الاب رومانيدس عن كتاب أصدره بعد نياحته الأب جورجيوس ميتالينوس بعنوان: اللاهوت الآبائي، وهو بمثابة مجموعة مقالات قد تركها الأب رومانيدس في مكتبه – ترجمة عن اليونانية د جورج عوض إبراهيم
كثيرون يعتقدون أن الأرثوذكسية هي ديانة مثلها مثل ديانات كثيرة والتي لها إهتمام أساسي هو إعداد أعضاء الكنيسة للحياة بعد الموت, أي تضمن مكان الفردوس لكل مسيحي أرثوذكسي. هكذا أُعتبر أن العقيدة الأرثوذكسية تقدم ضمان للمنضمين إليها, لأنها أرثوذكسية وعلى النقيض المرء الذي لا يؤمن بالعقيدة الأرثوذكسية, سوف يذهب إلي الجحيم, فيما عدا لو أرسلته خطاياه الشخصية إلي هناك.
إن الأرثوذكس المسيحيين الذين يؤمنون بأن هذا هو مفهومهم عن الأرثوذكسية, هؤلاء يربطون إرتباطاً حصرياً بين الأرثوذكسية والحياة بعد الموت. وهؤلاء لا يفعلون أموراً كثيرة في هذه الحياة, بل ينتظرون الموت, لكي يذهبوا إلي الفردوس مستندين على أنهم كانوا على قيد الحياة مسيحيين أرثوذكس!
توجد مجموعة أخري من الأرثوذكس نشيطة في الكنيسة ومهتمة ليس بالحياة الأخري بل تنشغل بالأساس بهذه الحياة الحاضرة. أي عن كيف سوف تساعدهم الأرثوذكسية لكي يحيوا حياة حسنة في هذه الحياة. مثل هؤلاء المسيحيين الأرثوذكس يصلون لله ويلحون علي الكهنة لكي يصلوا ويقدموا توسلات وطلبات لكي يساعدهم الله علي أن يقضوا حياتهم الحاضرة على ما يرام, حتى لا يمرضوا, ولكي يصير أولادهم صالحين وأن يدبر لبناتهم زيجات سعيدة وحسنة, وأولادهم الذكور يجدون فتيات جميلات ومن أُسر غنية للزواج, وكذلك أعمالهم تسير كما يجب والتجارة التي يعملون بها تسير بطريقة حسنة, وأيضًا صناعاتهم أو البورصة التي يودعون فيها أموالهم تكون على ما يرام. هنا نري أن هؤلاء المسيحيين لا يختلفون كثيرًا عن مؤمني الديانات الأخري الذين يفعلون نفس هذه الأمور.
هكذا يري المرء ـ من كل ما سبق ـ أن النظرة التدينية - لديها علامتين "مشتركتين " مع الديانات الأخري:
الأولي: إعداد المؤمنين للحياة بعد الموت, حتى يذهبوا إلي الفردوس, كما يعتقد كل واحد, الثانية: تحرص علي أن لا يمر المسيحيين في ضيقات وإضطرابات وأمراض وحروب...الخ. في هذه الحياة, فالله ينظم كل شيء حسنًا، كل إحتياجاتهم أو رغباتهم. هكذا بالنسبة لهؤلاء, الديانة تلعب دورًا عظيمًا في هذه الحياة وحسنًا في حياتهم اليومية.
أيضًا مَنْ مِن كل المسيحيين يبالي بمسالة أن الله موجود أو غير موجود؟
بالنسبة لهؤلاء لم يفترض موضوع هل يوجد الله أم لا, طالما من الأفضل أن يوجد الله لكي نستطيع أن نستدعية ونطلب منه أن يرضي إحتياجاتنا حتى تصير أشغالنا على ما يرام ونوفق في هذه الحياة.
هنا نري أن الإنسان لديه إتجاه قوي لأن يوجد الله وان يؤمن الانسان بأن الله موجود, لأنه فقط في إحتياج لوجود الله, لكي يضمن له كل ما قلناه. وبما أن الإنسان يحتاج لأن يوجد الله, إذن الله موجود!
لو أن الإنسان ليس لدية إحتياج لله وكان في إستطاعته توفير كل ما يحتاجه في هذه الحياة بطريقة أخرى, عندئذٍ لا يعرف المرء كم من الناس سوف تؤمن بالله.
هكذا نري, أناس كثيرين, بينما قبلاً كانوا غير مبالين بالديانة, وبنهاية حياتهم, يتدينون, بعد أن حدث أمر ما أخافهم. لأنه لم يكن في إستطاعتهم أن يحيوا بدون أن يستدعوا إله لكي يساعدهم من إعتقاد خرافي. لأجل هذه الأسباب, طبيعة الإنسان تساعدة أن يتدين. هذا لا يسري فقط علي المسيحيين الأرثوذكس, يسري علي المتدينين في كل الأديان. دائمًا طبيعة الإنسان هي هي. هكذا الإنسان بعد سقوطه ـ بحسب الطبيعة هو مظلم ـ بخلاف الطبيعة يميل تجاه الخرافة.
الآن السؤال الذي يتبع هذا, هو: أين تتوقف الخرافة وأين يبدأ الإيمان الحقيقي؟
للآباء مواقف وتعاليم واضحة علي هذه المواضيع.
الإنسان الذي يعتقد أنه يتبع تعليم المسيح بمجرد الذهاب كل أحد إلي الكنيسة, ويتناول بإنتظام ويستخدم الكهنة لكي يعملوا له تقديس وصلوات...الخ بدون أن يتعمق في كل هذا باقيًا علي حرف الناموس وليس علي روح الناموس, هل يستفيد بالحري من الأرثوذكسية؟
ايضا واحد آخر يصلي حصريًا للحياة الاخرى لأجل ذاته وللآخرين ولا يبالي تمامًا بهذه الحياة, هل هذا أيضًا يستفيد بالحري من الأرثوذكسية؟
ربما الإتجاه الأول يمثله كاهن الكنيسة وكل الذين يجتمعون حوله بالروح السابقة وإتجاه آخر يمثله شيخ في دير, عادةً أرشمندريت علي المعاش وينتظر الموت, مع بعض الرهبان حوله.
طالما الإتجاهين ليس هما متمركزين حول التطهير والإستنارة, من منظور آبائي, هما إتجاهان خاطئان من جهة الهدف. لكن طالما هما متمركزين حول التطهير والإستنارة ويطبقا التربية النسكية الأرثوذكسية الآبائية للصلاة الذهنية, عندئذٍ فقط الأمور تُوضع فوق قاعدة مستقيمة. هذان الإتجاهان هما مبالغ فيهما إلى حد التطرف. ليسا لديهما محور. المحورالمشترك الذي يميز الأرثوذكسية ويحفظ إستمراريتها, المحور الواحد والفريد فوق كل المواضيع التي تنشغل بها والذي يضعها دائمًا فوق قاعدة مستقيمة, هو: تطهير ـ إستنارة ـ تأله.
الآباء لم ينشغلوا عن ماذا سوف يحدث للإنسان بعد الموت, لكن ذاك بالحري الذي كان يشغلهم هو ماذا سيصير الإنسان في هذه الحياة. بعد الموت لا يوجد شفاء للذهن, عندئذٍ يجب في هذه الحياة يبدأ الشفاء لأنه "في الجحيم لا تكون توبة". لأجل هذا، التعليم الأرثوذكسي لا هو يتعالي علي هذا العالم ولا هو عِلم الإنشغال بالمستقبليات ولا بالأخرويات, بل هو تمامًا يخص هذا العالم الحاضر. لأن إهتمام الأرثوذكسية هو الإنسان في هذا العالم, في هذه الحياة, ليس بعد الموت.
الآن التطهير والإستنارة لأي سبب نحتاجهما؟
لكي يذهب الإنسان إلي الفردوس ويهرب من الجحيم؟
لأجل هذا نحتاجهما؟
في ماذا يتآلف التطهير والإستنارة ولأي سبب يهتم بهما الأرثوذكس؟
لكي يعطي المرء إجابة علي هذا السؤال, يجب أن يملك المفتاح الأساسي الذي هو الآتي: كل الناس علي الأرض لديهم نفس النهاية من المنظور اللاهوتي الأرثوذكسي. سواء هو ارثوذكسى أو بوذى أو أي إنسان علي الأرض, هو مُعَيّن مسبقًا لرؤية مجد الله. سوف يري مجد الله أثناء النهاية العامة للبشرية في مجيء المسيح الثاني. كل البشر سوف يرون مجد الله, ومن هذا المنظور لهم نفس النهاية. الكل سوف يرى مجد الله, لكن بإختلاف: المخلَّصون سوف يرون مجد الله كنور حلو ورائع, أما الأشرار سوف يرون مجد الله ذاته كنار سوف تحرقهم. الكل سوف يري مجد الله, أنه حدث حقيقي ومرعب. سوف يرى المرء الله, أي مجده, ونوره, هذا هو الشيء الذي سوف يصير سواء اردنا أم لا. لكن معايشة هذا النور سوف تكون مختلفة عند هؤلاء عن أولئك، عندئذٍ عمل الكنيسة والكهنة ليس أن يساعدوننا لكي نري هذا المجد, لأن هذا سوف يصير علي أي حال. عمل الكنيسة هو كيف سيرى كل إنسان الله. ليس ما إذًا كان سيري الله, بمعني عمل الكنيسة هو أن تكرز للناس بأنه يوجد الله الحقيقي, أن الله يُعلَّن سواء كنور أو كنار حارقة, أن كل البشر في المجيء الثاني للمسيح سوف يرون الله, وعليها أن تُهيء أعضائها, لكي يروا الله ليس مثل نار بل مثل نور.
إعداد أعضاء الكنيسة هذا, كذلك أيضًا كل الناس الذين يريدون أن يروا الله كنور, هو رسالة تتطلب في جوهرها تربية شفائية والتي يجب تبدأ في هذه الحياة. يجب في هذه الحياة يصير الشفاء ويُتمم. لأنه بعد الموت لا تكون توبة. هذه التربية الشفائية هي جوهر أيضًا المحتوي الأساسي للتقليد الأرثوذكسي كإهتمام أساسي للكنيسة الأرثوذكسية. يتآلف ويتكون من المراحل الثلاثة الروحية: التطهير من الشهوات والإستنارة بواسطة نعمة الروح القدس والتآله بواسطة نعمة الروح القدس. يحدث أيضًا الآتي: لو لم يصل المرء علي الأقل لحالة إستنارة جزئية في هذه الحياة, فإنه لن يستطيع أن يري الله كنور ولا في هذه الحياة وأيضًا ولا في الحياة الأخري.
هكذا من الواضح أن آباء الكنيسة يهتمون بالإنسان . وذاك الذي يحتاج للشفاء هو كل إنسان، فكل إنسان لديه أيضًا المسئولية أمام الله أن يبدأ هذا العمل اليوم, في هذه الحياة, لأنه في هذه الحياة يستطيع وليس بعد الموت وهذا الإنسان ذاته هو ذاك الذي سوف يقرر إن كان سيتبع طريق الشفاء هذا أم لا.
قال المسيح "أنا هو الطريق" (يو6:14). الطريق تجاه ماذا؟ ليس فقط تجاه الحياة الأخري. المسيح هو اولا الطريق في هذه الحياة. المسيح هو الطريق تجاه أبيه وأبونا، المسيح يُعلّن للإنسان أولاً في هذه الحياة ويُظهِر له الطريق إلي الآب. هذا الطريق هو المسيح ذاته. لو أن الإنسان لا يرى المسيح في هذه الحياة علي الأقل بالإحساس الذهني, سوف لا يرى الآب, أي نور الله ولا في الحياة الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق