الفرح رؤية أرثوذكسية د. جورج عوض إبراهيممقدمة:
ينظر الإيمان المسيحي للحياة نظرة سويَّة صحيحة ويُشكل موقفًا متعقلاً ومحبًا إزاء التاريخ والحياة البشرية فالرسالة المسيحية هي "بشارة مفرحة"، وتُُوجد نصوصًا كاملة في العهد الجديد موضوعها هو الفرح مثل الرسالة إلى فيلبي التي لها ملمح خريستولوجي أي أساسه المسيح. فالرجاء هو الفضيلة الجوهرية للحياة الروحية المسيحية. قد نتقابل في اللاهوت الغربي مع روحانية مركزها الخطية والموت حيث التركيز على الحُزن والنحيب النابعين من الصليب والموت، في الوقت الذي يُهمَّش الفرح النابع من قيامة المسيح. فاللحظة السامية للقديس في الغرب هي حين يحمل علامات جروح يسوع المسيح في جسده. أما القداسة في الشرق فتتمثل في وجه متجلي ومُقام يحمل المجد "المستنير" فوق هامته. فالتمركز حول الخطية والذنب كحالة حياة دائمة يُطفئ فرح القيامة في القلب.
الفهم الخريستولوجي للفرح
عندما نتكلم عن الفرح - كما يقول استاذ العهد الجديد ج.باترونس - فإننا لا نقصد مجرد حالة شعورية بسيطة يشعر فيها المرء لأسباب خارجة عن ذاته أنه فرح سعيد، ويعبر عن ذلك أمام الآخرين إما بالضحك أو بإظهار المزاج الرائق، بل نقصد شيئًا أعمق دائمًا وجوهريًا. فالفرح الذي هو مجرد حالة شعورية هو لا يتعدى كونه تهيؤ حسن بسيط من الممكن أن يُفقد بسهولة. بينما الفرح الحقيقي هو أسلوب حياة وحياة روحية عميقة معاشة، لذلك فهو يخص الحياة الروحية الداخلية وليس رهنًا لأسباب إنفعالية وشعورية تأتي من الخارج. هذا الفرح الحقيقي هو موضوع نتناوله في إطار التعاليم اللاهوتية وليس مجرد موضوع يخص علم النفس. إذن علينا أن نتناول هذا الموضوع في إطار تعاليم العهد الجديد والتعاليم الآبائية.
إن العهد الجديد يعتبر إن الشرط الأساسي الذي يقود الإنسان إلى التمتع بالفرح الحقيقي هو إيمانه بمجيء المسيح الخلاصي للعالم، وإعتبار مسألة خلاصه هي محور حياته. على أن تكون القداسة أثناء مسيرة الحياة هي الضامن الأكيد للتمتع بهذا الفرح الحقيقي. فالخطية تجلب حزنًا وتُُغَرَّب الإنسان وتلد الأحزان والنحيب ليس فقط بالمفهوم الوقتي للحزن الخاص بهذا العالم الحاضر، بل بالمفهوم الأخروي والأبدي.
الإنجيل الذي هو "الخبر المفرح" يحتوي على رسالة الفرح الجوهري، إذ يحمل رسالة التحرر والخلاص. لقد أتى يسوع المسيح إلى العالم مبطلاً مملكة الشياطين، أقصد أنه هزم مملكة القهر الداخلي والعبودية. فالإنسان عندما يكون حُرًا فهو يملك عندئذ إمكانية تذوق الفرح في كماله. بينما العبودية تعني رفض الفرح. لقد كان المسيح حاملاً للفرح العظيم. والفرح كثمرة لشركة المؤمنين بالمسيح هو دائم وكامل. والفرح في الرب هو المسحة الغالية على الكرازة الرسولية: "افرحوا في الرب وأقول أيضًا افرحوا". لذلك من الغرابة أن يتبنى البعض الحزن كسمة سائدة في الحياة الروحية.
إن الملمح الخريستولوجي للفرح يبدو واضحًا في رسالة بولس الرسول إلى فيلبي، على الرغم من أن هذه الرسالة كُتبت عندما كان في ظروف قاسية وتعسة داخل السجن منتظرًا الموت. ولم يكن الفرح عند بولس الرسول موضوعًا إجتماعيًا أو صحيًا مرتبطًا بمدى التمتع بالأمور العالمية، ولا هو بالتأكيد قضية نجاحات وإنجازات معينة، بل هو ثمرة شركة وعلاقة حيَّة بالمسيح. فالفرح هو "علامة" و "برهان" لهذه العلاقة الحية. فالفرح يعلن تجاوزًا وتخطيًا للحزن الذي تسببه الخطية فالإنسان كما قلنا ـ يعاني ويتألم عندما يكون عبدًا للخطية.التجسد نبع الفرح الحقيقيإن مجيء الرب بالنسبة لأنبياء العهد القديم هو الهدف المُفرح الذي إنشغلوا به. لذا قال الرب يسوع لليهود: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأي وفرح"[1]. وقد وصف الأنبياء إتحاد الله بالبشرية بعُرس يتحد فيه العريس بالعروس: "وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك"[2]. " ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هكذا آتي وأسكن في وسطك"[3]. وإشعياء النبي يقول: " كثَّرت الأمة. عظَّمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد. كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة. لأنه يُولد لنا ولد ونعطي ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيبـًا مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام"[4].
ونجد ذلك أيضًا في العهد الجديد. فالقديس لوقا يذكر ما قاله الملاك حين بشر الرعاة: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: إنه وُلد لكم اليوم مخلص..."[5]. يقول القديس كيرلس الأسكندري عن التجسد: " لقد نزل كلمة الله من السماء... لكي يتحد بصفته العريس بطبيعة الإنسان، فيجعلها بذلك تثمر الثمار الروحية. ولأجل ذلك تُدعى البشرية عروسًا كما يُدعى المخلص العريس"[6]. لقد كان مجيء مخلصنا إلى العالم ـ كما يقول القديس كيرلس الأسكندري ـ بمثابة عيدًا عظيمًا إتحد فيه روحيًا بطبيعة الإنسان كمثل عروس له حتى أن هذه الطبيعة التي بقيت عاقرة زمانًا طويلاً تصير مثمرة ويزداد ثمرها.
فالمسيح صار لنا سلامًا ومسرة لأن الآب قد سُر أن يجمع فيه الجميع (أف10:1) ويربط معًا العلويين مع السفليين ويجعل الذين في السماء مع الذين على الأرض قطيعًا واحدًا. هكذا يدعو القديس أغسطينوس تجسد الكلمة عُرسًا، إذ يقول: " إن المسيح يدعو تجسده، أي تجسد الكلمة عرسًا لأنه في شخص الناسوت المتحد به قد اقترنت الكنيسة بالله"[7].
الفرح والشركة الإفخارستية
إن الإفخارستيا هي سر الفرح، هي مائدة السرور والإبتهاج للمؤمنين (أنظر أع46:2)، لأن فيها نشترك في التمتع بغفران الخطايا والحياة الأبدية بواسطة إبادة الموت. إن الكنيسة قد حفظت الملمح الأول لمناخ المسيحية أي الفرح هذا الفرح يظل في الكنيسة كإيقاع أساسي للعبادة وبالحري لليتورجية الإفخارسيتة: فرح الإتحاد بالرب الحي إذ تُعلن البهجة لأن قوات الخطية والموت قد هُزمت، لأن الشياطين هُزمت، ولأن سلطان الشيطان قد أُبطل بالفعل في السماء، لأن الشر قد دُمر من جذوره، لأن للمؤمنين الذين وُلدوا ولادة ثانية بدأت من الآن الأبدية الجديدة للحياة الإلهية وللمجد ولجمال الله، حياة الإيمان الجديدة والعالم الجديد.
إن عمل المسيح الإنتصاري هو سبب فرح المؤمنين وبسر الإفخارستيا نذوق الفرح ونختبره، إنه فرح الله أو الفرح، إنها بداية الحياة الجديدة والدخول في ملكوت الله المبارك. نحن لا نشترك فقط في حزن الصليب والآلام لكن في فرح القيامة الذي أتى من موت المسيح في العالم، الموت الذي أمات الموت، فموت المسيح هو المجد والحياة والنصرة والقيامة. ونحن نتمم في سر الإفخارستيا هذه النُصرة ونحققها، فهي سر المحبة المنتصرة والإفخارستيا تعني "الشُكر" إنها تسبيح وبالأكثر صلاة الفرح المنتصر والعبور المستمر.
فالمسيح الذي قام من الأموات هو الفرح والإبتهاج الأبدي للكنيسة، وهو الذي إنتصر على الموت وهبط إلى الجحيم بقوة الصلاح والمحبة الإلهية. إن فرح الكنيسة هو فرح قيامة المسيح المصلوب، فرح في القيامة وبعد القيامة. إن خبرة الفرح والقيامة تشكل التقوى والحياة الأرثوذكسية. القيامة هي أساس الخليفة الجديدة التي نتذوقها ونحتفل بها في كل ليتورجية، إنها الحياة الأبدية والتي تدعوها الكنيسة: اليوم الثامن للخليقة. إنها بداية الحياة خارج الزمن، إنها ملكوت الروح حيث الله سيكون "الكل في الكل".
الإفخارستيا هي العيد الحقيقي لليوم الثامن، لـ "يوم الرب" الذي يُوجد خارج التحديدات الزمنية، خارج الأحزان والآلام وتأوهات الخليقة، تجعل الكنيسة واحدة مع ملكوت الله الآتي، يحولها إلى جسد المسيح في العالم، إلى اجتماع المختلفين، إلى شعب المبتهجين.
الفرح ليس هو عنصرًا نستطيع أن نحدده ونفسره تفسيرًا نظريًا، لكن هو حدث نشترك فيه ونذوقه (تعال وأنظر). فالإفخارستيا هي الباب الذي يؤدي إلى فرح الرب، على عيد قيامته. فالإفخارستيا هي سر الفرح نفسه، هي دخول الكنيسة إلى فرح العُرس. الكنيسة في الإفخارستيا وبالإفخارستيا تصير العبور المشترك والفردوس المشترك والمعيشة المشتركة، وليتورجيتها من الآن تصير المشاركة في الإبتهاج الأبدي، في العشاء السماوي الأخروي، وفي الملكوت الإلهي، إنها التذوق السرائري للقيامة، إنها إيقونة القيامة.
الكنيسة هي شركة المحبة، لذلك هي شركة فرح، فالملمح الأساسي للجماعة الكنسية هو الليتورجيا والإفخارستيا المائدة الإفخارستية هي طقس عُرسي، عيد للفرح. حول "مائدة الحياة" يفرح المؤمنون. فالمائدة الإفخارستية هي طعام وشراب روحي وفرح. يبتهج في هذا الاحتفال بالمائدة الفقراء والحزانى. الفرح والسعادة ليس بمفهوم الحياة الرغدة والترفية أو بمفهوم ضد النسك. فالنسك والتضحية والجهاد لا يلغي الفرح. إن الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين هي مكان للحياة وليس لرفض الحياة والتاريخ. فالكنيسة هي المكان الذي يتبارك فيها شعب الله ليصير "شعبًا مباركًا". الفرح هو ثمرة من ثمار أو عطية من عطايا الروح القدس. فالفرح هو حالة مواهبية والإنسان الفَرح هو إنسان مواهبي ومملوء بالنعمة.
كل هذا لا يعني المناداة بروحنة الحياة واتخاذ موقف سلبي تجاه الحياة والتاريخ والواقع اليومي. بل على العكس، فلا يجب أن نتخذ التأملات الروحية سبيلاً للهرب من الواقع المحيط الذي تتخلله حزن وألم وظلم واستغلال، بل علينا أن نواجه ذلك الواقع المأسوي ونحوله إلى واقع مليء بالفرح والسعادة. لأن قبول التعاسة والألم والفساد والموت كحالة طبيعية هو ضد الشركة والتعليم اللاهوتي المستقيم. فلا يمكن أن نقبل نتائج السقوط والخطية كحالة طبيعية بدون أي رد فعل أو إعتراض.
إن هدف الإيمان المسيحي بناء إنسان مملوء بالنعمة والفرح، مملوء برسالة النصرة ضد الخطية والموت.
خاتمة
إن الفرح الحقيقي يرتبط إرتباطًا مباشرًا بحياة روحية جوهرية. لذا فأي شكل آخر للفرح يعتبر فرحًا مؤقتًا وظاهريًا لأنه قد يثير شعورًا كاذبًا بالفرح. فالبشر عادةً يفتشون على الفرح من خلال الأمور المادية واللذات الوقتية. بيد أن هذا لا يعني أنه لا يوجد فرحًا حقيقيًا داخل الحياة، أو أن أي شكل للفرح في الحياة اليومية له مصدر خاطئ. ومن ناحية أخرى فإن الحياة النُسكية ليست ضد الفرح بل تهدف إلى تحقيقه.
فالروح القدس لا يسكن في الضمائر والقلوب المضطربة بل في البشر المملوئين نعمة وهدوء. فالفرح يجعل الإنسان مملوءًا بالنعمة ليس فقط بالمفهوم الإجتماعي بل بالمفهوم المواهبي والسرائري. إنه الفرح المعلن الذي يدل على النضج الروحي للإنسان.
وتحدث الآباء عن ما يُسمى الحزن المفرحcarmolÚph فالمؤمن ليس هو الإنسان المأسوي اليائس بل هو إنسان متفائل بالرجاء وفرح الإيمان. فالتجارب والآلام والأحزان تقودنا لا إلى اليأس بل إلى الفرح الطوباوي، وعلى المرء أن يتيقظ ويجاهد روحيًا حتى يتذوق مثل هذا الفرح.[1] يو56:8.[2] إش5:62.[3] زك10:2.[4] إش3:9، 6.[5] لو1:2.[6] تفسير يو11:2[7] المسائل الإنجيلية31:1.
ينظر الإيمان المسيحي للحياة نظرة سويَّة صحيحة ويُشكل موقفًا متعقلاً ومحبًا إزاء التاريخ والحياة البشرية فالرسالة المسيحية هي "بشارة مفرحة"، وتُُوجد نصوصًا كاملة في العهد الجديد موضوعها هو الفرح مثل الرسالة إلى فيلبي التي لها ملمح خريستولوجي أي أساسه المسيح. فالرجاء هو الفضيلة الجوهرية للحياة الروحية المسيحية. قد نتقابل في اللاهوت الغربي مع روحانية مركزها الخطية والموت حيث التركيز على الحُزن والنحيب النابعين من الصليب والموت، في الوقت الذي يُهمَّش الفرح النابع من قيامة المسيح. فاللحظة السامية للقديس في الغرب هي حين يحمل علامات جروح يسوع المسيح في جسده. أما القداسة في الشرق فتتمثل في وجه متجلي ومُقام يحمل المجد "المستنير" فوق هامته. فالتمركز حول الخطية والذنب كحالة حياة دائمة يُطفئ فرح القيامة في القلب.
الفهم الخريستولوجي للفرح
عندما نتكلم عن الفرح - كما يقول استاذ العهد الجديد ج.باترونس - فإننا لا نقصد مجرد حالة شعورية بسيطة يشعر فيها المرء لأسباب خارجة عن ذاته أنه فرح سعيد، ويعبر عن ذلك أمام الآخرين إما بالضحك أو بإظهار المزاج الرائق، بل نقصد شيئًا أعمق دائمًا وجوهريًا. فالفرح الذي هو مجرد حالة شعورية هو لا يتعدى كونه تهيؤ حسن بسيط من الممكن أن يُفقد بسهولة. بينما الفرح الحقيقي هو أسلوب حياة وحياة روحية عميقة معاشة، لذلك فهو يخص الحياة الروحية الداخلية وليس رهنًا لأسباب إنفعالية وشعورية تأتي من الخارج. هذا الفرح الحقيقي هو موضوع نتناوله في إطار التعاليم اللاهوتية وليس مجرد موضوع يخص علم النفس. إذن علينا أن نتناول هذا الموضوع في إطار تعاليم العهد الجديد والتعاليم الآبائية.
إن العهد الجديد يعتبر إن الشرط الأساسي الذي يقود الإنسان إلى التمتع بالفرح الحقيقي هو إيمانه بمجيء المسيح الخلاصي للعالم، وإعتبار مسألة خلاصه هي محور حياته. على أن تكون القداسة أثناء مسيرة الحياة هي الضامن الأكيد للتمتع بهذا الفرح الحقيقي. فالخطية تجلب حزنًا وتُُغَرَّب الإنسان وتلد الأحزان والنحيب ليس فقط بالمفهوم الوقتي للحزن الخاص بهذا العالم الحاضر، بل بالمفهوم الأخروي والأبدي.
الإنجيل الذي هو "الخبر المفرح" يحتوي على رسالة الفرح الجوهري، إذ يحمل رسالة التحرر والخلاص. لقد أتى يسوع المسيح إلى العالم مبطلاً مملكة الشياطين، أقصد أنه هزم مملكة القهر الداخلي والعبودية. فالإنسان عندما يكون حُرًا فهو يملك عندئذ إمكانية تذوق الفرح في كماله. بينما العبودية تعني رفض الفرح. لقد كان المسيح حاملاً للفرح العظيم. والفرح كثمرة لشركة المؤمنين بالمسيح هو دائم وكامل. والفرح في الرب هو المسحة الغالية على الكرازة الرسولية: "افرحوا في الرب وأقول أيضًا افرحوا". لذلك من الغرابة أن يتبنى البعض الحزن كسمة سائدة في الحياة الروحية.
إن الملمح الخريستولوجي للفرح يبدو واضحًا في رسالة بولس الرسول إلى فيلبي، على الرغم من أن هذه الرسالة كُتبت عندما كان في ظروف قاسية وتعسة داخل السجن منتظرًا الموت. ولم يكن الفرح عند بولس الرسول موضوعًا إجتماعيًا أو صحيًا مرتبطًا بمدى التمتع بالأمور العالمية، ولا هو بالتأكيد قضية نجاحات وإنجازات معينة، بل هو ثمرة شركة وعلاقة حيَّة بالمسيح. فالفرح هو "علامة" و "برهان" لهذه العلاقة الحية. فالفرح يعلن تجاوزًا وتخطيًا للحزن الذي تسببه الخطية فالإنسان كما قلنا ـ يعاني ويتألم عندما يكون عبدًا للخطية.التجسد نبع الفرح الحقيقيإن مجيء الرب بالنسبة لأنبياء العهد القديم هو الهدف المُفرح الذي إنشغلوا به. لذا قال الرب يسوع لليهود: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأي وفرح"[1]. وقد وصف الأنبياء إتحاد الله بالبشرية بعُرس يتحد فيه العريس بالعروس: "وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك"[2]. " ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هكذا آتي وأسكن في وسطك"[3]. وإشعياء النبي يقول: " كثَّرت الأمة. عظَّمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد. كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة. لأنه يُولد لنا ولد ونعطي ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيبـًا مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام"[4].
ونجد ذلك أيضًا في العهد الجديد. فالقديس لوقا يذكر ما قاله الملاك حين بشر الرعاة: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: إنه وُلد لكم اليوم مخلص..."[5]. يقول القديس كيرلس الأسكندري عن التجسد: " لقد نزل كلمة الله من السماء... لكي يتحد بصفته العريس بطبيعة الإنسان، فيجعلها بذلك تثمر الثمار الروحية. ولأجل ذلك تُدعى البشرية عروسًا كما يُدعى المخلص العريس"[6]. لقد كان مجيء مخلصنا إلى العالم ـ كما يقول القديس كيرلس الأسكندري ـ بمثابة عيدًا عظيمًا إتحد فيه روحيًا بطبيعة الإنسان كمثل عروس له حتى أن هذه الطبيعة التي بقيت عاقرة زمانًا طويلاً تصير مثمرة ويزداد ثمرها.
فالمسيح صار لنا سلامًا ومسرة لأن الآب قد سُر أن يجمع فيه الجميع (أف10:1) ويربط معًا العلويين مع السفليين ويجعل الذين في السماء مع الذين على الأرض قطيعًا واحدًا. هكذا يدعو القديس أغسطينوس تجسد الكلمة عُرسًا، إذ يقول: " إن المسيح يدعو تجسده، أي تجسد الكلمة عرسًا لأنه في شخص الناسوت المتحد به قد اقترنت الكنيسة بالله"[7].
الفرح والشركة الإفخارستية
إن الإفخارستيا هي سر الفرح، هي مائدة السرور والإبتهاج للمؤمنين (أنظر أع46:2)، لأن فيها نشترك في التمتع بغفران الخطايا والحياة الأبدية بواسطة إبادة الموت. إن الكنيسة قد حفظت الملمح الأول لمناخ المسيحية أي الفرح هذا الفرح يظل في الكنيسة كإيقاع أساسي للعبادة وبالحري لليتورجية الإفخارسيتة: فرح الإتحاد بالرب الحي إذ تُعلن البهجة لأن قوات الخطية والموت قد هُزمت، لأن الشياطين هُزمت، ولأن سلطان الشيطان قد أُبطل بالفعل في السماء، لأن الشر قد دُمر من جذوره، لأن للمؤمنين الذين وُلدوا ولادة ثانية بدأت من الآن الأبدية الجديدة للحياة الإلهية وللمجد ولجمال الله، حياة الإيمان الجديدة والعالم الجديد.
إن عمل المسيح الإنتصاري هو سبب فرح المؤمنين وبسر الإفخارستيا نذوق الفرح ونختبره، إنه فرح الله أو الفرح، إنها بداية الحياة الجديدة والدخول في ملكوت الله المبارك. نحن لا نشترك فقط في حزن الصليب والآلام لكن في فرح القيامة الذي أتى من موت المسيح في العالم، الموت الذي أمات الموت، فموت المسيح هو المجد والحياة والنصرة والقيامة. ونحن نتمم في سر الإفخارستيا هذه النُصرة ونحققها، فهي سر المحبة المنتصرة والإفخارستيا تعني "الشُكر" إنها تسبيح وبالأكثر صلاة الفرح المنتصر والعبور المستمر.
فالمسيح الذي قام من الأموات هو الفرح والإبتهاج الأبدي للكنيسة، وهو الذي إنتصر على الموت وهبط إلى الجحيم بقوة الصلاح والمحبة الإلهية. إن فرح الكنيسة هو فرح قيامة المسيح المصلوب، فرح في القيامة وبعد القيامة. إن خبرة الفرح والقيامة تشكل التقوى والحياة الأرثوذكسية. القيامة هي أساس الخليفة الجديدة التي نتذوقها ونحتفل بها في كل ليتورجية، إنها الحياة الأبدية والتي تدعوها الكنيسة: اليوم الثامن للخليقة. إنها بداية الحياة خارج الزمن، إنها ملكوت الروح حيث الله سيكون "الكل في الكل".
الإفخارستيا هي العيد الحقيقي لليوم الثامن، لـ "يوم الرب" الذي يُوجد خارج التحديدات الزمنية، خارج الأحزان والآلام وتأوهات الخليقة، تجعل الكنيسة واحدة مع ملكوت الله الآتي، يحولها إلى جسد المسيح في العالم، إلى اجتماع المختلفين، إلى شعب المبتهجين.
الفرح ليس هو عنصرًا نستطيع أن نحدده ونفسره تفسيرًا نظريًا، لكن هو حدث نشترك فيه ونذوقه (تعال وأنظر). فالإفخارستيا هي الباب الذي يؤدي إلى فرح الرب، على عيد قيامته. فالإفخارستيا هي سر الفرح نفسه، هي دخول الكنيسة إلى فرح العُرس. الكنيسة في الإفخارستيا وبالإفخارستيا تصير العبور المشترك والفردوس المشترك والمعيشة المشتركة، وليتورجيتها من الآن تصير المشاركة في الإبتهاج الأبدي، في العشاء السماوي الأخروي، وفي الملكوت الإلهي، إنها التذوق السرائري للقيامة، إنها إيقونة القيامة.
الكنيسة هي شركة المحبة، لذلك هي شركة فرح، فالملمح الأساسي للجماعة الكنسية هو الليتورجيا والإفخارستيا المائدة الإفخارستية هي طقس عُرسي، عيد للفرح. حول "مائدة الحياة" يفرح المؤمنون. فالمائدة الإفخارستية هي طعام وشراب روحي وفرح. يبتهج في هذا الاحتفال بالمائدة الفقراء والحزانى. الفرح والسعادة ليس بمفهوم الحياة الرغدة والترفية أو بمفهوم ضد النسك. فالنسك والتضحية والجهاد لا يلغي الفرح. إن الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين هي مكان للحياة وليس لرفض الحياة والتاريخ. فالكنيسة هي المكان الذي يتبارك فيها شعب الله ليصير "شعبًا مباركًا". الفرح هو ثمرة من ثمار أو عطية من عطايا الروح القدس. فالفرح هو حالة مواهبية والإنسان الفَرح هو إنسان مواهبي ومملوء بالنعمة.
كل هذا لا يعني المناداة بروحنة الحياة واتخاذ موقف سلبي تجاه الحياة والتاريخ والواقع اليومي. بل على العكس، فلا يجب أن نتخذ التأملات الروحية سبيلاً للهرب من الواقع المحيط الذي تتخلله حزن وألم وظلم واستغلال، بل علينا أن نواجه ذلك الواقع المأسوي ونحوله إلى واقع مليء بالفرح والسعادة. لأن قبول التعاسة والألم والفساد والموت كحالة طبيعية هو ضد الشركة والتعليم اللاهوتي المستقيم. فلا يمكن أن نقبل نتائج السقوط والخطية كحالة طبيعية بدون أي رد فعل أو إعتراض.
إن هدف الإيمان المسيحي بناء إنسان مملوء بالنعمة والفرح، مملوء برسالة النصرة ضد الخطية والموت.
خاتمة
إن الفرح الحقيقي يرتبط إرتباطًا مباشرًا بحياة روحية جوهرية. لذا فأي شكل آخر للفرح يعتبر فرحًا مؤقتًا وظاهريًا لأنه قد يثير شعورًا كاذبًا بالفرح. فالبشر عادةً يفتشون على الفرح من خلال الأمور المادية واللذات الوقتية. بيد أن هذا لا يعني أنه لا يوجد فرحًا حقيقيًا داخل الحياة، أو أن أي شكل للفرح في الحياة اليومية له مصدر خاطئ. ومن ناحية أخرى فإن الحياة النُسكية ليست ضد الفرح بل تهدف إلى تحقيقه.
فالروح القدس لا يسكن في الضمائر والقلوب المضطربة بل في البشر المملوئين نعمة وهدوء. فالفرح يجعل الإنسان مملوءًا بالنعمة ليس فقط بالمفهوم الإجتماعي بل بالمفهوم المواهبي والسرائري. إنه الفرح المعلن الذي يدل على النضج الروحي للإنسان.
وتحدث الآباء عن ما يُسمى الحزن المفرحcarmolÚph فالمؤمن ليس هو الإنسان المأسوي اليائس بل هو إنسان متفائل بالرجاء وفرح الإيمان. فالتجارب والآلام والأحزان تقودنا لا إلى اليأس بل إلى الفرح الطوباوي، وعلى المرء أن يتيقظ ويجاهد روحيًا حتى يتذوق مثل هذا الفرح.[1] يو56:8.[2] إش5:62.[3] زك10:2.[4] إش3:9، 6.[5] لو1:2.[6] تفسير يو11:2[7] المسائل الإنجيلية31:1.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق