الجمعة، 8 أكتوبر 2010


حقوق الإنسان رؤية مسيحية آبائية

د. جورج عوض ابراهيم
مقدمة
تنطلق الإعلانات الخاصة بحقوق الإنسان من أن الإنسان يعتبر غايةً بحد ذاته بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى، وأن هذه الذات الإنسانية جديرة بإدراك كنهها والإحاطة بكمالها وحريتها وضميرها الأخلاقي. لذا نجد أن هذه الإعلانات تنص على الإيمان بحرية الفرد والمساواة بين كل الناس بلا استثناء، ومشاركة كل المواطنين في شغل المواقع العامة، وعدم اختراق الخصوصية، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد اهتمت إعلانات حقوق الإنسان - بشكل مبدئي – بالتشديد على ضرورة حماية المواطن من ظلم الدولة له واعتدائها على حقوقه، ثم امتد الاهتمام إلى حماية الإنسان من ظلم مجموعات أو فرق أخرى، وكذلك على حمايته من أصحاب السلطة. ومن الجدير بالذكر أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: Universal Declaration of Human Rights قد صدر من الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948. هذا الإعلان يمثل نتائج محاولات طويلة بدأت منذ عام 1776، بإعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية الذي هو بمثابة أول تأكيد للحق في الحياة، ثم الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن في عام 1789 ويعتبر هذا الإعلان هو النموذج المثالي لكل ما صدر من وثائق عن حقوق الإنسان حيث تناول: السيادة الوطنية، ونظام الحكومة النيابية، وأولوية حرية التعبير عن الإرادة العامة، والفصل بين السلطات، ومساواة الجميع أمام القانون، العدالة ، والحق في الأمن، وحرية الضمير والرأي والفكر .....إلخ. الرؤية المسيحية لحقوق الإنسان تتفق اتفاقًا تامًا على النواة الأساسية لنصوص إعلانات حقوق الإنسان هذه والتي تتمثل في: الحرية ، المساواة، كرامة الإنسان. عير أنه علينا أن نعترف بأن البنود الخاصة بحقوق الإنسان تنطلق من مرجعيات تختلف عن مرجعيات الرسالة المسيحية. فالإعلانات الخاصة بحقوق الإنسان تهدف إلى تنظيم حياة الإنسان كمواطن في مجال سلطة الدولة، فهي تهتم بعلاقات الفرد والدولة، أمَّا المسيحية فتتبنى قول السيد المسيح "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22: 21). والإيمان المسيحي ينطلق من الله ويرجع إليه. فالمسيحية لا تحدد ولا تتبنى نظاماً اجتماعياً أو سياسياً معيناً، كما لا تعتبر النظم البشرية مطلقة. ويمكننا أن نقرر أن جذور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعود إلى تلك النظرة عن الإنسان والتي سادت في عصر النهضة أثناء فترة الصراع من أجل تقرير المصير والاستقلال والمناداة بالمساواة في أماكن كثيرة في العالم. هكذا نجد جذور هذا الإعلان في التأثير الذي واكب صدور وثيقة Magna Carta أى العهد الأعظممن الملك جون ملك إنجلترا في عام 1215م، وفي الأفكار الفلسفية لكل من المفكر جون لوك الإنجليزي، وجان جاك روسو الفرنسي، وتوماس جيفرسون الأمريكي، وكارل ماركس الألماني ولينين الروسي، وأيضاً تبنى البرلمان الإنجليزي في عام 1679م لـ Habeas Corpus وهو قانون يضمن حرية وأمن الفرد ضد التوقيف والعقوبات التحكمية من خلال الإلزام بإحالة سريعة أمام قاض يكون استقلاله عن السلطة التنفيذية مضموناً. كما نجدها كذلك في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن في عام 1789م.

رؤية نقدية للاعلان العالمي لحقوق الانسان
أ – مصالح ذاتية هى الدافع وراء بنود هذه الوثائق من حق المرء أن يعبِّر عن بعض التحفظات تجاه الخلفية التاريخية لهذه الجذور التي ذكرناها. فالبعض يرى أن وثيقة الـ Magna Carta أى العهد الأعظم، لم تكن اعتراف بحقوق الشعب بقدر ما يحسب على أنها نجاح طبقة النبلاء في تأمين حقوقهم تجاه السلطة الملكية. وبالنسبة لبنود الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن في عام 1789م، فبالرغم من أنها عبَّرت عن حقائق نتفق بشأنها، إلاَّ أنها عكست توجهات الذين أعدوها، وهذا ما يفسر تشديد هذا الإعلان على حق الملكية الخاصة وبعدم اختراقها. كما أعطت بنود هذا الإعلان للطبقة الوسطى إمكانيات ومكاسب ومراكز محورية، إلاَّ أن ذلك لا يعني أننا نقلل من أهمية أثر هذا الإعلان على الثورات الاجتماعية التي حدثت بعد ذلك. إن الجذور التي نبتت منها شجرة حقوق الإنسان - هي بالطبع - قديمة جداً أكثر من نصوص هذه الإعلانات، فهذه الجذور على علاقة بالقناعات الدينية والمبادئ العامة التي تنادي بها الديانات الكبرى، خاصةً في الغرب، حيث نجد أن تعاليم الإنجيل قد أثرت أيضاً على صياغة هذه النصوص. لكننا نلاحظ أن النصوص التي جاءت متأخرة عن الإعلان الفرنسي، جاءت محايدة، مستلهمةً ما يُسمى بالقانون الطبيعي، لذا كان محور ارتكازها مبدأ تفوق الإنسان، وكان المناداة بأن الإنسان هو مركز كل شئ هو الأساس في هذه النصوص. ومن هنا نستطيع أن نقول إن نصوص حقوق الإنسان يسيطر عليها فكرة أن الإنسان هو كائنٌ مستقل يحيا بذاته معتمداً فقط على عقله وقدراته الذاتية، ولذلك لا نندهش أن ظهر تأليه العقل كبديل للإيمان بالله عند المفكرين والفلاسفة، حتى أن أحدهم وهو نيتشه نادى بموت الله. إن التوصيات النظرية لنصوص حقوق الإنسان تستند على أنثروبولوجية[1] غير مبالية بـ "سر الإنسان"، أي بحقيقة كيانه. والمآسي التي تحدث في عصرنا تجعلنا نتحقق بسهولة من أن نصوص حقوق الإنسان تستند فقط على المنطق العقلي البشري الذي يميل دائماً إلى المصلحة الذاتية. إننا نلاحظ أن نصوص إعلانات حقوق الإنسان تبنَّت نظرةً سطحيةً عن الطبيعة البشرية، فما حدث في السنوات العشر الأخيرة من تجاوزات الدول الكبرى ـ التي شاركت هي نفسها في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ـ أكَّد على مدى وحشية الإنسان، الأمر الذي قاد شعوباً كثيرةً إلى اليأس وخيبة الأمل. فالحوادث التاريخية المؤسفة والمليئة بكل الجرائم غير الأخلاقية تشهد على مأساة الإنسان ومدى ضعف طبيعته. فالكل يتحدث في كل مناسبة عن قيمة الإنسان وكرامته والذود عن حقوقه، ولكن الكل أيضاً - من ناحيةٍ أخرى - إذا ما أرادوا مخالفة ميثاق حقوق الإنسان، فإنهم بكل بساطة يخترقوا هذا الميثاق المتفق عليه. إن مجرد الاعتراف النظري لا يكفي، لذلك، فعندما تختفي الغيرة والحماس على تطبيق هذه النصوص، تسود خيبة الأمل، طالما أن الأقوياء يدوسون ببساطة حقوق الضعفاء. ب – الرؤية الأحادية نستطيع أن نميِّز رؤيةً أحاديةً تسود نصوص إعلانات حقوق الإنسان، وهي تلك التي تشدد فقط على الحقوق دون ربطها بالواجبات التي تقع على كاهله. وإن كان السبب الأساسي في سيادة هذه الرؤية إنما يرجع إلى الظروف التاريخية التي تمخضت عنها هذه الإعلانات، فقد وُلدت هذه النصوص في عصور الثورات ضد السلطات الحاكمة، وكان الهدف منها حماية المواطن من بطش السلطة. لكن علينا اليوم في مناخ العولمة أن نتجاوز هذه الرؤية الأحادية. إن عزل مسألة حقوق الإنسان عن الواجبات يجلب خطر تدمير فكرة حقوق الإنسان نفسها لأن التوازن عندئذٍ يكون مفتقداً. فالعنصر الأساسي في كيان الإنسان وفي الكرامة البشرية لا يتحقق فقط بالمطالبة بالحقوق، لكن بالمسئولية عن كل ما يفعله الإنسان أيضاً. إن النظرة الأحادية للحقوق تقود إلى فرديةٍ مريضةٍ، وإلى سوء استخدام هذه الحقوق، ولذلك لكي يكون هناك تعضيد ثابت للحقوق لا بد من وجود تشديد مواز للمسئوليات والواجبات. إلى جوار ذلك، فهناك ضرورة لوجود انسجام بين حقوق المجتمع وحقوق الأفراد، والوضع الأصح ليس هو "حقوقي" أو "حقوقه"، ولكن الاثنين معاً. وقد حدّد السيد المسيح هذه العلاقة: "أحب قريبك كنفسك" (مر 12: 3). وهنا نجد تجاوز للـ "أنا" و"الأنت" لكي نرتفع معاً إلى شركة أشخاص. يقول ألبير جاكار([2]) "يجب النظر إلى حقوق الإنسان باعتبارها نتيجة لإدراكنا لخصوصية نوعنا البشري. يجعلنا هذا الإدراك نفهم أننا الكائنات الحية الوحيدة التي تستطيع أن تصبح أشخاصا،ًوهو ما يعني التوصل إلى الوعي بالوجود. لا يمكن حدوث هذا التحول إلاَّ بفضل التعاطي مع الآخرين. فالمجتمع الذي يحترم حقوق الإنسان يجب عليه قبل كل شيء السماح للكل بالاشتراك في هذا التعاطي، فإن غاية التعليم هي اللقاء مع الآخرين والتفاعل معهم"([3]). إذا كان الأمر كذلك، فالتساؤل الذي يثور: هل مجرد إعلان حقوق إنسان يكفي، أم أن حقوق الإنسان هي أكثر من مجرد إعلان؟ إن صرخة الكاتبة الفرنسية ماري داريوسيك([4]) - عند استعراض بعض ما تشكو منه البشرية اليوم - تظهر أن هناك فجوةً كبيرةً بين ما هو كائنٌ بالفعل، وبين ما يجب أن يكون، فهي تقول: "لا أعرف كيف أُرتب أولوياتي في النضال من أجل حقوق الإنسان والتى تتمثل فى الآتى : من الفروض أن يتعلم الجميع القراءة والكتابة. أن يجد كل شخص ما يأكله. أن يكون لكل شخص مكان يأويه. أن يعيش كل شخص في عالم يسوده السلام. أن تكون هناك مساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق. القضاء على عمليات ختان الأعضاء التناسلية. أن لا يحتاج أي شخص بعد الآن إلى المخدرات. أن يسكن الجميع في عالم متوازن بيئياً. أن يشارك الجميع في السلطة. ج ـ غموض مصطلحات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
 تتحدث ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الاعتراف بالكرامة المتأصلة بين جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبأن حقوقهم الثابتة المتساوية هي أساس الحرية والعدل والسلام في العالم. أيضاً تتحدث المادة 29 قائلةً: "1- على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه ولشخصيته أن تنمو نمواً حراً 2- يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. 3- لا يصح بحالٍ من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها". لا تنبع هذه التعبيرات من فهم واضح للشخصية البشرية، لذا فهي تتسم بالغموض. هناك غموض يكتنف هذه التعبيرات. وهناك عدم تحديد للمصطلحات الفلسفية الأساسية مثل "الأخلاق"، و"مجتمع ديمقراطي"، "الشخصية". ونحن وإن كنا نتفهم المبرر الذي جعل من نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصاً غامضاً احتوى مصطلحات غير محددة، إذ أراد واضعوه أن يكون مقبولاً من الكل بغض النظر عن المعتقدات الدينية المختلفة، إلاَّ أن هذا المبرر لا يغير من حقيقة أن الإعلان يقدم أنثروبولوجية غير محددة. لذلك فنحن نؤكد على حقيقة أن مجرد قبول إعلانات حقوق الإنسان، ليس كافياً - في حد ذاته - لضمان كرامة البشر، فالإعلانات هي مجرد وصف قانوني، كما أنها تمثل صياغات مبدئية لا تؤمِّن كرامة الإنسان، وبالتالي مهما كان ولائنا لإعلانات حقوق الإنسان، يجب علينا أن نكون منفتحين تجاه مجال آخر ينشغل بحقوق الإنسان الجوهرية والتي هي أكثر عمقاً من أي صياغة قانونية، ونقصد هنا بالتحديد الانفتاح على الرؤية المسيحية لحقوق الإنسان - الأنثروبولوجية المسيحية  - وأمام المؤاخذات التي لفتنا النظر إليها في نصوص إعلانات حقوق الإنسان كان لا بد لنا أن نستعرض - بإيجاز - الاعتقاد المسيحي الأرثوذكسي عن الإنسان، ومدى ما لهذا الاعتقاد من علاقة بحقوق الإنسان، وذلك لكي تصير أيقونة الإنسان واضحة، تلك الأيقونة التي هي أساس الأرثوذكسية :
1- إن الإيمان بأن الله خلق الإنسان "على صورته ومثاله" (تك 5: 1) هو حجر الزاوية للأنثروبولوجية المسيحية. وفوق هذا الأساس ينبني أي رأي كتابي عن الإنسان. ويشدد العهد الجديد أيضاً على أن الإنسان هو مخلوقٌ إلهي، فالسيد المسيح نفسه يقول لليهود الفريسيين: "أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى" (مت 19: 4، أع 17: 28 ،29). وإن الإنسان خلق بحسب صورة الله (كو 3: 10)، "وبحسب مثاله" (يع 3: 9). لا تعلن المسيحية عن الله باعتباره مجرد "كائن أعلى"، لكن كـ "إله محبةٍ"، واحد مثلث الأقانيم، أي أنها تعلن عن شركة محبةٍ بين الأقانيم الثلاثة في جوهر واحد. والخلق بحسب "المثال"، أي مثال الله أُعطي للإنسان كإمكانية وليس كأمرٍ تام مكتمل، إذ أن الاكتمال لا يتحقق إلاَّ بقوة وحضور الروح القدس أثناء مسيرة الإنسان في طريق الشركة والمحبة بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخوته في الإنسانية. هكذا كل البشر بغض النظر عن الانتماء القومي، واللون، واللغة، والشكل، نجدهم محوطين بكرامةٍ إلهيةٍ متساوية. وبينما يشدد الفكر الغربي تشديداً كبيراً على تأليه العقل، نجد أن الشرق المسيحي يشدد بالأكثر على عنصر الحرية والمحبة واضعاً نموذج شركة أقانيم الثالوث منبعاً للحرية والمحبة. 2- كذلك تنادي المسيحية بأن الله ليس مجرد خالق، بل هو أبٌ لكل البشر، وهذا الرأي يُشدد عليه مراراً الكتاب المقدس، خصوصاً في العهد الجديد (أنظر على سبيل المثال مت 6: 9، رو 1: 7)، فكل البشر هم أولاد الله، وبالتالي فهم أخوة. هذا الأصل المشترك لكل البشر من نفخة الله، أكَّد عليها القديس بولس الرسول في أريوس باغوس في أثينا: "الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه، هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ..... وصنع من دمٍ واحدٍ كل أمةٍ من الناس يسكنون على كل وجه الأرض وحتَّم بالأوقات المعينة وبحدودٍ مسكنهم" (أع 17: 24 – 26). هكذا كل البشرية تظل وحدة عظيمة بلا تفتيت مركزها الله والثالوث الحي: إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم (أف 4: 6). 3- كذلك، فإن هدف الوجود البشري والذي وضعه الله يربط البشر في عائلةٍ واحدةٍ. ذلك أن هدف وجود البشر هو تفعيل إمكانياتهم الإلهية بنعمة الله للتحرك نحو تحقيق التشبُّه بالله، أي أن نرتفع من مجرد الوجود البيولوجي إلى شركة أشخاص، إلى انسجام وتوافق مع كل المخلوقات وكل الخليقة، وذلك بالمحبة التي تنبع من الثالوث القدوس وتنسكب في قلوبنا. 4- يوجد أيضاً عنصرٌ آخر أساسي تشترك فيه كل البشرية، وهو سقوط الإنسان. فالإنسان بدلاً من أن يتجه ناحية الله ليشترك في شركة محبة الأقانيم الإلهية لكي يحقق الهدف من وجوده، وهو التشبُّه بالله، التصق بذاته الفردية ورفض محبة الله وطلب أن يمضي على أساس معاييره الخاصة وغواية الشيطان بأن يصير كالله عن طريق مخالفة وصايا الله (راجع تك 3: 5). ويشرح القديس أثناسيوس الرسولي قصة سقوط الإنسان بأسلوبٍ رائعٍ مبتدئاً بالخلق أولاً فيقول: "إن الله صالحٌ، بل هو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بأي شيء ولا يحسد أحداً حتى على الوجود، ولذلك خلق كلب الأشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا، وبنوعٍ خاص تحنن جنس البشر، ولأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائما على الحالة التي خُلِقَ فيها، أعطاه نعمةً إضافيةً فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركةً في قوة كلمته حتى يستطيعوا بطريقة ما، ولهم بعضٌ من ظل [الكلمة] وقد صاروا عقلاء، أن يبقوا في سعادةٍ ويحيوا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس"([5]). ويستمر القديس أثناسيوس في الكلام عن الوصية التي أُعطيت للإنسان قائلاً: "ولكن لعلمه أيضاً أن إرادة البشر يمكن أن تميل إلى أحد الاتجاهين [الخير والشر] سبق فأمَّن النعمة المعطاة لهم بوصيةٍ ومكان، فأدخلهم في فردوسه وأعطاهم وصية حتى إذا حفظوا النعمة واستمروا صالحين، عاشوا في الفردوس بغير حزن ولا ألم ولا هم، بالإضافة إلى الوعد بالخلود في السماء. أمَّا إذا تعدوا الوصية وارتدوا [عن الخير] وصاروا أشراراً فليعلموا أنهم سيجلبون الموت على أنفسهم حسب طبيعتهم، ولن يحيوا بعد في الفردوس، بل يموتون خارجاً عنه ويبقون إلى الأبد في الفساد والموت"([6]). من الواضح إذن أن سقوط الإنسان على علاقة بـ "حريته". لقد كان حراً في أن يرفض المحبة الإلهية، كما رفضها فعلاً ليرتبط بمحبته لذاته. وبالرغم من تغرُّبه لكنه ما يزال يحتفظ بهويته وميراث مصدره الإلهي، والشوق إلى فردوسه المفقود. المبادرة الإلهية يقر إيماننا الأرثوذكسي بأن هناك قوات مضادة كانت ومازالت تعمل داخل تاريخ البشرية وفي مسيرة كل إنسان، كما يقر بأن هناك فعلاً إلهياً يتم ليوقف هذه القوة التي تجلب الاضطرابات بشتى الطرق والأنواع، وهكذا جاء الحل إلى داخل قلب البشرية بمبادرة لمحبة الله الفائقة، حيث "الكلمة صار جسداً وحل بيننا" (يو 1: 4). الأقنوم الثاني للثالوث [الابن] يمثل المساهمة الفعالة للإعلان المسيحي، إذ أعطى للبشرية اتجاهاً جديداً لمسيرتها نحو "شركة" الإنسان بالثالوث القدوس وبالآخرين الذين خلقوا على صورة الله ومثاله، لذا يقول القديس أثناسيوس الرسولي: "فلأجل قضيتنا تجسَّد لكي يخلصنا، وبسبب محبته للبشر قَبِلَ أن يتأنَّس ويظهر في جسد بشري"([7]). هكذا بالتجسد يتمم المسيح "عمليتي المحبة"، كما يقول أثناسيوس: "لأن المخلص تمم بتأنسه عمليتي المحبة، أولاً: أباد الموت من داخلنا وجددنا ثانيةً. وثانياً: أنه هو غير ظاهر ولا منظور، فقد أعلن نفسه وعرَّف ذاته بأعماله في الجسد، بأنه كلمة الآب، ومدبر الكون"([8]). إذن يجب أن تستند مبادئ حقوق الإنسان على الكرامة والمساواة والحرية على هذه الأسس والتعاليم اللاهوتية.
خاتمة
الكرامة البشرية ليست بمثابة افتخار وزهو، أو انتصار هلامي غير محدد، لكنها بمثابة تأكيد على أن الإنسان كائنٌ مقدسٌ، مخلوقٌ على صورة الله ومثاله. إن كرامة الإنسان لا ترتبط بالأنانية الفردية، لكن هي شعور بالعظمة البشرية، هي كرامةٌ مملوءة بالنبل والاحترام تجاه الآخرين، وهذا المفهوم لا يظل محبوساً في شكل نظري، لكن لا بد أن يعاش مثلما عاشه آلاف البشر الذين صاروا نماذج قيادية للمؤمنين وبركة للبشرية. إن الإيمان بحرية الإنسان هو بمثابة القاعدة الأساسية للبناء التعليمي المسيحي، فبدون الحرية لا نستطيع أن نتفهم سقوط الإنسان وافتداؤه. ونجد رسالة الحرية واضحة جداً في العهد الجديد [أنظر مت 17: 26 و يو 8: 32 – 36 و 2كو 3: 17 و غلا 5: 1 - 13]، فآباء الكنيسة يعلنون مراراً حقيقة أن الله خلق الإنسان حراً، لذلك فهو مسئول عن كل أعماله. وبحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي فإن هذه الحرية ليست بدون التزام، بل هي من ضمن وصايا الله([9]). فالحرية هي عطية من الله للبشر، أُعطيت لهم منذ البداية، والاستخدام السيئ لهذه العطية يقود الإنسان إلى السقوط. وهذه المسئولية ترتبط بكرامة الإنسان([10]). لقد كرزت المسيحية في العهد الجديد بالمساواة بين البشر، ومعروفٌ عندنا صياغة القديس بولس الرسول لهذا المبدأ في كولوسي 3: 11"ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري وسكيثي، عبد وحر، بل المسيح الكل وفي الكل". وبالإضافة إلى ذلك فالمسيحية مقتنعة تماماً بأنه بواسطة تأنُّس الابن وبالخلاص في المسيح سما الجنس البشري وارتقى. هذه الحقائق تتجسد بوضوح في عمل الكنيسة الليتورجي. فالكل في العبادة – بغض النظر عن المكانة الاجتماعية وعن الجنس والقومية – أمام الله متساوون، وأمامه كل واحد يمتلك نفس الكرامة والمكانة. هذه المواقف تمثل علامات مركزية في تعليم الآباء الذين يتحدثون مراراً عن المساواة بين البشر "المساواة في الكرامة"، فيقول ذهبي الفم: "وهذا الحق مؤسَسٌ على المحتوى الحقيقي للطبيعة البشرية، والانحراف عن المساواة في هذه الكرامة يسمونه ظلماً". ومن الجدير بالذكر أن الفكر المسيحي شدد باستمرار على حقٍ بشري لم يُنص عليه في إعلانات حقوق الإنسان المختلفة باعتبار أن هذا الحق يعتبر عنصراً أساسياً للشخصية الإنسانية إلاَّ وهو الحق في أن تُحِبَ وأن تُحَب. لأنه بالحب المتبادل تكتمل الشخصية الإنسانية. هذا الحق أعطاه الله بنفسه بطريقة مؤثرة جداً، إذ أحب هو نفسه الإنسان حباً بغير حدود يمكن للعقل البشري أن يتخيلها. إن كل ما سبق أن ذكرناه يجد ملئه واكتماله في الرؤية المسيحية لمحبة الله للبشر، ومحبة البشر تجاه الله. في هذا الإطار تتحقق كرامة البشر بأكثر فاعلية، فبهذه المحبة يكشف المسيحي عن عمق جوهر الأشياء ويرى الإنسان – كما هو خليقة الله، أيقونة الله، ابن الله. المحبة المسيحية لا تتوقف على قناعات الآخر أياً كانت هذه القناعات، سواء ثقافية أو دينية، فلا يستطيع أي عائق أن يوقف مبادرة المحبة. وكون ملايين البشر لا يقبلون المبادئ التعليمية للمسيحية، فهذا لا يقلل - بالتأكيد - من أهميتها كأساس راسخ ومحترم للحقوق البشرية في التعليم المسيحي. إن آراء الآخرين المختلفة لا تعوقنا أبداً عن أن نحترم حريتهم في الإيمان بما يرون، ولا يدفعنا ذلك أن نتشكك في مساواتهم وحقوقهم المغروسة في وجودهم البشري، تلك التي نعتقد أنها مختومة – في هذا الوجود – بختم لا يمحى، أي بالصورة الإلهية. [1] أنثروبولوجية : Anthoropology معناها العلم الخاص بالإنسان ما هيته وكل وكل ما يتعلق به. ([2]) البير جاكار Albert Jacquard هو المدير السابق للأبحاث بالمعهد الوطني الفرنسي للدراسات السكانية، وعضو سابق في اللجنة العليا لإيواء الأشخاص المحتاجين 1992، وعضو في مجلس حقوق أجيال المستقبل 1993، وله مؤلفات مختلفة مثل: "أنا والآخرون" 1983، "5 مليارات رجل في سفينة 1987"، "إنني أتهم الاقتصاد الحر" – دار كالمان ليفي للنشر 1995م. ([3]) راجع "حقوق الإنسان أكثر من مجرد إعلان" نبذة صادرة بمناسبة العيد الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ديسمبر 1998، الترجمة العربية. ([4]) كاتبة من الجيل الجديد، مؤلفة "تحصيل حاصل" الذي تُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، و"مولد الأشباح" دار Pol للنشر 1998 – نقلاً عن "حقوق الإنسان أكثر من مجرد إعلان" مرجع سابق. ([5]) القديس أثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة 3: 3، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس – الطبعة الأولى – إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية – أغسطس 2002. ([6])المرجع السابق 3: 4، 5 – ص 9. ([7]) المرجع السابق 4: 3 ص 10. ([8]) المرجع السابق 16: 5 ص 47. ([9]) BEPES 59,76,1-3 ([10]) غريغوريوس النيصي عظة 5 تعليمية: BEPES 68,307,16-17

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق