الخميس، 7 أكتوبر 2010



ثقافة الصورة
رؤية آبائية
د.جورج عوض إبراهيمنحن في مواجهة طوفان حقيقي من الصور. أصبح في مقدور بلايين البشر أن تستقبل قدراً هائلاً من الصور الناتجة عن التقنيات الحديثة، سواء كانوا فقراء أو أغنياء يمتلكون في بيوتهم أحدث أجهزة التليفزيون واستقبال الفضائيات وأحدث أجهزة الكمبيوتر القادرة على الاتصال بشبكة المعلومات العالمية.
الصور تحمل عالم خيالي يحل محل العالم الحقيقي، فالمشاهد يُعاد تشكيل فكره وعقله لخدمة أغراض وأهداف معينة. الصورة تفصل المشاهد عن ماضيه وثقافته وقناعته الدينية والفكرية وتُعيد تشكيل هويته لتتفق مع مجتمع يتسق مع أغراض وأهداف وتوجّه التيار المهيمن والمروج لهذه الصور.
لقد ساهمت التكنولوجيا في تقديم التقنيات السريعة والدقة وتوفير الجهد والوقت فارتبطت بالاستهلاك السريع استجابة لمتطلبات السوق. وعالم الصور يخدم اقتصاد السوق الذي يتعامل مع البشر كمستهلكين، وسلع للاستهلاك، فالصور تروّج لثقافة الاستهلاك التي اخترقت كل مناحي الحياة. هكذا تلتهم ثقافة الصور الوجود الإنساني الأصيل وتستبدله بعالم بديل هو عالم مرئي يحاصر الكائن الإنساني بطريقة لا مثيل لها. فهذا العالم المليء بالصور يُعيد الصياغة الثقافية للبشر تبعاً لإرادة صانعي الصور ومروجيها. لقد أنتج هذا العالم تقاليد وافدة في الطعام والشراب واللباس والمسكن وحتى في السلوك العام اليومي. هذا ما يُفسر الفجوة الهائلة بين الأجيال، فأولادنا يتحدثون لغة لا نفهمها ويفكرون بطريقة غريبة هي نتاج هذه الثقافة المهيمنة. لقد تراجع دور الإنسان المتأمل المتفكر وأمام طوفان الصور المنسكبة عليه والإنجازات التكنولوجية التي تخفي ورائها عجز الإنسان وسلبيته وفشله في الاحتفاظ بالريادة وحرية إختيار الطريق.
ينبغي علينا أن نستنير بنور الله في قلوبنا وعقولنا لكي نميز الرسائل المستترة خلف طوفان الصور. والقديس مقاريوس يشرح لنا احتياج الجسد وكذلك احتياج النفس موضحاً أهمية الأشياء الخارجة عن الجسد مثل الملبس والطعام والشراب وكذلك إحتياج النفس للطعام والشراب الروحي، قائلاً: ”حينما صنع الله جسدنا هذا فإنه لم يمنحه أن تكون له حياة، لا من طبيعة الله الخاصة ولا أن يحيا الجسد بذاته، هكذا دبر له الطعام والشراب واللباس والأحذية، وهكذا عيّن الله لأن يأخذ كل حاجات الحياة من الخارج إذ أنه صنع الجسد نفسه عرياناً. ولا يمكن للجسد أن يعيش بدون الأشياء الخارجة عنه، أي بدون الطعام والشراب واللباس، فإن حاول أن يعتمد على طبيعته وحدها دون أن يأخذ شيئاً من الخارج فإنه يضمحل ويموت. وهذا هو نفس الحال بالنسبة للنفس أيضاً فهي لا تملك النور الإلهي رغم أنها مخلوقة على صورة الله وهكذا نظم الله أحوالها وقد أراد بألا تحصل على الحياة الأبدية من طبيعتها الخاصة، ولكن من لاهوته، أي من روحه، من نوره، تنال طعاماً وشراباً روحانياً، ولباساً سماوياً وهذه هي حياة النفس أي الحياة بالحقيقة“ (عظات ق. مقاريوس الكبير، عظة 10:1).
هنا نجد أن الإنسان يحتاج إلى أمرين (1) أشياء مادية خارجة عنه ويحتاجها الجسد. (2) أمور أخرى روحية تحتاجها نفسه. والإنسان المعاصر أمام طوفان الصور لا يجد فرصة للالتفات تجاه الأمور الروحية التي تحتاجها النفس. الإنشغال كله منصب ناحية الأمور الجسدية. إذن علينا أن لا ننحاز لجانب على حساب الجانب الأخر. فالجسد يحتاج إلى طعام وشراب وملبس ولكن النفس أيضاً تحتاج إلى أستنارة روحية وغذاء روحي. هنا التوازن مطلوب بين الاثنين لكيي يستطيع الإنسان أن يكتسب روح التمييز لكي يعرف ما يبني وما لا يبني. فوسائل الاتصال الحديثة والأجهزة المرئية والقنوات الفضائية كلها ليست شراً في حد ذاته. ولكن استخدام هذه التقنيات هو الذي يحدد ما إذا كانت للخير أم للشر. الإنسان المستنير هو الذي لديه القدرة على التميز وعلى الحفاظ على وقته فلا يهدره أمام برامج وأفلام ليست لها قيمة. هذا الإنسان هو الذي يحدد بنفسه هل من اللائق أن يستقبل صور معينة لطبعها في ذهنه أم لا. والرؤية والسمع والتحدث كل هذه نِعم أنعم بها الله على الإنسان ولكن على الإنسان أن يحافظ على هذه النِعم من التلوث السمعي والبصري واللغوي. لن ينجح
الإنسان في مهمته هذه ما لم يتقبل نعمة من الله ومعونة تؤازره في حياته. هذا هو الطرح المسيحي الذي تنادى به المسيحية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق