المصالحة في الإطار المسكونى
ودور الكنائس الشرقية فيها
د. جورج عوض ابراهيم
مفهوم المصالحة
إن مصطلح مصالحة في اللغة اليونانية هو καταλαγη] [1] ويتكون من:allag») + (kataأى التغيير التام أو الكامل.
والتغيير في هذا السياق يعنى التجديد, خليقة جديدة (2كو17:5)، هذا التجديد كمنهج جديد للوجود يقوم على علاقة جديدة للإنسان مع الله، ومع ذاته، ومع أخيه الإنسان وأيضًا مع كل الخليقة. فالمصالحة هى طريقة الوجود الجديدة التي يمنحها لنا الله، وفي الرسالة إلى تيطس نجد توضيح موجز لمحتوى هذه المصالحة: " لأننا كُنا نحن أيضًا قبلاً أغبياء غير طائعين ضالين مُستعبدين لشهوات ولذات مختلفة عائشين في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف الله وإحسانه خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلّصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية " (تيطس 3:3ـ7).
أن التجديد يأتى من الله لأن " الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح " (2كو18:5). إذ أن " الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو19:5).
هكذا فإن " فاعل " المصالحة هو الله و" موضوع " المصالحة هو الإنسان الخاطئ. فالرسول بولس هنا لم يقل أن الله قد صُلح مع الخاطئ أو أن المسيح صالح الله معنا أو أن الله صالح نفسه معنا، لكن قال إن الله قد صالحنا لنفسه، صالح مع نفسه كل العداوة التي للبشرية (2كو18:5 وما بعده). ومن جانبه فإن الله نفسه قد أبطل عداوة الإنسان الخاطئ بالصليب، ووضعه في علاقة صحيحة معه، في حالة " سلام " كما ذُكر في (رو1:5). المصالحة تعنى إبطال العلاقة السلبية مع الله والتي أعاقت وجود الخاطئ أمام الله. فالله لم يتصالح مع الإنسان بل العكس الإنسان تصالح مع الله. المصالحة هى عطية الله ومصدرًا للحياة الجديدة: " إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا. ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة. أى أن الله كان في المسيح مُصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو17:5ـ19). فالإنسان مدعو لأن يرد إيجابيًا على نداء المصالحة: " تصالحوا مع الله " (2كو21:5)، وأن يشترك أيضًا مع الله في بناء ملكوته: " فإننا نحن عاملان مع الله " (1كو9:3، كو11:4، 3يو8)، ويتصرف تجاه العالم كإنسان جديد خلاق ويمارس خدمة المصالحة.
المصالحة هى عطية الله المُغيرة للإنسان التي تدفعه في مسيرة الحياة الجديدة. في هذه الحياة الجديدة يكون الروح القدس بمثابة قوة وديناميكية هذا التغيير: " ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآه نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح " (2كو18:3). التغيير هنا هو حدث دينامي وليس استاتي، إنه حدث مستمر " تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة " (رو2:12). عندئذٍ نكتشف أن المصالحة الأصيلة تقودنا إلى قبول الآخر: " حيث ليس يونانى ويهودى، ختان وغرلة بربرى وسكثينى عبد حر بل المسيح الكل وفي الكل " (كو11:3) " ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعًا واحد في المسح يسوع " (غلا28:3).
ولقد لخص الرسول بولس في النشيد الخريستولوجى لرسالته إلى أهل كولوسى (15:1ـ20) الرؤية الصحيحة للكنيسة والعالم في إطار المصالحة قائلاً: " الذي (المسيح) هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شئ وفيه يقوم الكل. وهو رأس الجسد الكنيسة. الذي هو البداءة بكر من الأموات لكى يكون هو متقدمًا في كل شئ. لأنه فيه سُر أن يحل كل الملء. وأن يُصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السموات ".
الكنيسة هنا تحتضن كل الخليقة، وأوشية السلام في الطقس القبطى تعبر بوضوح عن هذه الحقيقة. يقول الشماس: صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله.
يقول الشعب: يا رب ارحم.
يقول الكاهن: هذه الكائنة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها. ومن هنا نستطيع أن نُعرّف مصطلح المسكونية على أنه ليس مرادف للعالمية universal بل مرادف لمصطلح الكنيسة الجامعة kaqolik» Ekklhs…a .
إن أول مَن وصف الكنيسة " بالكاثوليكية " هو القديس اغناطيوس الانطاكى. والمصطلح يتكون من مقطعين olo + k£qe " كاث، أولو " أى الكل معًا في وحدة، وقد ذكرها اغناطيوس في رسالته إلى " سميرنا ". وهذه الكلمة مستخدمة في الليتورجيات الشرقية كما رأينا في أوشية السلام حسب الطقس القبطى: " صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة (الكاثوليكية) الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله ". والمؤمن الكاثوليكى هو الذي يجتمع مع اخوته في سر الإفخارستيا، سر الوحدة والشركة، لذا يؤكد القديس اغناطيوس في رسالته إلى فيلادلفيا 1:4 على أن اشتراك المؤمنيين في إفخارستيا واحدة " لأنه ليس لربنا سوى جسد واحد، وكأس واحدة توحدنا بدمه، ومذبح واحد، وأسقف واحد مع القساوسة والشمامسة … ". هكذا تتحقق الوحدة في الافخارستيا. هذه الوحدة هى وحدة في العمل والصلاة والفكر لذا ينصحنا القديس اغناطيوس : " لا تحاولوا أن تدعموا بالبرهان ما تنفردون بعمله بل اعملوا عملكم حسب الشركة وهى صلاة واحدة .. فكر واحد .. هذا هو يسوع المسيح " (مغنسيا 1:7). علينا إذن أن نتمسك بالسلوك الذي يؤدى إلى الوحدة لكى تتحقق كاثوليكية الكنيسة. هكذا فالمسكونية أو الكاثوليكية لها محتوى وجودى روحى وليس جغرافى بالنسبة للكنيسة. من أجل هذا نجد في رسائل اغناطيوس التأكيد على الوحدة الروحية للكنيسة والتي تتمثل في وحدة الأسقف والشعب " حيثما يكون الأسقف فهناك يجب أن تكون الجماعة (أى الكنيسة) " (أزمير 2:8) ووجود الأسقف يعنى عدم وجود انقسام ووجود المسيح معناه وجود الوحدة " لازموا الأسقف ملازمة المسيح لأبيه " (أزمير 1:8). أن وحدة الكنيسة الروحية تحفظ العالم من الفساد: "لا تجعلوا شيئًا يفرق بينكم بل اتحدوا بالأسقف والرؤساء كمثال ودرس لعدم الفساد" (مغنسيا 2:6). فالكنيسة الكاثوليكية هى الكنيسة الكائنة في المسكونة (إيرينيوس، ضد الهرطقات 10:1). هنا الكنيسة ليست عالمية بالمعنى الجغرافى ولكن هى "جسد المسيح" لا رأس لها سوى المسيح، إذ أن كاثوليكيتها تأتى من المسيح الذي " يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد " (يو52:11). وهذا ما شرحه اغناطيوس عندما قال: " اجتمعوا في هيكل واحد لله، حول مذبح واحد، في يسوع المسيح الوحيد، الذي خرج من آب واحد، وكان معه واحدًا، وإليه عاد وهو واحد " (مغنسيا2:7).
ركائز المصالحة
1 ـ ملكوت الله:
تتبنى الكنيسة القضية الأساسية التي جاهد المسيح لأجلها طوال فترة نشاطه العلنى: " ينبغى لى أن أبشر أيضًا بملكوت الله لأنى لهذا قد أرسلت " (لو43:4).
أن ملكوت الله يمثل الركيزة الأولى لخدمة المصالحة، إنه الأمر الضرورى والهام: إنه الكنز الثمين (مر44:3)، واللؤلؤة كثيرة الثمن (مر45:3ـ46) التي يجب أن نكتسبها مزدرين بأى حب شهوانى وأى أطماع مادية وتطلعات طبقية. فليتراجع كل شئ أمام الهدف والمقصد الأسمى وهو ملكوت الله وهذا هو سر تسمية المسيح للملكوت بأنه الكنز الثمين واللؤلؤة كثيرة الثمن. والمسيح نفسه حدد طبيعة وجوهر الملكوت في مجمع الناصرة عندما دُفع إليه سفر إشعياء: " روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى المأسورين بالاطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية .. اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم " (إش1:61، لو18:4ـ19).
هكذا تنادى الكنيسة بأن المسيح هو المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء (لو23:10ـ24). والفادى المحرر الذي تطلعت إليه البشرية. وتعمل الكنيسة عمل المسيح بتحرير الإنسان من سلطان إبليس وتفعيل فداء المسيح الذي تممه من أجل الفقراء والمسجونين والمقهورين والمظلومين. هذه الرسالة بالنسبة للكنيسة هى رسالة مسكونية وتمثل هدف تلتف حوله الكنائس، وهذا ما عبرت عنه اللجنة المشتركة للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية[2]:
يجب أن نفكر سويًا في أفضل وسيلة لتنسيق خططنا الحالية من أجل النهوض بمشروعاتنا الإنسانية في المجال الاجتماعى القومى لشعوبنا وللعالم أجمع. وهذا يتضمن مواجهتنا المشتركة لتلك المشاكل مثل:
أ ـ الجوع والفقر
ب ـ المرض والمعاناة
ج ـ التفرقة السياسية والدينية والاجتماعية
د ـ لاجئ وضحايا الحرب
هـ الشباب والمخدات والبطالة
و ـ المعوقين بدنيًا وعقليًا
ى ـ المسنين
إن نمو الملكوت هو في الأساس عمل الله، ولكنه يتطلب من جهة أخرى مشاركة الإنسان. وبناء الملكوت سوف يلاقى متاعب ومعطلات وردود أفعال مضادة وهذا ما نفهمه من مثل الزارع (مر1:4ـ20) لكن المسيح في هذا المثل يؤكد على أنه بالرغم من وجود هذه القوات المضادة لملكوت الله فإنه سوف يصل إلى كماله كما وُصف في سفر الرؤيا: " ثم رأيت سماء جديدة وأرض جديدة والموت لا يكون في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت " (رؤ1:21ـ4). بالطبع تَكَّمُلْ وكمال ملكوت الله هو قضية اسخاتولوجية تمامًا أى في الدهر الآتى. هكذا تهدف خدمة المصالحة إلى تدمير القوات الشيطانية تحت أشكال القهر والظلم والمرض والجهل والضعف التي تلتصق بالإنسان والمسببة لكل الآفات الاجتماعية، أيضًا تهدف المصالحة إلى تأسيس وبناء عالم جديد يسوده العدل والحياة الفُضلى. هذا العالم الجديد قد بدأ في التحقيق بمجىء المسيح نفسه وكماله وهذه قضية أخروية، أى تتم وتكمل داخل إطار الحياة الأبدية.
2 ـ المحبة:
المحبة هى الوصية العظمى للناموس بحسب رأى المسيح: " فقال له يسوع تحت الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك؛ بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء " (مت37:22ـ40). لقد أخبرنا القديس يوحنا الإنجيلى أن المسيح قبل آلامه اعتبر وصية المحبة ليست فقط وصية جديدة بل ملمح أساسى للمسيحى: " وصية جديدة أنا أعطيتكم أن تحبوا بعضكم بعضًا بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي أن كان لكم حب بعضنا لبعض " (يو34:13ـ35). هذا ما أكده قداسة البابا شنودة الثالث في كلمته في مؤتمر اللاهوتيين بالمقر البابوى بدير الأنبا بيشوى[3] 15ـ20 سبتمبر 1987م قائلاً: " أمور الشقاق التي بيننا في العقيدة والتي ترسبت على مدى قرون، لا تمنع إطلاقًا وجود نقطة بيضاء مضيئة فيها، وهى إننا نحب بعضنا بعضًا. ومن خلال هذا الحب نود أن ننتصر على هذه الخلافات وعلى هذا الشقاق. وبدلاً من أن نتبارى في عد الخلافات. نتبارى في التخلص منها ". وهذا ما أكد عليه أيضًا القس رياض جرجور[4]: " علينا من جهة، أن نتوب عن خطايانا، إذ أن خطايانا هى التي سببت انقساماتنا. المصالحة مع الله تقودنا حتميًا إلى المصالحة مع الآخر. والمصالحة مع الآخر لا تعنى شيئًا إلاّ إذا قادتنا إلى محبة الآخر وقبوله. المحبة إذن هى الطريق الأسلم للقاء الآخر وهى الوصية الكبرى في المسيحية. فالمحبة هى العلامة المميزة لمعرفة تلاميذ المسيح الحقيقتين. وهكذا " تكون رعية واحدة وراع واحد " (يو14:10ـ16).
أن هؤلاء الذين سمعوا المسيح يكرز بالمحبة نحو القريب قد أدركوا كيف أن القريب له معنى مسكونى أشمل وأعم عن ما كان ينادوا به الإسرائيليون، فالقريب عندهم هو الإنسان الذي من جنسهم ومن دينهم. فإن أى إنسان غير يهودى لا يمكن أن يعتبر أى إنسان مستحق المحبة ولكن المسيح أعطى مفهوم رائع للقريب. لقد سأله أحد الناموسيين عن مَن هو قريبى فأجابه بطريقة غير مباشرة وطرح مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37).
هل أراد المسيح أن يشدد على التزام وواجب أن نساعد ونقف بجانب الإنسان المتألم، والمحتاج؟ الإجابة ليس هذا فقط بل أراد المسيح أيضًا أن يجيب على سؤال: مَن هو قريبى؟ أى أراد أن يوضح محتوى مفهوم " القريب "، لذا قال للناموسى: " اذهب وافعل أنت نفس الشىء " أى افعل ما فعله السامرى الصالح. ساعد الإنسان المتألم بدون أن تفحص هويته أى قوميته التي ينتمى إليها، أو أى مذهب دينى يعتقد فطالما هو إنسان فهو قريب، هو أخيك بغض النظر عن القومية التي ينتمى إليها ولا الديانة التي يتبعها ولا اللغة التي يتكلمها ولا حتى اللون الذي لجلده ولا حتى الطبقة الاجتماعية التي هو منها.
لذلك فهو عن قصد قد سرد هذا المثل، وعن قصد ووعى أيضًا ذكر الكاهن واللاوى لكى يعلّم أن "القريب" هو أى إنسان. فمع مسكونية الحب نحو القريب تصير كل القيود الطبيعية للإنسان مع أسرته وشعبه قيود نسبية، وهكذا نزع المسيح عنصر القومية والدين من محتوى مفهوم القريب، فعند المسيح قريبنا هو كل إنسان فقط من المنظور الحقيقى الواقعى أنه إنسان.
أن قبول ومحبة " الآخر " هو أساس خدمة المصالحة، فدعوة المسيح للمحبة والتسامح تمثل احتياجًا مُلِحًا على مستوى الحركة المسكونية. هذه الدعوة لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس (ذكرًا أم أنثى) أو اللون (أسود أو ابيض) أو القوام الجسمانى (سليم أم معاق) ولكن تتطلب المحبة نحو العدو، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصة في الموعظة على الجبل: " سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم .. باركوا لأعينكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لكى تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات … " (مت43:5ـ48).
المسيح هنا يطلب شئ أكثر من الذي فعله السامرى الصالح، لأن ذاك انتصر على العصبيات القومية والاختلاف الديني وعلى الخلفية المتراكمة التي كانت تفصل بين السامريين واليهود وساعد إنسان كان يعانى من الألم. لكن هذا الإنسان الجريح لم يكن عدو شخصى له. أما هنا فالمسيح يطلب المحبة تجاه العدو! المحبة نحو العدو سواء العدو الشخصى أو العائلى أو القومى أو الدينى، المحبة نحو العدو الذي يكرهنا ويطردنا.
المحبة نحو الله تتطابق مع المحبة نحو القريب (الشريك في الإنسانية) خاصةً المتألم والمقهور والمظلوم. هذا التطابق يصبغ كل تعاليم المسيح، ففي مت 25 يشجع المسيح هؤلاء الذين وقفوا بجانب اخوتهم المتألمين المقهورين قائلاً: " بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى فعلتم " (مت40:25). بينما الذين تجاهلوا اخوتهم المتألمين يقول:" الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبى لم تفعلوا " (مت45:25). وهكذا تتطابق المحبة نحو الله مع المحبة نحو الشريك في الإنسانية، خاصة المتألم ومن المدهش أن محبة الآخر هو تعبير محدد للمحبة نحو الله. وهذا يعنى أن برهان محبة أحد هى فقط محبته للآخر: " لأنه مَن لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره " (يو20:4). وهذا يعنى أن كل ادعاء محبة نحو الله لا يكون دائمًا محبة نحو القريب الآخر " والعكس صحيح. فالمحبة للآخر عندما تتحقق بدرجة عظيمة من الشفافية والصدق هى حتميًا محبة نحو الله.
إن العالم ينتظر رؤية هذه المحبة في علاقة كنائسنا بعضها ببعض، وذلك بتفعيل هذه المحبة لكى تأتى بثمار على أرض الواقع. فالمسيح لا يُعلّم ولا يكرز بمحبة عاطفية رومانسية ولكن بالمحبة العاملة، لذلك يشدد على ذلك في الموعظة على الجبل قائلاً: " ليس كل مَن يقول لى يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبى الذي في السموات. كثيرون يقولون في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك وأخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذٍ أصرخ لهم إنى لم أعرفكم قط فاذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. فكل مَن يسمع أقوالى هذه يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الصخر ... وكل مَن يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الرمل ... " (مت21:7ـ27). واضح من هذا النص أن المسيح يُعطى الأولوية ليس لاعتراف الإيمان النظرى المستقيم لكن للعمل والفعل وإتيان الثمار.
ملامح خدمة المصالحة:
1 ـ خدمة يتواصل مؤمنيها مع المجتمع ومع العالم، تكون نور للعالم وملح للأرض. والإنسان اليوم ليس هو الهمو بوليتك (الإنس ـ سياسى) ولا هو الهمو إيكونوميك (الإنس ـ اقتصادى) بل هو الهمو كومينيكيك (الإنس ـ اتصالى). وبالأولى تتواصل كل كنيسة مع الكنائس الأخرى مؤمنة بالوحدة في التنوع على مثال الثالوث القدوس. يقول الأسقف يوحنا زيزيولاس في كتابه " الوجود شركة ": [ إن الآباء من رعاة الكنيسة كان لاهوتهم رعائى وهؤلاء مثل إغناطيوس الإنطاكى وإيريناؤس وأثناسيوس قد استوعبوا حقيقة وجود الله وجوهره من خلال الاختبار الكنسى أى الوجود الكنسى أو من خلال اختبار الحياة الجديدة في المسيح التي تؤهل الإنسان لأن ينال الكيان الكنسى. وأدرك هؤلاء الآباء من خلال هذا الاختبار حقيقة هامة وهى أن كيان الله ووجوده إنما يُعرف من خلال العلاقة الشخصية والمحبة الشخصية. فالوجود يعنى حياة والحياة تعنى شركة][5].
إن عقيدة الثالوث ـ كما يشرحها فلاديمير لوسكى[6] ـ التي تضعنا أما مضادة " السمة الشخصية المطلقة " مع " سمة التعددية المطلقة " إنما تعرفنا بأن هناك فرق بين " الطبيعة " و " الأقانيم ". ففي الثالوث الأقدس كل أقنوم يوجد ليس (كما في الطبيعة البشرية الساقطة) باستبعاد الأقانيم الأخرى. فالوجود الأقنومى يفترض الصلة بالآخر: " والكلمة كان نحو الله " كما يقول إنجيل يوحنا بالترجمة الحرفية لكلمة prÒj . إذن علينا أن نطبق هذا على كنيسة المصالحة فهى لكى تبرهن على أنها كنيسة تعكس أيقونة الثالوث، عليها أن لا تعمل لمصلحتها فقط مستبعدة بذلك الكنائس الأخرى وإلاّ تصير كنيسة منعزلة بذاتها ولذاتها. فكنيسة المصالحة ليست كائنة بمفردها، ولا هى جزءًا من الكل بل هى تتضمن الكل في داخلها، وتحوى في نفسها الكل فهى تتبنى الوحدة في التعدد. فالكنيسة كيان متعدد أكثر من كونه شمولية متجمعة. الذي يمثل وحدة الكنيسة ليس هو آدم القديم باعتباره رأس الجنس البشرى، لكن آدم الجديد " أقنوم " ابن الله الذي صار إنسانًا.
إن طبائعنا البشرية قد تحررت من حدودها الوهمية " ليس يهودى ولا يونانى، ليس عبد ولا حر " (غلا28) و" الفرد " الذي كان يشعر بأن وجوده متضاد مع ما لا يخصه أى مع " ما ليس أنا "، قد دُعى لكى يختفى بأن يصير عضوًا في الجسد الواحد، أى يصير " شخصًا ".
إن كانت طبائعنا الفردية قد اتحدت ببشرية المسيح الممجد وإن كانت قد دخلت في وحدة جسده المقدس بالمعمودية وقد طوعت ذاتها لموت المسيح وقيامته، فإن أشخاصنا تحتاج إلى أن تتثبت في دعوتها الشخصية بالروح القدس حتى يعى كل واحد بمحض حريته اتحاده الشخصى مع الله. لذلك، فإن سر المعمودية هو سر الوحدة في المسيح يلزم أن يكتمل بحسب الطقس الكنسى بسر المسحة المقدسة الذي هو سر التعددية في الروح القدس، أى سر منح المواهب لكل واحد حسب موهبته الخاصة " لكل واحد منا أعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح " (أف7:4).
والقديس كيرلس الاسكندرى في كتابه " العبادة بالروح والحق " يؤكد على أن الكنائس مربوطة بعضها ببعض بحسب الوحدة التي في المسيح، إذ يقول: [ فإنه يقول: " وتصنع المسكن عشر شقق من بوص مبروم وأسمانجونى وأرجوان وقرمز خمس شقق تكون موصولة بعضها ببعض الواحدة بالأخرى وخمس شقق تكون موصولة الواحدة بالأخرى " (خر1:26،3). فالشقق إذًا عشرة وماسكة بعضها ببعض بإحكام لأن هناك منازل كثيرة لدى الآب (يو2:14)، وهدف جميع الساكنين فيها هو ـ ولابد ـ واحد مقدس، لأن معرفة الله هى واحدة، لأن " الله دعانا في السلام " كما هو مكتوب (1كو15:7). فأنت ستقّر ـ إن تراءى لك ـ بأن العشر الشقق هى ـ كما تتوقع ـ ملء الكنائس التي في العالم، التي ليست مفترقة باختلاف الرأى ولا بتعارض المعتقد ولكنها متحدة في الروح وكأنها بنوع ما مربوطة معًا إلى واحد بحسب الوحدة التي في المسيح بالإيمان. فإنه في جميعها وفي كل مكان رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة (أف5:4) ].
2 ـ خدمة تستوعب المتغيرات[7]
لابد لرسالة الكنيسة أن تكون لديها القدرة على استيعاب متغيرات العصر، فالتكنولوجيا اليوم لها دورًا حاسمًا في تشكيل المجتمع، فهناك علاقة تبادلية بين التكنولوجيا والمجتمع. والمشكلة أن العلاقة التبادلية بين التكنولوجية والمجتمع قد فقدت قدرًا كبيرًا من توازنها، وذلك نتيجة للمعدل السريع لتطور تكنولوجيا المعلومات التي تنطلق بأقصى سرعة يلهث ورائها المجتمع ويسعى جاهدًا للحاق بها. وتلوح في الأفق فجوة تزداد اتساعًا بين سرعة تطور التكنولوجيا المعلوماتية وقدرة المجتمع الإنسانى على استيعابها. فنحن في أمس الحاجة إلى أن تتبعنا التكنولوجيا لا أن نلهث وراءها، لتصطبغ بصفاتنا نحن لا أن تدمغنا هى بصفاتها. نحن نريد تكنولوجيا إنسانية تعيد إلى الإنسان إنسانيته، وتكنولوجيا اجتماعية تعيد للمجتمع الإنسانى توازنه وعقلانيته.
أيضًا لابد للرسالة الكنسية أن تحدد موقفها من ثقافة الإنترنت، فهناك اتجاهان:
1 ـ الاتجاه الأول: يرى أن ثقافة عصر الإنترنت هى المدخل لتحقيق حلم البشرية الذي طال انتظاره في إرساء ثقافة تمهد لسلام حقيقى ودائم تنعم في ظله البشرية. وأن في تنوع الثقافات وحدة كافية من القيم والمعانى تسمح بوجود أخلاقيات عالمية، فليس هناك إنسان لا يرغب في تخفيض المعاناة، ولا يرفض الممارسات غير الإنسانية من قبيل وأد البنات واستغلال عمالة الأطفال والسخرة الجنسية والعبودية وما شابه ذلك.
2 ـ الاتجاه الثانى: يرى استحالة الوفاق العالمى والاجتماعى وأن الثقافة ستظل نسبية متشبثة بخصوصيتها المحلية، بل هناك مَن يؤكد أن الإنترنت سيؤدى إلى جرف حاد يفصل، سواء بين الثقافات أو ما بين الفئات الاجتماعية، وستعيد فرز المجتمعات الإنسانية وفقًا لمعايير عصر المعلومات، وأن العالم سيشهد " دارونية ثقافية " شرسة تلتهم فيها الثقافات الأقوى ـ والثقافة الأمريكية تحديدًا ـ ما دونها من الثقافات.
وفي رأينا أن الكنيسة تستطيع أن تستخدم تكنولوجيا المعلومات في تحقيق هدف الوحدة والتواصل مع الكنائس الأخرى، مع التحفظ على التفاؤل المطلق لدى الذين ينادون بأن التقدم التكنولوجى بمفرده قادر أن يحقق سلام البشرية[8].
3 ـ خدمة متحررة من الفكر العقيم
أ ـ فكر غير خطىّ:
إن فكر إنسان اليوم لا يتسم بالطابع الخطى للإنسان الماضى الذي يرى معظم الظواهر في هيئة سلاسل متلاحقة متدرجة، تتحرك من نقطة بداية صوب غايات محددة مسبقًا، من التفكير الحسى الغريزى إلى إدراك المحسوسات ثم التعامل مع المجردات. ومعرفة المجتمعات ـ في نظر البعض ـ ترتقى هى الأخرى خطيًا، من الأسطورة إلى السحر إلى الميتافيزيقية إلى العلم، وعلى صعيد علاقة التكنولوجيا بالمجتمع، فقد طرحها فكر الماضى في خطية صارمة مؤداها: العلم يكتشف، والتكنولوجيا تطبق، والمجتمع عليه أن يتكيف معها. أما خطية الفكر التاريخى فسافرة في أحداثه المتعاقبة وسرده ذى التتالى الزمنى والمتسلل، وتأتى فلسفة هيجل لتضيف الغائية إلى الخطية، حيث أحالت التاريخ إلى مسار جدلى متصل يتحرك خطيًا نحو غايات مطلقة. إنها النزعة الخطية التي سادت فكر الماضى، والتي يرجعها البعض إلى طبيعة تكنولوجيا الطباعة، ونصوصها ذات التتباع الخطى الصارم: من الحروف إلى الكلمات ومن الكلمات إلى الجمل فالفقرات فالنص الكامل.
أما معظم ظواهر الواقع اليومى فهى ذات طابع غير خطى، حيث النقلات الفجائية ومسارات التفكير المتوازية والمتداخلة. إن تكنولوجيا المعلومات قادرة على تخليص الفكر الإنسانى من ميكانيكية التفكير الخطى، فهى لا تتعامل مع النصوص فقط، بل مع الصور والأشكال أيضًا والتي هى ـ بحكم طبيعتها ـ غير خطية، علاوة على ذلك توفر نظم معالجة النصوص آليًا وسائل عدة يمكن من خلالها القفز فوق خطية النصوص، مثل حلقات التشعب النصى hyper text التي تسمح بالتنقل الحر من أى موضع في النص إلى أى موضع آخر.
هكذا على الكنيسة أن تتبنى هذا التفكير التشعبى والمسارات التفكيرية المتوازية والمتداخلة لتواجه بمرونة وسرعة تحقيق التواصل والاتحاد والشركة مع الآخرين، بدلاً من تبنى المسار الخطى الذي يأخذ فترة أطول وخطورته في أن أى عطل في أى مرحلة تُعيق المسيرة كلها.
ب ـ فكر ديناميكي:
تتبنى الكنيسة أيضًا فكرًا سريع التكيف مع ديناميكيات الواقع، قادر على استيعاب ظواهر الأزمنة، بصورة مرنة، يرى التاريخ من منظور الحاضر، ويحاصر المستقبل بسيناريوهاته وبدائل احتمالاته، ويمكنه إضافة إلى ذلك استيعاب مفهوم " الخلط الزمنى " الذي يخلط بين السابق والراهن والمرتقب. يمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تخلّصنا من الفكر ذي الطابع الاستاتيكي، بعد أن صار عنصر الزمن طوع بنانها. فباستطاعتها أن تسحقه في وحدات زمنية متناهية الصغر، وأن تكمشه وتطيله وتمزجه من خلال نماذج المحاكاة.
ج ـ فكر غير ثنائى:
يرى الظواهر في مسار متصل، يستطيع أن يميز مناطق التدرج بين أطراف الثنائيات التي رسخت في أذهاننا، من قبيل ثنائية المثالية والمادية، ثنائية الذات والموضوعية، ثنائية العلوم والفنون. تكنولوجيا المعلومات تكمن قدرتها الفائقة على تحطيم كثير من الثنائيات الراسخة مثل:
ثناثية المادى وغير المادى
ثنائية العضوى وغير العضوى
ثنائية الواقعى والخيالى
ثنائية الانتاج والاستهلاك
ثنائية الرمز والمدلول
ثنائية المجازى والحرفى
ثنائية المكتوب والمنطوق
ثنائية البشرى والآلى
ثنائية التعليم والتعلّم
ثنائية الفرد والجماعة
لقد كان لهذه الثنائيات أثرها البالغ في صياغة غايتنا، وتوجيه أدائنا، وتشكيل علاقتنا وتصوراتنا عن ذاتنا وعن عالمنا. إن هذه الثنائيات ذات قدرة اختزالية خادعة، تحصر التفكير بين بديلين لا ثالث لهما، تطمس الطيف المعرفى الذي يربط طرفيها ليتعذر بالتالى فهم طبيعة العلاقة الجدلية بينهما.
د ـ فكر يعبر الحواجز المعرفية:
إن تكنولوجيا المعلومات تعمل بلا هوادة على تحطيم الحواجز المعرفية. ويمكن إرجاع ذلك إلى أن المعالجة الآلية لفصائل المعارف المختلفة تتطلب مستويات أعلى من التجريد، وكلما تصاعد التجريد تلاشت الفوارق بين المعارف المتخصصة وأصبحت هذه المعارف بالتالى أكثر قابلية للتلاقى. لذا كما قال المطران جورج خضر: [ أن نعف عن المساجلة والمناظرة ودعم مواقف تقليدية موروثة عند هذا الفريق أو ذاك في بساطة المسيح وصفائه. هذه هى الروح المسكونية الحرة من الظفرية وعبادة التاريخ والمذهبية المنغلقة المقدسة لكل صيغة مكتوبة وكل النظم الكنسية القانونية. إن قراءة نقدية للتاريخ بغية التفاهم والانتقال إلى عقل الإنسان المعاصر لمن الأشياء التي تجعلنا نميز بين الحقيقة الإلهية والكلاّنية الطائفية. هناك أصالة وينابيع نستقى منها تجعلنا نفرق بين ما صدر عن قلب الله في الرسالة المحيية وبين الغلاف البشرى الذي اصطنعه لسلف عندما كان يتوارث لاهوتًا متأخرًا لا لاهوت البناة الأوائل. هناك العقيدة مع التعليم النورانى الحى الذي يفسرها وهناك تعاليم بشرية تغرّبنا فيها عن البهاء الأول وظنناها أصيلة ولكنها من السقط ][9].
الإنسان وتربية المصالحة
التربية في إطار المصالحة هى التعليم والتعلّم وتنمية الشخصية وتأهيل المؤمن من أجل تلبية مطالب وهدف كنيسته ومجتمعه وعالمه آخذًا في الاعتبار أنه سفير من أجل المصالحة كما يخبرنا بولس الرسول: " نسعى عنه كسفراء كأن الله يعظ بنا تصالحوا مع الله "
أ ـ تصالح لتعرف
ب ـ تصالح لتعمل
ج ـ تصالح لتكون
د ـ تصالح لتشارك الآخرين
التوجّه المسكوني للأقباط في التراث العربى المسيحى[10]
1 ـ لقد كتب ساويرس ابن المقفع أسقف الأشمونين (القرن العاشر الميلادى) مقالات حول هذا الموضوع، على سبيل المثال:
+ رسالة طويلة إلى الوزير ابى اليُمن قزمان بن مينا (في مذاهب النصارى)، و " مقالة في اختلاف الملل " والفصلان التاسع والحادى عشر من " كتاب البيان المختصر في الإيمان ".
2 ـ صفى الدولة ابو الفضائل ماجد ابن العسال، في القرن الثالث عشر: " فصول مختصرة في التثليث والاتحاد " 1242م.
3 ـ مؤتمن الدولة ابو اسحق ابراهيم ابن العسّال، صاحب الموسوعة اللاهوتية الشهيرة المعروفة بـ " مجموع أصول الدين، ومسموع محصول اليقين " وقد أتمها نحو سنة 1263. والباب الثامن منها، هو عبارة عن كتاب خاص بموضوعنا عنوانه: " في ذكر مذاهب النصارى ".
4 ـ مقالة لميخائيل، أسقف أتريب ومليج في القرن الثالث عشر " في أصول المذهب المسيحى، وما اتفقت عليه كل فرقة من فرق النصارى، وما تخالفت فيه ".
5 ـ فصول لشمس الرئاسة ابى البركات ابن كبر في الباب الأول من موسوعته: مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة " التي أتمها سنة 1320.
6 ـ مقالة لمؤلف مجهول عاش في نهاية القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر.
7 ـ قد وُجدت مخطوطتين من مخطوطات دير ابى مقار ببرية شيهيت بها مجموعة من المقالات التي تحث على المحبة والاتفاق عنوانها: " مختصر في أن الكنيسة المقدسة واحدة، والإيمان الأرثوذكسى ولحد، والمسيحيين أجمعين كلهم واحد في المسيح، ولا فرق بينهم في الإيمان الحقيقى.
من قول أحد شمامسة الكنيسة المرقسية " والقرائن تدل على أن المؤلف عاش في منتصف القرن الثامن عشر.
نماذج من نصوتحتوى على التوّجه المسكوني
ص 1 ـ ساويرس ابن المقفع[11]:
" في الفرق بين القبط والملكية " وهو الباب الأخير من مقالة " في اختلاف الملل "
يذكر ساويرس أن هناك فرقًا واحدًا أساسيًا، لا غير، وهو في الاتحاد (أى في اتحاد اللاهوت بالناسوت). ثم يذكر ثلاثة عشر فرقًا ثانويًا، هى مجرد اختلاف في العوائد والتقاليد. وبعد ذكر هذه الفروق، ينهى كتابه بدعاء في سبيل الوحدة: " الرب الإله يُرشدنا نحن وإياهم إلى طريق الخلاص ويقينًا نحن وإياهم من حدّ القصاص.
ويجمع البيعة المقدسة الواحدة الجامعة الرسولية من هذا التفريق، ويُظهر لنا ولهم السلوك في الطريق، ويُظهر الحق ويُبعد الضلالة، ويمنع الشيطان عنا وعنهم من الاستطالة. بفضله ومنه وكرمه، كما شفى نفوسنا أولاً بجراحات ألمه. تم القول في الخلف في الفروع والأصول، والرب الإله يجعل عمل الفريقين مقبول آمين ".
ملاحظات على هذا الدعاء:
+ نلاحظ أن ساويرس أظهر تواضعًا ومحبة وذلك يظهر من التعبيرات التي تفوه بها: " نحن وإياهم "، " لنا ولهم"، " عنا وعنهم "، وفي نفس الوقت أكد على أن السبيل للوحدة هو الشركة الحية بالرب، فالوحدة هى هبة من الله، لذا علينا بحسب رأيه أن نعترف بأخطائنا ونقدّس أنفسنا ونطلب من الرب أن يُرشدنا إلى الحق ويهدينا الصراط المستقيم.
قال ساويرس:
" فأما ما بين طوائف ملة النصارى من الاختلاف في العقيدة، كما يُظن بهم. فليس بينهم (في أصول المذهب التي الرجوع إليها في العقائد) اختلاف من توحيد الإله (سبحانه)، وإثبات أقانيمه، واتحاد كلمته بالجسد، وظهوره لخليقته، بل إنما اختلفوا في التأويلات والتفاسير المنقولة عن أشياء منهم، وكون كل منهم استصوب رأيًا وافق عقله. ولعمرى، كما من مِلة من الملل إلاّ وفيها طوائف. بينهم اختلاف يطول شرحه، وكلٌ معتقد أن الحق بيده. وبالجملة، فلما تأملت طائفة اليعاقبة من النصارى صحة اعتقادهم، بالعقل الراجح والقياس الواضح، قطعوا مَن يعتقد سوى ذلك من أهل ملتهم من الكهنوت، ونفوه من البيعة. فقصد كل من الطائفتين الأخريين الانتصار لرأيه ومقالته، بأن مجمع على ذلك جموعًا وأتباعًا، فصارت ملة. ولو ردّوا جميع ما بأيديهم، باتفاق منهم، إلى قواعد أصول المذهب، لارتفع الخلف بينهم ".
يؤكد ساويرس في هذا النص بأنه لا يوجد أى اختلاف في العقائد وفي أصول المذهب بين هذه الطوائف، بل أنه يؤكد أن الاتفاق ممكن بين الطوائف، " لو ردّوا جميع ما بأيديهم إلى قواعد أصول المذهب ".
2 ـ الصفى بن العسال:
الفصل الثامن من " الفصول المختصرة " نلاحظ أن الصفى مثل ساويرس لا يركز على نقط الاختلاف بل على نقط الاتفاق بينه وبين غيره، لذلك يفتتح البحث بقوله: " اعلم أن النصارى متفقون... ":
1 اعلم أن النصارى متفقون على كل ما تضمّنه الإنجيل والرسائل والأمانة الجامعة
2 وعلى أن المسيح إله متأنس
3 وعلى وصفه بالإلهية والإنسانية وأوصافهما، كما ورد الإنجيل والرسائل والأمانة
4 وعلى أنه رب واحد، كما تضمّنت الأمانة
5 واختلفوا بعد تلك في ألفاظ فلسفية
نلاحظ هنا أن الصفى يُرجع الاختلاف إلى الألفاظ الفلسفية: فكلهم متفقون ـ كما رأينا ـ على كل ما تضمّنه الإنجيل والرسائل والأمانة الجامعة وعلى أن المسيح إله متأنس وعلى وصفه بالإلهية والإنسانية وأوصافهما وعلى أنه رب واحد.
ويوضح بعد ذلك الصفى رأى كل مذهب من المذاهب الثلاثة بدون أن يتهم أحدهم بأنه مخطئ بينما يعلق على رأى الملكية بقول: والقولان ضعيفان " (رقم19). والصفى يبرر موقف المذاهب المسيحية المختلف قائلاً:
+ " مَن قال بالوحدة ... استند إلى حفظ الاتحاد " (رقم 21،22).
+ " ومَن قال بالأثنينية ... قصد حفظ الطبائع على حقائقها، وابتعد من تهمة وقوع الاستحالة بينهما " (رقم22).
ويبرر موقفه؛ موقف مَن قال بالوحدة، من تهمة وقوع الاستحالة والتغيير على الإله المتجسد (رقم24ـ29)
لكن علينا أن نتعلم من طريقة الصفى للنظر إلى الأمور، إذ يوضح بفهم أن لكل طائفة مبررًا، وأن لكل مذهب قصدًا. ويؤكد في نفس الوقت على أن هذه الاختلافات لا تمس جوهر الإيمان، بل لا يزعزع وحدة الإيمان، إنما هى اختلافات " في ألفاظ فلسفية " (رقم5).
وبذلك يعطى الصيفى مثلاً رائعًا للحوار الحقيقى الذي يحاول يفهم قصد مخالفة ويبرره لا أن يتصيد أخطاؤه.
إن الوثيقة الأولى التي انبثقت من اجتماع اللجنة المشتركة الرسمية للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية في يونيو1989 بدير الأنبا بيشوى وكذلك الوثيقة الثانية في "شامبيزى جنيف" ديسمبر 1990م. تؤكد على ما أقره مفكرى الأقباط في التراث العربى المسيحى. وإليكم بعض المقتطفات من الوثيقتين:
الوثيقة الأولى: " .... إن الأحوال الأربعة المستخدمة في وصف سر الاتحاد الأقنومى بغير اختلاط، بغير تغيير، ولا افتراق ولا انفصال، ينتمى إلى تقليدنا المشترك فالذين بيننا يتحدثون عن طبيعتين في المسيح لا ينكرون أن اتحاد الطبيعتين فيه تم بغير افتراق ولا انقسام والذين بيننا يتحدثون عن طبيعة واحدة إلهية بشرية متحدة في المسيح لا ينكرون الحضور الفعال المستمر للاهوت والناسوت في المسيح بغير تغيير وبغير اختلاط".
الوثيقة الثانية: " في ضوء وثيقة الاتفاق (الأول) بخصوص عقيدة طبيعة السيد المسيح (الخريستولوجى) … فإننا الآن نتفهم بوضوح أن العائلتين قد حفظتا دائمًا وبإخلاص نفس الإيمان الأرثوذكسى الأصيل فيما يتعلق بعقيدة السيد المسيح والاستمرارية غير المنقطعة للتقليد الرسولى بالرغم من أنهما قد يكونا قد استخدما المصطلحات الخريستولوجية بطرق مختلفة، والولاء المتصل للتقليد الرسولى هو الأساس لوحدتنا وشركتنا ".
3 ـ مقالة في أن المحبة والتواضع يحققان الوحدة:
هذه المقالة موجودة في مخطوطتين في دير ابى مقار ببرية شيهيت: أحدهما منسوخ في القرن الثامن عشر (رقم لاهوت27)، والأخرى منسوخ سنة 1854 (رقم لاهوت4).
الفكرة الأساسية للمقالة:
أن الانقسام من عمل الشيطان الذي يزرع في قلب الإنسان الكبرياء والافتخار، وبالتالى، فالوحدة من عمل الروح القدس، وهو ثمرة المحبة والتواضع: " انظروا، يا محبى التعليم الروحانى الإلهى أى تعليم هو جيد: التعليم الذي يُثبت المحبة الروحانية والألفة الصالحة، الذي بها رباط الكمال. وكل تعليم يكون بافتخار وفأس لقطع المحبة الروحانية والألفة والصلح، فهو غير جيد، وأساسه من عدو الخير الذي يلقى العداوة بين المؤمنين.
فإن الإيمان والأعمال الجيدة المرضية لله لا تتم إلاّ بالمحبة. كما يقول لسان العطر بولس الرسول: " أن حلّت علىَّ النبوة حتى أعرف السرائر والعلم كله، ولو صار فىّ جميع الإيمان حتى أنقل الجبال، ولم تكن فىّ محبة، فلست بشيء. ولو أنى أُطعم المساكين كل شئ، وأبذل جسدى بحريق النار، ولم يكن فىّ مودة، لست أربح شيئًا". وقوله أيضًا: " ثلاث خصال هذه الباقيات: الإيمان والرجاء والمحبة، وأعظمهن كلهن المحبة". وله أقوال كثيرة في شرف فضل المحبة الروحانية.
" فإذا كان المؤمنون يعدمون فضل المحبة بينهم، فكيف يثبت إيمانهم؟ أو كيف يجب المؤمنين أن يكونوا ثابتين في الإيمان، بغير محبة الاخوة التي هى أساس الإيمان؟ وكيف يكون مؤمنًا بالله الذي لا يراه، ومُبغضًا لأخيه الذي يراه، كما يقول يوحنا الرسول. وقال الرسول يعقوب في القثاليقون هكذا: " ألعل العين الواحدة تنبع ماءً عذبًا وماءً مالحًا؟ " وبطرس الرسول يقول: " بالإيمان حبوا بعضكم بعضًا محبة الاخوة، من غير محاباة، بقلب صادق ". والقديس يوحنا حبيب الرب يُعلن هكذا قائلاً: " فمَن زعم أنه في النور وهو يبغض أخاه، فإنه في الظلمة وفي الظلمة يسلك ولا يدرى أين يتوجه، من أجل أن الظلمة قد غشيت عينيه " فحققوا هؤلاء الرسل أن الإيمان لا يثبت إلاّ بالمحبة الروحانية، وأن نور الإيمان هو المحبة. وإذا لم يكن محبة فليس يكون نور الإيمان، ويصير الإيمان باطلاً.
" وسبب هذه الأقوال أن طوائف من المؤمنين متمسكين بالإيمان جيدًا، ولم يستضيئوا بنور الإيمان بينهم، التي هى المحبة. وسبب عدم المحبة من الشرير، وتنافس العباد. وإذا استضاءوا بنور المحبة، ولبسوا التواضع، فحينئذٍ الشرير لا يجد موضعًا ليزرع فيه زؤان العداوة. " ومع هذا، أن طوائف المؤمنين متمسكون بالإيمان جيدًا بسيدنا يسوع المسيح (له المجد)، ومعترفون بأنه إله متأنس، ومُقّريين بوحدانية أقنومه (رب واحد، ابن واحد، مسيح واحد، شخص واحد)، ومُقّريين أنه إله واحد على الكل. والجميع في الاعتقاد واحد. إلاّ أنهم متنافسون مختلفون في لفظات لا تنقض الإيمان "
" فمنهم مَن يقول في المسيح طبيعتين (أى: لاهوت تام، وناسوت تام ما خلا الخطية). ومنهم مَن يقول طبيعة واحدة (أى: اتحاد اللاهوت بالناسوت بالسر العجيب). وتلك الأقوال لا تنقض الاعتقاد والإيمان، مع وجود المحبة والتواضع، إذا كان الاعتراف بوحدانية الأقنوم الإلهى، وتأنسه من الطاهرة مريم بالسر الذي لا تدركه العقول البشرية، والإقرار بتجسد أقنوم الكلمة وتأنسه. (فهو) إله متأنس، واحد من اثنين، من غير اختلاط، ولا افتراق، ولا امتزاج، ولا استحالة. رب واحد، ابن واحد، مسيح واحد، أقنوم واحد. فإذا كان الاعتقاد هكذا، فليس اللفظ والمعنى ينقض الإيمان ".
واضح من النص أن المحبة هى ركيزة أساسية للمصالحة بيننا وبين الكنائس الأخرى. لذا لابد أن يكون تعليمنا مؤسس على المحبة والألفة الصالحة، وأن التفرقة والانقسام هى من عدو الخير. وإذ كنا ننادى بحوار المحبة ثم بعد ذلك بحوار الإيمان، فإننا لدينا قناعة أنه لا يمكن أن نبدأ حوار الإيمان بدون حوار المحبة، وأن حوار المحبة هو الوقود الذي يغذى قاطرة الوحدة، بدونه يتوقف حوار الإيمان.
دور الكنائس الشرقية بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأوسط
أهم الإنجازات التي حدثت في إطار التعاون المسكوني بين كنائسنا:
+ الاتفاق الرسمي على الإيمان بين الكنائس الأرثوذكسية والشرقية الأرثوذكسية (شامبيزى1990).
+ الاتفاق الرعوي بين بطريركيات الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس التابعين لإنطاكية (دمشق1991).
وقد جاء في الاتفاق: " إننا ننتمي إلى إيمان واحد، وإن كان التاريخ قد أبرز وجه انقسامنا أكثر من وجه وحدتنا" .
+ تناغم بين الكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية حول الإعلانات المسيحانية المشتركة بين البطريرك شنودة الثالث والبابا بولس السادس (1973) ثم يوحنا بولس الثاني (1987)، وبين البطريرك زكا الأول ويوحنا بولس الثاني (1983)، وأخيرًا بين الكاثوليكوس كاراكين الأول ويوحنا بولس الثاني (1996).
+ أيضًا بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية:
وثائق حول أسرار الكنيسة (ميونخ 1982)، إيمان ، وحدة، وأسرار (باري، إيطاليا 1987)، سر الكهنوت والخلافة الرسولية (فالامو، فنلندا1988)، طول الاتحادية (فريزينغ، ألمانيا 1990، وخاصة البلمند 1993 عن اللجنة اللاهوتية الدولية المختلطة بين الأرثوذكس والكاثوليك، وبخاصة ما جاء في الوثيقة بأن " الأونياتية " uniatism (أي انضمام بعض الكنائس الشرقية إلى روما) سبيل للوحدة مر عليه الزمن. وقد نتج عن هذه الوثيقة تغيير مسلك الكنائس الكاثوليكية بخاصة، قام بالكف عن ممارسة ما سمي " بالاقتناص " أي كثلكة الأرثوذكس.
+ اتفاق بطاركة الشرق الكاثوليك والأرثوذكس في 14/10/1996 دير الشرفة في لبنان حول ثلاث مسائل رعوية مهمة في حياة المؤمنين:
أ ـ الزواج المختلط (بين الأثوذكس والكاثوليك)
ب ـ كتاب التعليم المسيحي المشترك لطلاب المدارس الرسمية.
ج ـ المناولة الأولي.
هناك العديد من الوسائل التي تسهّل تحقيق الوحدة في إطار العمل المشترك رعويًا وثقافيًا واجتماعيًا، ومن الأمثلة: لقاءات رؤساء الكنائس على مستوى الشرق الأوسط، أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس الذي يُقام سنويًا تحت إشراف مجلس كنائس الشرق الأوسط، وأيضًا لقاءات خدام الرعايا في مناطق معينة وباشتراك كل الكنائس.
هناك تفاهم مشترك بين رؤساء الكنائس ظهر في لقاءاتهم منذ عام 1985 لتحقيق الوحدة بين الكنائس حيث قالوا: " نلتقي ودوافعنا تتجاوز كل الاعتبارات البشرية الصرف.نحن معًا، لا رغبة في التكتل بل لأننا كتلميذي عمواس نلاقي المسيح الآتي إلينا، إليه ننطلق وهو يجمعنا وفيه نُوجد... لنواجه أولاً قضية الشركة في الإيمان الذي تسلمناه من الرسل. هناك تباين في مواقف كنائسنا تسعى الحوارات اللاهوتية القائمة على المستوى العالمي والتي تشارك فيها أغلبية كنائسنا لأن نتجاوزه. أما نحن، هنا في منطقتنا، فمدعوون إلى المزيد من التقدم في شركة المحبة انطلاقًا من خبرة كنائسنا الفريدة، مذللين العقبات التي مازالت تعترضنا، وواعين، في الوقت عينه، أن سر الكنيسة هو الوحدة في التنوع. كلنا، نحن وأنتم، نتحمل مسئولية خلق مناخ التواضع والثقة والذي من شأنه أن يجعل المحبة بين كنائسنا فعّالة...".
أيضًا في لقائهم عام 1998 يكررون حرصهم أداء الشهادة المسيحية في المنطقة من خلال التعاون والمحبة فيقولون: " نحن نؤمن راسخي الإيمان بأن الرب يسوع المسيح حمّلنا، نحن وإياكم رسالة لهذا الشرق، وهي الشهادة للقيم الإنجيلية. ولكن القيام بهذه الرسالة لا يستقيم، لكي لا نقول يستحيل، إذ كنا لا نعطى مثلاً حيًا في توثيق روابط المحبة والتعاون في ما بيننا، ونحن جميعًا مسؤولون عن الوديعة التي ائتمننا الرب يسوع المسيح عليها: وديعة الإيمان مولّد الرجاء والباعث على المحبة...".
أخيرًا في لقائهم في تشرين الثاني 2000 في لبنان شدد رؤساء الكنائس في الشرق على أن الشهادة المسيحية لا تكتمل والكنائس في فرقة وانقسام قائلين: " إننا نعي اليوم، في بداية الألفية الثالثة، ضرورة الاستمرار في السعي إلى شفاء الجراح والتلاقي والتضامن. ولا يحقق هذا المسعى المسكوني مرتجاه من غير أن تتجدد كنائسنا روحًا وفكرًا. إن بذور النهضة الروحية تنبت في كنائسنا وهي ضمانة أمانتها والطريق إلى وحدتها. وما لقاؤنا هذا إلاّ علامة على أن التزامنا المسكوني هو خيار اليوم والمستقبل، استجابة لمشيئة المسيح في صلاته من أجل وحدة المؤمنين به ... نحن ندرك إن شهادتنا المسيحية لا تكتمل ونحن في فرقة وانقسام. وندرك أيضًا أن الطريق أمامنا طويل وأن مصاعب شتى تعترضنا... لكننا نؤكد عزمنا على إسراع الخطى على طريق الوحدة. لقد قطعنا بهدى من الروح القدس، خطوات في سبيل التآلف والتقارب بين كنائسنا، وتحققت بقوة المسيح إنجازات لا يمكن إغفالها... إننا نرى في مجلس كنائس الشرق الأوسط تعبيرًا ملموسًا لهذا التوجه، ففيه نلتئم وبواسطته نعمل معًا في سبيل الوحدة. كما نحرص أن يبقى المجلس ملتقى الكنائس، فاعلاً في كلٍ منها، وألاّ يبعد ع واقعها ولا يشيخ، بل يكون دائم الحيوية والتجدد. ولقد قامت بين كنائسنا مبادرات عدة أدى بعضها إلى اتفاقيات رعائية، ومن شأن تطبيقها أن يكون حافزًا إلى جهود أوسع فتأتي شهادتنا المشتركة مؤثرة على الصعيد المسكوني..".
تفعيل دور كل من:
1 ـ الوحدة 2 ـ التربية 3 ـ الدياكونية
دفع حوار المحبة وحوار الإيمان إنسان يعرف الخدمة في كنيستى
تجديد الالتزام بالرؤية إنسان يكون الخدمة في الوسط المسيحى
إنسان يعمل
المسكونية الواحدة إنسان يشارك الآخرين الخدمة في المجتمع
وعلى مجلس كنائس الشرق الأوسط أن يبحث مع ممثلى الكنائس إعادة تقويم وضع الحركة المسكونية في المنطقة لتجديد النواقص والانجازات، الآفاق والمخاطر، المشكلات والتحديات كما دعى الكاثوليكوس آرام الأول[12].
أ ـ على البرامج التي يضعها المجلس أن تتجاوب مع أولويات كنائسنا واحتياجاتها.
ب ـ مساعدة المجلس لكنائسنا لكى تتعامل مع المتغيرات والتطورات الحادثة في العالم.
ج ـ مشاريع مشتركة تحث على الوحدة المسكونية بين الكنائس.
د ـ لقاء مشترك: + لقاءات من خلال المؤتمرات
+ لقاءات المودة وتبادل الزيارات
هـ ـ تثقيف الشعب لاهوتيًا ورعائيًا وتربويًا.
ى ـ تفعيل الحركة المسكونية على مستوى كنائس المهجر.
[1] أيضًا هناك مصطلحات أخرى تحمل نفس المحتوى مثل: " وأن يصالح apokatal£ssein به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه … " (كو20:1)، " فاترك قربانك قُدام المذبح واذهب أولاً اصطلح diall£sseqai مع أخيك " (مت24:5)، " وفي اليوم الثانى ظهر (موسى) لهم وهم يتخاصمون فساقهم إلى المصالحة (sunall£ssein) … " (أع26:7).
[2] جنيف 23ـ28 سبتمبر 1990).
[3] أنظر ملف وحدة الكنائس الأرثوذكسية، الصادر من وحدة العمل المسكونى بالمركز القبطى للدراسات الاجتماعية، 1995.
[4] القس رياض جرجور، الحركة المسكونية في الشرق: آفاق مستقبلية من كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط، سنة 2001، ص905.
[5] الأسقف يوحنا زيزيولاس، الوجود شركة، ترجمة مركز دراسات الآباء، مايو 1989، ص3.
[6] Vladimir Lossky, The Imaye and Likeness عن مجلة مرقس، يناير 1989، ص 8ـ13، 10، 11.
[7] إستفدنا من كتاب: الثقافة العربية وعصر المعلومات، تأليف د. نبيل على، عالم المعرفة، ديسمبر 2001.
[8] انظر البيان الصادر عن اجتماع بطاركة ورؤساء الكنائس الشرقية في العالم المنعقد في المقر البطريركى المسكونى في اسطنبول (15 مارس 1992)، إذ قال رؤساء الكنائس الأرثوذكسية إنهم يرغبون في أن يواجهوا المتغيرات التي يجتازها العالم " كجسد واحد " متطلعين إلى الألف الثالثة من العصر المسيحى. ويقول الرؤساء، لقد اتضح في القرن العشرين أن التقدم الإنسانى في مجال العلوم والتكنولوجيا " لم يكن ليؤدى بالضرورة إلى السعادة وكمال الحياة اللتين ينشدهما الإنسان المعاصر ". والدليل على ذلك يكمن، ليس فقط في انهيار الشيوعية، بل وأيضًا في فشل الأيدولوجيات القائمة على التمركز حول الإنسان “ anthropocentric “. وقد نتج عن ذلك " هذا الفراغ الروحى وعدم الأمان الوجودى " الذي أدى بالكثيرين إلى أن " يبحثوا عن الخلاص " في " الحركات الدينية الجديدة " أو في " الارتباط الوثنى بالقيم المادية ". عن مجلو مرقس، أبريل 1992، ص3.
[9] المطران جورج خضر، المفاهيم الكنسية التي يقوم عليها التعاون بين الكنائس أو المتضمنة الرؤية المسكونية، أعمال مؤتمر اللاهوتيين بدير الأنبا بيشوى 15ـ20/9 سنة 1987.
[10] اعتمدنا على بحث الأب سمير خليل: " المفكرون الأقباط القدامى والوحدة المسيحية "، مجلة المنارة 28 (1987)، ص 283ـ308.
[11] من كتاب " البيان المختصر في الإيمان " لساويرس ابن المقفع نذكر هنا بداية الباب الحادى عشر، وعنوانه: " في اختلاف ثلاث طوائف النصارى.
[12] أنظر الكاثوليكوس آرام الأول، الحركة المسكونية على عتبة الألف الثالث، من كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، ص913.
ودور الكنائس الشرقية فيها
د. جورج عوض ابراهيم
مفهوم المصالحة
إن مصطلح مصالحة في اللغة اليونانية هو καταλαγη] [1] ويتكون من:allag») + (kataأى التغيير التام أو الكامل.
والتغيير في هذا السياق يعنى التجديد, خليقة جديدة (2كو17:5)، هذا التجديد كمنهج جديد للوجود يقوم على علاقة جديدة للإنسان مع الله، ومع ذاته، ومع أخيه الإنسان وأيضًا مع كل الخليقة. فالمصالحة هى طريقة الوجود الجديدة التي يمنحها لنا الله، وفي الرسالة إلى تيطس نجد توضيح موجز لمحتوى هذه المصالحة: " لأننا كُنا نحن أيضًا قبلاً أغبياء غير طائعين ضالين مُستعبدين لشهوات ولذات مختلفة عائشين في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف الله وإحسانه خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلّصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية " (تيطس 3:3ـ7).
أن التجديد يأتى من الله لأن " الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح " (2كو18:5). إذ أن " الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو19:5).
هكذا فإن " فاعل " المصالحة هو الله و" موضوع " المصالحة هو الإنسان الخاطئ. فالرسول بولس هنا لم يقل أن الله قد صُلح مع الخاطئ أو أن المسيح صالح الله معنا أو أن الله صالح نفسه معنا، لكن قال إن الله قد صالحنا لنفسه، صالح مع نفسه كل العداوة التي للبشرية (2كو18:5 وما بعده). ومن جانبه فإن الله نفسه قد أبطل عداوة الإنسان الخاطئ بالصليب، ووضعه في علاقة صحيحة معه، في حالة " سلام " كما ذُكر في (رو1:5). المصالحة تعنى إبطال العلاقة السلبية مع الله والتي أعاقت وجود الخاطئ أمام الله. فالله لم يتصالح مع الإنسان بل العكس الإنسان تصالح مع الله. المصالحة هى عطية الله ومصدرًا للحياة الجديدة: " إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا. ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة. أى أن الله كان في المسيح مُصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم وواضعًا فينا كلمة المصالحة " (2كو17:5ـ19). فالإنسان مدعو لأن يرد إيجابيًا على نداء المصالحة: " تصالحوا مع الله " (2كو21:5)، وأن يشترك أيضًا مع الله في بناء ملكوته: " فإننا نحن عاملان مع الله " (1كو9:3، كو11:4، 3يو8)، ويتصرف تجاه العالم كإنسان جديد خلاق ويمارس خدمة المصالحة.
المصالحة هى عطية الله المُغيرة للإنسان التي تدفعه في مسيرة الحياة الجديدة. في هذه الحياة الجديدة يكون الروح القدس بمثابة قوة وديناميكية هذا التغيير: " ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآه نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح " (2كو18:3). التغيير هنا هو حدث دينامي وليس استاتي، إنه حدث مستمر " تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة " (رو2:12). عندئذٍ نكتشف أن المصالحة الأصيلة تقودنا إلى قبول الآخر: " حيث ليس يونانى ويهودى، ختان وغرلة بربرى وسكثينى عبد حر بل المسيح الكل وفي الكل " (كو11:3) " ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعًا واحد في المسح يسوع " (غلا28:3).
ولقد لخص الرسول بولس في النشيد الخريستولوجى لرسالته إلى أهل كولوسى (15:1ـ20) الرؤية الصحيحة للكنيسة والعالم في إطار المصالحة قائلاً: " الذي (المسيح) هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شئ وفيه يقوم الكل. وهو رأس الجسد الكنيسة. الذي هو البداءة بكر من الأموات لكى يكون هو متقدمًا في كل شئ. لأنه فيه سُر أن يحل كل الملء. وأن يُصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السموات ".
الكنيسة هنا تحتضن كل الخليقة، وأوشية السلام في الطقس القبطى تعبر بوضوح عن هذه الحقيقة. يقول الشماس: صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله.
يقول الشعب: يا رب ارحم.
يقول الكاهن: هذه الكائنة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها. ومن هنا نستطيع أن نُعرّف مصطلح المسكونية على أنه ليس مرادف للعالمية universal بل مرادف لمصطلح الكنيسة الجامعة kaqolik» Ekklhs…a .
إن أول مَن وصف الكنيسة " بالكاثوليكية " هو القديس اغناطيوس الانطاكى. والمصطلح يتكون من مقطعين olo + k£qe " كاث، أولو " أى الكل معًا في وحدة، وقد ذكرها اغناطيوس في رسالته إلى " سميرنا ". وهذه الكلمة مستخدمة في الليتورجيات الشرقية كما رأينا في أوشية السلام حسب الطقس القبطى: " صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة الجامعة (الكاثوليكية) الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله ". والمؤمن الكاثوليكى هو الذي يجتمع مع اخوته في سر الإفخارستيا، سر الوحدة والشركة، لذا يؤكد القديس اغناطيوس في رسالته إلى فيلادلفيا 1:4 على أن اشتراك المؤمنيين في إفخارستيا واحدة " لأنه ليس لربنا سوى جسد واحد، وكأس واحدة توحدنا بدمه، ومذبح واحد، وأسقف واحد مع القساوسة والشمامسة … ". هكذا تتحقق الوحدة في الافخارستيا. هذه الوحدة هى وحدة في العمل والصلاة والفكر لذا ينصحنا القديس اغناطيوس : " لا تحاولوا أن تدعموا بالبرهان ما تنفردون بعمله بل اعملوا عملكم حسب الشركة وهى صلاة واحدة .. فكر واحد .. هذا هو يسوع المسيح " (مغنسيا 1:7). علينا إذن أن نتمسك بالسلوك الذي يؤدى إلى الوحدة لكى تتحقق كاثوليكية الكنيسة. هكذا فالمسكونية أو الكاثوليكية لها محتوى وجودى روحى وليس جغرافى بالنسبة للكنيسة. من أجل هذا نجد في رسائل اغناطيوس التأكيد على الوحدة الروحية للكنيسة والتي تتمثل في وحدة الأسقف والشعب " حيثما يكون الأسقف فهناك يجب أن تكون الجماعة (أى الكنيسة) " (أزمير 2:8) ووجود الأسقف يعنى عدم وجود انقسام ووجود المسيح معناه وجود الوحدة " لازموا الأسقف ملازمة المسيح لأبيه " (أزمير 1:8). أن وحدة الكنيسة الروحية تحفظ العالم من الفساد: "لا تجعلوا شيئًا يفرق بينكم بل اتحدوا بالأسقف والرؤساء كمثال ودرس لعدم الفساد" (مغنسيا 2:6). فالكنيسة الكاثوليكية هى الكنيسة الكائنة في المسكونة (إيرينيوس، ضد الهرطقات 10:1). هنا الكنيسة ليست عالمية بالمعنى الجغرافى ولكن هى "جسد المسيح" لا رأس لها سوى المسيح، إذ أن كاثوليكيتها تأتى من المسيح الذي " يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد " (يو52:11). وهذا ما شرحه اغناطيوس عندما قال: " اجتمعوا في هيكل واحد لله، حول مذبح واحد، في يسوع المسيح الوحيد، الذي خرج من آب واحد، وكان معه واحدًا، وإليه عاد وهو واحد " (مغنسيا2:7).
ركائز المصالحة
1 ـ ملكوت الله:
تتبنى الكنيسة القضية الأساسية التي جاهد المسيح لأجلها طوال فترة نشاطه العلنى: " ينبغى لى أن أبشر أيضًا بملكوت الله لأنى لهذا قد أرسلت " (لو43:4).
أن ملكوت الله يمثل الركيزة الأولى لخدمة المصالحة، إنه الأمر الضرورى والهام: إنه الكنز الثمين (مر44:3)، واللؤلؤة كثيرة الثمن (مر45:3ـ46) التي يجب أن نكتسبها مزدرين بأى حب شهوانى وأى أطماع مادية وتطلعات طبقية. فليتراجع كل شئ أمام الهدف والمقصد الأسمى وهو ملكوت الله وهذا هو سر تسمية المسيح للملكوت بأنه الكنز الثمين واللؤلؤة كثيرة الثمن. والمسيح نفسه حدد طبيعة وجوهر الملكوت في مجمع الناصرة عندما دُفع إليه سفر إشعياء: " روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى المأسورين بالاطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية .. اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم " (إش1:61، لو18:4ـ19).
هكذا تنادى الكنيسة بأن المسيح هو المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء (لو23:10ـ24). والفادى المحرر الذي تطلعت إليه البشرية. وتعمل الكنيسة عمل المسيح بتحرير الإنسان من سلطان إبليس وتفعيل فداء المسيح الذي تممه من أجل الفقراء والمسجونين والمقهورين والمظلومين. هذه الرسالة بالنسبة للكنيسة هى رسالة مسكونية وتمثل هدف تلتف حوله الكنائس، وهذا ما عبرت عنه اللجنة المشتركة للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية[2]:
يجب أن نفكر سويًا في أفضل وسيلة لتنسيق خططنا الحالية من أجل النهوض بمشروعاتنا الإنسانية في المجال الاجتماعى القومى لشعوبنا وللعالم أجمع. وهذا يتضمن مواجهتنا المشتركة لتلك المشاكل مثل:
أ ـ الجوع والفقر
ب ـ المرض والمعاناة
ج ـ التفرقة السياسية والدينية والاجتماعية
د ـ لاجئ وضحايا الحرب
هـ الشباب والمخدات والبطالة
و ـ المعوقين بدنيًا وعقليًا
ى ـ المسنين
إن نمو الملكوت هو في الأساس عمل الله، ولكنه يتطلب من جهة أخرى مشاركة الإنسان. وبناء الملكوت سوف يلاقى متاعب ومعطلات وردود أفعال مضادة وهذا ما نفهمه من مثل الزارع (مر1:4ـ20) لكن المسيح في هذا المثل يؤكد على أنه بالرغم من وجود هذه القوات المضادة لملكوت الله فإنه سوف يصل إلى كماله كما وُصف في سفر الرؤيا: " ثم رأيت سماء جديدة وأرض جديدة والموت لا يكون في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت " (رؤ1:21ـ4). بالطبع تَكَّمُلْ وكمال ملكوت الله هو قضية اسخاتولوجية تمامًا أى في الدهر الآتى. هكذا تهدف خدمة المصالحة إلى تدمير القوات الشيطانية تحت أشكال القهر والظلم والمرض والجهل والضعف التي تلتصق بالإنسان والمسببة لكل الآفات الاجتماعية، أيضًا تهدف المصالحة إلى تأسيس وبناء عالم جديد يسوده العدل والحياة الفُضلى. هذا العالم الجديد قد بدأ في التحقيق بمجىء المسيح نفسه وكماله وهذه قضية أخروية، أى تتم وتكمل داخل إطار الحياة الأبدية.
2 ـ المحبة:
المحبة هى الوصية العظمى للناموس بحسب رأى المسيح: " فقال له يسوع تحت الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك؛ بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء " (مت37:22ـ40). لقد أخبرنا القديس يوحنا الإنجيلى أن المسيح قبل آلامه اعتبر وصية المحبة ليست فقط وصية جديدة بل ملمح أساسى للمسيحى: " وصية جديدة أنا أعطيتكم أن تحبوا بعضكم بعضًا بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي أن كان لكم حب بعضنا لبعض " (يو34:13ـ35). هذا ما أكده قداسة البابا شنودة الثالث في كلمته في مؤتمر اللاهوتيين بالمقر البابوى بدير الأنبا بيشوى[3] 15ـ20 سبتمبر 1987م قائلاً: " أمور الشقاق التي بيننا في العقيدة والتي ترسبت على مدى قرون، لا تمنع إطلاقًا وجود نقطة بيضاء مضيئة فيها، وهى إننا نحب بعضنا بعضًا. ومن خلال هذا الحب نود أن ننتصر على هذه الخلافات وعلى هذا الشقاق. وبدلاً من أن نتبارى في عد الخلافات. نتبارى في التخلص منها ". وهذا ما أكد عليه أيضًا القس رياض جرجور[4]: " علينا من جهة، أن نتوب عن خطايانا، إذ أن خطايانا هى التي سببت انقساماتنا. المصالحة مع الله تقودنا حتميًا إلى المصالحة مع الآخر. والمصالحة مع الآخر لا تعنى شيئًا إلاّ إذا قادتنا إلى محبة الآخر وقبوله. المحبة إذن هى الطريق الأسلم للقاء الآخر وهى الوصية الكبرى في المسيحية. فالمحبة هى العلامة المميزة لمعرفة تلاميذ المسيح الحقيقتين. وهكذا " تكون رعية واحدة وراع واحد " (يو14:10ـ16).
أن هؤلاء الذين سمعوا المسيح يكرز بالمحبة نحو القريب قد أدركوا كيف أن القريب له معنى مسكونى أشمل وأعم عن ما كان ينادوا به الإسرائيليون، فالقريب عندهم هو الإنسان الذي من جنسهم ومن دينهم. فإن أى إنسان غير يهودى لا يمكن أن يعتبر أى إنسان مستحق المحبة ولكن المسيح أعطى مفهوم رائع للقريب. لقد سأله أحد الناموسيين عن مَن هو قريبى فأجابه بطريقة غير مباشرة وطرح مثل السامرى الصالح (لو30:10ـ37).
هل أراد المسيح أن يشدد على التزام وواجب أن نساعد ونقف بجانب الإنسان المتألم، والمحتاج؟ الإجابة ليس هذا فقط بل أراد المسيح أيضًا أن يجيب على سؤال: مَن هو قريبى؟ أى أراد أن يوضح محتوى مفهوم " القريب "، لذا قال للناموسى: " اذهب وافعل أنت نفس الشىء " أى افعل ما فعله السامرى الصالح. ساعد الإنسان المتألم بدون أن تفحص هويته أى قوميته التي ينتمى إليها، أو أى مذهب دينى يعتقد فطالما هو إنسان فهو قريب، هو أخيك بغض النظر عن القومية التي ينتمى إليها ولا الديانة التي يتبعها ولا اللغة التي يتكلمها ولا حتى اللون الذي لجلده ولا حتى الطبقة الاجتماعية التي هو منها.
لذلك فهو عن قصد قد سرد هذا المثل، وعن قصد ووعى أيضًا ذكر الكاهن واللاوى لكى يعلّم أن "القريب" هو أى إنسان. فمع مسكونية الحب نحو القريب تصير كل القيود الطبيعية للإنسان مع أسرته وشعبه قيود نسبية، وهكذا نزع المسيح عنصر القومية والدين من محتوى مفهوم القريب، فعند المسيح قريبنا هو كل إنسان فقط من المنظور الحقيقى الواقعى أنه إنسان.
أن قبول ومحبة " الآخر " هو أساس خدمة المصالحة، فدعوة المسيح للمحبة والتسامح تمثل احتياجًا مُلِحًا على مستوى الحركة المسكونية. هذه الدعوة لا تتجاوز فقط الحدود القومية والدينية والنوع والجنس (ذكرًا أم أنثى) أو اللون (أسود أو ابيض) أو القوام الجسمانى (سليم أم معاق) ولكن تتطلب المحبة نحو العدو، هذه المحبة قد صاغها المسيح بقوة خاصة في الموعظة على الجبل: " سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم .. باركوا لأعينكم .. أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لكى تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات … " (مت43:5ـ48).
المسيح هنا يطلب شئ أكثر من الذي فعله السامرى الصالح، لأن ذاك انتصر على العصبيات القومية والاختلاف الديني وعلى الخلفية المتراكمة التي كانت تفصل بين السامريين واليهود وساعد إنسان كان يعانى من الألم. لكن هذا الإنسان الجريح لم يكن عدو شخصى له. أما هنا فالمسيح يطلب المحبة تجاه العدو! المحبة نحو العدو سواء العدو الشخصى أو العائلى أو القومى أو الدينى، المحبة نحو العدو الذي يكرهنا ويطردنا.
المحبة نحو الله تتطابق مع المحبة نحو القريب (الشريك في الإنسانية) خاصةً المتألم والمقهور والمظلوم. هذا التطابق يصبغ كل تعاليم المسيح، ففي مت 25 يشجع المسيح هؤلاء الذين وقفوا بجانب اخوتهم المتألمين المقهورين قائلاً: " بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى فعلتم " (مت40:25). بينما الذين تجاهلوا اخوتهم المتألمين يقول:" الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبى لم تفعلوا " (مت45:25). وهكذا تتطابق المحبة نحو الله مع المحبة نحو الشريك في الإنسانية، خاصة المتألم ومن المدهش أن محبة الآخر هو تعبير محدد للمحبة نحو الله. وهذا يعنى أن برهان محبة أحد هى فقط محبته للآخر: " لأنه مَن لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره " (يو20:4). وهذا يعنى أن كل ادعاء محبة نحو الله لا يكون دائمًا محبة نحو القريب الآخر " والعكس صحيح. فالمحبة للآخر عندما تتحقق بدرجة عظيمة من الشفافية والصدق هى حتميًا محبة نحو الله.
إن العالم ينتظر رؤية هذه المحبة في علاقة كنائسنا بعضها ببعض، وذلك بتفعيل هذه المحبة لكى تأتى بثمار على أرض الواقع. فالمسيح لا يُعلّم ولا يكرز بمحبة عاطفية رومانسية ولكن بالمحبة العاملة، لذلك يشدد على ذلك في الموعظة على الجبل قائلاً: " ليس كل مَن يقول لى يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبى الذي في السموات. كثيرون يقولون في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك وأخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذٍ أصرخ لهم إنى لم أعرفكم قط فاذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. فكل مَن يسمع أقوالى هذه يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الصخر ... وكل مَن يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها يشبه رجل جاهل بنى بيته على الرمل ... " (مت21:7ـ27). واضح من هذا النص أن المسيح يُعطى الأولوية ليس لاعتراف الإيمان النظرى المستقيم لكن للعمل والفعل وإتيان الثمار.
ملامح خدمة المصالحة:
1 ـ خدمة يتواصل مؤمنيها مع المجتمع ومع العالم، تكون نور للعالم وملح للأرض. والإنسان اليوم ليس هو الهمو بوليتك (الإنس ـ سياسى) ولا هو الهمو إيكونوميك (الإنس ـ اقتصادى) بل هو الهمو كومينيكيك (الإنس ـ اتصالى). وبالأولى تتواصل كل كنيسة مع الكنائس الأخرى مؤمنة بالوحدة في التنوع على مثال الثالوث القدوس. يقول الأسقف يوحنا زيزيولاس في كتابه " الوجود شركة ": [ إن الآباء من رعاة الكنيسة كان لاهوتهم رعائى وهؤلاء مثل إغناطيوس الإنطاكى وإيريناؤس وأثناسيوس قد استوعبوا حقيقة وجود الله وجوهره من خلال الاختبار الكنسى أى الوجود الكنسى أو من خلال اختبار الحياة الجديدة في المسيح التي تؤهل الإنسان لأن ينال الكيان الكنسى. وأدرك هؤلاء الآباء من خلال هذا الاختبار حقيقة هامة وهى أن كيان الله ووجوده إنما يُعرف من خلال العلاقة الشخصية والمحبة الشخصية. فالوجود يعنى حياة والحياة تعنى شركة][5].
إن عقيدة الثالوث ـ كما يشرحها فلاديمير لوسكى[6] ـ التي تضعنا أما مضادة " السمة الشخصية المطلقة " مع " سمة التعددية المطلقة " إنما تعرفنا بأن هناك فرق بين " الطبيعة " و " الأقانيم ". ففي الثالوث الأقدس كل أقنوم يوجد ليس (كما في الطبيعة البشرية الساقطة) باستبعاد الأقانيم الأخرى. فالوجود الأقنومى يفترض الصلة بالآخر: " والكلمة كان نحو الله " كما يقول إنجيل يوحنا بالترجمة الحرفية لكلمة prÒj . إذن علينا أن نطبق هذا على كنيسة المصالحة فهى لكى تبرهن على أنها كنيسة تعكس أيقونة الثالوث، عليها أن لا تعمل لمصلحتها فقط مستبعدة بذلك الكنائس الأخرى وإلاّ تصير كنيسة منعزلة بذاتها ولذاتها. فكنيسة المصالحة ليست كائنة بمفردها، ولا هى جزءًا من الكل بل هى تتضمن الكل في داخلها، وتحوى في نفسها الكل فهى تتبنى الوحدة في التعدد. فالكنيسة كيان متعدد أكثر من كونه شمولية متجمعة. الذي يمثل وحدة الكنيسة ليس هو آدم القديم باعتباره رأس الجنس البشرى، لكن آدم الجديد " أقنوم " ابن الله الذي صار إنسانًا.
إن طبائعنا البشرية قد تحررت من حدودها الوهمية " ليس يهودى ولا يونانى، ليس عبد ولا حر " (غلا28) و" الفرد " الذي كان يشعر بأن وجوده متضاد مع ما لا يخصه أى مع " ما ليس أنا "، قد دُعى لكى يختفى بأن يصير عضوًا في الجسد الواحد، أى يصير " شخصًا ".
إن كانت طبائعنا الفردية قد اتحدت ببشرية المسيح الممجد وإن كانت قد دخلت في وحدة جسده المقدس بالمعمودية وقد طوعت ذاتها لموت المسيح وقيامته، فإن أشخاصنا تحتاج إلى أن تتثبت في دعوتها الشخصية بالروح القدس حتى يعى كل واحد بمحض حريته اتحاده الشخصى مع الله. لذلك، فإن سر المعمودية هو سر الوحدة في المسيح يلزم أن يكتمل بحسب الطقس الكنسى بسر المسحة المقدسة الذي هو سر التعددية في الروح القدس، أى سر منح المواهب لكل واحد حسب موهبته الخاصة " لكل واحد منا أعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح " (أف7:4).
والقديس كيرلس الاسكندرى في كتابه " العبادة بالروح والحق " يؤكد على أن الكنائس مربوطة بعضها ببعض بحسب الوحدة التي في المسيح، إذ يقول: [ فإنه يقول: " وتصنع المسكن عشر شقق من بوص مبروم وأسمانجونى وأرجوان وقرمز خمس شقق تكون موصولة بعضها ببعض الواحدة بالأخرى وخمس شقق تكون موصولة الواحدة بالأخرى " (خر1:26،3). فالشقق إذًا عشرة وماسكة بعضها ببعض بإحكام لأن هناك منازل كثيرة لدى الآب (يو2:14)، وهدف جميع الساكنين فيها هو ـ ولابد ـ واحد مقدس، لأن معرفة الله هى واحدة، لأن " الله دعانا في السلام " كما هو مكتوب (1كو15:7). فأنت ستقّر ـ إن تراءى لك ـ بأن العشر الشقق هى ـ كما تتوقع ـ ملء الكنائس التي في العالم، التي ليست مفترقة باختلاف الرأى ولا بتعارض المعتقد ولكنها متحدة في الروح وكأنها بنوع ما مربوطة معًا إلى واحد بحسب الوحدة التي في المسيح بالإيمان. فإنه في جميعها وفي كل مكان رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة (أف5:4) ].
2 ـ خدمة تستوعب المتغيرات[7]
لابد لرسالة الكنيسة أن تكون لديها القدرة على استيعاب متغيرات العصر، فالتكنولوجيا اليوم لها دورًا حاسمًا في تشكيل المجتمع، فهناك علاقة تبادلية بين التكنولوجيا والمجتمع. والمشكلة أن العلاقة التبادلية بين التكنولوجية والمجتمع قد فقدت قدرًا كبيرًا من توازنها، وذلك نتيجة للمعدل السريع لتطور تكنولوجيا المعلومات التي تنطلق بأقصى سرعة يلهث ورائها المجتمع ويسعى جاهدًا للحاق بها. وتلوح في الأفق فجوة تزداد اتساعًا بين سرعة تطور التكنولوجيا المعلوماتية وقدرة المجتمع الإنسانى على استيعابها. فنحن في أمس الحاجة إلى أن تتبعنا التكنولوجيا لا أن نلهث وراءها، لتصطبغ بصفاتنا نحن لا أن تدمغنا هى بصفاتها. نحن نريد تكنولوجيا إنسانية تعيد إلى الإنسان إنسانيته، وتكنولوجيا اجتماعية تعيد للمجتمع الإنسانى توازنه وعقلانيته.
أيضًا لابد للرسالة الكنسية أن تحدد موقفها من ثقافة الإنترنت، فهناك اتجاهان:
1 ـ الاتجاه الأول: يرى أن ثقافة عصر الإنترنت هى المدخل لتحقيق حلم البشرية الذي طال انتظاره في إرساء ثقافة تمهد لسلام حقيقى ودائم تنعم في ظله البشرية. وأن في تنوع الثقافات وحدة كافية من القيم والمعانى تسمح بوجود أخلاقيات عالمية، فليس هناك إنسان لا يرغب في تخفيض المعاناة، ولا يرفض الممارسات غير الإنسانية من قبيل وأد البنات واستغلال عمالة الأطفال والسخرة الجنسية والعبودية وما شابه ذلك.
2 ـ الاتجاه الثانى: يرى استحالة الوفاق العالمى والاجتماعى وأن الثقافة ستظل نسبية متشبثة بخصوصيتها المحلية، بل هناك مَن يؤكد أن الإنترنت سيؤدى إلى جرف حاد يفصل، سواء بين الثقافات أو ما بين الفئات الاجتماعية، وستعيد فرز المجتمعات الإنسانية وفقًا لمعايير عصر المعلومات، وأن العالم سيشهد " دارونية ثقافية " شرسة تلتهم فيها الثقافات الأقوى ـ والثقافة الأمريكية تحديدًا ـ ما دونها من الثقافات.
وفي رأينا أن الكنيسة تستطيع أن تستخدم تكنولوجيا المعلومات في تحقيق هدف الوحدة والتواصل مع الكنائس الأخرى، مع التحفظ على التفاؤل المطلق لدى الذين ينادون بأن التقدم التكنولوجى بمفرده قادر أن يحقق سلام البشرية[8].
3 ـ خدمة متحررة من الفكر العقيم
أ ـ فكر غير خطىّ:
إن فكر إنسان اليوم لا يتسم بالطابع الخطى للإنسان الماضى الذي يرى معظم الظواهر في هيئة سلاسل متلاحقة متدرجة، تتحرك من نقطة بداية صوب غايات محددة مسبقًا، من التفكير الحسى الغريزى إلى إدراك المحسوسات ثم التعامل مع المجردات. ومعرفة المجتمعات ـ في نظر البعض ـ ترتقى هى الأخرى خطيًا، من الأسطورة إلى السحر إلى الميتافيزيقية إلى العلم، وعلى صعيد علاقة التكنولوجيا بالمجتمع، فقد طرحها فكر الماضى في خطية صارمة مؤداها: العلم يكتشف، والتكنولوجيا تطبق، والمجتمع عليه أن يتكيف معها. أما خطية الفكر التاريخى فسافرة في أحداثه المتعاقبة وسرده ذى التتالى الزمنى والمتسلل، وتأتى فلسفة هيجل لتضيف الغائية إلى الخطية، حيث أحالت التاريخ إلى مسار جدلى متصل يتحرك خطيًا نحو غايات مطلقة. إنها النزعة الخطية التي سادت فكر الماضى، والتي يرجعها البعض إلى طبيعة تكنولوجيا الطباعة، ونصوصها ذات التتباع الخطى الصارم: من الحروف إلى الكلمات ومن الكلمات إلى الجمل فالفقرات فالنص الكامل.
أما معظم ظواهر الواقع اليومى فهى ذات طابع غير خطى، حيث النقلات الفجائية ومسارات التفكير المتوازية والمتداخلة. إن تكنولوجيا المعلومات قادرة على تخليص الفكر الإنسانى من ميكانيكية التفكير الخطى، فهى لا تتعامل مع النصوص فقط، بل مع الصور والأشكال أيضًا والتي هى ـ بحكم طبيعتها ـ غير خطية، علاوة على ذلك توفر نظم معالجة النصوص آليًا وسائل عدة يمكن من خلالها القفز فوق خطية النصوص، مثل حلقات التشعب النصى hyper text التي تسمح بالتنقل الحر من أى موضع في النص إلى أى موضع آخر.
هكذا على الكنيسة أن تتبنى هذا التفكير التشعبى والمسارات التفكيرية المتوازية والمتداخلة لتواجه بمرونة وسرعة تحقيق التواصل والاتحاد والشركة مع الآخرين، بدلاً من تبنى المسار الخطى الذي يأخذ فترة أطول وخطورته في أن أى عطل في أى مرحلة تُعيق المسيرة كلها.
ب ـ فكر ديناميكي:
تتبنى الكنيسة أيضًا فكرًا سريع التكيف مع ديناميكيات الواقع، قادر على استيعاب ظواهر الأزمنة، بصورة مرنة، يرى التاريخ من منظور الحاضر، ويحاصر المستقبل بسيناريوهاته وبدائل احتمالاته، ويمكنه إضافة إلى ذلك استيعاب مفهوم " الخلط الزمنى " الذي يخلط بين السابق والراهن والمرتقب. يمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تخلّصنا من الفكر ذي الطابع الاستاتيكي، بعد أن صار عنصر الزمن طوع بنانها. فباستطاعتها أن تسحقه في وحدات زمنية متناهية الصغر، وأن تكمشه وتطيله وتمزجه من خلال نماذج المحاكاة.
ج ـ فكر غير ثنائى:
يرى الظواهر في مسار متصل، يستطيع أن يميز مناطق التدرج بين أطراف الثنائيات التي رسخت في أذهاننا، من قبيل ثنائية المثالية والمادية، ثنائية الذات والموضوعية، ثنائية العلوم والفنون. تكنولوجيا المعلومات تكمن قدرتها الفائقة على تحطيم كثير من الثنائيات الراسخة مثل:
ثناثية المادى وغير المادى
ثنائية العضوى وغير العضوى
ثنائية الواقعى والخيالى
ثنائية الانتاج والاستهلاك
ثنائية الرمز والمدلول
ثنائية المجازى والحرفى
ثنائية المكتوب والمنطوق
ثنائية البشرى والآلى
ثنائية التعليم والتعلّم
ثنائية الفرد والجماعة
لقد كان لهذه الثنائيات أثرها البالغ في صياغة غايتنا، وتوجيه أدائنا، وتشكيل علاقتنا وتصوراتنا عن ذاتنا وعن عالمنا. إن هذه الثنائيات ذات قدرة اختزالية خادعة، تحصر التفكير بين بديلين لا ثالث لهما، تطمس الطيف المعرفى الذي يربط طرفيها ليتعذر بالتالى فهم طبيعة العلاقة الجدلية بينهما.
د ـ فكر يعبر الحواجز المعرفية:
إن تكنولوجيا المعلومات تعمل بلا هوادة على تحطيم الحواجز المعرفية. ويمكن إرجاع ذلك إلى أن المعالجة الآلية لفصائل المعارف المختلفة تتطلب مستويات أعلى من التجريد، وكلما تصاعد التجريد تلاشت الفوارق بين المعارف المتخصصة وأصبحت هذه المعارف بالتالى أكثر قابلية للتلاقى. لذا كما قال المطران جورج خضر: [ أن نعف عن المساجلة والمناظرة ودعم مواقف تقليدية موروثة عند هذا الفريق أو ذاك في بساطة المسيح وصفائه. هذه هى الروح المسكونية الحرة من الظفرية وعبادة التاريخ والمذهبية المنغلقة المقدسة لكل صيغة مكتوبة وكل النظم الكنسية القانونية. إن قراءة نقدية للتاريخ بغية التفاهم والانتقال إلى عقل الإنسان المعاصر لمن الأشياء التي تجعلنا نميز بين الحقيقة الإلهية والكلاّنية الطائفية. هناك أصالة وينابيع نستقى منها تجعلنا نفرق بين ما صدر عن قلب الله في الرسالة المحيية وبين الغلاف البشرى الذي اصطنعه لسلف عندما كان يتوارث لاهوتًا متأخرًا لا لاهوت البناة الأوائل. هناك العقيدة مع التعليم النورانى الحى الذي يفسرها وهناك تعاليم بشرية تغرّبنا فيها عن البهاء الأول وظنناها أصيلة ولكنها من السقط ][9].
الإنسان وتربية المصالحة
التربية في إطار المصالحة هى التعليم والتعلّم وتنمية الشخصية وتأهيل المؤمن من أجل تلبية مطالب وهدف كنيسته ومجتمعه وعالمه آخذًا في الاعتبار أنه سفير من أجل المصالحة كما يخبرنا بولس الرسول: " نسعى عنه كسفراء كأن الله يعظ بنا تصالحوا مع الله "
أ ـ تصالح لتعرف
ب ـ تصالح لتعمل
ج ـ تصالح لتكون
د ـ تصالح لتشارك الآخرين
التوجّه المسكوني للأقباط في التراث العربى المسيحى[10]
1 ـ لقد كتب ساويرس ابن المقفع أسقف الأشمونين (القرن العاشر الميلادى) مقالات حول هذا الموضوع، على سبيل المثال:
+ رسالة طويلة إلى الوزير ابى اليُمن قزمان بن مينا (في مذاهب النصارى)، و " مقالة في اختلاف الملل " والفصلان التاسع والحادى عشر من " كتاب البيان المختصر في الإيمان ".
2 ـ صفى الدولة ابو الفضائل ماجد ابن العسال، في القرن الثالث عشر: " فصول مختصرة في التثليث والاتحاد " 1242م.
3 ـ مؤتمن الدولة ابو اسحق ابراهيم ابن العسّال، صاحب الموسوعة اللاهوتية الشهيرة المعروفة بـ " مجموع أصول الدين، ومسموع محصول اليقين " وقد أتمها نحو سنة 1263. والباب الثامن منها، هو عبارة عن كتاب خاص بموضوعنا عنوانه: " في ذكر مذاهب النصارى ".
4 ـ مقالة لميخائيل، أسقف أتريب ومليج في القرن الثالث عشر " في أصول المذهب المسيحى، وما اتفقت عليه كل فرقة من فرق النصارى، وما تخالفت فيه ".
5 ـ فصول لشمس الرئاسة ابى البركات ابن كبر في الباب الأول من موسوعته: مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة " التي أتمها سنة 1320.
6 ـ مقالة لمؤلف مجهول عاش في نهاية القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر.
7 ـ قد وُجدت مخطوطتين من مخطوطات دير ابى مقار ببرية شيهيت بها مجموعة من المقالات التي تحث على المحبة والاتفاق عنوانها: " مختصر في أن الكنيسة المقدسة واحدة، والإيمان الأرثوذكسى ولحد، والمسيحيين أجمعين كلهم واحد في المسيح، ولا فرق بينهم في الإيمان الحقيقى.
من قول أحد شمامسة الكنيسة المرقسية " والقرائن تدل على أن المؤلف عاش في منتصف القرن الثامن عشر.
نماذج من نصوتحتوى على التوّجه المسكوني
ص 1 ـ ساويرس ابن المقفع[11]:
" في الفرق بين القبط والملكية " وهو الباب الأخير من مقالة " في اختلاف الملل "
يذكر ساويرس أن هناك فرقًا واحدًا أساسيًا، لا غير، وهو في الاتحاد (أى في اتحاد اللاهوت بالناسوت). ثم يذكر ثلاثة عشر فرقًا ثانويًا، هى مجرد اختلاف في العوائد والتقاليد. وبعد ذكر هذه الفروق، ينهى كتابه بدعاء في سبيل الوحدة: " الرب الإله يُرشدنا نحن وإياهم إلى طريق الخلاص ويقينًا نحن وإياهم من حدّ القصاص.
ويجمع البيعة المقدسة الواحدة الجامعة الرسولية من هذا التفريق، ويُظهر لنا ولهم السلوك في الطريق، ويُظهر الحق ويُبعد الضلالة، ويمنع الشيطان عنا وعنهم من الاستطالة. بفضله ومنه وكرمه، كما شفى نفوسنا أولاً بجراحات ألمه. تم القول في الخلف في الفروع والأصول، والرب الإله يجعل عمل الفريقين مقبول آمين ".
ملاحظات على هذا الدعاء:
+ نلاحظ أن ساويرس أظهر تواضعًا ومحبة وذلك يظهر من التعبيرات التي تفوه بها: " نحن وإياهم "، " لنا ولهم"، " عنا وعنهم "، وفي نفس الوقت أكد على أن السبيل للوحدة هو الشركة الحية بالرب، فالوحدة هى هبة من الله، لذا علينا بحسب رأيه أن نعترف بأخطائنا ونقدّس أنفسنا ونطلب من الرب أن يُرشدنا إلى الحق ويهدينا الصراط المستقيم.
قال ساويرس:
" فأما ما بين طوائف ملة النصارى من الاختلاف في العقيدة، كما يُظن بهم. فليس بينهم (في أصول المذهب التي الرجوع إليها في العقائد) اختلاف من توحيد الإله (سبحانه)، وإثبات أقانيمه، واتحاد كلمته بالجسد، وظهوره لخليقته، بل إنما اختلفوا في التأويلات والتفاسير المنقولة عن أشياء منهم، وكون كل منهم استصوب رأيًا وافق عقله. ولعمرى، كما من مِلة من الملل إلاّ وفيها طوائف. بينهم اختلاف يطول شرحه، وكلٌ معتقد أن الحق بيده. وبالجملة، فلما تأملت طائفة اليعاقبة من النصارى صحة اعتقادهم، بالعقل الراجح والقياس الواضح، قطعوا مَن يعتقد سوى ذلك من أهل ملتهم من الكهنوت، ونفوه من البيعة. فقصد كل من الطائفتين الأخريين الانتصار لرأيه ومقالته، بأن مجمع على ذلك جموعًا وأتباعًا، فصارت ملة. ولو ردّوا جميع ما بأيديهم، باتفاق منهم، إلى قواعد أصول المذهب، لارتفع الخلف بينهم ".
يؤكد ساويرس في هذا النص بأنه لا يوجد أى اختلاف في العقائد وفي أصول المذهب بين هذه الطوائف، بل أنه يؤكد أن الاتفاق ممكن بين الطوائف، " لو ردّوا جميع ما بأيديهم إلى قواعد أصول المذهب ".
2 ـ الصفى بن العسال:
الفصل الثامن من " الفصول المختصرة " نلاحظ أن الصفى مثل ساويرس لا يركز على نقط الاختلاف بل على نقط الاتفاق بينه وبين غيره، لذلك يفتتح البحث بقوله: " اعلم أن النصارى متفقون... ":
1 اعلم أن النصارى متفقون على كل ما تضمّنه الإنجيل والرسائل والأمانة الجامعة
2 وعلى أن المسيح إله متأنس
3 وعلى وصفه بالإلهية والإنسانية وأوصافهما، كما ورد الإنجيل والرسائل والأمانة
4 وعلى أنه رب واحد، كما تضمّنت الأمانة
5 واختلفوا بعد تلك في ألفاظ فلسفية
نلاحظ هنا أن الصفى يُرجع الاختلاف إلى الألفاظ الفلسفية: فكلهم متفقون ـ كما رأينا ـ على كل ما تضمّنه الإنجيل والرسائل والأمانة الجامعة وعلى أن المسيح إله متأنس وعلى وصفه بالإلهية والإنسانية وأوصافهما وعلى أنه رب واحد.
ويوضح بعد ذلك الصفى رأى كل مذهب من المذاهب الثلاثة بدون أن يتهم أحدهم بأنه مخطئ بينما يعلق على رأى الملكية بقول: والقولان ضعيفان " (رقم19). والصفى يبرر موقف المذاهب المسيحية المختلف قائلاً:
+ " مَن قال بالوحدة ... استند إلى حفظ الاتحاد " (رقم 21،22).
+ " ومَن قال بالأثنينية ... قصد حفظ الطبائع على حقائقها، وابتعد من تهمة وقوع الاستحالة بينهما " (رقم22).
ويبرر موقفه؛ موقف مَن قال بالوحدة، من تهمة وقوع الاستحالة والتغيير على الإله المتجسد (رقم24ـ29)
لكن علينا أن نتعلم من طريقة الصفى للنظر إلى الأمور، إذ يوضح بفهم أن لكل طائفة مبررًا، وأن لكل مذهب قصدًا. ويؤكد في نفس الوقت على أن هذه الاختلافات لا تمس جوهر الإيمان، بل لا يزعزع وحدة الإيمان، إنما هى اختلافات " في ألفاظ فلسفية " (رقم5).
وبذلك يعطى الصيفى مثلاً رائعًا للحوار الحقيقى الذي يحاول يفهم قصد مخالفة ويبرره لا أن يتصيد أخطاؤه.
إن الوثيقة الأولى التي انبثقت من اجتماع اللجنة المشتركة الرسمية للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية في يونيو1989 بدير الأنبا بيشوى وكذلك الوثيقة الثانية في "شامبيزى جنيف" ديسمبر 1990م. تؤكد على ما أقره مفكرى الأقباط في التراث العربى المسيحى. وإليكم بعض المقتطفات من الوثيقتين:
الوثيقة الأولى: " .... إن الأحوال الأربعة المستخدمة في وصف سر الاتحاد الأقنومى بغير اختلاط، بغير تغيير، ولا افتراق ولا انفصال، ينتمى إلى تقليدنا المشترك فالذين بيننا يتحدثون عن طبيعتين في المسيح لا ينكرون أن اتحاد الطبيعتين فيه تم بغير افتراق ولا انقسام والذين بيننا يتحدثون عن طبيعة واحدة إلهية بشرية متحدة في المسيح لا ينكرون الحضور الفعال المستمر للاهوت والناسوت في المسيح بغير تغيير وبغير اختلاط".
الوثيقة الثانية: " في ضوء وثيقة الاتفاق (الأول) بخصوص عقيدة طبيعة السيد المسيح (الخريستولوجى) … فإننا الآن نتفهم بوضوح أن العائلتين قد حفظتا دائمًا وبإخلاص نفس الإيمان الأرثوذكسى الأصيل فيما يتعلق بعقيدة السيد المسيح والاستمرارية غير المنقطعة للتقليد الرسولى بالرغم من أنهما قد يكونا قد استخدما المصطلحات الخريستولوجية بطرق مختلفة، والولاء المتصل للتقليد الرسولى هو الأساس لوحدتنا وشركتنا ".
3 ـ مقالة في أن المحبة والتواضع يحققان الوحدة:
هذه المقالة موجودة في مخطوطتين في دير ابى مقار ببرية شيهيت: أحدهما منسوخ في القرن الثامن عشر (رقم لاهوت27)، والأخرى منسوخ سنة 1854 (رقم لاهوت4).
الفكرة الأساسية للمقالة:
أن الانقسام من عمل الشيطان الذي يزرع في قلب الإنسان الكبرياء والافتخار، وبالتالى، فالوحدة من عمل الروح القدس، وهو ثمرة المحبة والتواضع: " انظروا، يا محبى التعليم الروحانى الإلهى أى تعليم هو جيد: التعليم الذي يُثبت المحبة الروحانية والألفة الصالحة، الذي بها رباط الكمال. وكل تعليم يكون بافتخار وفأس لقطع المحبة الروحانية والألفة والصلح، فهو غير جيد، وأساسه من عدو الخير الذي يلقى العداوة بين المؤمنين.
فإن الإيمان والأعمال الجيدة المرضية لله لا تتم إلاّ بالمحبة. كما يقول لسان العطر بولس الرسول: " أن حلّت علىَّ النبوة حتى أعرف السرائر والعلم كله، ولو صار فىّ جميع الإيمان حتى أنقل الجبال، ولم تكن فىّ محبة، فلست بشيء. ولو أنى أُطعم المساكين كل شئ، وأبذل جسدى بحريق النار، ولم يكن فىّ مودة، لست أربح شيئًا". وقوله أيضًا: " ثلاث خصال هذه الباقيات: الإيمان والرجاء والمحبة، وأعظمهن كلهن المحبة". وله أقوال كثيرة في شرف فضل المحبة الروحانية.
" فإذا كان المؤمنون يعدمون فضل المحبة بينهم، فكيف يثبت إيمانهم؟ أو كيف يجب المؤمنين أن يكونوا ثابتين في الإيمان، بغير محبة الاخوة التي هى أساس الإيمان؟ وكيف يكون مؤمنًا بالله الذي لا يراه، ومُبغضًا لأخيه الذي يراه، كما يقول يوحنا الرسول. وقال الرسول يعقوب في القثاليقون هكذا: " ألعل العين الواحدة تنبع ماءً عذبًا وماءً مالحًا؟ " وبطرس الرسول يقول: " بالإيمان حبوا بعضكم بعضًا محبة الاخوة، من غير محاباة، بقلب صادق ". والقديس يوحنا حبيب الرب يُعلن هكذا قائلاً: " فمَن زعم أنه في النور وهو يبغض أخاه، فإنه في الظلمة وفي الظلمة يسلك ولا يدرى أين يتوجه، من أجل أن الظلمة قد غشيت عينيه " فحققوا هؤلاء الرسل أن الإيمان لا يثبت إلاّ بالمحبة الروحانية، وأن نور الإيمان هو المحبة. وإذا لم يكن محبة فليس يكون نور الإيمان، ويصير الإيمان باطلاً.
" وسبب هذه الأقوال أن طوائف من المؤمنين متمسكين بالإيمان جيدًا، ولم يستضيئوا بنور الإيمان بينهم، التي هى المحبة. وسبب عدم المحبة من الشرير، وتنافس العباد. وإذا استضاءوا بنور المحبة، ولبسوا التواضع، فحينئذٍ الشرير لا يجد موضعًا ليزرع فيه زؤان العداوة. " ومع هذا، أن طوائف المؤمنين متمسكون بالإيمان جيدًا بسيدنا يسوع المسيح (له المجد)، ومعترفون بأنه إله متأنس، ومُقّريين بوحدانية أقنومه (رب واحد، ابن واحد، مسيح واحد، شخص واحد)، ومُقّريين أنه إله واحد على الكل. والجميع في الاعتقاد واحد. إلاّ أنهم متنافسون مختلفون في لفظات لا تنقض الإيمان "
" فمنهم مَن يقول في المسيح طبيعتين (أى: لاهوت تام، وناسوت تام ما خلا الخطية). ومنهم مَن يقول طبيعة واحدة (أى: اتحاد اللاهوت بالناسوت بالسر العجيب). وتلك الأقوال لا تنقض الاعتقاد والإيمان، مع وجود المحبة والتواضع، إذا كان الاعتراف بوحدانية الأقنوم الإلهى، وتأنسه من الطاهرة مريم بالسر الذي لا تدركه العقول البشرية، والإقرار بتجسد أقنوم الكلمة وتأنسه. (فهو) إله متأنس، واحد من اثنين، من غير اختلاط، ولا افتراق، ولا امتزاج، ولا استحالة. رب واحد، ابن واحد، مسيح واحد، أقنوم واحد. فإذا كان الاعتقاد هكذا، فليس اللفظ والمعنى ينقض الإيمان ".
واضح من النص أن المحبة هى ركيزة أساسية للمصالحة بيننا وبين الكنائس الأخرى. لذا لابد أن يكون تعليمنا مؤسس على المحبة والألفة الصالحة، وأن التفرقة والانقسام هى من عدو الخير. وإذ كنا ننادى بحوار المحبة ثم بعد ذلك بحوار الإيمان، فإننا لدينا قناعة أنه لا يمكن أن نبدأ حوار الإيمان بدون حوار المحبة، وأن حوار المحبة هو الوقود الذي يغذى قاطرة الوحدة، بدونه يتوقف حوار الإيمان.
دور الكنائس الشرقية بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأوسط
أهم الإنجازات التي حدثت في إطار التعاون المسكوني بين كنائسنا:
+ الاتفاق الرسمي على الإيمان بين الكنائس الأرثوذكسية والشرقية الأرثوذكسية (شامبيزى1990).
+ الاتفاق الرعوي بين بطريركيات الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس التابعين لإنطاكية (دمشق1991).
وقد جاء في الاتفاق: " إننا ننتمي إلى إيمان واحد، وإن كان التاريخ قد أبرز وجه انقسامنا أكثر من وجه وحدتنا" .
+ تناغم بين الكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية حول الإعلانات المسيحانية المشتركة بين البطريرك شنودة الثالث والبابا بولس السادس (1973) ثم يوحنا بولس الثاني (1987)، وبين البطريرك زكا الأول ويوحنا بولس الثاني (1983)، وأخيرًا بين الكاثوليكوس كاراكين الأول ويوحنا بولس الثاني (1996).
+ أيضًا بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية:
وثائق حول أسرار الكنيسة (ميونخ 1982)، إيمان ، وحدة، وأسرار (باري، إيطاليا 1987)، سر الكهنوت والخلافة الرسولية (فالامو، فنلندا1988)، طول الاتحادية (فريزينغ، ألمانيا 1990، وخاصة البلمند 1993 عن اللجنة اللاهوتية الدولية المختلطة بين الأرثوذكس والكاثوليك، وبخاصة ما جاء في الوثيقة بأن " الأونياتية " uniatism (أي انضمام بعض الكنائس الشرقية إلى روما) سبيل للوحدة مر عليه الزمن. وقد نتج عن هذه الوثيقة تغيير مسلك الكنائس الكاثوليكية بخاصة، قام بالكف عن ممارسة ما سمي " بالاقتناص " أي كثلكة الأرثوذكس.
+ اتفاق بطاركة الشرق الكاثوليك والأرثوذكس في 14/10/1996 دير الشرفة في لبنان حول ثلاث مسائل رعوية مهمة في حياة المؤمنين:
أ ـ الزواج المختلط (بين الأثوذكس والكاثوليك)
ب ـ كتاب التعليم المسيحي المشترك لطلاب المدارس الرسمية.
ج ـ المناولة الأولي.
هناك العديد من الوسائل التي تسهّل تحقيق الوحدة في إطار العمل المشترك رعويًا وثقافيًا واجتماعيًا، ومن الأمثلة: لقاءات رؤساء الكنائس على مستوى الشرق الأوسط، أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس الذي يُقام سنويًا تحت إشراف مجلس كنائس الشرق الأوسط، وأيضًا لقاءات خدام الرعايا في مناطق معينة وباشتراك كل الكنائس.
هناك تفاهم مشترك بين رؤساء الكنائس ظهر في لقاءاتهم منذ عام 1985 لتحقيق الوحدة بين الكنائس حيث قالوا: " نلتقي ودوافعنا تتجاوز كل الاعتبارات البشرية الصرف.نحن معًا، لا رغبة في التكتل بل لأننا كتلميذي عمواس نلاقي المسيح الآتي إلينا، إليه ننطلق وهو يجمعنا وفيه نُوجد... لنواجه أولاً قضية الشركة في الإيمان الذي تسلمناه من الرسل. هناك تباين في مواقف كنائسنا تسعى الحوارات اللاهوتية القائمة على المستوى العالمي والتي تشارك فيها أغلبية كنائسنا لأن نتجاوزه. أما نحن، هنا في منطقتنا، فمدعوون إلى المزيد من التقدم في شركة المحبة انطلاقًا من خبرة كنائسنا الفريدة، مذللين العقبات التي مازالت تعترضنا، وواعين، في الوقت عينه، أن سر الكنيسة هو الوحدة في التنوع. كلنا، نحن وأنتم، نتحمل مسئولية خلق مناخ التواضع والثقة والذي من شأنه أن يجعل المحبة بين كنائسنا فعّالة...".
أيضًا في لقائهم عام 1998 يكررون حرصهم أداء الشهادة المسيحية في المنطقة من خلال التعاون والمحبة فيقولون: " نحن نؤمن راسخي الإيمان بأن الرب يسوع المسيح حمّلنا، نحن وإياكم رسالة لهذا الشرق، وهي الشهادة للقيم الإنجيلية. ولكن القيام بهذه الرسالة لا يستقيم، لكي لا نقول يستحيل، إذ كنا لا نعطى مثلاً حيًا في توثيق روابط المحبة والتعاون في ما بيننا، ونحن جميعًا مسؤولون عن الوديعة التي ائتمننا الرب يسوع المسيح عليها: وديعة الإيمان مولّد الرجاء والباعث على المحبة...".
أخيرًا في لقائهم في تشرين الثاني 2000 في لبنان شدد رؤساء الكنائس في الشرق على أن الشهادة المسيحية لا تكتمل والكنائس في فرقة وانقسام قائلين: " إننا نعي اليوم، في بداية الألفية الثالثة، ضرورة الاستمرار في السعي إلى شفاء الجراح والتلاقي والتضامن. ولا يحقق هذا المسعى المسكوني مرتجاه من غير أن تتجدد كنائسنا روحًا وفكرًا. إن بذور النهضة الروحية تنبت في كنائسنا وهي ضمانة أمانتها والطريق إلى وحدتها. وما لقاؤنا هذا إلاّ علامة على أن التزامنا المسكوني هو خيار اليوم والمستقبل، استجابة لمشيئة المسيح في صلاته من أجل وحدة المؤمنين به ... نحن ندرك إن شهادتنا المسيحية لا تكتمل ونحن في فرقة وانقسام. وندرك أيضًا أن الطريق أمامنا طويل وأن مصاعب شتى تعترضنا... لكننا نؤكد عزمنا على إسراع الخطى على طريق الوحدة. لقد قطعنا بهدى من الروح القدس، خطوات في سبيل التآلف والتقارب بين كنائسنا، وتحققت بقوة المسيح إنجازات لا يمكن إغفالها... إننا نرى في مجلس كنائس الشرق الأوسط تعبيرًا ملموسًا لهذا التوجه، ففيه نلتئم وبواسطته نعمل معًا في سبيل الوحدة. كما نحرص أن يبقى المجلس ملتقى الكنائس، فاعلاً في كلٍ منها، وألاّ يبعد ع واقعها ولا يشيخ، بل يكون دائم الحيوية والتجدد. ولقد قامت بين كنائسنا مبادرات عدة أدى بعضها إلى اتفاقيات رعائية، ومن شأن تطبيقها أن يكون حافزًا إلى جهود أوسع فتأتي شهادتنا المشتركة مؤثرة على الصعيد المسكوني..".
تفعيل دور كل من:
1 ـ الوحدة 2 ـ التربية 3 ـ الدياكونية
دفع حوار المحبة وحوار الإيمان إنسان يعرف الخدمة في كنيستى
تجديد الالتزام بالرؤية إنسان يكون الخدمة في الوسط المسيحى
إنسان يعمل
المسكونية الواحدة إنسان يشارك الآخرين الخدمة في المجتمع
وعلى مجلس كنائس الشرق الأوسط أن يبحث مع ممثلى الكنائس إعادة تقويم وضع الحركة المسكونية في المنطقة لتجديد النواقص والانجازات، الآفاق والمخاطر، المشكلات والتحديات كما دعى الكاثوليكوس آرام الأول[12].
أ ـ على البرامج التي يضعها المجلس أن تتجاوب مع أولويات كنائسنا واحتياجاتها.
ب ـ مساعدة المجلس لكنائسنا لكى تتعامل مع المتغيرات والتطورات الحادثة في العالم.
ج ـ مشاريع مشتركة تحث على الوحدة المسكونية بين الكنائس.
د ـ لقاء مشترك: + لقاءات من خلال المؤتمرات
+ لقاءات المودة وتبادل الزيارات
هـ ـ تثقيف الشعب لاهوتيًا ورعائيًا وتربويًا.
ى ـ تفعيل الحركة المسكونية على مستوى كنائس المهجر.
[1] أيضًا هناك مصطلحات أخرى تحمل نفس المحتوى مثل: " وأن يصالح apokatal£ssein به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه … " (كو20:1)، " فاترك قربانك قُدام المذبح واذهب أولاً اصطلح diall£sseqai مع أخيك " (مت24:5)، " وفي اليوم الثانى ظهر (موسى) لهم وهم يتخاصمون فساقهم إلى المصالحة (sunall£ssein) … " (أع26:7).
[2] جنيف 23ـ28 سبتمبر 1990).
[3] أنظر ملف وحدة الكنائس الأرثوذكسية، الصادر من وحدة العمل المسكونى بالمركز القبطى للدراسات الاجتماعية، 1995.
[4] القس رياض جرجور، الحركة المسكونية في الشرق: آفاق مستقبلية من كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط، سنة 2001، ص905.
[5] الأسقف يوحنا زيزيولاس، الوجود شركة، ترجمة مركز دراسات الآباء، مايو 1989، ص3.
[6] Vladimir Lossky, The Imaye and Likeness عن مجلة مرقس، يناير 1989، ص 8ـ13، 10، 11.
[7] إستفدنا من كتاب: الثقافة العربية وعصر المعلومات، تأليف د. نبيل على، عالم المعرفة، ديسمبر 2001.
[8] انظر البيان الصادر عن اجتماع بطاركة ورؤساء الكنائس الشرقية في العالم المنعقد في المقر البطريركى المسكونى في اسطنبول (15 مارس 1992)، إذ قال رؤساء الكنائس الأرثوذكسية إنهم يرغبون في أن يواجهوا المتغيرات التي يجتازها العالم " كجسد واحد " متطلعين إلى الألف الثالثة من العصر المسيحى. ويقول الرؤساء، لقد اتضح في القرن العشرين أن التقدم الإنسانى في مجال العلوم والتكنولوجيا " لم يكن ليؤدى بالضرورة إلى السعادة وكمال الحياة اللتين ينشدهما الإنسان المعاصر ". والدليل على ذلك يكمن، ليس فقط في انهيار الشيوعية، بل وأيضًا في فشل الأيدولوجيات القائمة على التمركز حول الإنسان “ anthropocentric “. وقد نتج عن ذلك " هذا الفراغ الروحى وعدم الأمان الوجودى " الذي أدى بالكثيرين إلى أن " يبحثوا عن الخلاص " في " الحركات الدينية الجديدة " أو في " الارتباط الوثنى بالقيم المادية ". عن مجلو مرقس، أبريل 1992، ص3.
[9] المطران جورج خضر، المفاهيم الكنسية التي يقوم عليها التعاون بين الكنائس أو المتضمنة الرؤية المسكونية، أعمال مؤتمر اللاهوتيين بدير الأنبا بيشوى 15ـ20/9 سنة 1987.
[10] اعتمدنا على بحث الأب سمير خليل: " المفكرون الأقباط القدامى والوحدة المسيحية "، مجلة المنارة 28 (1987)، ص 283ـ308.
[11] من كتاب " البيان المختصر في الإيمان " لساويرس ابن المقفع نذكر هنا بداية الباب الحادى عشر، وعنوانه: " في اختلاف ثلاث طوائف النصارى.
[12] أنظر الكاثوليكوس آرام الأول، الحركة المسكونية على عتبة الألف الثالث، من كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، ص913.
لتحميل كتاب : الوجود شركة تاليف المطران يوحنا زيزيولاس
ردحذفhttp://coptic-books.blogspot.com/2014/10/blog-post_36.html