الاثنين، 30 أغسطس 2010

القديس ذهبي الفم مفسراً للكتاب المقدس د. جورج عوض ابراهيم
الكتاب المقدس كمصدر هام للتعليم العقيدي.1
تأسس عمل ذهبي الفم كمعلم وواعظ على تفسير الكتاب المقدس. هو يشدد على أن الكتاب المقدس هو مصدر أساسي وهام وتام للتعليم العقيدي والأخلاقي. " هذا الذي يُوجد في إتفاق معه هو مسيحي " " ومَنْ لا يُوجَد في إتفاق معه هو بعيد عن الحق ". دائماً ينصح ذهبي الفم كل إنسان أن يقرأ بيقظة الكتاب المقدس. " لا تنتظروا معلم آخر.... لقد أعطي لكم قول الله ولا أحد آخر سوف يعلمكم إياه ". الشعب خاصةً يحتاج إلي أن يقرأ الكتب المقدسة. " الرهبان الذين إبتعدوا عن المدن هم في موضع آمن لكن نحن الذين نحيا في بحر الرغبات الخاطئة والتَجارب نحتاج هذا الدواء الإلهي حتي نستطيع أن نشفي ذواتنا من السوء. بالكتاب المقدس نستطيع أن نسحق سهام الشرير الملتهبة "
كل ما يحتويه الكتاب المقدس يقدم لنا تعليم وشفاء " داخل أي فقرة صغيرة في الكتاب المقدس نستطيع أن نجد قوة عظيمة وغني لا يُوصف ". الإنسان الذي يقرأ بإهتمام و دائماً الكتاب المقدس يكشف أعماق جديدة وسوف يسمع صوت الله الذي يتحدث بمصداقية لكل نفس بشرية. " وفقط مشاهدة الأناجيل تجعلنا قادرين أن نبتعد عن الخطية ", " ولو أكملنا القراءة بإهتمام عندئذٍ كأن النفس تدخل إلي مكان سرائري ومقدس. تتنقي وتصير أفضل لأن بواسطة هذه النصوص تبدأ الحديث مع الله ".
الكتب المقدسة هي رسالة كُتبت للبشر من الله لكل الدهور, وهذا يشرح النتيجة ( الفاعلية ) التي نستطيع أن نختبرها ونحن نقرأ الكتاب المقدس. عندما الرب الذي يحب الجميع يري كم نحن متأهبون لنعرف أعماق إلوهيته, ينير عقلنا ( ذهننا ) ويكشف ( ويعلن ) لنفوسنا الحق.
يُدرك ذهبي الفم وحي الكتاب المقدس تقريباً بحسب الحرف ( قائمة الأسماء ـ التحيات ـ التواريخ ). لا يحتوي الكتاب المقدس علي شيء زائد أو شيء ليس له هدف, حتي ولو حرف يوتا أو كلمة بسيطة, ودائماً إضافة حرف واحد يمكن أن يغير معناه كما يبدو من إعطاء إسم جديد لإبرام.
يعتبر ذهبي الفم أن الضعف البشري لكُتّاب الكتاب المقدس هو برهان لرأفة الله تجاه البشر وعنايته بهم. حاول أن يكتشف الأهمية الإلهية أيضاً للأخطاء والمتناقضات طالما بحسب فكرة " الإختلافات بين الإنجيلين هي في وعي خطة الله ": " إن إتفق هؤلاء في كل شيء, من جهة الزمن والمكان والكلمات التي قالوها عندئذٍ لا أحد من أعدائهم سوف يؤمن بأنهم كتبوا بدون أن ينصح الواحد الآخر وبدون أن يصلوا مسبقاً إلي إتفاق, أو أن إتفاقهم هو حقيقي وأصيل. الآن هذا الواقع بأن الأناجيل تحتوي علي إختلافات في تفصيلات صغيرة سوف تطيح بكل الشُبهات وتبرر تصديقنا للإنجيليين الذين كتبوها "
الكُتّاب المقدسين كتبوا وتحدثوا " في الروح أو الروح تحدث إليهم لكن ذهبي الفم يميز بيقظة وحي الروح من الأستحواذ منه. الإلهام ( الوحي ) هو إستنارة. الضمير والذهن يظلون في حالة صفاء وهذا الذي يُعلّن له يُدرك تماماً. هذا هو الإختلاف الجوهري بين النبؤة والسحر ولأجل هذا لا يفقد الكّتاب الكنسيين أبداً هويتهم. يشدد ذهبي الفم علي الشخصية الفردية لكل كاتب وظروف الكاتب. هيئة بولس بالأخص هي أمامه بوضوح. كل الكتاب المقدس يمثل وحدة واحدة لأنه أتي كله من الله.الكتّاب هم مجرد
أدوات للكتاب العظيم والفريد.
دراساته الكتابية مع ديودور الطرسوسي:
لقد درس ذهبي الفم أثناء شبابه مع ديودور الطرسوسي وفي مدرسته تشكلت طريقة فهمه للكتاب المقدس وكذلك طريقة شرحه للكتاب.
تحدث ذهبي الفم بإستمرار عن ديودور الطرسوسي بتأثر بالغ معترفاً له بالجميل " لقد عاش ديودور حياة رسولية في الفقر والصلاة وخدمة الكلمة " لسانه يقطر عسلاً ولبناً ", وكان بمثابة بوق وقيثاره. ذهبي الفم كشارح لم يُوجد هكذا مبتدعاً بل تّبع تقليداً ثابتاً محدداً.
يوجد الكثير في تاريخ اللاهوت الأنطاكي ظلّ غامضاً. صارت أنطاكية مركزاً للمسيحية من وقت مبكر لكن نستطيع أن نميز فقط حلقات غير مترابطة في سلسلة تقليدها غير المنقطع. أولاً علينا أن نتذكر ثاؤفيلوس الأنطاكي الذي كان كاتباً هاماً ومفكراً عظيماً. متأخراً نتقابل مع إسم ماليخنيوس الكاهن الذي أسس المدرسة اليونانية ومن ضمن المميزين لبولس السموساطي. هذه هي الفترة التي نشّط فيها المعلم المشهور لوكيانوس. وفي هذا العصر علّم الكاهن دوروثيوس أيضاً في أنطاكية. يوسابيوس الذي سمع تفسير الكتاب المقدس الذي كان يقوم به دوروثيوس في الكنيسة وصفه بأنه إنسان بليغ وخاصةً في اللغة العبرية, فكان يقرأ كتب عبرية بالأضافة إلي ثقافته اليونانية. هكذا يبدو أنه في القرن الثالث كانت أنطاكية أحد المراكز العظيمة للدراسات الكتابية وأن منهج التفسير المعاش قد تشكلّ بالفعل.
كان هناك تحفظ شديد من الأنطاكيون للتفسير الرمزي وخصوصاً إفستاسيوس الأنطاكي الذي بدأ الصراع ضد تلاميذ لوكيانوس
الأريوسيين.
عموماً, الحتمية الدفاعية ضد التعاليم الخاطئة دفعت إلي خلق مدرسة تعليم لاهوتي أنطاكي في القرن الرابع والتي كان يمثلها بالفعل ديودور الطرسوسي هذا إرتبط بلوكيانوس عن طريق تلميذ يوسابيوس إميسيس الذي درّس في إديسا.
ديودوروس كان ناسكاً مدافعاً عن الإرثوذكيسة أولاً ضد الأريوسين ومتأخراً ضد أتباع أبوليناريوس. كتب مواضيع متنوعة لكن كان في الأساس مفسراً. كتب تفسير في الكتب الخمسة الأولي للعهد القديم وفي المزامير وأسفار صمؤئيل وأيضاً في المقاطع الصعبة لأخبار الأيام والجامعة والأنبياء.
من العهد الجديد كتب عن الأناجيل وأعمال الرسل والرسالة الأولي ليوحنا الرسول. لكن بقي من أعماله فقط بعض المقاطع. أيضاً لدينا ورقة صغيرة " عن الثيوريا والرمزية " والتي فيها يشرح مبادئ منهمجة في التفسير.
يميز ديودورس بين التاريخ والثيوريا والرمزية. بحسب إعتقاده, الكتاب المقدس ليس هو عمل مجازي أو مجرد مَثَل. الروايات الكتابية هي حقيقية ومرتبطة بما يُوصف فيها. لأجل هذا علي مفسر الكتاب المقدس أن يكون تاريخي.
التفسير المجازي يبتعد عن الأهمية المباشرة للرواية ويغير الموضوع لأنه يفترض أن المقصود غير المكتوب. الرمزية ينبغي أن تُميز عن الثيوريا التي تعلن الأهمية السامية داخل التاريخ نفسه. الثيوريا لا ترفض الحقيقة التاريخية بل تضعها شرطاً لازماً. هذا هو المنهج الذي إستخدمه بولس الرسول حين شرح النصوص الكتابية.
لقد تجنب ذهبي الفم مبالغات ثيودور وكان الأقرب إلي منهج ديودور. ولا يوجد أدني شك أن ذهبي الفم تأثر بتفسيرات يوسابيوس إميسيس . وفي البداية إستخدم أيضاً نصوص الآباء الكبادوك والذين كانوا أقرب من التقليد الأسكندري

عموماً شرح ذهبي الفم كان شرحاً ريالستيكي, فالحوادث في الكتاب المقدس إما تعلمنا شيئاً أو تتنبأ عن حوادث معينة. التفسير النماذجي يختلف تماماً عن التفسير الرمزي وإعتماد ذهبي الفم في تفسيره للكتاب المقدس كان علي التفسير النماذجي. فالكتب المقدسة لها أهمية دينية لكل مؤمن وكل الأماكن وتنوع القُراء يجب أن يتجاوب مع تنوع المفاهيم الموجودة في الكتاب المقدس.
الكتاب المقدس هو كلمة الله ويحتوي علي عمق أو بُعد ثلاثي. لأجل هذا علي المفسر أن يدخل ويخترق السطح ويمضي أبعد من التفسير الحرفي. فالمستوي الحرفي بحسب رأي ذهبي الفم دائماً ناقص وغير واضح. عندما يتحدث الله إلي إنسان يضع في حسابه ضعف السامع.
هذا هو تفسيره للأوصاف البشرية التي يمنحها الكتاب لله. مثل الأب الذي لا يحفظ كل كرامته حين يتحدث إلي أتباعه. فالمسيح لم يعلن طبيعته الإلهية لنيقوديموس عندما تحدث إليه لأنه هو محتجب بالنسبة له لضعف الشخص الذي يتحدث إليه. لأجل نفس السبب تحدث الرُسل عن المسيح بكونه إنسان متجنبين إعلان الكثير عنه لحين يأتي الوقت المناسب.
كان يستخدم ذهبي الفم دائماً مصطلح " أيقونة " أو " مثال ": لا تنتظروا أن تجدوا حقيقة تامة في الأيقونة. بالحري دققوا في التماثل بين الأيقونة والحقيقة وسمو الحقيقة في العهد الجديد, لأجل هذا فقط إبدءوا بالعهد الجديد وأنتم تستطيعوا أن تتعرفوا علي " الحق " أو أهمية العهد القديم ".الأيقونة لن تكون مختلفة تماماً عن الحقيقة. بل هي تحتوي علي شيئاً من الحقيقة. النماذجية تختلف عن الرمزية, لأن النماذجية تشرح حوادث ووقائع وليست كلمات. فالرمزية تري فقط في الكتاب المقدس أمثلة أو رموز.
بالنسبة للرمزية في العهد القديم والعهد الجديد هما نظامين للتفسير أو عالمين وليسا مستويين في تدبير التاريخ. منهجهما لا يتأسس علي حوادث تاريخية. المفسر التاريخي لا يهدف إلي تغيير الكتاب المقدس إلي تاريخ للعالم. عمل الكتاب المقدس هو كتاب عن الماسيا
والخريستيولوجية والعهد القديم هو تصور مسبق ونبؤة للمستقبل.
ولا أحد ينكر أن في تفسير ذهبي الفم توجد رمزية محددة بدرجة ما
. لكن الرموز ليست هي الكلمات بل الحوادث. هكذا ذبيحة إسحق تعلن الصليب, وحمل العهد القديم يصور مسبقاً المسيح.
وهجرة الشعب الإسرائيلي إلي مصر والخروج هما صورة مسبقة للجوء يوسف إلي مصر ورجوعه بعد ذلك إلي فلسطين.
حاوّل ذهبي الفم أن يستخلص مفهوم الكتاب المقدس من الكتاب المقدس نفسه ولجؤه إلي التقليد كان في أضيق الحدود. كل من آباء إسكندرية وأنطاكية حاولوا أن يفسروا ويشرحوا الأهمية الداخلية للكتاب المقدس. الإختلاف بينهما منحصر في المنهج ولم يمتد إلي الهدف.

عظة 37 يو: 6 ـ 8 " شفاء المخلع ": الكتاب المقدس كنز من الأدوية.
" إن ربحنا من الكتب المقدسة هو ربح عظيم, وفائدتها لنا كبيرة. وهذا ما أراد أن يظهره بولس حين قال " لأن كل ما سبق فكُتب, كُتب لأجل تعلمنا حتي بالصبر و التعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء "( رو 5ـ4:1 ).
فالكتب المقدسة هي كنز من الأدوية, بحيث لو إحتاج أحد أن ينزع الغيرة والحسد, أو أن يخمد الشهوة ويدوس علي حب المال و يحتقر الألم, ويهيئ نفسه ويتحلي بالصبر ويتزين بالفرح, فإنه سيجد في الكتب المقدسة علاجاً عظيماً لكل هذه "
[2]



العظة الأولي للقديس يوحنا ذهبي علي مثل " لعازر والرجل الغني "
" يجب عليكم أن تعلموا هذا أيضاً, أن الإنجيليين الأربعة سجلوا كلهم بعض أقوال المسيح, إلا أن كل واحد منهم أختار أقوالاً أخري ليسجلها أيضاً. لماذا ؟ لكي يجعلنا نقرأ الأناجيل الأخري, ولكي يجعلنا ندرك عظمة هذا الإتفاق بينهما.
فإذا ذكرت الأناجيل الأربعة كل شيء, لما إنتبهنا بتدقيق إلي كل واحد منها, لأن أحدها كان يكفي لنعرف منه كل شيء. وفي نفس الوقت إذا كان كل ما ورد يختلف من إنجيل لآخر, لما رأينا إتفاقها العجيب. لأجل ذلك ذكرت الأناجيل الأربعة جميعها أموراً كثيرة مشتركة, إلا أن كل إنجيل إختار بعض الموضوعات لينفرد بذكرها
[3]"

القديس ذهبي الفم مفسراً للكتاب المقدس

يأتي التفسير في المقام الأول ـ بحسب ذهبي الفم ـ في خدمة الكرازة بالمسيحية. وقد قادة إهتمامة كراعِ إلي تطوير مذهب تاريخي صارم لثيودور بينما يحفظ في نفس الوقت الأساس التاريخي لليثوريا. وإذا كان يوقر الكتاب المقدس " كعلاج إلهي " يشفي أسقام النفس والموت فقد سعي القديس يوحنا ذهبي الفم بغيرة وإيمان راسخ عميق إلي كشف " المعني الإلهي " للكتاب المقدس والكرازة به. وفي تفسيره للمزامير (4:9) يميز ذهبي الفم بين ثلاثة أنواع من العبارات الكتابية: تلك التي تمثل فقط رموزاً أو صوراً وتكشف عن معني تأملي أو روحي, وتلك التي تملك فقط معني حرفياً وتلك التي تُعتبر من النصوص الرمزية الأصلية حيث يأتي المعني الإلهي في التعبير عن حدث تاريخي ( ثيوريا حقيقية ).
كمثال للنوع الأول, والذي يقر فقط بتفسير رمزي فإنه يقوم أمثال 19:5 " إفرح بأمرأة شبابك. الظُبية المحبوبة والوعلة الزهية ". من بين تلك النصوص التي يمكن تفسيرها حرفياً فإنه يأتي بتأكيد سفر التكوين 1:1 في البدء خلق الله السموات والأرض ". إن العبارات العقائدية من هذا النوع لو فُسرت تفسيراً مجازياً لأنتزعنا منها قوتها. أخيراً فإن يو 14:3يعطينا مثالاً للرمزية الأصلية: " كَما رفع موسي الحية في البرية, هكذا ينبغي أن يُرفع إبن الإنسان...." في هذا النص
يقول أن المفسر يلزم أن يري كلاً من حدث قد وقع فعلاً ورمزاً يشير إلي المسيح نفسه.
وفي عظته عن التوبة (4:6) يميز ذهبي الفم أيضاً بين النبوات الرمزية والفعلية. فالرمزية المعبر عنها بالحقائق أو الأشياء وتساعد علي فتح عيون الجاهل, بينما الفعلية تنير بصيرة العارفين بالأمور الروحية. وكمثال علي نبوة فعلية أش 7:53 حيث يرمز إلي المسيح ك" حمل يُساق إلي الذبح ". والمسيح أيضاً هو موضوع نبوة رمزية مثل ذلك الكبش الذي قدمه إبراهيم عِوض عن إبنه الوحيد.
ويقول ذهبي الفم أن هذه الذبيحة " كانت رمزاً للواحد الذي به خلصنا يسوع المسيح"
ويعمق القديس ذهبي الفم من مفهوم الليثوريا ليس فقط, كطريقة تفسير ولكن مثلما فعل ثيودور وديودور كإدراك موحي به أو تأمل ملهم لحقائق سماوية مستعلنة. وفي عظته عن " عدم إمكانية إدراك الله " مثلاً يكشف عن البُعد النسكي للنبؤة الأصلية. وبعد أن صام ثلاثة أسابيع إختبر دانيال رؤيا خاصة, حين كانت نفسه أكثر موائمة وأفضل إستعداداً لقبول مثل هذه الرؤية, إذ صار بالصوم أكثر خفة وأعمق روحانية. ومثل هذه المصطلحات الهللينية وهي المفردات متأصلة في الفكر الأفلاطوني يبدو أنها تضع ذهبي الفم مع السكندريين في تفسيرهم السري المجازي للكتاب. وفي الحقيقة, فإنها فقط تؤكد علي الملمح التأملي الأساسي لليثوريا. وأيضاً, وهو يتحدث عن رؤية ما موهوبة لحزقيال النبي. وحينما يعطي الله مثل هذا الأعلان لعبيده,
يقول ذهبي الفم فإنه يقودهم إلي مواضع الهدوء والسكينة, حتي إذا ما بقيت نفوسهم لا يزعجها شيء من المناظرات أو الضوضاء تسكن بشكل فريد في الرؤية الإلهية. وعن هذه الرؤية " الثيوريا " المتوافقة مع النبي نجد هناك التفسير الرمزي ( التبولوجي ) للرسل والمفسرين اللاحقين الذين يرون في النبوات الصورة المخبأة ليسوع المسيح.
إن القديس يوحنا ذهبي الفم كان يحمل شهادة بليغة لهذا البُعد السري النسكي لليثوريا التي هي ضرورية لشرح حقيقي أصيل للمعني الروحي للكتاب المقدس.
هناك ثلاثة أبعاد واضحة في تفسير القديس ذهبي الفم للكتاب المقدس, البُعد الأول تاريخي, والثاني عقيدي والبُعد الثالث روحي و
أخلاقي.
والآن نتعرف علي هذه الأبعاد من خلال أعماله التفسيرية.
البُعد التاريخي في تفسير ذهبي الفم:
يو4 السامرية نموذجاً
يشرح ذهبي الفم قصة مدينة السامرية:
" قد يكون من المفيد هنا أن نذكر من أين إنحدر السامريون, ولماذا تُدعي كل هذه المنطقة بالسامرة, ومن أين أخذوا هذا الأسم ؟ "
[4]

البُعد العقيدي:
" إن التشديد علي حقيقة تجسده وميلاده الحقيقي هو أساس تعليم الكنيسة, وهذه الحقيقة تمثل رأس خلاصنا الذي من خلاله ( التجسد ) يصير الكل ويكتمل. لأن الموت قد أُبطل والخطية غُفرت, واللعنة زالت, وخيرات غير محددة إستُجدت في حياتنا عن طريق التجسد. لقد أراد المسيح أن يصّدق الناس أن ميلاده بالجسد هو أصل ومنبع الخيرات التي لا تحصي. وهو إن إهتم أن يُظهر الطبيعة البشرية, لم يدع الطبيعة الإلهية في الظلال
[5]
الإيمان يسبق التفسير أو أساس التفسير
" أيها الأحباء, نحن دائماً في إحتياج للإيمان, لأن الأيمان هو مصدر الخيرات ودواء الخلاص. بدونه لا نستطيع أن نفهم التعاليم الإيمانية.
إن من يشرعون في عبور البحر بدون سفينة, يستطيعون السباحة قليلاً مستخدمين الأيدي و الأرجل, لكن بعدما يتقدمون بعيداُ سرعان ما يغوصون في الأعماق بسبب الأمواج, هكذا أولئك الذين, قبل أن يتعلموا شيئاً ـ يستخدمون تأملاتهم الخاصة, إنهم هؤلاء الذين قال لهم بزلس " ينكسر بهم السفينة من جهة الأيمان "
[6]
البُعد الأخلاقي والروحي:
" لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلي المدينة ليبتاعوا طعاماً " يو 8:4
يُعلق ذهبي الفم علي هذا الأمر, قائلاً:
" لعلك إنتبهت إلي أنهم لم يُحضروا معهم شيئاً, ولا حتي إهتموا أن يجهزوا منذ الصباح الباكر, لكنهم إشتروا طعاماً في حينه, فهم لم يفعلوا مثلما نفعل نحن, الذين بمجرد أن نستيقظ من النوم ـ قبل أي شيء ـ ننادي علي الطباخين وخُدام الموائد ونخبرهم بطلباتنا بإهتمام عظيم, وبعد ذلك نهتم بالأمور الأخري معتبرين أن المأكولات, هي أكثر أهمية من الأمور الروحية, و مفضلين عليها الأشياء التي كان يجب أن تكون هامشية في حياتنا. لذلك تسود الفوضي و تنقلب كل الأمور رأساً علي عقب. علي النقيض من ذلك, كان يجب أن نهتم بالأمور الروحية, ثم بعد ذلك ننشغل بأمور معيشتنا "
[7]

البُعد الروحي و الرمزي عند ذهبي الفم:

عندما يشرح ذهبي الفم الأصحاح الرابع من يوحنا حيث تقابل المسيح مع السامرية, كذلك حواره مع التلاميذ حين رأوه يتحدث معها, يتبنيّ ذهبي الفم التفسير الروحي و الرمزي بكل وضوح خاصةً في عدد33, 34 : " "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم. فقال التلاميذ بعضهم لبعض ألعل أحداً أتاه بشيء ليأكل " ( يو 33:4 ـ34 )
يقول ذهبي الفم الأتي:
" وهنا يثور التساؤل: لماذا إذن نستغرب أن تظن المرأة أنه كان يتحدث معها عن الماء العادي عندما سمعته يتكلم عن الماء ؟ فها هم التلاميذ, حدث منهم نفس الشيء, ولم يفهموا شيئاً روحياً, بل كانوا متحيرين, وبالرغم من أنهم يعاملون معلمهم بإحترام وتقدير إلاّ أنهم لم يجرؤوا أن يسألوه ؟ وكان هذا الأمر قد تكرر أكثر من مرة. ماذا أجاب يسوع ؟ " طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله " ( يو 34:4 ). إنه يدعو خلاص البشرية طعاماً, مظهراً كم هو مستعد للعناية بنا, لأنه كما يعتني يطعامنا هكذا يعتني بخلاصنا.
أسمع إذن. ما هي الطريقة التي يكشف بها المسيح كل شيء ؟ ليس مباشرةً, لكن أولاً يثير حيرة السامع ليُشد إنتباهه بالأكثر حتي يبدأ في البحث عن معني ما قيل, و من ثم, عندما تنتابه الشكوك ويتعب, حينئذٍ يقبل شرح ما يبحث فيه, بإستعدادٍ أكبر. لماذا لم يقل مباشرةً " طعامي أن أعمل مشيئة أبي ", وبالرغم من أن الكلام هنا ليس واضحاً بشكلٍ كافِ, لكنه علي أية حال أكثر وضوحاً مما قاله سابقاً ؟ لأنه كما قلت أراد أن يكونوا أكثر يقظة عن طريق الحيرة والشك, ولكي يعودهم أن يسمعوا أقواله الرمزية هذه."
[8]
ويشرح ذهبي الفم بوضوح منهج المسيح في حديثه مع التلاميذ عندما يصل إلي عدد35 : "أما تقولون إنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد. ها أنا أقول لكم إرفعوا أعينكم وأنظروا الحقول إنها قد أبيضت للحصاد " ويُعلق ذهبي الفم قائلاً :
ها هو أيضاً يرفع ذهن التلاميذ إلي الأمور السامية عن طريق الكلام المألوف في الحياة اليومية. بكلمة "طعامي" لا يعني شيئاً إلاّ خلاص البشرية الذي سيتممه. كذلك كلمتي "الحقل" و " الحصاد ", يعنيان جمع النفوس المهيّأة لقبول الكرازة.
وبكلمة "عيون" يعني أيضاً عيون الروح والجسد. لأن التلاميذ رأوا بالفعل جمع السامريين الذين أتوا. وأمّا إستعداد إرادة أولئك, فيدعوها " حقول قد أبيضت ". لأنه كما تَبيّض سنابل القمح, وتكون جاهزة للحصاد, هكذا أيضاً السامريون, هم الآن جاهزون, وهم بمثابة باكورة للخلاص.
لكن, لماذا لم يقُل بوضوح ها إن الناس يأتون لقبول الإيمان, وها هم مهيئون لقبول الكلمة, طالما هم بالفعل قد قبلوا تعليم الأنبياء, وجاء وقت عطاء الثمر ؟ لماذا يُصر علي أن يدعوهم حقولاً وحصاداً ؟ ماذا يقول المفسرون في هذا ؟
لا يقتصر الأمر علي حالتنا هذه, لكن كثيراً ما نجد هذا في كل الإنجيل. ففي كثيرٍ من الأحيان يأخذ الأنبياء في الحديث بأقوال رمزية علي قدر كبير من الأهمية, فما هو السبب وراء ذلك ؟ نري أن هناك سببين:
الأول: لأن الرمزية تجعل الكلمة أكثر قوة وأبعد مديً, لأن الفكر يحمل صورة الأشياء المشار إليها, فتبدو وكأنها تتحرك بالأكثر و بالتالي تأسر العقل بأكثر سهولة, كأن أحداً يري الحقائق مرسومة أمامه. هذا هو السبب الأول.
السبب الثاني: هو أنه بهذه الطريقة يصير السرد مبهجاً بالأكثر و يجعل حضوره في الذهن أكثر ديمومة. لأن مجرد الإرادة لا تقنع السامعين. و تبهر عقولهم مثلما يفعل ذلك وصف تلك الأمور كما رأيناها هنا. وهذا الأمر يمكن للمرء أن يراه إذا إستخدم الأمثال ـ بحكمةٍ في توضيح فكرته"
[9]
أهمية الأستمرار في قراءة الكتاب المقدس:
يشدد ذهبي الفم علي أهمية قراءة الكتاب المقدس بإستمرار, وذلك في عظته الثالثة علي مثل " لعاذر والرجل الغني ", إذ يقول:
كما أنني أيضاً أتوسل إليكم دائماً, ولا أكف عن التوسل, ليس فقط لتنتبهوا إلي ما أقوله هنا, إنما أيضاً لكي تواصلوا بإستمرار قراءة الأسفار الإلهية عند عودتكم إلي منازلكم. و عندما كنت أجلس مع كل منكم علي إنفراد, لم أكن أكف عن إعطائكم نفس النصيحة. أرجو أن لا يتفوه أحدكم بتلك الكلمات الفارغة التي تستحق أعظم توبيخ: "أنا لا أستطيع أن اترك دار القضاء, أنا أدير شئون المدينة, أنا أمارس حرفة معينة, أنا عندي زوجة, أنا أربي أطفالاً, أنا مسئول عن البيت, أنا من أهل العالم, إن قراءة الأسفار الإلهية لا تناسبني, إنما هي عمل الذين إعتزلوا العالم, الذين سكنوا قمم الجبال, يستمرون في عزلتهم علي الدوام". ماذا تقول يا رجل ؟ إن الأهتمام بقراءة الإنجيل لا يلائمك, لأنك مُحاط بالمشغوليات من كل ناحية ؟ بل بالحري إن إحتياجك إلي معونة الأسفار الإلهية يفوق إحتياجهم إليها. إن الرهبان, الذين تحرروا من جلبة السوق والأزعاج وبنوا أكواخهم في الصحراء, الذين ليست لهم معاملات مع أي إنسان, إنما يماريون حياة النسك بدون خوف في سكون تلك الحياة الهادئة, و كأنهم رسوا في الميناء, يتمتعون بحصانة عظيمة, أما نحن, وكأن الأمواج تتقاذفنا في عرض البحر, و تتجاذبنا خطايا عديدة, نحتاج علي الدوام إلي المعونة المستمرة التي نستمدها من الكتاب المقدس. هؤلاء ( أي الرهبان ) رسوا بعيداً عن أرض المعركة, ولذلك فأن الطعنات لا تصيبهم بكثرة, أما أنت فتقف بأستمرار علي الجبهة, وتتلقي الضربات بدون إنقطاع. لذلك فأنت في حاجة إلي أدوية أكثر. إن زوجتك تغيظك, مثلاً, وإبنك يحزنك, وخادمك يغضبك, وعدوّك يدبر الخطط ضدك, وصديقك يحسدك, وجارك يلعنك, والجندي رفيقك يضايقك, وكثيراً ما تهددك المحكمة, ويزعجك الفقر, ويحزنك ضياع ممتلكاتك, والرخاء يجعلك تتكبر وتنتفخ, وسوء الحظ يجعلك تكتئب, وكم من أسباب كثيرة والتزامات تدفعك إلي الأحباط والأسي, أو إلي الوهم واليأس, وكم من قذائف لا حصر لها تسقط نحوك من كل ناحية. لأجل كل ذلك, فنحن في إحتياج مستمر للتسلح بالكامل بأسلحة الكتاب المقدس. إذ لاحظ أنه مكتوب, إنك تسير وسط الفخاخ وتمشي علي أسوار المدينة ( قارن سيراخ 13:9 ) فمثلاً, إن شهوات الجسد تهاجم بشراسة أعظم الذين يعيشون وسط العالم: الوجه الجميل, والجسم الرائع يبهر أعيننا, الجملة القبيحة تخترق آذاننا فتربك ذهننا, وكثيراً ما تضعف الأغنية المبتذلة إحتشام نفوسنا. ولكم لماذا أقول كل الكلام ؟ في حين أن مجرد رائحة عطر إحدي الخاطئات وهي تمر بجانبنا تأسرنا في الحال, وهذه تعتبر هجمة من أخف الهجمات التي تواجهنا. كما أن هناك أشياء أخري كثيرة مثل هذه تحاصر أنفسنا. فنحن نحتاج إلي الأدوية والعلاجات الإلهية لنشفي الجراحات التي أصابتنا, ولكي تحمينا وتحرسنا من الجراحات التي لم تصبنا بعد ولكنها سوف تصيبنا. يجب علينا أن نطفئ تماماً سهام إبليس و نطردها بإستمرار بقراءة الأسفار الإلهية. إذ يستحيل, يستحيل علي إنسان أن يخلص بدون الاستفادة المستمرة من المطالعات الروحية. ففي الحقيقة, يجب أن نكون مقتنعيين بصعوبة الجهاد لنوال الخلاص, حتي بالرغم من الاستعمال المستمر لهذا الدواء. ولكن إذا كنا نتلقي الضربات كل يوم ونحن لا نستخدم أي علاج أو وقاية طبية, فأي رجاء لنا في الخلاص؟

[ يستمر القديس يوحنا في مدح قراءة الأسفار الإلهية ]
قراءة الأسفار الإلهية هي وسيلة ضمان عظيمة ضد الخطيئة أما الجهل بالأسفار فهو منحدر خطير وهوة عميقة جداً, عدم معرفة القوانين الإلهية هو خيانة عظمي للخلاص. هذا الجهل ولّدَ الهرطقات, وأدخل حياة فاسدة, وقلب الأمور رأساً علي عقب. إذ يستحيل, يستحيل علي أي إنسان أن لا ينال فائدة إذا هو قرأ بإستمرار وبأنتباه. أنظروا: أية معونة نلناها من مثل واحد! وأي تحسن أدخله علي نفوسنا ! أنا متأكد أن كثيرين إنصرفوا وقد نالوا منفعة عظمي ودائمة من الأستماع, ولكن إذا وجد البعض لم يجنوا هذه الثمار, فمع ذلك لا بد وأنهم في اليوم الواحد الذي إستمعوا فيه, قد تحسنت أحوالهم بكل تأكيد. أنه أمر لا يُستهان به أن تقضي يوماً واحداً في الندم علي الخطيئة, وفي النظر إلي الفلسفة السمائية, وأن تعطي نفسك بعض الراحة علي الأقل من إهتمامات العالم. وإذا فعلنا هكذا في خدمة دون أن يفوتنا أي شيء سوف يحقق الاستماع المستمر صلاحاً عظيماً جداً في داخلنا."
[10]





[1] عن جورج مكورفسكي, آباء القرن الرابع, مجلد4 باللغة اليونانية
[2] القديس يوحنا ذهبي الفم, المخلع, ترجمة عن اليونانية د. جورج عوض إبراهيم مراجعة د. نصحي عبد الشهيد, مارس 2006 ص18
[3] الغني و الفقير عظات يوحنا ذهبي الفم ـ ترجمة نيافة الأنبا سارافيم أسقف الإسماعيلية وتوابعها, الناشر: مكتبة مارجرجس شيكولاني شبرا مصر, دار نوبار للطباعة 2005م, ص19
[4] القديس يوحنا ذهبي الفم, السامرية, ترجمة د جورج عوض إبراهيم, مراجعة د. نصحي عبد الشهيد مارس 2006 ص8
[5] السامرية, المرجع السلبق, ص8
[6] ذهبي الفم, السامرية، المرجع السابق, ص38
[7] القديس ذهبي الفم, السامرية, المرجع السابق, ص14
[8] السامرية, المرجع السابق, ص35,52
[9] السامرية, المرجع السابق,ص54,53
[10] الغنى والفقير, مجموعة عظات للقديس ذهبي الفم عن مثل الغني لعاذر ( لو 16 : 19ـ 31 ), ترجمة نيافة الأنبا سارافيم أسقف الأسماعيليه وتوابعها, ص59,57

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق