السبت، 30 أكتوبر 2010


الصحة والمرض في التقليد الكنسي
د. جورج عوض إبراهيم

مقدمة :
يربط العهد القديم كل مرض بسبب معين، لذلك فان العهد القديم أعطى انطباعًا بأن المرض ليس هو نتيجة طبيعية لانتهاج أسلوب حياة ما لكن عقاب على الخطية فُرض من قبل الله على الإنسان. إن المبادئ الأولى للفكر الشفائي والذي يبحث في إيجاد سبب لكل مرض يرجع إلى التأثيرات المصرية واليونانية. لكن نجد عند الأنبياء العظام أطباء وأدوية تشفى الجراح (إش7:3، إر22:8)، وفى حكمة سيراخ أعطى قوانين للصحة. كما أعطت في تعاليم الربانيين اليهودية أهمية عظمى للأعشاب كوسيلة للشفاء، مثل الزيت والخمر (لو34:10). كما أن الأمور الجراحية والتشريحية قد نظروا إليها (اليهود) بكل تقوى، لكن ظلَّ الطبيب الحقيقى والفريد هو الله. إن تحديد العلاقة بين القوة الإلهية الخلاقة والمهارات الإنسانية هى صعبة لكن ظل الاتجاه لاستخدام الاثنين مع التشديد على القوة الإلهية. وهكذا فإن الصلاة هى الطريقة الأساسية للشفاء ، والشرط الضروري للشفاء هو غفران الخطايا والذى يستلزم توبة ورجوع إلى الله . وهكذا فإن الشفاء وغفران الخطايا مرتبطان ارتباطًا مباشرًا (إش10:6، مز2:6، 2:29، 5:40)، " الذى يغفر جميع ذنوبك الذى يشفى كل أمراضك " (مز2:103). وهنا يشفى تشير إلى مدى إحسان الله من أجل خلاص الإنسان. فالشفاء الجوهرى هو إعادة وتصحيح العلاقة بين الإنسان والله، لذا يصلي الكاهن مترجيًا: [ أطلع أيها المتحنن من سمائك المقدسة، وحلّ في عبدك المعترف بزلاته، المقبل إليك بأمانة ورجاء. وأغفر له غلطاته، إن كان بالفعل أو بالفكر. طهَّره من كل خطية، وأحفظه بقية زمان حياته سالكًا في وصاياك، لكي لا يفرح به العدو دفعة أخرى. وبهذا يتمجد اسمك القدوس] . هذا والشفاء (النفسى والجسدى) أيضًا يؤسس على مقدرة الإنسان فى أن يغفر (حكمة سيراخ3:28)، وهذا هو هدف قراءة البولس من كولوسي (12:3ـ17) في الصلاة السادسة في سر مسحه المرضى، إذ ينصحنا قائلاً: " فالبسوا مثل أصفياء الله المطهرين الأحباء مراحم، رأفات، صلاح، وتواضع قلب، دعه، وطول روح. تحتملون بعضكم بعضًا. وإذا كان لوم بين واحد وآخر منكم فكما غفر المسيح لكم كذلك أنتم أيضاْ.." (كو12:3ـ17)، وكذلك قراءة الإنجيل لنفس الصلاة من (لوقا36:7ـ50)، والذي يبين موقف المرأة الخاطئة التي سكبت الطيب على قدمي المسيح، إذ أحبت كثيرًا، فغفر لها كثيرًا، لذا وبخَّ المسيح سمعان الفريسي ممتدحًا عمل المرأة قائلاً: " إن خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنها أحبت كثيرًا ". فبينما الرؤساء غير الأتقياء يهملون العمل الذى وضعه الله للاهتمام بالضعفاء والمنسحقين (أر14:6)، نجد الخدام الحقيقيين يعرفون جيدًا أن الله قد وضع لهذا العمل "روح الرب على لأن الرب مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأعصب منكسرى القلب لأنادى للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق " (إش1:61)، ولذلك يصلي الكاهن في أوشية المرضى قائلاً: [ تعهدهم بالمراحم والرأفات، أشفهم. أنزع عنهم كل مرض وكل سقم، وروح الأمراض أطرده. والذين أبطئوا مطروحين في الأمراض أقمهم وعزّهم، والمعذبون من الأرواح النجسة أعتقهم جميعًا. الذين في السجون أو المطابق. أو الذين في النفي أو السبي، أو المقبوض عليهم في عبودية مرة، يا رب أعتقهم جميعًا وأرحمهم. لأنك أنت الذي تحل المربوطين وتقيم الساقطين] . إن فيلون اليهودي قد آمن بهذه الأفكار، إذ نادى قائلاً: " عندما يأتى على الذهن التفكر في الله، مباشرة يتبارك ويشفى من كل الأمراض" .

إن يسوع المسيح يقرّ بعلاقة المرض والخطية (مر5:2)، (يو14:5) وفى نفس الوقت قد حررّ هذا الارتباط من أي مفهوم للانتقام، قد حرره من الفكر أو الاعتقاد بأن المرض هو نتيجة خطايا أناس أشرار، مشددًا على أن الإنسان الأكثر تقوى هو خاطئ يكفى أن به أعراض مرض جسدي ونفسي (يو4:11)، (لو1:13 وفيما بعد) وهكذا وضع المسيح المرض تحت نور جديد تمامًا. على الجانب الآخر فإنه من الواضح، في العهد الجديد، أن الأمراض المستعصية هي بمثابة حالات مرضية تتعارض مع خطة الله في الخلق، لذلك في طلبة الصلاة الأولى لسر مسحة المرضى يصلي الكاهن قائلاً: [ أيها السيد الرب يسوع المسيح ملك الدهور، مخرج كل الموجودات من العدم إلى الوجود (الخلق) ما يرى وما لا يرى، الذي جاء بإرادته وبكثرة رحمته قد تنازل بالتدبير (التجسد)، ليخلصنا من موت الخطية وغلبة المضاد. السريع الإحسان، والمتأني في العقاب، المخيف مرارًا كثيرًا من أجل الخيرات العتيدة. أذكر يارب مراحمك... وامنح الشفاء لعبدك هذا الذي التجأ تحت ظلال كنفك لأنك أنت محب البشر ] . وبناء على ذلك فإن العهد الجديد يستنكر أى فكر يضاد محاولات الإنسان لكى يتحرر من هذه المتاعب، إن فعل الشفاء الذي قام به السامري الصالح في (لو34:10) كان معروفًا آنذاك فى اليهودية والسامرة. ويؤكد ذلك ذكر عدد 14 من رسالة كولوسى 4 " يسلم عليكم لوقا الطبيب الحبيب وديماس " وأيضًا نصائح بولس لتيموثاؤس " لاتكن في ما بعد شّراب ماء بل استعمل خمرا قليلا من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة " (1تيمو23:5). كذلك كانت صورة المسيح كطبيب منتشرة ومعروفة في التقليد الكنسي، وكل الأناجيل تستخدم فعل "شفى" والذى تخص عمل المسيح خاصة في (لوقا17:5، 19:6)، (أع38:10،...). إن مصطلح "شفى" أستُخدم أساسًا في (لوقا32:13) بينما استخدامه ضمنياً صار في مقاطع من نصوص أخرى. إن المسيح نفسه يعلن عن ذاته كطبيب في حالات كثيرة، وهذا في معناه العميق يجب أن يفهم على أن هذا يخص حدث الخلاص [ يا طبيب المرضى وغافر الخطايا، المنقذ من الشدائد كل الآتين إليك. يا ميناء الخلاص من حركات الأمواج وهياجها . أصنع رحمة مع المتضايقين بالأمراض، ونجهم من الموت الرديء ] .

المرض كتهذيب إلهي
إن الصحة في العهد القديم هي جزء من الحياة التي هي عطية من الله، فعندما صلى حزقيا الملك إلي الله لكي تُرد صحته، قد أشار هذا الحدث على أنه لا توجد فجوة بين الحياة الطبيعية والتي إليها تنتمي الصحة وبين الحياة أمام الله، والاثنين هما مرتبطان ارتباطًا لا ينفصل.
أن الصحة التى يقدمها المسيح هى صحة الإنسان كله (يو7: 23)، لكن فى العهد القديم، المرض يقدم من أول وجه كعقاب بسبب خطايا الإنسان.
يعلق يوسابيوس القيصرى على كلام إشعياء قائلاً : [ بالرغم من أن بعض الخطايا التى حدثت هى بسبب الضعف الإنسانى إلاّ أن الله أحزن أولئك الذين أخطئوا وعاقبهم مثل الأب الذى يؤدب أولاده " لأن ذاك الذى يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله " لكن بسبب أنكم أحسستم بتربيتى وحزنتم حزناً شديدًا بحسب الله ومشيتم وتجهمتم نادمين، لذلك وأنتم ترون رجوعكم وتوبتكم وأعمالكم وطريقة حياتكم بعد هذا، أشفيكم وأريحكم معطيًا إياكم الراحة الحقيقية] .

يتضح من هذا النص أن التوبة تعنى تغيير طريقة الحياة، والتى بها يتحقق الشفاء. يقول هيبوليتس إن الله [ يستميل الذين لا يؤمنون، بأمراض وبمتاعب ] . أيضًا الأب ديداخوس فوتيكوس يقول: [ كما أن الشمع إن لم يلين لا يمكن أن يقبل الختم الذى يوضع فوقه، هكذا الإنسان إن لم يجرب بالآلام والأمراض لا يمكن أن يتسع لختم فضيلة الله. لذلك من جهة يقول الله لبولس العظيم " تكفيك نعمتى لأن قوتى فى الضعف تكمل ". ومن جهة أخرى يصرخ الرسول قائلاً: " فبكل سرور أفتخر بالحرى في ضعفاتي لكى تحل علىّ قوة المسيح" (2كو12: 9)] . وعلينا أن نتذكر أن نص سر مسحة المرضى يصف المسيح قائلاً: [ السريع الإحسان، المتأني في العقاب، المخيف مرارًا كثيرًا من أجل الخيرات العتيدة] . لكن هل هناك تناقض بين ما قيل سابقًا وما يقوله الرسول يعقوب " لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أُجرَّب من قِبَل الله لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحدًا. ولكن كل واحد يُجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبُلَت تلد خطية والخطية إذا كمُلَت تنتج موتًا " (يع1: 13ـ15)؟ ويعلق القديس كيرلس الأورشليمى على نص يعقوب الرسول هذا مؤكدًا بأن المسيح هو الطبيب الذي يشفى أولاً النفس ثم بعد ذلك الجسد وليس العكس بتاتًا لأنه يقول: " لا تعود تخطئ لئلا يكون لك أشر"، إنه يوجه كلامه لنا جميعًا، فإذا سقطنا في أوجاع وآلام كثيرة لا ننسب كل هذا إلى الله لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحد .
إن العلامة أوريجينوس يشرح التناقض الذي يبدو ظاهرًا فى أقوال العهد القديم قائلاً: [إن كلام الله يحقق بالضرورة "القلع والنقض والهلاك" وبعد ذلك "البناء والغرس" (إرميا1: 9– 10)، ودائمًا يؤكد الكتاب المقدس على الأمور التي تبدو عابسة، ويذكرها أولا وبعد ذلك يذكر الأمور التي تبدو مفرحة " أنا أُميت لكي أُحي " لم يقل " أنا سوف أعمل لكي أُحي" وبعد ذلك "سأميت"، لكن " أنا أميت وسأعمل لكي تحيا ". من سأقتله؟ " شاول الخائن، شاول المضطهد " وسأعمل لكي يحيا " لكي يصير بولس رسول يسوع المسيح ". لو فهموا هذا الذى أقوله هؤلاء المُتعبين الذين يأتون من الهرطقات، فلن يقولوا لنا دائمًا أرأيتم إله الناموس كم هو متوحش وغير إنساني ويقول " أنا أُميت وسوف أعمل لكي تحيا " .
هكذا يبدأ بالكلام الأكثر حزنا والذي هو ضروري، مثل "سأميت" وبعد ذلك طالما أمات "سوف أعمل لكى تحيا، سوف أضرب وسوف أشفى " (تث32: 39)، لأن " الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله " (عب6:12). أولاً يضرب وبعد ذلك يشفى " لأنه هو يجرح ويعصب يسحق ويداه تشفيان " (أيوب5 :18). يجب أن يقتلع الشر من الأساس، يجب أن يحرق بناء الشر من نفوسنا، حتى تبنى كلمات الله و تتجذر، لأنة لا يمكن بغير ذلك أن أفهم هذا الذي قد كتب " أعطى كلامي في فمك " ماذا تفعل هذه الكلمات ؟ " لتقلع وتنقض وتهدم " الكلمات تقلع " الأمم "، والكلمات تنقض "الممالك" لكن ليست الممالك العالمية والجسدية ] .

يستخدم العهد القديم لغة مناسبة لإنسان عصره، يصف المرض على أنه عقاب من الله، لأنه بذلك فقط يستطيع أن يحمى إنسان ذلك العصر من نتائج أفعاله المدمرة. وأيضًا في العهد القديم يشدد على أن الإنسان يمرض بسبب أنه يخالف نواميس الله, التي تطلب من الإنسان أن يحيا بطريقة تتفق مع طبيعته. وهكذا فإن العهد القديم يلمح على أن الإنسان يمرض لأنة يخالف وصايا الله إذ يختار العيش بطريقة معاكسة لطبيعته: " لكن إن لم تسمعوا لى ولم تعملوا كل هذه الوصايا. وإن رفضتم فرائضي وكرهت نفوسكم أحكامى ... فإنى أعمل هذه بكم أُسلط عليكم رعبًا وسلاً وحمى تفنى العينين وتتلف النفس " (لا26 :14-16)، أنظر أيضًا (تث28: 15، 21، 22، 27، 28، 35).

إن الإنسان، وهو مخالفًا وصايا الله، قد أخلّ بنظام الخلق وبالتالي كابد نتائج اضطراب النظام الكوني، وهذا ما يؤكده القديس غريغوريوس النزينزى: [ الكل قد زُين بنظام والمنظم هو اللوغوس ... إذن بنظام قد تكوّن الكون... ومن جهة عندما يحفظ الإنسان النظام، فالكون يمثل تحفة وجماله لا يتغير، ومن جهة أخرى فإن الفوضى واللا نظام يُحدث صواعق فى الهواء، زلازل فى الأرض، فيضانات فى البحار، الحروب فى المدن وبين الأهالى، والأمراض فى الأجساد... كل هذا... اضطراب وفوضى... لأن النظام يربط أما الفوضى تحل ] . وهذا هو الهدف الذي من أجله تصر الكنيسة على الصلاة من أجل: المرضى والمسافرين ومن أجل الأثمار والرئيس والراقدين والموعظين وذلك أثناء ممارسة سر مسحة المرضى، وكأنها صلاة من أجل كل الكون الحامل للمرض وذلك بسبب السقوط. وهكذا عندما يخالف الإنسان وصية الله يؤذى طبيعته، والمرض هو نتيجة هذا السلوك المضاد لطبيعته. خلق الله العالم لكى يستخدمه الإنسان بطريقة معينة، وعندما لا يستخدمه هكذا كما تتطلب طبيعته، فالكون بدلاً من أن يقوت الإنسان، يؤدى إلى موته .

السقوط والمرض
بناء على القراءة المتأنية للعهد القديم فإن المرض هو نتيجة خطية الإنسان، بمعنى أن الإنسان يمرض لأنه ينتهك طبيعته، وأيضًا يُفسد طبيعة مخلوقات الله الأخرى. أما بحسب العهد الجديد، فإن المرض يتعارض مع قصد الله الخالق، ويرجع إلى تأثير القوات الشيطانية، عمومًا توجد علاقة بين الخطية والمرض والتى تعلن فى حالات معينة (متى22:12 وفيما بعده، لوقا16:13، يوحنا14:5، رومية20:8، 1كو30:11) لكن المسيح يتخطى الاعتقاد السائد للعقاب "لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه" (يو3:9)، وقدَّم شفاء وغفران. بالنسبة للمؤمنين فإن المرض في هذا الدهر هو تربية خلاصية حيث تستخدمه المحبة الأبوية، بدون أن يكون هذا المرض هو من نتاج هذه المحبة، ضد الخطية: "ولكن إذ قد حُكِمَ علينا نؤدب من الرب لكي لا نُدان مع العالم" (1كو32:11)، " لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا" (2كو17:4).
إنتهاك الطبيعة من جانب الإنسان بنتائجها الوخيمة عليه هي مُعلنة في طعامه: حكمة سيراخ 19:31ـ22: "ما أقل ما يكتفي به الإنسان المُتأدب وعلى فراشة لا يلهث: رُقاد الصحة لقنوع الجوف. يقوم مُبكرًا وهو مالك نفسه. السُهاد والتقيؤ والمغص للرجل الشرة. وإذ أُكرهت على الإكثار مِن الأكل فقُم وتقيأ فتستريح. إسمع لي يا بُني ولا تستخف بي وفي آخر الأمر تهتدي إلى أقوالي. في جميع أعمالك كُن معتدلاً فلا يلحق بك مرض". يقول ذهبي الفم: "ونحن لا نتفوق على الحيوانات غير العاقلة فقط في أننا لدينا نفس عاقلة لكن في أننا نمتاز من جهة الجسد. لأن هذا الجسد قد صنعه الله وفق دماثة النفس، ومناسب لكي يحفظ وصاياها، لأن الجسد صنعه حتى يكون مناسب لكي يخدم النفس العاقلة، لأنه إن لم يكن هكذا سوف تُعاق بشدة مفاعيل النفس"، "لا يقال إذن الجسد الإنساني إنسان لكن المحصلة التي يتكون من الاثنين. وأحيانًا أيضًا قال لهم المسيح: "أفتسخطون علىَّ لأني شفيت إنسانًا كله في السبت" (يو23:7). مفهوم الإنسان كله يُظهره في الأناجيل الأخرى في ذاك الذي أنزلوه أمامه على السرير قائلاً: "مغفورة لك خطاياك" (لو2:5)، وهذا هو شفاء النفس وقائلاً بعد "قُم وأمشي" (مت5:9)، وصية ترمي إلى الجسد. في إنجيل يوحنا يظهره كالآتي: عندما أعطى الصحة للجسد وطالما حررَّ أيضًا النفس من المرض ذاته، قال: "ها أنت قد برئت. فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر" (يو14:5)، من هنا نستنتج أن الشفاء كان للاثنين، أقصد النفس والجسد" .

فالمسيح عندما يشفى، فإنه يشفى كل الإنسان: يقول القديس أثناسيوس الرسولي وهو يستشهد بما حاء في سفر أشعياء: " لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها" (إش4:53).]وحسنًا قال النبى "حملها" (إش4:53، مت17:8) ولم يقل إنه " شفى ضعفاتنا " لئلا إذ تكون هذه الضعفات خارج جسده هو، وهو يشفيها فقط ـ كما كان يفعل دائمًا فإنه يترك البشر خاضعين للموت، ولكنه حمل ضعفاتنا، احتمل هو نفسه خطايانا، لكى يتضح أنه قد صار إنسانًا لأجلنا، وأن الجسد الذى حمل الضعفات، هو جسده الخاص، وبينما هو نفسه لم يصبه ضرر أبدًا ، " بحمله خطايانا فى جسده على الخشبة "، كما قال بطرس (1بط24:2) فإننا نحن البشر قد افتُدينا من أوجاعنا وامتلأنا من بر الكلمة] . إن الوجود الإنساني الواحد (جسدًا ونفسًا) الذى لا يتجزأ يمثل الاعتقاد السائد والتعليم الواضح للكنيسة، وهذا ما تؤكده صلوات سر مسحة المرضى. [ تباركت أيها الرب إلهنا الصالح طبيب أنفسنا، بجراحاتك شُفينا أيها الراعي الصالح، الذي طلب الخروف الضال. يا معزي صغيري القلوب. الذي أبرأ حماة سمعان من حمتها الصعبة، والنازفة الدم من مرضها القديم . الذي عتق ابنة الكنعانية من الروح النجس. الذي ترك للغريم الدين الذي علية. الذي غفر للزانية خطاياها. الذي برر العشار. الذي قبل إليه اعتراف اللص في آخر حياته، وأنعم علية بالفردوس ] .


إن الربط بين المرض والسقوط هو وارد، أيضًا يميز القديس باسليوس الكبير بين الوسائل الشفائية والطريقة الشفائية، فالوسائل هى الدواء وأى وسيلة شفائية لكن الطريقة الشفائية هى المواجهة الكلية للمرض فى صلوات الكنيسة لسر مسحة المرضى, ويقول ذهبى الفم: [ ماذا يحدث إذن؟ يسألون، أليس كل الأمراض تأتى من الخطايا؟ بالتأكيد ليست كلها لكن كثير منها، بعضها من الخمول. كما أن النهم والسكر والبطالة تجلب الأمراض.. أما إن الأمراض توجد بسبب الخطية فهذا يأتى من كتاب الملوك حيث نرى شخص أصيب بالنقرس لأجل هذا السبب صارت هذه الأمور هكذا لكى نصير نحن أفضل، كما قال الله لأيوب " لا تظن أفعل لك بهذه الطريقة لسبب آخر إلاّ لكى تظهر فضيلتك"]
يذكر القديس باسيليوس الكبير سببين آخرين لوجود المرض فى حياة الإنسان:
أولاً: تأتى الأمراض بسبب أن الشيطان يطلب هذا كما هو واضح من حالة أيوب .
ثانيًا: القديس يمرض كما في حالة بولس الرسول [حتى لا يبدو أنه لديه شئ أكثر من طبيعته] .
أيضًا يعلم القديس باسيليوس أن الله ليس مسبب للمرض، لأن الله ليس مسبب للشرور، لكن الخطية التى إن لم تكن سبب مباشر للمرض يمكن أن تكون سبب غير مباشر. فيمكن أن يكون سبب مرض شخص ليس خطيئته الشخصية ولكن خطية شخص آخر (مثل الحوادث بسبب إهمال الآخرين). على الجانب الآخر، إننا نمرض أيضًا بسبب الظروف الطبيعية، والتى هى أيضًا نتيجة الخطية البشرية، لأن الطبيعة " تئن وتتمخض ". الله لم يلغِ نتائج الخطية البشرية كالأمراض والضعف والكوارث .. لأنه لو فعل ذلك سيلغي الحرية البشرية التى هي العطية الثمينة من الله إلى الإنسان، بمعنى أن يصادر كل محاولات الإنسان فى إيجاد حلول لمشاكله وممارسة إمكانياته كمخلوق على صورة الله ومثاله.

أما في حالات معينة يحدث فيها المرض كنتيجة لظروف خارجية، لا يكون على الأقل نتيجة اختيار بشرى، وعندئذ فإنه ممكن أن يتدخل الله بدون إلغاء الحرية البشرية (كما يحدث فى المعجزات). ربما أن حالة المولود أعمى توضح ذلك، يقول القديس أثناسيوس [ تفوه الرب قائلاً " لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه " (يو9: 3). بمعنى أن عماه الآن ليس هو بسبب خطايا لكن خطأ الطبيعة، مثل نبات قبل أن ينبت من الأرض، تعرضت جذوره مرات كثيرة لضرر وظرف ما خارجى، هكذا الأعمى منذ ولادته، تعرض للإعاقة فى بطن أمه، سواء أن الحضن الأموى لم يكن بحالة جيدة أو لأن البذرة الأبوية أُعطيت مشوهة. هذا الذى سيستطيع أن يصلح الطبيعة المعيبة سيبرهن على أنه ليس شئ آخر إلا خالق الطبائع ] .

بداية المرض
يتساءل القديس باسيليوس الكبير من أين الأمراض، من أين الإعاقات الجسدية؟ لأن المرض ليس خليقة الله، فالله خلق الكائنات الحية كما يجب ومنح لها الحياة الكاملة لكن تعرضت للمرض بسبب تغيرهم من حالتهم الطبيعية ويؤكد قائلاً [ لأنهم فقدوا صحتهم إما بسبب طريقة معيشية سيئة أو بسبب أى أمر آخر يجلب المرض . حسنًا خلق الله جسد وليس مرض ] . أيضًا يتحدث القديس باسيليوس عن الموت قائلاً : [.. أخطأ " آدم " بسبب اختياره السيئ ومات بسبب الخطية " لأن أجرة الخطية هي موت " (رو23:6)، أى بقدر ما يبتعد عن الحياة، بقدر ما يقترب من الموت. لأن الله هو الحياة، بينما الموت هو غياب الحياة. حتى أن آدم جلب موته بابتعاده عن الله بحسب قول الكتاب "لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون " (مز72: 27). هكذا الله ليس هو الذى خلق الموت، لكن نحن قد جلبناه على أنفسنا بالإرادة الشريرة] .

طرق ووسائل تتميم الشفاء
يقول القديس غريغوريوس اللاهوتى فى رثائه لأخته غورغونيا، إنها حفظت صحتها الجسدية: " نفسها قوية محمولة بالجسد"، وينصحنا: [ هكذا أنتم أيضًا جميعكم، المرضى والأصحاء، الذين تؤمنون بهذا يجب أن تحفظوا صحتكم لكى تستمتعوا بها ] .
وهكذا لكى يكتسب الإنسان عمليًا صحته المفقودة، وليس فقط التخلص من الأعراض، من الضرورى أن يهدف لأن تكون نفسه قوية متحررة من الخطية، مغيّرًا طريقة حياته. بمعنى أنه من الضرورى والهام أن يغير موقفة فى الحياة ورؤيته عن هذه الحياة. بكلام آخر لابد أن يتوب [ لأنه كما أن الزارع يغير نوعية النباتات، على الأكثر فإن اهتمام النفس التى تتفق مع الفضيلة يمكن أن تنتصر على أى نوع من المرض] .

إن موقف حزقيا يُذكّرنا بقول إشعياء: " بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم " (إش30 :15)، فقد وجَه وجهه إلى الحائط وصلى إلى إله السموات قائلاً: " يارب أذكرنى " (إش38: 3)، ويؤكد يوسابيوس فى تفسيره لإشعياء إصحاح 7 على إنه [ سوف تشفوا فورًا من كل أمراضكم، لو رجعتم من الضلال السابق وتعلمتم أن تعيشوا حقيقةً بتقوى] .
إن الله يَعد بواسطة إشعياء كما يؤكد كليمنضس الرومانى لمعاصريه: [.. لو أوقفتم هذا وأتيتم إلى الله بواسطة ربنا يسوع المسيح ستكونون فى حالة جيدة وستنالون بجانب شفاء الجسد نفوسًا صحيحةً.. وهكذا أنتم أنفسكم سوف تفهمون وستعملون هذا الذى هو صحيح وستصيرون محبوبين عند الله وستشفوا ] .

والقديس يوحنا ذهبي الفم، فى حديثة عن المفلوج، يقول : [ لكى تُستعاد الصحة لابد من التوبة وغفران الخطايا لذلك فإن المسيح لم يبدأ من شفاء العَرض، لكن يقول " ثق يا ابني مغفورة لك خطاياك"، وهذا قد فعله بحكمة عظيمة. لأن الأطباء يعتادون على أن لا يشفوا الأمراض أولاً، لكن يزيلوا أسبابها. مثلما يحدث مرات كثيرة عندما تتعب عيوننا من إفراز سيئ ورشح ضار، يترك الطبيب شفاء إنسان العين المريض ويعتنى بالرأس، حيث يوجد جذر ومنبع المرض، هكذا فعل المسيح يجرد أولاً مصدر الشرور. لأن منبع الشرور وجذر وأصل كل مرض هى الخطية. إنها تشّل أجسادنا، إنها تجلب الأمراض. لذلك هنا يقول " ثق يا بني مغفورة لك خطاياك" (مت9: 2)، وهناك يقول " ها أنت قد برئت. فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر " (يو5: 14). معلنًا فى الاثنين أن هذه الأمراض وُلدت من الخطايا. وفى بداية الخلق أهان المرض جسد قايين بسبب الخطية. لأن ذاك بعد أن قتل أخاه، بعد هذا العصيان، عانى شلل فى الجسد. لأنه لكى يرتجف أحد، فهذا معناه أن لديه شلل. حقيقةً أن المرض يُضعف قوة المرء التى تغذى العضو، فلا تستطيع أن تتحكم فى كل الأعضاء، وتتركها خارج عنايتها، عندئذ فإن تلك الأعضاء بسبب الرخاوة ترتجف ولا تكون ثابتة. هذا ما أظهره بولس، لأنه بينما يشتكى الكورنثيين لأجل خطية ما، يقول " لأجل ذلك بينكم كثيرون ضعفاء ومرضى " (1كو11: 30)، لذلك فإن المسيح أولاً أزال سبب الشرور، وطالما قال " ثق يا بنى مغفورة لك خطاياك " أنهض عزيمته وأقام نفسه العليلة، لأن الكلمة صارت عمل ودخلت فى الوعى ولمست النفس وطردت كل قلق. حقيقةً لا شئ يجلب سعادة كبيرة ولا يمنح ثقة قدر أن لا يدين أحد ذاته " ثق يا بنى مغفورة لك خطاياك " لأنه حيث يوجد غفران الخطايا، هناك توجد البنوة ] .

إن المواجهة الحقيقية للمرض، عند ذهبي الفم، هى تلك التي ترمى أو تهدف إلى كل الإنسان، إذ يحلل بكل دقة وبطريقة علمية كيف أن الإحساس بالتخلص من الخطية يساهم مساهمة فعّالة فى استعادة الصحة. إنها نفس الطريقة التي يفضلها يعقوب الرسول " أمريض أحد بينكم فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا علية ويدهنوه بزيت باسم الرب وإن كان قد فعل خطية تغفر له " (يع5: 14ـ15). إن صلوات الكنيسة وأسرارها تستطيع أن تحمينا وتشفينا من الأمراض لكن على شرط الإيمان والتوبة. إن التقليد الأصيل الكنسى يشدد دائمًا على أن قوة سر تقديس الزيت فى مسحة المرضى لا تقدم شفاء لو أن المريض لا يغير طريقة حياته. إن الطبيب الحقيقي هو الله والشفاء الحقيقي يتحقق فقط، عندما يحيا الإنسان وفق الطريقة التي يعلنها المسيح، لأنها تكون وفق طبيعة الإنسان. لذلك يكتب القديس أثناسيوس عن القديس أنطونيوس، أنه كان يترجى [ أولئك الذين يعانون، لكى يصبروا، وليعرفوا أن الشفاء لا يأتى منهم ولا من الآخرين، لكن فقط من الله، الذي يفعل ما يريد ولمن يريد ] .
ويصف إشعياء كعمل شفائي: عمل المسيا " روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى المأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية " (لو4: 18ـ19). والقديس أغناطيوس الإنطاكى يعظ قائلاً: [ يوجد طبيب واحد للجسد والنفس… يسوع المسيح ربنا] . لذلك وضعت الكنيسة بحكمتها قراءة الإنجيل من (لوقا10: 1ـ9)، وذلك في الصلاة الرابعة لسر مسحة المرضى، التي تتكلم عن تعيين الرب للسبعين رسولا لكي تشدد على رسالة الكنيسة الشفائية والخلاصية ، إذ تصلي على لسان الكاهن قائلة: [ أيها الرب المؤدب الشافي، الذي يقيم المسكين من الأرض ويرفع الفقير من المزبلة، أب الأيتام وقاضي الأرامل، ميناء الذين في العاصف، طبيب السقماء، الذي حمل أمراضنا ورفع آثامنا، القريب في المعونة المتأني في العقاب ،الذي نفخ في وجه تلاميذه وقال لهم : أقبلوا الروح القدس من غفرتم لهم خطاياهم غفرت لهم. أنت الذي تقبل توبة الخطاة أيها الشافي من الأمراض ] . والعلامة أوريجينوس يشدد على البعد الكنسي (السلطان الكنسي) الممثل فى التلاميذ عندما يؤكد على أن المسيح الطبيب يشفى ليس فقط الجرح الجسدي ولكن النفسي لأنه بعصيان آدم [ سقط الإنسان في أنواع أمراض نفسية وجسدية، وأعطى (المسيح) للتلاميذ سلطان على الأرواح النجسة التى تزرع مثل هذه الأمراض، وذلك لكى يخرجوها ] . لذا يطلب الكاهن قائلاً: [ أرسل له الشفاء سريعًا. وأغفر له آثامه. وأمنح الصحة لسائر جسده وجميع أعضائه. أرحه من كل سقم وحل كل آلامه الجسدية. وأزل ضيقاته وأحزانه، يا من لا نرجو آخر سواك ] . أيضًا يصلي الكاهن طلبة أخرى في الصلاة السابعة قائلاً: [ الله الآب الصالح طبيب أجسادنا وأرواحنا الذي أرسل ابنه الوحيد يسوع المسيح ليشفي كل الأمراض وينقذ من الموت. أشف عبدك من أمراضه الجسدية. وامنحه حياة مستقيمة، ليمجد عظمتك ويشكر إحسانك وتكمل مشيئتك من أجل نعمة مسيحك ] .
ويؤكد أيضًا أوريجينوس، في تفسيره لسفر أيوب: [ إن المسيح أتى من السموات ليشفينا من الأمراض المستعصية، والتى ما كان لنفوسنا أن تُشفى منها بدونه ] .

العمل الشفائي لكلمة الله
يؤكد العلامة أوريجينوس على أن [ هدف الناموس والأنبياء هو شفاء البشرية ] .
إن كلمة الله تحمي الإنسان من المرض وتشفيه عندما يمرض، يقول السيد المسيح " الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد" (يو8: 51)، ويكمل صاحب المزمور قائلا : " أرسل كلمته فشفاهم ونجاهم من تهلكاتهم " (مز107: 20).
ويعلق أوريجينوس: [ " أرسل" (يو6 :28، 29) الله " كلمته فشفاهم " كما مكتوب في المزامير، أى هؤلاء الذين كانوا مرضى، هؤلاء الذين يؤمنون بكلمته يتممون " أعمال الله " التي هي " الطعام الباقي للحياة الأبدية "، و" أبي" يقول " أعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة إلى العالم ". "الخبز" الحقيقي هو " ذاك " "الذي يطعم الإنسان الحقيقي" الذي خُلق "بحسب صورة الله" (تك1: 26)، وذاك الذي يُطعَم يصير " شبيه بذاك الذي خلقه ". ما هو الأكثر شفاء للنفس أفضل من كلمه الله؟ أو ما هو الأغنى للذهن الذي يحتوي على حكمه الله؟ ما هو الأكثر مناسبة للطبيعة العاقلة أفضل من الحقيقة؟ ] . وهكذا فإن معرفة الحقيقة تحفظ الإنسان في صحة جيدة وتشفيه عندما يمرض، لذا يشدد يوسابيوس القيصري قائلاً: [ الكلمة تعتبر قادرة على الشفاء والخلاص] . عندما لا يسمع الإنسان كلمه الله، والتي تكشف له كيف يجب أن يعيش، عندئذ يمرض، وعندما يمرض لا يستطيع أن يُشفى. يقول الرب إلى إشعياء: " أذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفي " (أش6: 10). حقيقةً إن كلمات الله تشفي ، وفيها نجد الدواء المناسب لكل مرض ، هذا ما يؤكده القديس ذهبي الفم : [أرأيتم أحبائي، أنه كل ما هو مكتوب في الكتاب لم يعطى لذاكرتنا إلا فقط لفائدتنا ولخلاص الجنس البشري؟ إذن فكروا في كل هذا، وليحتفظ كل واحد منا بالأدوية المناسبة لذاته. لذلك فإنها في خدمه الكل ويمكن لكل واحد أن يستخدم الدواء المناسب للمرض الذي يقلقه ويستمتع سريعًا بصحته، طالما لم يرفض الشفاء، لكن يُظهر اعترافًا بالمعروف. لأنه لا يوجد لا وجع جسدي ولا نفسي من تلك الأمور التي تعذب النفس البشرية لا تُشفى من هنا. ماذا يعني، أخبرني؟ إذا أتى إلى هنا شخص مقهور من الضيق ومن ظروف الحياة إذ هو غارق في الكآبة. عندما أتى وسمع مباشرة النبي يقول " لماذا أنت منحنية يا نفسي ولماذا تئنين فيّ. ترجي الله لأني بعد أحمده، خلاص وجهي وإلهي " (مز43: 5)، وطالما أخذ عزاءً كافيًا، وطرد كل تلك الضيقة سيذهب. آخر أيضًا وُجد في حالة صعبة مقهور من الفقر المدقع مشاهدًا الآخرين، وهو متضايق، يَسبَحون في الغنى ويفتخرون ويعتدون بذواتهم، وهذا أيضًا يسمع نفس النبي يقول " ألق على الرب همك فهو يعولك " (مز55: 22)، وأيضًا " لا تخشى إذا استغنى إنسان إذا زاد مجد بيته. لأنه عند موته كله لا يأخذ " (مز49: 17ـ18). آخر أيضًا يتعثر من النميمة والوشاية ويعتبر أن حياته لا تُطاق، طالما لا يمكن أن يجد بتاتًا مساعدة بشرية. لكن هذا يعلِّمه النبي الطوباوي أنه فى مثل هذه الظروف لا يجب أن يلجأ إلى حماية بشرية ، إذ يسمعه يقول " بدل محبتي يخاصمونني أما أنا فصلاة " (مز109: 4) . أ رأيت من أين يسأل الحماية؟.. ] . إن القديس ذهبي الفم، في هذا النص، يبرهن لنا كيف أن كلمة الله تعمل كدواء خلاصي لشفاء الأسباب العميقة التي تجلب الأمراض الجسدية.
خاتمة :
مما سبق نجد أن الله ليس هو مسبب للمرض، ولكن الإنسان فى سقوطه جلب على نفسه قضية الموت والمرض اللذين أصابا طبيعته. دخل الموت وبالطبع المرض إلى العالم، كما يعلمنا القداس الإلهى " بحسد إبليس ". لذلك الموت هو غياب النعمة الإلهية عن الطبيعة البشرية، لأن الله لم يخلق الموت. أصبحت طبيعة الإنسان حاملة للمرض والضعف وذلك بعد السقوط ، وهنا عندما نربط بين الخطية والمرض، نقصد الربط بين السقوط والمرض، أى بين ضعف الطبيعة البشرية الذى قاد إلى المرض والموت . والمسيح حمل أوجاعنا وآلامنا " إذ بجلدته شُفينا "، لكن لم يمحِ المرض تمامًا ولا الموت من الإنسان كما ذكرنا. لأننا نرى فى المرض تأديب من الله الآب لأبنائه. وأيضًا سمح الله بالموت، حتى لا يصير الشر (الموت) خالدًا، ومن جهة أخرى حتى يقيم الله الإنسان بالقيامة ويعطيه فرصة للتوبة أمام مشهد الموت .

إن الله هو الحياة بذاته ، بينما الإنسان يشارك فى حياة الله بحسب نعمة الله، وهذه الحياة تتحقق فى الإنسان بقدر ما يرتبط بعلاقة صحيحة مع الله، بقدر ما يجتهد فى طريق الكمال والفضيلة. إذن الانفصال عن الله هو المرض الذى يؤدى إلى الموت. إن رسالة المسيح كما جسدها إشعياء النبى: " روح الرب علىَّ لأن الرب مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأعصب منكسرى القلب لأنادى المسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق " (إش1:61). هذه الرسالة تحملها الكنيسة اليوم، إذ تمثل حضور المسيح فى التاريخ. ولا نجد أى تعارض بين محاولات الإنسان الدائمة للسيطرة على الأمراض والانتصار عليها عن طريق الطب والوسائل التكنولوجية الحديثة، وبين رسالة الكنيسة. إنما ما نريد التركيز عليه هو أن الكنيسة تضع أصبعها على أصل الداء كما تعلمت من المسيح، فالسقوط والخطية يجلبان المرض والموت. والعلاج لابد وأن يبدأ من العمق لينال الإنسان الشفاء الكامل (نفسيًا وجسديًا). لذلك عندما تركز صلوات سر مسحة المرضى على غفران الخطايا وشفاء النفس وتصحيح العلاقة بين الله والإنسان، هى تتكلم فى نفس الوقت عن صحة الجسد أيضًا. إن طلبة الصلاة الثالثة لسر مسحة المرضى تعلن هذه الحقيقة، إذ يقول الكاهن : [ تباركت أيها الرب إلهنا الصالح طبيب أنفسنا، بجراحاتك شُفينا أيها الراعى الصالح الذى طلب الخروف الضال. يا معزى صغيرى القلوب. الذى أبرأ حماة سمعان من حمتها الصعبة، والنازفة الدم من مرضها القديم. الذى عتق ابنة الكنعانية من الروح النجس. الذى ترك للغريم الدين الذى عليه. الذى غفر للزانية خطاياها. الذى برّر العشار. الذى قَبِلَ إليع اعتراف اللص فى آخر حياته، وأنعم عليه بالفردوس. الذى حمل خطايا العالم. الذى سُمِرَّ بإرادته وحده. نسأل ونطلب إليك، ونتضرع ونصرخ نحوك، لكى تغفر لعبدك ولنا نحن عبيدك جميع آثامنا، الذاتية وغير الذاتية، إن كان بمعرفة وبغير معرفة، الليلية والنهارية، التى أتت منا والتى وردت علينا من آخرين، التى من الحواس الظاهرة أو الضمائر المخفية، التى من حركات الروح أو الجسد، لأنك إله صالح محب للبشر . طهرّنا من كل زلاتنا، وأهدنا وساعدنا لكى نسلك فى طريق الحياة الأبدية، لا طريق الموت الدهرى. نعم يارب سامح عبدك بجميع زلاته. وأملأ فاه من تسبحتك. وأبسط يديه إلى فعل وصاياك. وهيئ أقدامه إلى طريق الخلاص. وحصَّن أعضائه وأفكاره بقوتك. أنت يارب قلت لنا على أيدي رسلك الأطهار (الكنيسة): إن كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا فى السموات ، وما تحلونه على الأرض يكون محلولاً فى السموات. وأيضًا قلت : إن من غفرتم له خطاياه غُفرت له ، وكما سمعت لحزقيا عند ضيقة نفسه فى ساعة موته ولم تُعرِض عن طلبته، كذلك أيضًا اسمعنى ... ونرسل الشكر لمراحمك ولعظمتك ولك المجد مع أبيك الصالح غير المبتدئ، وروحك القدوس المحيى الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور . آمين .] .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق