأجل احتياجاته المادية محذراً "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون". الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. تأملوا الغربان.. تأملوا الزنابق كيف تنمو .. فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا. فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا أولاً ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم" (لو23:12ـ31).
هنا المسيح يطلب من الإنسان أن يتخلص من القلق والاهتمام الزائد لتدبير احتياجات الحياة. الإنسان الذى يؤمن بالله لا يستسلم لقلق الحياة، على العكس، هناك حيث يُسيطر القلق والصراع والانزعاج المبالغ فيه للغد يغيب الإيمان والثقة فى الله، فالصراع والقلق والانزعاج كلها تتمشى مع الغير مؤمنين.
سيكون خطأ كبير أن يتصور أحد أن المسيح بهذا الكلام يريد من الإنسان أن يواجه احتياجاته المادية باللامبالاة أو بالقدرية أو بكافة التواكل.
على العكس، المسيح يطلب من الإنسان أن يعمل انطلاقا من إيمانه بالله ومن إيمانه بتحقيق ملكوت الله كإطار أساسى لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما قصده المسيح عندما قال : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وكل هذا يزاد لكم" (لو15:12). وهكذا الإيمان بالله الذى يهدف قبل كل شئ إلى تحقيق ملكوت الله هو الشرط الوحيد لأى حلول عملية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وبسبب هذه الأهمية الجوهرية لاتجاه الإنسان فى الحياة، أما نحو الخيرات المادية أو نحو الله، فقد دعانا المسيح أن نختار بين المال أو الله وقال بالتحديد : "لا يقدر خادم أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (لو13:16) كلمة المال هنا (mamwn£j) وهى آرامية وتعنى (مال، ممتلكات، غنى)، لذا يمكن أن تكون (kef£laio) رأس مال. الإنسان مطالب أن يأخذ قرار حاسم أن يختار اختيار نهائى بين الله والمال، إما أن ينتمى لله أو ينتمى للمال، أن يخدم الاثنين هذا مستحيل.
من كل ما سبق نجد أن المسيح ضد الأغنياء والرأسمالية عامة لسببين هما: ـ
الأول :ـ الرأسمالية هى مع تقسيم الناس إلى طبقتين متضادتين، طبقة القليلين الأغنياء وطبقة الفقراء "اللعازريين" المساكين، وهم الأغلبية يُستغلون استغلالاً رهيبًا من الطبقة الأولى.
الثانى :ـ لأن روح الطمع تُغير اتجاه الإنسان نحو هدفه الأساسى أى أخلاق الكمال، وتقوده إلى إفلاس أخلاقى ووجودى. والشاهد على ذلك قيام الأغنياء من رجال الأعمال بممارسات غير مشروعة من أمثلتها الاستيلاء على قروض دون ضمانات من البنوك والهروب بها للخارج بالإضافة إلى حالات التهرب من دفع الرسوم الجمركية والضريبية، فضلاً عن السلوك الاحتكارى لبعض السلع الاستراتيجية وغيرها من سلوكيات الإفلاس الأخلاقى والوجودى.
وهنا سؤال يفرض نفسه : هل كان المسيح ضد التملك؟
إن الأناجيل الإزائية لا تعطينا موقفًا واضحًا للمسيح إزاء التملك، فهناك مواقف كان ضد التملك وأخرى لم يكن فيها ضد التملك.
فقد قال المسيح : "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" (مت20:8).ويطلب المسيح من تلاميذه أن يظلوا كما هو : "وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً، ولا نحاساً فى المنطقة" (مر8:6) ونفس الشئ طلبه من السبعين رسولاً : "لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية ...." (لو4:10) ومن الغنى الشاب الذى سأله كيف يصير كاملاً : طلب منه المسيح أن يوزع ماله على الفقراء. "اذهب بع كل ما لك وأعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10). من هذه الأقوال نستنتج أن المسيح كان ضد اكتناز الأموال والممتلكات، لكن يوجد حالات ظهر فيها المسيح غير ذلك. فالمسيح لم يطالب زكا العشار بما طلبه من الشاب الغنى. لقد أظهر المسيح سعادته ورضاه لأجل عودة العشار الغنى ولكن لم يطلب منه أن يبيع كل ما له ويعطى الفقراء : "فوقف زكا زقال للرب ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف. فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو8:19ـ10).
أيضاً لقد تبع المسيح أناس كانوا يساعدونه من أموالهم : "وعلى اثر ذلك كان يسير فى مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الإثنا عشر وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض. مريم التى تدعى المجدلية التى خرج منها سبعة شياطين، ويونا امرأة خورى وكيل هيرودس وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن" (مت1:8ـ3 أيضاً انظر مر40:15ـ41). فالمسيح لم يأخذ موقفاً سلبى تماماً ولا إيجابياً تماماً من قضية التملك، لكن الموقف الأساسى للمسيح يظل هو الاحتياج للتحرر من سيطرة المال. فالمسيحى يمكن أن يكون لديه ثروات ومال ولكن لا يمكن أن تسيطر عليه، لأن الاستخدام الأمثل للمال هو فى شفاء احتياجات الإنسان وخدمته.
المسيح يرفض أن يصير المال وسيلة للقهر وسيطرة أقلية على الأكثرية وعظة (123) للقديس كيرلس لإنجيل لوقا عن كيف يخلص الغنى؟ يوضح كيف أن المسيح لم يغلق الباب تماماً أمام الأغنياء، وأنه مهد لهم طريق للخلاص إذ نجده يقول : "ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله". ولا يقصد المسيح بالجمل ذلك الحيوان، إنما ذلك الحبل الغليظ لأنها كانت عادة أولئك المتمرسون أن يسموا الحبل الغليظ جملاً. لكن لاحظوا أنه لم يقطع تماماً رجاء الأغنياء بل حفظ لهم موضعاً وطريقاً للخلاص، لأنه لم يقل أنه يستحيل على الغنى أن يدخل ملكوت الله بل قال أنه يمكنه إنما بصعوبة.
عندما سمع التلاميذ الطوباويين هذه الكلمات اعترضوا قائلين : فمن يستطيع أن يخلص؟ وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات لأنهم (التلاميذ) كانوا يقولون أننا نعرف أن لا أحد سيقتنع بأن يتخلى عن ثروته وغناه، فمن يستطيع أن يخلص؟ لكن بماذا أجاب الرب!! "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله". لذلك فقط احتفظ لأولئك الذين يقتنون ثروات، بالإمكانية أن يحسبوا مستحقين لملكوت الله لو أرادوا، لأنه حتى ولو كانوا يرفضون تماماً التخلى عما هو لهم، لكن يمكنهم أن يبلغوا تلك الكرامة بطريقة أخرى. والمخلص نفسه أظهر لنا كيف وبأى طريقة يمكن أن يحدث هذا إذ قال : "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم فى المظال الأبدية" (لو9:16). لأنه لا يوجد شئ يمنع الأغنياء لو أرادوا أن يجعلوا الفقراء شركاء ومقاسمين لهم فى الغنى الوافر الذى يمتلكوه. ما الذى يعيق من له مقتنيات وافرة من أن يكون رءوفاً وممتلئاً بتلك الشفقة الكريمة التى ترضى الله. إننا سوف نجد أن الحرص على تتميم هذا العمل ليس هو بلا مكافأة ولا عديم النفع، لأنه مكتوب : "الرحمة تفتخر على الحكم" (يع13:2).
هناك أيضاً سؤال يفرض نفسه : هل أدخل المسيح برنامج معين أو نظام معين لحل المشكلات الاجتماعية؟ لكى نعرف الإجابة على هذا السؤال لابد أن ننطلق مما قاله المسيح فى (لو13:12) عندما سأله أحد أن يقاسمه الميراث مع أخيه، فقال له : "يا إنسان من أقامنى عليكما قاضياً أو مقسماً" وأكمل قائلاً : "انظروا وتحفظوا من الطمع فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لو15:12).
لا يعنى هذا أن المسيح لا يبالى بالمشاكل الاجتماعية لأنه مما سبق وجدنا كيف أن المسيح أظهر اهتماماً شديداً للفقراء وللعدل الاجتماعى. البداية لفهم موقف يسوع هو ما طلبه المسيح نفسه : "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت33:6) لقد أراد المسيح بهذا الطلب أن يقول أنه أتى إلى هذا العالم لكى يكرز بملكوت الله : "فقال لهم ينبغى أن أبشر المدن الأُخر أيضاً بملكوت الله لأنى لهذا قد أُرسلت" (لو43:4).
إن الشرط المهم لحل المشكلات الاجتماعية لدى المسيح ـ هو التمسك بملكوت الله فى حياة الفرد والمجتمع الإنسانى . فالمشكلة الاجتماعية لا تُحل فقط بمتغيرات خارجية لكن الحل الأساسى والمُرضى لهذه المسألة هو ممكن بالاحتفاظ بملكوت الله فى قلوب الناس.
فلو تكوّن هذا التغيير العظيم والثورى فى داخل الإنسان ، ولو انتزعت الكراهية من النفس وحلت محلها المحبة، عندئذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ستجد لها حلول . وهذا هو مفهوم ما قاله المسيح : " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم " (لو31:12).
لابد أن نكرر على أن موقف المسيح هذا لا يعنى أن المسيحى يجب أن يأخذ موقف سلبى تجاه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى يواجهها الإنسان . على العكس عندما شدّد المسيح على " اطلبوا أولاً ملكوت الله " فهو يطلب موقف فعّال من جانب المسيحيين لكى تُحل المشكلة الاجتماعية. وهكذا لو أن أحدًا استلهم وانقاد بروح ملكوت الله لا يمكن إلاّ أن يسأل ويفتش ويبحث دائمًا وبطرق كثيرة مقدمًا الحل الأكثر صحة للمشاكل التى تشغل المجتمع . إذن وصية المسيح(اطلبوا أولاً ملكوت الله) لا تعنى التمنى والدعاء فى طلب ملكوت الله ولكن المحاولات العملية والمساهمة الفعّالة للمسيحيين فى تحقيق ملكوت الله الذى هو تحرر البشر من الألم والفقر والظلم والقهر والمرض مثلما كان يفعل المسيح على الأرض ، إنها رسالة الكنيسة اليوم. فالكنيسة تشجع المؤمن أن يواجه بشجاعة مشاكله الاجتماعية منطلقًا من محبته الحقيقية نحو الله ونحو أخيه الإنسان وبمساندة المنطق (العقل) والعلم والخبرة والمناهج والمؤسسات التى تجاهد لتقود المجتمع ليصبح أكثر إنسانية ، المطلوب منا أن نفحص أى نظام على هذه التعاليم فلو كانت مثلاً الرأسمالية تُقسم الناس إلى أقلية أغنياء تُسيطر على أإلبية بائسة (لعازريين جُدد) فهى مرفوضة . وإذا كانت الاشتراكية تساعد على الخمول والكسل والتواكل من الأغلبية منتظرة من الدولة الدعم والنصيب وهم غير فعّالين فى المجتمع فهى أيضًا مرفوضة .
خاتمة :
إن شخص المسيح وتعاليمه وأعماله كما دوّنت الأناجيل هم المصدر الأساسى الذى نستقى منه السلوكيات الأخلاقية للفرد والمجتمع . والمسيح ـ كما رأينا ـ ينطلق من حدث جوهرى وهو تحقيق ملكوت الله ، ومن خلال هذا الحدث العظيم علّم وسلك وهو نفسه سلوكًا أخلاقيًا عظيمًا ، بل وطالب الإنسان (أفرادًا ومجتمعات) بأن يكون له نفس السلوك ونفس الروح ، إنها أخلاق ملكوت الله. وبناء على ذلك وجدنا أن السلوك الأخلاقى للإنسان يتأسس على عنصرين أساسيين هما : ملكوت الله ، ووصية المحبة المزدوجة أى نحو الله ونحو القريب . أيضًا ملامح هذا السلوك الأخلاقى ينبع من الملامح التى نادى بها السيد المسيح وسلك بها فى حياته. إنها الملامح الاجتماعية والملامح السياسية وكما رأينا نؤكد على أن المسيح لم يسع لتأسيس نظام اجتماعى واقتصادى معين ، بل تجاوز الأنظمة والنظريات لأنه لم يأت لهذا الغرض ، فقد كان شغله الشاغل هو الإنسان والمجتمع مؤمنًا بأن جماعة المؤمنين (الكنيسة) هى أفضل مجتمع بشرى وعليها المسئولية بأن يتحول الإنسان ويتغير تغيرًا جذريًا وليس الإنسان فقط بل المجتمع كله .
إن وصية المحبة نحو الله والقريب تكشف بوضوح خاص أن الله يطابق نفسه بالإنسان وخاصة الإنسان المتألم .
التشديد على قيمة الإنسان نجده فى كل تعاليم المسيح ، خاصة عندما كرز بأن " السبت صار لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت " (مر27:2). هذه الكرازة هى كرازة ثورية إنسانية فى التاريخ لأنها تكشف عن أن المسيح هو ضد المادة (ulismÒ) التى تعتبر الإنسان Homo Phenomenon أو animal rational فهو يرى الإنسان كشخص إلهى Personam divinam، مخلوق على " صورة الله ومثال" . لذلك الإنسانية الحقيقية ليست لها مكان فى الأنا، لكن فى " الآخر " الذى يشاركنا إنسانيتنا. ومن هذا الإطار نستطيع أن نرى الملامح الاجتماعية لتعاليم المسيح ومواقفه تجاه الفقراء والمتروكين. لقد أدان الظلم ووقف بجانب المقهورين لأنه كان يهدف إلى إقامة مجتمع جديد .
لم يكن المسيح مصلحًا اجتماعيًا أو صاحب برنامج اجتماعى محدد، لكنه كان المرسل من الله لأجل خلاص الإنسان . لقد قدم للعالم القوة الروحية والأخلاقية ، بل قدم نفسه متحدًا بالإنسان لكى يخلق فيه إمكانية التغيير الجذرى التى هى الأساس الضرورى لأى تغيير أصيل للمجتمع الإنسانى .
هذا يعنى أن السلوك الأخلاقى المسيحى يتطلب أناس مسئولين اجتماعيًا ، إذ يأخذون على عاتقهم تغيير الواقع الاجتماعى والاقتصادى والسياسى ليتوائم مع روح ملكوت الله . الحاجة إلى أناس يأخذون موقفًا نقديًا تجاه الواقع مستخدمين إمكانيات الخلق على " صورة الله ومثاله " من عقل ومنطق وعلم وخبرة وإبداع وجهاد مستمر من أجل حياة أفضل، آخذين المسيح النموذج والموديل الأصيل للإنسان وللمجتمع الإنسانى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق