الأحد، 29 أغسطس 2010

الإفخارستيا والعالم
د. جورج عوض ابراهيم
الإفخارستيا هي ليتورجية
إن التقليد الأرثوذوكسي هو عميق ليتورجياْ ، لدى الأرثوذكسية " الكنيسة تحيا في الإفخارستيا وبواسطة الإفخارستيا ". الشكل المحدد للكنيسة هو الهيكل Ναος حيث تتمم الإفخارستيا، والعالم هو- من المنظار الليتورجي -" ليتورجيه كونية " ، إذ كل الخليقة تشير أو تمثل عرش الله . لذا اللاهوت الأرثوذكسي هو تمجيد ، وبالتعبير الليتورجي هو لاهوت إفخارستي . لكن ماذا يعني هذا لإنسان عصرنا؟ ، إن العالم قد طرأ عليه تغيرات شديدة وسريعة تحت ضغط الفلسفات والعلوم والمجتمعات الحديثة والتطورات الأخرى ، لدرجة أن إنسان اليوم يتسائل : ما الذي تستطيع أن تقدمه الحياة الليتورجية ؟ هذا السؤال يعبر عن أزمة الإنسان المعاصر في علاقتة بالكنيسة . إن الحضارة الغربية والتي تغذت على مثاليات المسيحية قد بعدت جداْ عن الكنيسة ، والتقليد الغير أصيل – الذي يخضع لثقل الثنائية الشهيرة : روحي- مادي ، مقدس – نجس ، ……… ، وينشغل فقط بأمور الأزمنة السالفة – يقود العالم الي مشاكل أكثر وحلول أقل . لكن الحياة الليتورجية الأرثوذكسية تظل شهادة للأمل والرجاء ، إذ لها نظرة أصيلة وصحيحة للتاريخ والعالم ، وبغير هذة النظرة الليتورجية التربوية تظل علاقات اللاهوت بالحياة في أزمة . إن الحياة الليتورجية لديها مفاهيم حيوية عن العالم والخلق ، ومن الضروري أن تنقل هذة المفاهيم إلى الحياة المعاصرة ، فالحياة الليتورجية لديها مفهوم أصيل للإنسان ، تفسير صحيح للتاريخ ومشاكلة ، للحياة السلوكية وإمكانياتها .
لكن ماذا نعني بكلمة "إفخارستيا" ؟ إن مفهوم الإفخارستيا قد أسيء شرحة في العصور الوسطى ، عصر اللاهوت المدرسي . لقد شرحت الإفخارستيا على أنها إعلان تقوى ، نعتبرها كوسيلة نعلن بها تقوانا أو تخدم خلاصنا الفردي . إنما الفكر الأول القديم عن الإفخارستيا ، يعلن أنها ليست مجرد وسيلة ، لكن عمل جماعي ليتورجي مشترك لكل الكنيسة ، فهي ليست علاقة سامية لكل واحد منا على حدى مع الله . الشرق المسيحي يحفظ هذا الفكر الأول ، فالإفخارستيا ليست ليتورجية فردية ولا هي السجود لأشياء مقدسة من باب التقوى . الإفخارستيا هي في الأساس عمل كل الكنيسة وليس كل واحد على حدا . إنها ليست فقط مجرد سر من ضمن الأسرار السبعة ، فلدى الكنيسة الأولى ، لاتفهم الإفخارستيا إلا خرستولوجياْ ، إنها جسد المسيح ، هي المسيح كلة " رأس وجسد " . دعونا لا نرى الإفخارستيا كوسيلة مجردة للنعمة المستقلة عن الخريستولوجية ، ولكن كيسوع نفسه ، الذي يخلص الإنسان والعالم ، الذي صالحنا مع الله بواسطة نفسه . وهكذا فإن الملمح الأساسي للإفخارستيا يكمن في أنه إجتماع وفعل أو عمل ، وكل ما بداخلة يعتبر معايشة سر المسيح ، وخلاص العالم . لذا نستطيع أن نرى في الإفخارستيا الرؤية الحية للعالم والتاريخ .

الإفخارستية هي تقدمه العالم
إن الليتورجيا هي إيجابية جداْ في قبولها العملي للعالم والخلق ، فلو أن الرهبنة توصف عملياْ على أنها حركة تخرج من العالم " مكانياْ " ، فإن الليتورجيا فهي توصف من الجانب العكسي ، فالمؤمن يذهب إلى الليتورجيا ، وهو يحمل معه العالم . لا يحمل ببساطة معه نفسة بضعفاتها وشهواتها ، إنه يحمل معه كل علاقاتة بالعالم الطبيعي ، بالخليقة . إن المؤمنين – في زمن الكنيسة الأولى حتى اليوم _لا يذهبون بمفردهم إلى الكنيسة ، لكن تصحبهم عطايا وتقدمات الخليقة : الخبز ، الخمر ، الزيت ، ……….. إن التقدمات هذة تحمل في موكب ليتورجي وتسلم للأسقف أو الكاهن لكي يصعدها نحو عرش الله كإفخارستيا . وهنا نتذكر أوشية القرابين : يصلي الكاهن : نسأل ونطلب من صلاحك يا محب البشر ، أذكر يارب صعائد وقرابين وشكر الذين قربوا كرامة ومجداْ لأسمك القدوس . يقول الشماس : أطلبوا عن المهتمين بالصعائد والقرابين والبكور والزيت والبخور والستور وكتب القراءة وأواني المذبح ، لكي يكافئهم المسيح الهنا في أوراشليم السمائية ، ويغفر لنا خطايانا . ويكمل الكاهن : إقبلها إليك على مذبحك المقدس الناطق السمائي ، رائحة بخور تدخل إلى عظمتك التي في السموات ، بواسطة خدمة ملائكتك ورؤساء ملائكتك المقدسين . وكما قبلت إليك قرابين هابيل الصديق ، وذبيحة أبينا إبراهيم وفلسي الأرملة ، هكذا أيضاْ نذور عبيدك أقبلها إليك أصحاب الكثير وأصحاب القليل ، الخفيات والظاهرات . والذين يريدون أن يقدموا لك وليس لهم والذين قدموا لك في هذا اليوم هذة القرابين ، أعطهم الباقيات عوض الفانيات ، السمائيات عوض الأرضيات ، الأبديات عوض الزمنيات ، بيوتهم ومخازنهم إملأها من كل الخيرات ] . وهكذا فإن العالم كله يقدم إلى الله على المائدة المقدسة ، العالم كما هو ، في حالته الفاسدة ، لكن هذا العالم في الليتورجيا لن يظل كما هو ، بل يتحول إلى " دواء للخلود ". إن قبول العالم في الليتورجيا يشير إلى أنه – ببالنظرة الإفخارستيه للخلق – لم يتوقف إطلاقاْ بأن يكون عالم الله . وهكذا فإن الخطية والفساد غير مخلوقين من قبل الله مثلما يّدعي ماركيون ، نحن كما نحن وما ننشغل به داخل العالم يجب أن يمر في أيدي متمم الليتورجيا كصعيدة إلى الله . ولكن ليس ليبقى كما هو ، ولكن لكي يصير كما أوجدة الله . هذا التجلي الذي يحدث للعالم ، هذا الميلاد الجديد لا يخلق من العدم ، ولكن داخل الإفخارستيا حيث يحضر المسيح في الزمان والمكان . يتجدد -في المسيح -آدم القديم بدون أن ‘يدمر ، الطبيعة البشرية ‘تحتوى بدون أن تتغير إلى طبيعه أخرى ، الإنسان يتقدس بدون أن يتوقف بأن يكون إنسان .
إن هذة النظرة للعالم داخل الإفخارستيا لم تترك هامشاْ لثنائية بين الطبيعي والفوق طبيعي ، ثنائية قد وضعت الإنسان الغربي أمام حيرة بأن يختار بين الأثنين.إما أن يرفض الغير طبيعي حباْ في الطبيعي ، أو يقبل الأثنين ويصاب بشيزوفرنية إذ يقبل الفوق طبيعي حتى لايخون إيمانه ، ثم يتجاهله لأن الحياة اليومية تجبرة على ذلك . لكن الإيمان الشرقي الأصيل يؤمن بكون وخليقة واحدة متحدة أتت من الله وترتبط بالله . ولا ننسى أنه يوجد تقابل تام قد حدث بين السماوي والأرضي ، فيها توقف أن ‘يفهم الله على أنه فوق طبيعي إذ صار في شخص إبنة . أيضاْ في الإفخارستيا يلغى التضاد بين الأبدية والزمن ، فالتاريخ والزمن يتقاطعان مع الأبدية ، إذ يصير الزمن
مجال تحقيق خطة الله الأزليه للخلاص .
الإفخارستيا وكرامة الإنسان
إن الحياة الليتورجيه لديها نظرة حيه نحو الإنسان ، نظرة تتجاوب مع إنسان عصرنا وإحتياجاته . الإنسان المعاصر يحمل قلق ثنائية الجسد والنفس ، الروح والمادة ، وذلك بطريقه تخلق حيرة الإختيار بين الأثنين ، طالما أن المجال الروحي هي للإنسان المعاصر غير مدرك. إن الحياة الليتورجيه الأرثوذكسيه ‘تظهر إعتناء بالجسد وإحتياجاته ، لديها المادة في صلاتها ، فليس فقط الخبز والخمر يتطابقان مع جسد المسيح ودمه ، ولكن الخشب والألوان يصيران وسيله لتجسد القديسين ، والعظام وبقايا القديسين حاملين ومعبرين عن حضور شخصي مقدس . الشرق المسيحي ينظر إلى الإفخارستيا على أنها إعلان جماعي كنسي ، وليست مجال لمقابله ساميه لكل واحد منا على حدا مع الله ، الإفخارستيا هي شركه المؤمنين بالأخرين في المسيح " وأما أنتم فجسد المسيح " 1 كو 12 : 27 . لقد توقف الإنسان أن يكون فرد ، أو ماكينه تخدم هدف ما حتى لو كان هدف مقدس ، أنه هدف في حد ذاته ، أنه صورة الله ومثاله والتي تبرر شركته مع الله والآخرين . إن الإنسان المعاصر يعيش يومياْ تحت ثقل التضاد بين الفرد والمجموع ، حياته الإجتماعية ليست COMMUNION لكن SOCIETAS ، والقهر والظلم يقودان إلى الفردية . أما في الليتورجيا ‘ينظر إليه كخليقة جديدة في المسيح ، إنسان كامل متحد بالله ، وهذا يظهر بوضوح من المكانة العظيمة لمجمع القديسين في الإفخارستيا . لكن ماذا بعد إنصراف المؤمن بعد الإفخارستيا ؟ ما هي الأهمية التي يمكن أن تكون للحياة الأخلاقية والأجتماعية للعالم ؟

الإفخارستيا والحياة الأخلاقية
إن الإفخارستيا تقدم مساهمة أساسية للحياة الأخلاقية وذلك بإعادة وجود المعنى و المفهوم الصحيح لها ، فالتقليد اللاهوتي الغير أصيل قد غير الأخلاق إلي نظام سلوكي قانوني وإلي منطقة مستقلة عن اللاهوت.
قد روج هذا التقليد لنماذج أخلاقية محددة صارت قوالب قانونية مطلقة بالرغم من أنها منفصلة عن عصور مختلفة عبر التاريخ وعن تنوع الناس . هكذا تحول اليشر إلي نماذج و أنماط ، حيث الواحد ينسخ الأخر ، و العلم ‘حكم علية أخلاقيا وذلك علي أساس هذة النماذج. إن السلوك الأخلاقي ، بهذه الطريقة ، احتوى علي ملمح قانوني
و أصبحت علاقة الإنسان بالله علاقة قانونية ، مثلما فهمها الغرب .
إن النظرة الإفخارستيه للعالم و المجتمع ، علي العكس مع هذا التقليد ، فهي لا تسمح و لا تتحمل إستقلالية الأخلاق أو صعودها إلي قوانين ناموسية مطلقة مستقلة عن الزمن و عن تنوع الأشخاص . إن الأخلاق ، في الحياة الليتورجية الأرثوذكسية ، لا تنبع من علاقة قانونية مع الله ، لكن من تغيير أو تجلي و تجديد الخليقة و الإنسان في المسيح ، حتى أن كل أمر أخلاقي يصير مفهوم فقط كنتيجة لهذا التغيير السرائري . نتقابل مع هذه النظرة السرائرية للأخلاق في الرسالة إلي كولوسي :[ فإن كنتم قد قمتم مع المسيح ………فأميتوا أعضائكم التي علي الأرض ……
إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله و لبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه ] كو 3: 1_10 .
نلاحظ أن السلوك الأخلاقي يفهم فقط كتغيير ليتورجي واسع ، فإن المصطلحات : " خلعتم " ، " لبستم " هي مصطلحات ليتورجية مرتبطة ببعض بعمل سرائري للمعمودية . لذا الكنبسة لا تقدم للعالم نظام قانوني أخلاقي ، لكن شركة مقدسة ، خميرة تخمر الخليقة ليس بإدخال أوامر أخلاقية ، لكن بحضور مقدس ، حضور شهادة ، إذ تدعو العام " إلي حرية مجد أولاد الله " ، إلي شركة مع الله ، والتي ينتج عنها تجديد للعالم .
إن الإنسان المعاصر يبدي دائما إستياؤة من القوانين الأخلاقية التي يضعها التقليد المسيحي الغير أصيل . فعادة يواجة هذا التقليد مشكلة سقوط القيم بعظات أخلاقية و يفشل في إقناع العالم ، إذ يستخدم عظات عقيدية و لكن لا يسمعها أحد ، يقدم الكلمة ولكن لا يستوعبها العالم ، ينقد دائما و ينسى أن كلمة المسيحية ليست مجرد كلمة WARD ، ولكن شخص ، ليست صوت ولكن حضور حي . حضور تجسد في الإفخارستيا ، التي لم تعد فرصة للتقوى الفردية و لكن هي شركة الجماعة ، غير مكتفية بتعليم الكلام ولكن بمسؤولية تغيير العالم .
فالكنيسة بحسب هذا التقليد الغير أصيل تصير منبر بلا مذبح ، و تجمع مسيحيين بدون وحدة . والأوامر الأخلاقية لا تنبع من الحياة الجديدة ، و تفقد الكنيسة خمير الميلاد الجديد و الذي هو مصدر للحياة الأخلاقية .

الإفخارستيا و تذوق الأخرويات
لم نقصد بكل ما سبق ، أن النظرة الإفخارستية ستحل كل المشاكل الأخلاقية . لكن على العكس ، فيجب أن نشدد على أن العالم سوف لا يتحول إلى فردوس أرضي ، إلى مجتمع كامل أخلاقياً ، لأن هذا يمثل إشتهاء أو تطلع ، وذلك لأن الإفخارستيا تحوي في طبيعتها الداخلية ‘بعد إسخاتولوجي يتسلل في التاريخ و لكن لا يتغير إلي تاريخ . في المسيحية نرى الشهادة الدرامية لمقابلة الأبدي بالتاريخ الزمني ، الكامل بالنسبي داخل الوجود البشري ، إنها الشهادة الأخلاقية والمعركة الوجودية والتي نفوز فيها ونفقدها مرة أخرى حتي نكسبها جوهرياً " في اليوم الأخير". إن الدخول الإسخاتولوجي في التاريخ ليس هو تطور تاريخي فكري منطقي ، لكن حلول أسمى للروح القدس الذي تتميز الأرثوذكسية بإستدعاءه ، فالدهر الحاضر بتغير و يتجلى إلي خليقة جديدة في المسيح .
انه حلول السماء على الأرض ، و الذي ‘يمكن الأرض من الصعود إلي السماء ، يملأ كل الأرض بنور و نعمة و فرح و يجعل الليتورجيا عيد ، إحتفال ، و التي منها يعود المؤمنون إلي العالم فرحين و مملوئين مواهب. لكن خارج باب الكنيسة ينتظرهم دائماً الجهاد ، و الإفخارستيا ستعطيهم التأكيد الحي لإنتصار المسيح على الشيطان ، لكن هذا الإنتصار على الأرض سيكون إنتصار " إخلائي " ، إنتصار الصليب ، إنتصار بطولي نسكي ، مثلما فهمه و عاشه الشرق برهبنتة .
وهكذا الإفخارستيا ستفتح دائماً الطريق ليس نحو حلم الأخلاق الكاملة للعالم ، و لكن نحو ضرورة النسك البطولي ، نحو خبرة التخلي و الصليب ، و التي فيها يعاش فقط في العالم إنتصار القيامه حتى نهاية الأوقات . لكن في نفس الوقت ستمنح للعالم مذاق الحقيقة الإسخاتولوجية ، و التي تدخل في التاريخ بالإجتماع الإفخارستي و تجعل من المكان و الزمان إمكانية تألهنا . بدون هذا البعد ، الذي تقدمه الإفخارستية إلي العالم ، أي عمل تبشيري أو عبقرية دبلوماسية ولا أي نظام أخلاقي لا يمكنه أن يغير العالم المعاصر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق