الاثنين، 12 نوفمبر 2012

يوحنا ذهبي الفم ”نبي الإنسانية”


يوحنا ذهبي الفم  نبي الإنسانية

 

للأب جورج فلوروفسكي[1]

ترجمة د.جورج عوض

 

    كان ذهبي الفم واعظًا قويًا، أحب الوعظ حبًا فائقًا وأعتبره واجب كل إكليريكي مسيحي. الكهنوت هو سُلطة ولكن سلطة كلمة وإقناع وهذه هي الصفة المميزة للمبدأ المسيحي (عمومًا). الملوك يستخدمون القهر والجبر أما الإكليريكيون يُقنّعون. الملوك يعملون بإصدار أوامر لكن الإكليريكيين بالنُصح والإرشاد. الإكليريكيون موّجهون نحو الحرية الإنسانية، نحو الإرادة الإنسانية ويطلبون مواقف (قرارات). مثلما تعوّد ذهبي الفم نفسه أن يقول: "نحن مجبرين أن ننجح في خلاص الناس بالكلمة، بالوداعة وبالنُصح". عند ذهبي الفم، كل قيمة الحياة الإنسانية عندما تكون ـ كما كانت من قبل ـ حياة في حرية، وعندئذٍ في رأيه تكون حياة مفيدة (لها قيمة).

    تكلم ذهبي الفم في عظاته بإستمرار عن الحرية والموقف (القرار)، الحرية ـ بحسب رأيه ـ كانت صورة الله في الإنسان. لقد آتى المسيح ـ كما تعود أن يذكر ـ لكي يشفي إرادة الإنسان. الله دائمًا يعمل بطريقة مثل هذه، حتى لا يُدمر حريتنا. الله نفسه يعمل بواسطة الدعوة والنصيحة وليس بالإجبار والضغط، إذ يُظهر الطريق المستقيم، ويدعو ويُخبر عن أخطاء الشر ولكن لا يُجبر أحد، بمثل هذه الطريقة يجب أن يعمل الإكليروس المسيحي.

    كان ذهبي الفم ـ من طبيعة تكوينه ـ يميل ناحية الحلول المباشرة والثورية ـ أي حاد وصارم، لكن كان دائمًا ضد الإجبار حتى في الصراع مع الهراطقة. كان يُكرر دائمًا قائلاً: "غير مسموح للمسيحيين أن يستخدموا القهر حتى لأهداف صالحة، حربنا لا تجعل الأحياء أموات لكن تجعل الأموات أحياء، لأنها تمارس بروح الوداعة وبساطة التواضع، أُدين بالكلام وليس بالأعمال، أدين الهرطقة وليس الهراطقة، إنه مبدأ خاص بي أن أُدان عن أن أُدين، هكذا كان المسيح منتصرًا كمصلوب وليس كصالب"

    إن قوة المسيحي تُوجد في التواضع والتسامح وليس في إستخدام القوة، يجب على كل واحد أن يكون صارم مع نفسه ورحوم نحو الآخرين.

    ورغم كل هذا، لم يكن ذهبي الفم أبدًا عاطفي متفائل إذ كانت خلاصته للحالة الإنسانية سوداء ومحزنة. عاش في زمن كانت فيه الكنيسة مكتظة بجموع المسيحيين ولكن بالاسم فقط، لقد توَّلد عنده إنطباع أنه يعظ للأموات. لقد شاهد غياب المحبة الإنسانية والظلم المستمر ورأى كل ذلك تقريبًا داخل إعلان تصاعدي: "أطفائنا الغيرة (الحسنة) وجسد المسيح ميت". لقد توّلد له إنطباع أنه يتكلم لأناس كانت لهم المسيحية موضة، فراغ، ضريبة مفروضة ليس أكثر: "ما بين الآلاف، يستطيع أحد بصعوبة أن يجد أكثر من مائة مخلصين، وحتى هذا أشك" كان يشعر بالضيق والحزن على العدد الهائل من المسيحيين بالاسم والذين يعتبرهم "وقودًا للنار".

    الرفاهية ـ في رأي ذهبي الفم ـ هي خطر عظيم، إنها أسوأ نوع من الإضطهاد، أسوأ من الإضطهاد الفعلي. لا أحد يرى الأخطار ـ يقول ذهبي الفم ـ الرفاهية تتغذى على اللامبالاة. الناس يقعون في سُبات عميق والشيطان يقتل النائمين. لقد كان ذهبي الفم قلقًا خاصةً على المعايير المتدنية للقيّم والمظاهر والعشوائية والتي كانت أيضًا بين الأكليروس. الملح فقد قوته المملحة. لقد واجه ذهبي الفم كل هذا ليس فقط بكلمات إستنكارية وعراكية ولكن بأعمال إنسانية وبالمحبة، لقد جاهد لتجديد الشركة ولشفاء المجتمع الشرير. وعظّ ومارس المحبة مؤسسًا مستشفيات وملاجيء، مساعدًا الفقراء والمحرومين، أراد من الناس أن يمارسوا الحُب، أراد بالأكثر أن يرى العمل والإخلاص بين المسيحيين. المسيحي. عند ذهبي الفم كان بالضبط "الطريق"، مثلما أُطلق هذا المصطلح على المسيحي في زمن الرسل، والمسيح نفسه كان "الطريق". لقد كان ذهبي الفم ضد المتساهلين، ضد سياسة تبادل المصلحة وتكييف الأمور، لقد كان نبي المسيحية الكاملة.

    كان ذهبي الفم واعظًا خاصةً في الأخلاق (السلوك)، لكن أخلاقه (أي تعليمه الخلقي) كانت متجذرة بعمق في الإيمان.

    إعتاد أن يُفسر الكتاب لرعيته، والكاتب المحبب له هو بولس الرسول. ويستطيع أي أحد بسهولة أن يرى في رسائله العلاقة الفعالة بين الإيمان والحياة. لقد كان لذهبي الفم موضوع عقيدي محبوب، يكرره كثيرًا، إنه موضوع الكنيسة والتي يربطها بشدة بعقيدة الفداء أي ذبيحة المسيح رئيس الكهنة، الكنيسة هي الوجود الجديد، الحياة في المسيح والحياة في بشرية المسيح.

    الموضوع الثاني هو موضوع الإفخارستيا الإلهية، إنه سر وأيضًا ذبيحة. إنه من العدل أن نُسمي ذهبي الفم، مثلما يُدعى حقيقًا، "مُعلم الإفخارستيا الإلهية" Doctor eucharisticus. وهذان الموضوعان مرتبطان ببعض، لأن الكنيسة حية في الإفخارستيا وبواسطة الإفخارستيا.

    كان ذهبي الفم شاهدًا للإيمان الحي، ولهذا السبب، صوته سُمع صداه في الشرق والغرب. الإيمان عنده حياة وليس نظريات، العقائد لابد أن تصير أعمال. لقد وعظ ذهبي الفم بإنجيل الخلاص، بإنجيل الحياة الجديدة، لم يكن واعظًا لأخلاق ذاتية بل بشّر بالمسيح، بالمصلوب والقائم، بالحمل ورئيس الكهنة. الحياة المستقيمة عنده كانت البرهان الكافي للإيمان المستقيم: الإيمان يكُمل في الأعمال الإنسانية والمحبة. بدون المحبة والإيمان والرؤية السرية والأسرار الإلهية كل شيء مستحيل. تابع ذهبي الفم صراع اليأس لأجل الحقيقة داخل مجتمع عصره، لقد إنشغل دائمًا لأجل النفوس الحية، كان دائم التوجّه للرعية لأنه كان يشعر نحوهم بالمسئولية لقد ناقش دون ملل ظروف وحالات محددة، وكان موضوع الغنى والفقر هو أحد مواضيعه المحببة والمعتادة. هذا الموضوع أملاه المحيط الذي كان يعيش بداخله فكان يحب أن يواجّه الحياة التي تشكلت داخل المدن العظيمة والمكتظة بالناس بكل ما فيها من تناقضات وتناحر بين الأغنياء والفقراء. ببساطة لم يستطع أن يتجنب المشاكل الاجتماعية بدون أن يُبعد المسيحي عن الحياة، إذن المشاكل الاجتماعية ـ عند ذهبي الفم ـ هي مشاكل دينية وأخلاقية.

    لم يكن ذهبي الفم مجرد مُبدع اجتماعي مع أنه كان يملك خططًا ورؤى للمجتمع في ذلك الوقت، لكنه إنشغل وأهتم بسلوك المسيحيين داخل العالم من ناحية واجباتهم ووظائفهم.

    إننا نجد في عظاته، أول كل شيء، تحليل بحثي عن حالة المجتمع، لقد وجد فيه ظلم كثير جدًا، برودة، لامبالاة، ألم وحزن. لقد إكتشف أن هذه الحالة ترجع إلى شراهة هذا المجتمع إلى روح الطمع الذي يُغذي عدم المساواة والظلم. لم ينزعج ذهبي الفم فقط بمفاخر الحياة الباطلة بل إعتبر الغنى هو التجربة الدائمة. الغِنى يفسد الغَني، إنه قناع يخفي تحته حقيقة شخصية الإنسان، إن هؤلاء الذين عندهم الغِنى يصلون لمرحلة فيها يحبونه منخدعين ويهابونه معتمدين عليه. كل أنواع الغِنى هو خطر طالما يعتمد ويرتكز عليه الإنسان مع أنه شيء مؤقت وغير دائم.

    كان ذهبي الفم إنجيليًا في هذا الموضوع (أي كان يعتمد على فكر الإنجيل في مواجهة موضوع الغِنى والفقر)، يقول يجب أن نكنز كنوزًا في السماء وليس على الأرض لأن كل الكنوز الأرضية هي أوهام ومحكوم عليها بالفناء.

    أيضًا يقول ذهبي الفم أن "محبة الغِنى هي محبة غير طبيعية"، هي ببساطة ثقل على النفس وثقل خطير، فالغِنى يستعبد النفس، يقطعها من خدمة الله. الروح المسيحية هي روح الرفض والغِنى يكبل الإنسان بأشياء جامدة (أي لا نفس لها). إن روح الشراهة والطمع تُغير الرؤية وتشوه التطلعات.

    إن ذهبي الفم إتبع عن إيمان راسخ وصايا العظة على الجبل "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس..." النفس هي أهم من اللباس أو الطعام، لكن الصراع هو سيطرة نظام المجتمع الشره والنهم.

    أن دعوة المسيحيين هي رفض كل أشكال الغِنى والثقة الكاملة والإيمان بتبعية المسيح، الغِنى له ما يبرره فقط في استخدامه: إطعموا الجياع، ساعدوا الفقراء وأعطوا دائمًا المحرومين. هنا يكون التوتر الأساسي والتصادم الجوهري بين روح الكنيسة والمجتمع المادي. إن الظُلم المُر والقاسي الذي نجده في الحياة اليومية هو الجرح النازف لهذا المجتمع. إن كل أشكال الغِنى هو ظُلم خاصةً في عالم مثل هذا مليء بالحزن والحرمان، إنه ببساطة دلائل على إنتشار اللامبالاة والبرودة (في علاقة الناس ببعض) وقلة الإيمان.

    لقد تعمق ذهبي الفم من هذا الموضوع لدرجة أنه إنتقد مفاخر الكنائس فيقول عن الكنيسة إنها "مكان نصرة الملائكة وليس محل صاغة. الكنيسة تطلب نفوس البشر وفقط لأجل النفوس يقبل الله كل تقدمة أخرى. الكأس الذي قدمه المسيح للتلاميذ في العشاء السري لم يكن من الذهب ولكنه كان له قيمة من أي شيء آخر. عندما تريد أن تُكرّم المسيح نعم أفعل ذلك عندما تراه عريانًا في شخص الفقراء. ليست لها أي قيمة لو قدمت حرير ومصنوعات ثمينة للكنيسة وتركت خارجًا المسيح يُعاني من البرد والعُري. أين الفائدة؟! لو أن الكنيسة مليئة بالأواني الذهبية لكن المسيح نفسه يموت جوعًا. إنكم تصنعون من الذهب صواني للكأس لكن لا تقدمون كأس ماء بارد للفقراء. المسيح كغريب بلا مأوى يجول خارجًا متسولاً وبدلاً من أن تقبلوه تصنعون نقوشًا".

    إن كان خوف ذهبي الفم هو أن أي شيء زائد على الحاجة ويُدخر هو بطريق ما مسروق من الفقراء. وفي رأيه لا يستطيع أحد أن يغتني إلا بإحتفاظه بفقراء آخرين (غالبًا يقصد بالاحتفاظ بالفقراء ليستخدموهم في إدارة مشاريعه). إن أصل الغني مؤسس دائمًا على ظُلم معين. وبالرغم من ذلك، الفقر في حد ذاته، عند ذهبي الفم، ليس هو فضيلة. الفقر يعني، عنده، قبل كل شيء الحرمان، والاحتياج والحزن والألم. ولأجل هذا السبب المسيح يُوجد بين الفقراء ويأتي إلينا متخفيًا كمتسول وليس كإنسان غني. إن الفقر هو بركة ولكن فقط عندما يصير مقبولاً وذلك لأجل المسيح. إن جهاد الفقراء هو أقل من الأغنياء وهم أيضًا أكثر إستقلالاً ـ أو على الأقل يمكنهم أن يكونوا كذلك.

    لكن ذهبي الفم يعرف جيدًا أن الفقر يُمثل أيضًا تجربة، ليس فقط لأنه ثقل ولكن لأنه يُشجع على (يجلب) الحزن واليأس.

    لقد أراد أن يحارب الفقر لأجل هذا السبب بالضبط، ليس فقط لكي يخفف الألم ولكن لكي يُبعد التجارب.

    لقد إنشغل ذهبي الفم دائمًا بالمواضيع الأخلاقية، وله آراء خاصة عن المجتمع العادل، وأول شيء يعتبره ضروري في المجتمع هو المساواة، فهي تمثل القيمة الأولى للمحبة الأصيلة. وتبحر ذهبي الفم أكثر في هذا الموضوع مؤمنًا أنه يوجد واحد فقط في العالم يملك كل الأشياء هو نفسه الله خالق كل الأشياء. وبناء على ذلك ـ من الأصل ـ أي ثروة فردية هي غير موجودة. الكُل يُنسب ـ إلى الله. أي شيء (نملكه) هو ليس مُعطى من الله بل مقترض من الله للإنسان ولأهداف إلهية.

    لقد أراد ذهبي الفم أن يقول: كل الأشياء هي مِلك الله ما عدا الأعمال الصالحة للإنسان ـ هذه الأعمال هي فقط التي يستطيع الإنسان أن يمتلكها، إن كل الأشياء مُعطاة للإستخدام المشترك طالما إنها تنتمي إلى الله، ربنا كُلنا.

    ألا يُصدق هذا على الأشياء العالمية؟ المُدن، الأسواق والطرق أليست مشتركة للكل؟ إن تدين الله هو بنفس النوع، الماء، الهواء، الشمس والقمر وبقية الخليقة هي للاستخدام المشترك.

    تبدأ المنازعات عادةً عندما يحاول البشر أن يدّعوا ملكية هذه الأشياء والتي هي بطبيعتها لم تُعطى للاستخدام الخاص لبعض الناس دون الآخرين.

    إن ذهبي الفم كانت لديه شكوك ناحية الملكية الفردية. ألم تبدأ المعركة (الصراع) من اللحظة التي ظهر فيها التميز البارد بين "ما هو لي" و "ما هو لك"؟ لم ينشغل ذهبي الفم كثيرًا بالنتائج ولا للأسباب التي توجّه الإرادة.

    أين يذهب الإنسان حتى يُجمع كنوزه هذه؟ لقد طلب ذهبي الفم العدل لكي يحمي القيمة الحقيقية للإنسانية. ألم يُخلق الإنسان على صورة الله؟ ألم يريد الله خلاص ورجوع الإنسان بغض النظر عن موقعه في الحياة ومدى سلوكه في الماضي؟

    الجميع مدعّون للتوبة والتوبة هي في إستطاعة الكُل. لا يُوجد أي إحتقار للأشياء المادية في عظات ذهبي الفم. الخيرات المادية آتيه أيضًا من الله وهي ليست شريرة في حد ذاتها. الإستخدام الظالم للخيرات، نحو فائدة البعض ذاك هو الشر إذ يُترك الآخرين في جوعهم. الإجابة تُوجد في المحبة. المحبة ليست أنانية "لا تفتخر ولا تطلب ما لنفسها" لقد كانت أمام عينيه الكنيسة الأولى "شاهدوا نمو التقوى. لقد تركوا غناهم بكل سرور لأنهم أخذوا غِنى أعظم بدون تعب. لا نجد أحد بينهم قد عُيّر ولا أحد خامل (كسول) أيضًا ولا أحد بينهم حفظ الإساءة. لم يوجد بينهم إفتخار ولا إحتقار. لم يحدث سلام عن "ما هو لي" و "ما هو لك" الفرح كان يغمر موائدهم ولا ظهر أحد على أنه يأكل من ما له أو ما هو للآخر إذ لم يعتبروا ثروات إخوتهم غريبة عليهم. كانت ثروات الرب، إذ لا شيء كان ملكهم بحسب إعتقادهم، الكل كان للإخوة، يتسائل ذهبي الفم: كيف كان ذلك ممكن؟! بإلهام المحبة، بمعرفة محبة الله الغير محدودة.

    لم يعظ ذهبي الفم ـ تحت أي معنى ـ "بالشيوعية". وصفه العام في حد ذاته ممكن يخدع ويضلل أي أحد بسهولة، لأن الأساس عنده هو الروح. كان الرهبان في عصره قد طبقوا بحماس وبطريقة عملية أن الله هو السيد والمالك لكل الأشياء. وذهبي الفم، إذ كان يعظ في المدن إعتبر الحياة الرهبانية ليس طريق أسمى قد أُعدّ للمختارين ولكن قانون إنجيلي (مِثال) للحياة وهي متاحة بل أعطيت لكل المسيحيين. بهذا المفهوم قد إتفق مع التقليد الأساسي للكنيسة الأولى من باسيليوس وأغسطينوس حتى ثيودوروس ستوديتوس θεοδῶρος Στουδίτος  فيما بعد. إن قوة الرهبنة لم تُوجد في الشكل الأولَّي لها ولكن في روح التكريس في إختيار "الدعوة العُليا". أكانت هذه الدعوة فقط لقلة؟ يتسائل ذهبي الفم. لقد كان شاهدًا عيان لعدم المساواة. يستائل أيضًا أليس خطر أن نميز بين "الأقوياء" و "الضعفاء"؟ من الذي سوف يدين؟ لقد وضع ذهبي الفم في ذهنه الناس العمليين. كان يُوجد ندرة فردية في طريقة تعامل الناس ببعض، لكن ذهبي الفم كّرم كثيرًا روح الوفاق والجماعة، روح التكافل، الإهتمام المشترك والمسئولية المشتركة، روح الخدمة. لا يستطيع أحد أن ينمو في الفضيلة إلا إذا خدم إخوته، لذلك كان دائمًا يشدد على قيمة (أهمية) المحبة الإنسانية. هؤلاء الذين لم يمارسوا المحبة الإنسانية يُتركون خارج عُرس المسيح. لا يكفي أن ترفعوا الأيادي نحو السماء مِدَّوها نحو المحرومين عندئذٍ تُستجاب من الآب. السؤال الوحيد الذي سوف يُسأل في الدينونة الأخيرة هو عن المحبة الإنسانية وذلك بحسب مَثَل الدينونة الأخيرة الوارد في الإنجيل. لم يكن ذهبي الفم مجرد داعيًا للأخلاق، فالأخلاق لديه لها عمق واضح. المذبح الحقيقي هو نفسه جسده البشري، فلا يكفي أن نعبد الله في المذابح (الكنائس) لأنه يوجد مذبح آخر من الأنفس الحية، وهذا المذبح هو نفسه المسيح أي جسده. أن ذبيحة البر والرحمة هي التي يجب أن تُقدم على هذا المذبح، وذلك لو أردنا أن تُقبل تقدماتنا في أعين الرب. إن الإخلاص والتكريس المطلق للمسيح، الذي آتى إلى العالم ليسد كل إحتياج ويلطف كل حزن وألم، يجب أن يُلهم أعمال المحبة الإنسانية.

    كان ذهبي الفم لا يعتقد في الأشكال المجردة، وإذا كان يملك إيمان ملتهب، في القوة الخلاقة للمحبة المسيحية. ولهذا السبب صار مُعلمًا ونبيًا لكل العصور في الكنيسة. لقد عاش في شبابه عدة سنوات في الصحراء ولكنه لم يرد أن يظل هناك، لذلك إنعزاله الرُهباني كان مجرد فترة إعداد وتجهيز. لقد عاد إلى العالم لكي يعظ عن قوة الإنجيل، كان مدعوًا من الله مبشرًا، له غيره إنجيلية ورسولية. أراد أن يتقاسم مع إخوته هذا الإلهام (الغيرة) ويعمل لثبات ملكوت الله. لقد صلّى أن تتحقق كل هذه الأمور في الحياة العامة حتى لا يحتاج أحد أن ينسحب إلى الصحراء مفتشًا على الكمال لأنه توجد نفس الفرصة داخل المدن. أراد أن تتغير "تتجلى" المدينة نفسها ولأجل هذا الهدف إختار لنفسه طريق الكهنوت والرتبة الرسولية.

    أكان هذا حُلم سهل المنال؟ أكان من الممكن إعادة تغيير العالم وطرح كل ما هو مادي فيه؟ هل نجح ذهبي الفم في رسالته؟

    لقد كانت حياته عاصفة وصارمة، كانت حياة المثابرة والشهادة. لقد طُرد وأُستُنكر ليس من الوثنيين ولكن من إخوته المزيفيين، ومات بعيدًا عن الوطن كأسير في المنفى. لكن قبَّل كل ما حدث له بروح الفرح وكأنها أتت من يد المسيح فالمسيح نفسه قد حُكم عليه بالموت.

    الكنيسة حفظت له الجميل واعترفت بذاك الشهيد وأعلنت في إحتفال بأن ذهبي الفم كان مُعلمًا من "المعلمين المسكونيين" لكل الأجيال القادمة. يُوجد مذاق خاص (غير معتاد) في نصوص ذهبي الفم، لقد كان العالم الذي يعيش فيه هو أيضًا عالمنا، عالم متوتر، عالم مكتظ بالمشاكل في كل قطاعات الحياة. إن نصائحه من الممكن أن تجد لها صدى ـ ليس قليل ـ في عصرنا وأهم ما قدّمه هو تلك الدعوة نحو تحقيق المسيحية الكاملة والتي فيها الإيمان والمحبة الإنسانية، الإيمان والتطبيق العملي مرتبطان كيانيًا مع لجوء مطلق إلى محبة الله العجيبة، إلى الثقة المطلقة في رحمته، إلى إخلاص مطلق في خدمته بواسطة يسوع المسيح إلهنا.



[1] هذه المقالة نُشرت في :
St. Vladimir's Semimavy Quantenly, IV, Nos 3/4 (1955)
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق