الجمعة، 29 يوليو 2011


أصحاب المرجعيات الدينية ( 3 ) هل ينصلح الحال بمليونية الشريعة ؟ د . جورج عوض ابراهيم
3- التحرر من الصراع الحادث بين السماوي والأرضي
مازلنا أمام السؤال الذي طرحناه من قبل : متى أو كيف تصير الرسالة الدينية قاطرة للتقدم والرقي للشعوب والمجتمعات ؟ وتحدثنا عن عنصرين هما : 1- أن تُحدِث الرسالة الدينية التغيير الجذري الداخلي في الانسان ليصبح إنسان جديد يتمتع بسلوكيات جديدة تبني ولا تهدم ، تصنع سلاما ولا تتبنى العنف مسلكاً ، ترى في العلم والابداع البشري تجليات الخالق في الانسان . سلوكيات تظهر في الحياة اليومية ، ومن ثم فإن الدعوة الدينية ليست دعوة نظرية جدلية بل هي دعوة عملية تظهر بكل تجلياتها في سلوك الانسان اليومية أي في الواقع المعاش . 2- التحرر من السُكنى في كهوف الماضي ، ومن ثم علينا ان نميز بين ثوابت الرسالة الدينية والمتغيرات التي هي رهن تغير الظروف والبيئة والثقافة . والرسالة الدينية ليست هي دعوة للرجوع إلى الماضي والبقاء هناك حيث الثقافة التي عفى عليها الزمن والمفاهيم التي طرأ عليها تغير ونمو واتساع عبر مسيرة البشرية .
أما العنصر الثالث الذي يجعل الرسالة الدينية قاطرة التقدم والرقي هو : التحرر من الصراع الحادث بين السماوي والأرضي :
التدين الزائف يجد صراعاً بين كل ما ينتمي للدين من كتب مقدسة بها تعاليم سماوية وبين كل ما ينتمي للإنسان من علم وقيم وأفكار ومواثيق وبنود حقوقية وغيرها من نتاج الإنسان ، اي ما ينتمي للأرضي . إنها ثنائية ظهرت في الغرب في العصور الوسطى بين ( الطبيعي – غير الطبيعي ) . لقد أقامت هذة الثنائية عداوة بين ما هو " فوق " وما هو "تحت" ، ولذا انفصلت الحياة الدنيوية عن الإيمان الذي ينتمي إلى ما هو " فوق " . وأصبحت هناك مكابرة دينية ، فالرسالة الدينية وحدها عند المتدين تحتوي على سر تقدم الشعوب والامم ، وأي شيىء ينتمي إلى ما هو " تحت " مثل القيم الاخلاقية الانسانية والفلسفة والتقدم العلمي وغيره هو لا شيىء أمام التعاليم السماوية التي تنتمي إلى ما هو " فوق " . وهذا يفسر الانحياز التام للمتدين تجاه الشريعة الدينية – لاحظ مليونية الشريعة فى ميدان التحرير - لأن لديه قناعة بأن الشريعة الالهية تختلف تماماً وتضاد تماماً القوانين التي من صُنع البشر والمواثيق الدولية ودساتير حقوق الانسان والحق في الحياة وحقوق الطفل والمعاق والمريض وحقوق المرأة والمعاهدات الدولية التي تنظم علاقات الدول وخصوصياتها الحدودية وغيرها من قضايا الكفاح من اجل العدل والمساواة والحرية ، تلك القضايا التي جاهد الانسان لاجل تحقيقها .
المشكلة تكمن في قناعة المتدين بأن التقدم والرقي منحصر فقط في التعاليم الالهية وليس في كل ما ينتمي لمجهودات الانسان الأرضي الذي ينتمي إلى ما هو " تحت " . وهنا نتذكر فلسفة قديمة كانت قبل المسيحية واستمرت بعد ذلك تُدعى الفلسفة الغنوسية التي كانت ترى ان الله متعالٍ جداً ولا يمكن ان يصنع تواصل مع الكون ولا سيما المخلوقات المادية ، وهكذا افترضت الغنوسية وجود " هوة " ساحقة لا يمكن عبورها بين الله والكون .
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : من أين أتت هذة القناعة بالصراع  الحادث بين السماوي والارضي ؟ أتت هذة القناعة من الاعتقاد بأن الانسان الذي خلقة الله لا يوجد فيه – بلغة الكمبيوتر – اي برنامج بواسطتة يتعرف على خالقه ، وكأن الله خلق الانسان مثله مثل الكائنات غير العاقلة . وكأن الانسان ليس هو المخلوق الالهي الوحيد الذي يستطيع ان يتواصل مع الله ويتحدث اليه حتى لو كان ملحدا . الانسان منتج الهي عاقل وواعي به ميل طبيعي تجاه الله خالقه . والرسالة الدينية المسيحية تنادي بأن الانسان – بغض النظر عن إنتمائه الديني او الفكري والجغرافي والعرقي ولون البشرة ....الخ – مخلوق بحسب صورة الله ومثاله ، وبعيدا عن المصطلحات الدينية ، الانسان مخلوق وبه جهاز اسقبال وارسال الهي . صحيح حين ابتعد الانسان عن الله حدث تشويش لهذا الجهاز حتى ان الانسان في معظم فترات حياته تصرف تصرفات غير انسانية تفتقر للتواصل الالهي ، الا انه لم يحدث تدمير لهذا الجهاز تماماً في الانسان فمازال الانسان اى انسان يحمل البصمات الالهية حتى لو كانت هذة البصمات مطموسة وغير واضحة . والتحدي الحقيقي للرسالة الدينية هي اعادة جهاز التواصل ليعمل بكفاءة عالية ليظهر في تعاملات ورؤى الانسان اليومية.
هكذا الانسان في تكوينه ليس ارضي محض ولا سماوي محض بل هو مخلوق ارضي سماوي ، وهذا ما يميز الانسان عن بقية خليقة الله . ولا يُستثنى في هذا الانسان الملحد او المعتنق لأي مذهب ديني او فلسفي . الانسان خُلِقَ وفي داخله منظومة القيم والاخلاق التي انطمست وتشوهت جراء ابتعاده عن خالقه وانغماسه في شهواته واطماعه . لذلك مهمة الرسالة الدينية ان توقظه وتنيره على الكنز الداخلي المدفون في داخله . وليست الرسالة الدينية فقط هي التي اخذت على عاتقها القيام بهذة المهمة بل والرسالة الادبية والفلسفية والفنية وكل ابداعات الانسان الصادقة والاصيلة والتي هي من نتاج تشغيل البرنامج او الجهاز المغروس في داخل الانسان حتى ولو بكفاءة منخفضة ، وإلا ما تفسير وجود قيم التذوق الفني والجمالي للحضارات الانسانية قبل الرسالة الدينية مثل الآثار القديمة المصرية او تماثيل بوذا التي دمرتها الاصولية الدينية .

الخلاصة ان اي إبداع انساني أصيل – حتى لو كان بلا مرجعية دينية – حظى بقبول المجتمع البشري ليس هو نتاج بشري بحت بل هو نتاج بشري الهي ، لان هذا الابداع صادر من بشر هم في الاساس مخلوقات إلهية اي خلقهم الله الخالق وأودع فيهم امكانيات الابداع وقيم الجمال والصلاح والرقي ومحبة الخير....الخ. بالتالي لا نجد صراع بين القوانين والقيم الوضعية التي هي من نتاج البشر والشرائع الالهية ، إلا اذا كانت هذة القوانين والقيم تضاد ما هو انساني او لا تضع مصالح البشر وكرامتهم في المرتبة الاولى . وأظن انه لا يوجد قانون وضعي إتفق عليه المجتمع البشري ينادي بإبادة الانسان او بالتمييز بين البشر وفقاَ للدين او العرق او المذهب او اللون ، وحتى لو هذا موجود علينا ان نجاهد لتعديله بالحوار وبالاقناع وبكافة الطرق السلمية لان المجتمع البشري لن يتحول في الحاضر إلى مجتمع ملائكة وإلا ما فائدة كل الرسالات التي تهدف للرقي والتقدم . لذا لن ينصلح الحال بمليونية الشريعة الالهية بمفردها ولا بمليونية العلمانية بمفردها .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق