الأحد، 5 مايو 2013

لا تلمسيني


لا تلمسيني


د. جورج عوض إبراهيم

نقرأ بحسب إنجيل يوحنا أن المسيح القائم لم يسمح لمريم المجدلية أن تقترب منه ” لا تلمسيني” (يو17:20). لكن بعد أسبوع, دعيَّ المسيح نفسه توما لكي يضع إصبعه مكان الجرِاح (يو24:20ـ29). كيف يتوافق هذان الحدثان؟

            إن تعبير القائم "لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلي أبي" (يو17:20), يمثل تعبير من التعبيرات عسرة التفسير. قد يبدو أنه يوجد تناقض في أن المسيح, من جهةٍ, لا يسمح لمريم المجدلية أن تلمسه لأنه لم يصعد بعد إلي أبيه, من جهةٍ أخرى, في نهاية الإصحاح نفسه, وأيضًا قبل أن يصعد إلي أبيه يقول لتوما: "هات إصبعك إلي هنا وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا" (يو27:20).

            في وجهة النظر الأولي, حالة مريم المجدلية يبدو أنها لا تتوافق مع الأحداث الأخري المذكورة في العهد الجديد والتي تؤكد علي البُعد المادي والجسدي في شركة وتواصل القائم مع تلاميذه. هكذا, في نفس الإنجيل الرب القائم يكسر ويوزع الخبز والسمك بيديه علي التلاميذ. وعلي الجانب الآخر, بحسب إنجيل متى فإن حاملات الطيب أثناء تقابلهم مع القائم: "فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له" (مت9:28). وبحسب إنجيل لوقا الرب القائم يمسك الخبز ويباركه ويقطعه ويوزعه  علي تلميذي عمواس (أنظر لو30:24), بينما في موضع آخر في نفس الإنجيل يأكل قطعة من السمك المشوي (أنظر لو 43:24). وفي النهاية, تعبير "وفيما هو مجتمع معهم" الواردة في سفر الأعمال (أع4:1), تعلن بوضوح أن الرب بعد القيامة وحتى الصعود أكل مع التلاميذ وكانت له شركة وتواصل معهم عن قُرب.

بحسب بعض المفسرين, قول المسيح لتوما بأن يلمس آثار الجروح لا يعني أنه لمسَّ جسده. حقًا دعى المسيح توما بأن يلمسه (أنظر يو27:20) لكن توما مضى مباشرةً في إعترافه "ربي وإلهي" (أنظر يو28:20) بدون أن يُذكَّر أنه حقًا لمسَّ الرب. هؤلاء المفسرون نادوا بأن توما قد آمن بالفعل ولم يتجرأ علي لمس ربه وإلهه وإنحصر في إعترافه الذي ذكره. وفق هذا الرأي لا يوجد بالضرورة تناقض بين "لا تلمسيني" و"هات يديك وضعها في جنبي", طالما أن توما لم يتجاوب مع هذا الأمر الأخير.

مفسرون آخرون يعتبرون أنه لا يوجد بالضرورة تناقض بين "لا تلمسيني" وحقيقة أن المسيح ظهر مرات معينة وهو يأكل مع تلاميذه ويوزع لهم خبز وسمك, لأن هذا لا يستلزم, علي أي حال, أيضًا إتصال جسدي معهم. وبالرغم من ذلك يظل بلا تفسير لماذا المسيح يستطيع أن يأتي في علاقة مع أشياء مادية, لكن ليس مع الناس.

أيضًا المقارنة بين "لا تلمسيني" والصورة التي ذكرها متى في (مت9:28) والتي بمقتضاها حاملات الطيب يمسكون أرجل القائم هي صعبة جدًا. فالذي رفضه المسيح في إنجيل يوحنا مع مريم المجدلية يُقدمه بحسب إنجيل متى لكل حاملات الطيب بما فيهم مريم. بالطبع صيغ الرأي بأن الروايتين يكمل الواحدة الآخر كالآتي: لم يُسمح لمريم المجدلية أن تمسك الرب بمفردها (أنظر يو17:20) لكن عندما إبتعدت مع حاملات الطيب عن القبر سُمِح للجميع معًا أن يسجدوا له ويلمسوا أرجله (أنظر مت9:28).

لكن ليس هناك إنسجام للروايتين خاصةً أنه وفق الشهادة الواضحة لنصوص القيامة الواردة في الإناجيل أن الرب القائم كان لديه جسد مادي. كان يستطيع أن يظهر في أماكن مغلقة بدون أن يحتاج لفتح الأبواب (أنظر يو19:20 ،26) ويظهر بنفس الطريقة (أنظر لو31:24) لكن الطبيعة البشرية المقامة لم تُحرم من البُعد الجسدي. يمكن لجسده أن يكون لديه خواص المادة التي هي مماثلة لخواص أجسادنا التي وُلدِت وتحيا في عالم السقوط وتخضع للفساد والموت, لكن جسده القائم لديه نوعية المادة التي سوف تكون لدي أجسادنا بعد قيامة الأموات. لن يكون جسد خيالي بل جسد "في عدم فساد" (1كو42:15), "في مجد", "في قوة" (1كو43:15), إنه "جسد روحاني" (1كو44:15).

لو أن المسيح لم يهتم بجسده المادي, عندئذٍ القبر لن يوجد فارغًا, هو نفسه لن يأكل مع تلاميذه متقاسمًا معهم الخبز والسمك, وبالتأكيد لا أحد يستطيع أن يلمسه.

إذن لماذا قال "لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلي أبي" (يو17:20)؟

توجد آراء تفسيريه كثيرة لهذا النص, نذكر منها الآتي:

1ـ المسيح لم يسمح لمريم المجدلية أن تمسكه لأنها إمرأة. هذا الرأي لا يتمشي مع حقيقة أن المسيح القائم يقدر ويكرم بالحري النساء معلنًا ذاته أولاً لحاملات الطيب (أنظر مت9:28, مر9:16, يو14:20) وبعد ذلك لتلاميذه (أنظر مت 17:28, مر12:16, 14, يو19:20). هكذا كما ذُكِر بالفعل في إنجيل متى, سمح المسيح لحاملات الطيب أن يعبروا عن إحترامهم له ماسكين أرجله وإعترافهم بإلوهيته وتعبيرًا عن محبتهم لشخصه.

2ـ المسيح لا يريد أن يأتي في إتصال جسدي مع البشر حتى لا يتدنس جسده القائم الذي سوف يصعد إلي السموات.

هذا الرأي أيضًا لا يمكن أن يكون صحيحًا لأن الله هو يسمو فوق أي دنس يأتي من الطبيعة البشرية. لأن غير ذلك كان بالأولي أن لا يتجسد.

3ـ مريم تعلن عن نيتها بلمسها للمسيح أن تأخذ عطية روحية علي أساس ما قاله لهم المسيح أنه سوف يرسل لهم المعزي (أنظر يو26:15), المسيح لم يتركها تقترب منه وشرح لها انه مازال لم يصعد لأبيه مذكرًا بأنه طالما الشرط للعطية الروحية هي صعوده وجلوسه عن يمين الآب, ولا يمكن مادام هو موجود علي الأرض, أن يمنح عطية الروح القدس. هذا الرأي يفترض مسبقًا أن مريم, للتو تعرف يسوع, أول ما فكرت هو أن تستغل حضوره لفائدتها, لكن في الواقع مريم تظهر بأنها تتصرف من منطلق محبتها غير المغرضة تجاه الرب.

5ـ رأي مماثل للسابق ينادي بأن مسألة "لا تلمسيني" ليس لديها مفهوم "لا تتكيئ عليّ" بل "لا تمسكيني" بكلام آخر دُعيت مريم من المسيح أن لا تعتمد علي شخصه ولا تتقيد بصورته الأرضية. فقط طالما المسيح سيصعد إلي أبيه ويرسل الروح القدس, سيمكن لمريم ومعها كل الجماعة الكنسية أن تمسكه صانعين شركة معه ليست بعد علي مستوي الأشخاص التاريخيين بل علي مستوي الإيمان والخبرة, هذا لأن الباراقليط سيكون بعد الشخص الذي سوف يجعل الرب القائم قريبًا للمؤمنين. هذا الرأي به صعوبة أن فعل «άπτομαι»: ألمس يمكن أن يُدرك بنفس معني κρατῶ: أي أمسك.
ـ أخيرًا, يوجد رأي يشرح الحدث, بأن المسيح صعد إلي الآب في الفترة ما بين ظهوره لمريم المجدلية (أنظر يو11:20ـ17) وظهوره للتلاميذ (أنظر يو19:20ـ23). هكذا, بينما تجنب الإتصال بمريم, لأنه مازال لم يصعد وبالتالي لم يأت الروح "  لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ " (يو7:16), بعد ذلك قد صعد إلي الآب, يمنح الروح (يو19:20, 21ـ23) معطيًا أيضًا الإمكانية لتوما أن يلمسه (يو27:20). هذه الفرضية تبدو منذ البداية أنها تعطي حل للتضاد الموجود بين الحدثين, لكن لا تستند علي معطيات الرواية الإنجيلية طالما لا يوجد أي برهان في النص أن الصعود صار بين الحدثين. نعم أعطي الروح للتلاميذ ( " وَلَمَّا قَالَ هذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ:«اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو22:20ـ23). لكن هذه العطية لا تتطابق مع حلول الروح القدس في يوم الخمسين.

هذه الآراء التي إستعرضناها لا تجيب إجابة كافية علي الصعوبة التفسيرية لآية (يو17:20), إلا أن هناك إمكانية أخري لنفهم هذا النص.

يبدو من سياق النص أن مريم المجدلية وُجِدت في حالة إضطراب وإختلطت الأمور في ذهنها. فهي  مَنْ رأت الحجر مرفوعًا عند مدخل قبر المسيح (يو1:20). ثم بعد ذلك أسرعت واعلنت لبطرس وليوحنا بأنهم أخذوا الرب وأنه غير معروف أين وضعوه والتلميذين اسرعوا تجاه القبر والتلميذ المحبوب آمن وهو يري القبر فارغ (يو3:20ـ8). لكن مريم كانت مازالت في حالة إرتباك لأن جسد معلمها المحبوب قد إختفي. فالإرتباك وثقل الإجهاد العاطفي بدأ من أنها ظلت أبعد من أي منطق خارج القبر الفارغ وهي تبكي (يو11:20). في تلك الساعة ترى أمامها ملاكين لكن لم تكن في حالة أن تدرك هويتهما (يو13:12). هكذا أجابت علي سؤالها لماذا تبكي قائلة للمرة الثانية أنهما أخذوا سيدها وهي لا تعرف أين وضعوه (يو13:20). بمفردها بعد ذلك إلتفتت للخلف ورأت يسوع لكن لم تعرفه أيضًا (يو14:20).

لقد سألها المسيح نفس السؤال وظنت أنه البستاني وتوسلت إليه أن يقول لها إن كان أخذه وأين وضع جسد سيدها حتى تستطيع أن تأخذه (يو15:20), فقط, عندما نطق القائم  بإسمها, للحال رجعت من إرتباكها, وعرفته وهمت بأن تلمسه داعية إياه كما إعتاد التلاميذ, يا معلم (يو16:20). لكن المسيح بعبارة "لا تلمسيني" إتخذ مسافة ولم يسمح لها أن تعبر عن فرحتها. ولم يفعل ذلك لأنه يشك في نيتها الصالحة أو محبتها العميقة. فعل هذا لكي يبلغها بكل وضوح أن الذي أمامها ليس مجرد معلم, بل الإبن وكلمة الله المتجسد والقائم.

أيضًا في حياته الأرضية إتخذ مسافة بينه وبين أشخاص محبوبون له حتى يصير مدركًا بكونه الله وأنه لا يمكن أن ينقاد من إحتياجات ورغبات بشرية, بل لديه تحكم كامل لكل الحالات ويعمل عندما هو يريد. والمثل الواضح لهذا الأمر ما قاله لأمه "ما لي ولك يا إمرأة" (يو4:2), عندما طلبت منه مباشرةً أن يتدخل ويعطي حلاً لمشكلة نقص الخمر في عرس قانا الجليل.

إذن المسيح برَّر قوله "لا تلمسيني" حين أضاف قائلاً :"لأني لم أصعد بعد إلي أبي". هنا نشأت مشكلة جديدة لو الآن هو لا يُقتَّرب منه حيث لم يصعد بعد إلي أبيه, كم بالحري سيسري هذا الأمر, عندما إبتعد أصلاً من العالم؟ لكن هذه المشكلة يمكن أن تُحَّل لو دخلنا إلي عمق التعليم اللاهوتي المختفي في هذا التعبير.

مريم المجدلية, مثل معظم مَنْ تبعوا بثقة المسيح, لم تكن قد إستطاعت أن تدخل بعمق في سر لاهوته. لأن غير ذلك ما كانت تحزن وهي تري القبر فارغ بل كان عليها أن تفرح مدركة أن المسيح قام كما سبق وقال لهم. الآن, إذن,حيث تري أمامها القائم تقترب منه من جديد كمعلم لها, حيث بالنسبة لها لم يتوقف عن أن يكون إنسان عادي. سبب سوء فهمها لا يوجد فيها هي ذاتها بل في حقيقة أنها مازالت لم تأخذ الروح القدس الذي سيجعلها قادرة علي إدراك شخص الرب وعمله وتعليمه, وفق ما أعلنه: " بِهذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ " (يو25:14ـ26).

بالتالي, مريم المجدلية لا ينبغي أن تنتظر بأنها سوف تستطيع أن تقترب من المسيح لأن أبيه مازال لم يرسل الروح القدس الذي سوف يفتح ذهنها ويُعطيها القدرة أن تدركه حقًا. محبة مريم للمسيح لم تكن كافية. كانت تحتاج إلي المعرفة المستقيمة عنه, والتي سوف يمنحها لها الروح القدس معطيًا إياها المقدرة أن تقترب لشخص سيدها المحبوب.

هذا الروح القدس منحه القائم خاصةً لتلاميذه, بالفعل قبل الصعود وقبل يوم الخمسين. هذه العطية قد أخذها  أيضًا توما بالرغم من أنه كان غائبًا عن إجتماع التلاميذ في اللحظة التي منح فيها الرب القائم الروح القدس للتلاميذ. إن عطية الروح القدس منحت للتلاميذ المقدرة أن يدركوا ويعترفوا بهوية يسوع الحقيقية. وتوما نائبًا عن باقي التلاميذ يعترف ويقر بأن يسوع هو "الرب والإله" وعلي أساس هذا الإعتراف يمكن أن يقترب من المسيح القائم ليس علي أساس أنه معلم محبوب بل بكونه كلمة الله المتجسد.

   

     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق