السبت، 16 أكتوبر 2010



الإفخارستيا (رؤية أبائية)
د. جورج عوض إبراهيم
إن كان سري العماد والميرون والإفخارستيا مرتبطين معًا ويمثلون دخول المسيحي الجديد إلي الكنيسة ، فالإفخارستيا تبدأ بالإحتفال الذي يقود المعمدين حديثًا من جرن المعمودية إلي الكنيسة حيث يتم إعداد أو تجهيز التقدمات.
تحتوي الإفخارستيا علي ثلاثة أجزاء:
الأول: التجهيز أو الإعداد أو التحضير للسر المقدس (التقدمة).
الثاني:
الصلاة علي الذبيحة الإفخارستية التي تتكون من الطلبة الإفخارستية التي تُصلي ليصير الخمر والخبز جسد المسيح وحمه (الأنافورا).
الثالث:
تسليم (مناولة) التقدمة الإلهية المقدسة (جسد المسيح ودمه) إلي جماعة المؤمنين.
هناك موضوعان رئيسيان في طقس سر الإفخارستيا:
1ـ هذه الليتورجيا هي حضور سرائري لذبيحة الصليب.
2ـ هذه الليتورجيا هي الإشتراك السرائري في الليتورجيا السماوية.
بعد المعمودية فإن المسيحيين الجُدد بالملابس البيضاء والشموع في إحتفال يذهبون إلي الليلة الفصحية, من جرن المعمودية إلي الكنيسة, حيث لأول مرة سوف يشتركون في الأسرار. وقد ذكر هذه اللحظة الحاسمة القديس إمبروسيوس: [ إن الشعب المتطهر الغني بهذه المحاسن (يقصد المعمودية والميرون) يسرع إلي مذبح المسيح قائلاً: "إني أذهب إلي مذبح الله, إلي الله الذي يفرح شبابي", لأنهم إذ قد تركوا جانبًا حمأة الخطأ القديم وتجدد شبابهم كالنسر, يسرعون للإقتراب من تلك الوليمة السمائية. فإذ يأتون ويرون المذبح المقدس مهيًا يصرخون قائلين: "رتبت قدامي مائدة"] .
في هذا الموكب الإحتفالي حيث يرنمون 43: " أقض لي يا الله وخاصم مخاصمي.." والدخول حيث يرنمون مزمور23: " الرب راعي فلا يعوزني شئ..." تظهر الإفخارستيا من البداية كعشاء سماوي. والدخول إلي الكنيسة الأرضية يشير إلي الدخول إلي المذبح السماوي: " لقد سلكتم الطريق إلي الهيكل, والملائكة يتابعونكم, يرونكم تنطلقون, لقد رأوا منظركم الذي كان يستحق الرثاء وفجأة يرونه منيرًا" . أيضًا القديس غريغوريوس النزينزي يركز علي رمزية دخول الشعب كصورة للدخول إلي الهيكل السماوي ملهمًا بمثل العذارى الحكيمات: [ الخطوة التي سوف تفعلها مباشرةً بعد المعمودية أمام الهيكل الكبير هي صورة مسبقة للمجد العلي. نشيد المزامير, هو مقدمة لتسابيح السماء. الشموع التي تمسكها بإيديك هي سر المصاحبة المستنيرة السماوية, إنه السر الذي به سوف نذهب نحو ملاقاة العريس, إنها نفوس تلتهب وعذارى بشموع الإيمان ينيرون] . تُشرح كل الطقوس الليتورجية والمزامير والموكب الإحتفال والشموع بالليتورجيا السماوية. بحسب رؤية القديس غريغوريوس فإن الليلة الفصحية تُسكب داخل الأبدية. المعدين قد أتوا فعلاً هناك. والحدود بين العالم الأرضي والعالم السماوي إختفت. لقد إختلطوا بالملائكة, ليشاركوا في الليتورجيا السماوية. لقد حُسبوا كالقيام في السماء: "عندما نقف في هيكلك المقدس نحسب كالقيام في السماء".
عندما يدخلون إلي المذبح يجدون أنفسهم لأول مرة أما السر المستتر: "أتيت إلي الهيكل ورأيت هذا الذي لم تراه من قبل, وبدأت تشاهد نور الأسرار" . هنا يبدأ الجزء الثاني لليتورجيا الذي هو تجهيز أو تحضير, التقدمات الإلهية فوق المائدة, من جانب الشمامسة الخدام. هنا المشهد (المنظر) الذي يُقدم أما أنظار المعمدين حديثًا نستطيع أن نميز فيه ثلاث عناصر: المائدة المقدسة, الشمامسة, الإعداد, هل هذه هي إشارات للحقائق السماوية؟ يعطينا القديس أمبروسيوس شرح سريع للمائدة المقدسة: [ المذبح هو رمز للجسد وجسد المسيح هو فوق المذبح] . حقًا يُقدم لنا المسيح نفسه كلي القداسة ويمنح لنا ملء تقديسه: "هوذا كائن معنا الآن عمانوئيل إلهنا".
خُدام المذبح الذين يرتبون التقدمات الإلهية فوق المذبح يشيرون إلي الملائكة. وهذا التوازن بين خُدام السر المنظورين وغير المنظورين نجدها عند ديديموس الضرير فيما يخص سر المعمودية [ في مجال المنظور فإن جرن المعمودية بلد جسدنا المنظور بواسطة الكهنة. أما في المجال الروحي, روح الله غير المنظور في نفس الوقت يلدنا ثانيةً جسدًا ونفسًا بمعونة الملائكة] .
ويقدم لنا الأب ثيودور الشمامسة عند المذبح كرمز للملائكة: [بواسطة الخدام الذين يخدمون الطقوس يتماثل في ذهننا القوات غير المنظورة التي تخدم ليتورجيًا في هذه الليتورجية الأزلية] .
وكما أن هناك حضور حقيقي للمسيح في الإفخارستيا فهو "المقدَّم والمقّدم" و "الذبيح والكاهن" هكذا هناك حضور حقيقي للملائكة في صلاة الإفخارستا, وهذا ما يؤكده ذهبي الفم: [ الملائكة يحيطون بالكاهن. كل المكان المحيط بالمذبح هو مملوء بالقوات السماوية ليكرمون الجسد الموجود علي المذبح] .
هذا يعني أن ذبيحة الإفخارستيا هي متحدة إتحادًا سرائريًا بالذبيحة السماوية الفريدة.
الأب ثيودور يعطي تفسيرًا هامًا لذبيحة الإفخارستيا يدخلنا في الجزء الثالث لهذه الليتورجيا, إذ يربط ذبيحة المسيح بآلام الرب وقيامته: [ الآن علينا أن نري المسيح ينقاد لينطلق إلي آلامه وهو ممدًا فوق المذبح لكي يقدم نفسه ذبيحة. حقًا عندما تخرج التقدمات من داخل الأواني المقدسة, الصينية والكأس المقدس بحيث أن نتأمل كيف وهو منقاد نحو آلامه, يخرج المسيح ربنا] .
ويستمر الأب ثيودور في شرحه قائلاً: [ ليتنا نؤمن هكذا كيف أن فوق المائدة المقدسة المسيح موضوع كأنه في قبر وكيف أنه خضع للتو للآلام. لأجل هذا السبب فإن بعض الخدام يفردون قطعة من القماش (إبروسفارين) فوق المذبح لتشير إلي أكفان القبر, بينما أولئك الذين يقفون علي الجانبين يحركون الهواء حول الجسد المقدس يشيرون إلي الملائكة الذين ظلوا هناك لتكريمه حتى يرون القيامة] . يتبع أعداد التقدمات طقسين هما: غسل الأيدي وقُبلة السلام. يتأمل القديس كيرلس الأورشليمي "غسل الأيدي" قائلاً: [ رأيت الخادم يعطي الماء إلي القائمين علي الليتورجيا والكهنة المحيطين بمذبح الله لكي يغسلون أيديهم. لم يعطيهم الماء لأن أيديهم غير نظيفة جسديًا. هذا الإغتسال للأيدي هو إشارة أننا يجب أن نكون أطهارًا من كل خطية, أيضًا الأيدي هي رمز للنشاط ونحن نغسلها نعلن طهارة وبراءة أعمالنا] .
لكن أي أهمية لقبلة السلامة؟ يستمر كيرلس الأورشليمي قائلاً: [ دعونا نقبل الواحد الآخر ودعونا نعطي القبلة. لا تعتقد أن هذا القبلة هي القبلة المعتادة والتي يعطيها الأصدقاء بعضهم لبعض وهم في السوق. ليس هي مثل هذه القبلة. هذه القبلة توّحد النفوس فيما بينها وتمحي أي تذكر للشر. القبلة هي برهان لوحدة النفوس. لذلك يقول الرب: " إن قدمت قربانك إلي المذبح وهناك تذكرت إن لأخيك شيئًا عليك. فأترك هناك قربانك قدام المذبح وأذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذٍ تعال وقدم قربانك" (مت23:5ـ24)] .
والأب ثيودور يتعمق في أهمية هذا الطقس قائلاً: [ الكل يعطي ويأخذ السلام, وبهذه القبلة يكرزون بالوحدة والمحبة التي فيما بينهم. حقًا, بعد العماد قبلنا ولادة جديدة, والتي بها إتحدنا لنصير واحدًا, حيث نأخذ نفس الجسد ونفس الدم: نحن كلنا, بالرغم من أننا كثيرون, إلاّ أننا نُشكّل جسد واحد فقط, حيث نشترك في خبز واحد. إذن يجب أولاً أن نقترب من الأسرار,ونطبق قانون السلام والذي به نعلن وحدتنا والمحبة التي فيما بيننا, لا يتمشي مع هؤلاء الذين يشكلون جسد وكنيسة واحدة أن يمقتون أخ لهم] . هكذا فإن القبلة هي برهان لوحدة أعضاء جسد المسيح.
هذه الطقوس الثلاثة ـ التي سبق أن استعرضناها ـ تمثل الإستعداد أو التحضير للسر. هكذا نصل إلي طلبة التقديس الرئيسية, الأنافورا العظيمة والتي تُصلي علي الخبز والخمر. يتأمل القديس كيرلس الأورشليمي هذه الصلاة قائلاً: [ "أرفعوا قلوبكم" نعم, حقًا, في هذه الساعة المملوءة من المخافة المقدسة يجب أن نحتفظ بقلوبنا مرفوعة نحو الله وليست متجهه بعد نحو الأرض والأشياء الأرضية أيضًا يدعو الكاهن بطريقة مباشرة جميعكم أن تتركوا في هذه الساعة إنشغالات الحياة, أي الإنشغالات المعيشية, ولتكن قلوبكم متجه نحو السماء, نحو الله الذي هو محب للبشر. حسنًا أجبتم: هي عند الرب, معطين هكذا بإجابتكم الإمتثال لكلامه. ليت لا يوجد أحد يقول بشقتيه: هي عند الرب, وهو يحتفظ بفكره داخل إنشغالات الحياة. علينا دائمًا أن نتذكر الله. لو كان هذا, بسبب الضعف البشري, هو غير ممكن, علي الأقل هذه اللحظة ينبغي علينا أن نفعل هذا] .
يشدد كيرلس الأورشليمي علي أن طلبه "أرفعوا قلوبكم" تعبر عن المخافة المقدسة التي يجب أن تكون في قلوب المؤمنين في اللحظة التي فيها تتم "الليتورجيا الرهيبة". هذه المخافة المقدسة هي الإحساس الذي يستحوز قلب الإنسان عندما يجعل الله حضوره ظاهرًا. هذا التصرف هو متماثل مع تلك التي للملائكة في الليتورجيا السماوية, كما يشرح لنا ذهبي الفم قائلاً: [ يعبدون ويمجدون ويسبحون دائمًا بخوف ترانيمهم السرائرية] .
بالتالي مناخ هذا السر هو مناخ الليتورجيا السماوية ينعكس أيضًا علي الليتورجيا الأرضية. لذا علي الإنسان أن يقف أمام الله بخوف ورعدة . لأنه "ينبغي أن يقترب المرء بوقار إلي هذه الأسرار الرهيبة حقًا" .
يجب أن نربط رفع القلب إلي الله بتسبحة الثلاث تقديسات التي تسبح بها الكنيسة بعد ذلك. وهذا يعني أن الإفخارستيا هي الإشتراك في الليتورجيا السماوية. حقًا, الثلاث تقديسات هي تسبحة الساروفيم, لذا يقول ذهبي الفم [كما لو أن الإنسان إنتقل إلي السماء نفسها وهو يسبح هذه التسبحة المقدسة] . نفس التعليق نجده عند كيرلس الأورشليمي: [نذكر الشاروبيم الذي رأه أشعياء بمعونة الروح القدس يحيط بعرش الله ويقولون: " قدوس قدوس قدوس الرب إله القوات. لذلك نعلن هذه التسبحة اللاهوتية " التي نُقلت إلينا من الساروفيم, لكي نأخذ نحن مكانًا في التسبيح مع القوات الفائقة] . ويربط الأب ثيودور هذه التسبحة بروح المخافة والوقار أمام الله قائلاً: [ تستخدم الكلام الرهيب للقوات غير المنظورة, لكي تُظهر كم عظيمة هي الرحمة التي شملتنا مجانًا. المخافة تملأ ضميرنا أثناء فترة الليتورجيا سواء قبل تسبحة "أجيوس أجيوس أجيوس" أو بعدها, ناظرين نحو الأرض بسبب عظمة هذه الأمور التي تصير هكذا, مظهرين نفس المخافة] .
هذان الطقسان يعبران معًا عن حقيقة أن صلاة الإفخارستيا هي إشتراك بخوف ورعدة في الليتورجيا السماوية, فنحن لسنا بعد علي الأرض لكن قد إنتقلنا إلي السماء. هنا نجد ـ بحسب رأي الأب ثيودور ـ مفهوم "أرفعوا قلوبكم" . لقد صار المعمد حديثًا بالمعمودية في مرتبة الملائكة. إذن مركز العبادة هو فعل المسيح التقديسي في آلامه وقيامته. هذا الفعل المقدس هو متحرر من الزمن والمكان, ويمثل قلب الليتورجيا السماوية, والإفخارستيا تجعلها ذات حضور سرائري.
لقد وصلنا الآن إلي صلاة الطقسية المحورية التي بواسطتها تؤكد عظات الآباء أن الخبز والخمر يصيران بالتقديس جسد ودم المسيح, يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [ لا تعتبر الخبز والخمر أنهما مثل الخبز العادي والخمر العادي. إنهما جسد ودم المسيح وفق كلام المسيح نفسه] . ويستمر قائلاً: [ طالما تقدست بالثلاث تقديسات نتوسل إلي الله بأن يرسل روحه القدوس علي التقدمات الإلهية لكي يجعل من الخبز جسد له ومن الخمر دم له. والذي يسلمه الروح القدس هو مقدس ومتجلي] . نفس الأمر يؤكده الأب ثيودور قائلاً: [ عندما يقول رئيس الكهنة أن الخبز والخمر هما جسد ودم المسيح يعلن بوضوح ماذا صارا لهما بحلول الروح القدس] .
لقد رأينا أن التقديس يرتبط بحلول الروح القس الذي نطلبه بالإستدعاء, بينما القديس أمبروسيوس يربط التقديس بفعل المسيح: [ بالتقديس يصير الخبز جسد المسيح. بأي كلام يصير التقديس؟ بكلام يسوع ربنا. حقًا ما قيل "بواسطة المسيح" يقوله الكاهن. أنه يستخدم هنا كلام المسيح. ما هو كلام المسيح؟ إنه كلام المسيح الذي بواسطته صار كل شئ ] . هكذا, من جهة, التقديس الذي هو عمل الثالوث القدوس المشترك يرجع إلي الروح التي بها يتمم الله أعماله العظيمة في التاريخ, ومن جهة أخري, التقديس يُنسب إلي اللوغوس الخالق. لكن هذا الموجود علي المذبح ليس هو فقط جسد ودم المسيح لكن نفس ذبيحته, أي سر آلامه الخلاصية وقيامته وصعوده, الإفخارستيا هي ذكري لكل هذا: "وفيما نحن أيضًا نصنع ذكري آلامه المقدسة وقيامته وصعوده إلي السموات وجلوسه عن يمين الآب نقدم لك قرابينك علي كل حال ومن أجل كل حال" (القداس الإلهي). هكذا فإن ذبيحة المسيح التي تُقدم في كل مرة تعني موت الرب وقيامته وصعوده وغفرانه لخطايانا. ولا تستطيع أن تقول إنها ذبيحة جديدة لكن هي نفسها ذبيحة المسيح الفريدة التي صارت حاضرة. ويشدد ذهبي الفم علي هذا التعليم في تفسيره لرسالة العبرانيين: [ ألسنا نقدم يوميًا الذبيحة؟ نقدمها, لكن كذكري لموته الذي قُدم مرة واحدة, كما أنه مرة واحدة صار دخول إلي قدس الأقداس.الذكري تشير إلي موته. غنها نفس الذبيحة التي نقدمها واحدة اليوم وأخري غدًا. فالمسيح دائمًا هو الواحد, والكامل دائمًا, واحد فقط. وكما أن جسد واحد دائمًا, فإنه ذبيحة واحدة دائمًا, وهذه الذبيحة نقدمها أيضًا والآن. هذا هو مفهوم الذكري: لدينا ذكري (حضور) للذبيحة] . نري هنا تشديد ذهبي الفم علي الذكري الذكرى التي هي حضور ذبيحة المسيح الوحيدة والفريدة في الواقع وليس مجرد تذكر عقلي لها.
هكذا فإن ذبيحة المسيح هي نفسها الفعل الكهنوتي الذي صار في لحظة محددة من التاريخ, والذي هو حاضر حضورًا أزليًا في السماء, وهو موجود حقًا تحت الظواهر السرائرية. في الحقيقة إن فعل المسيح الكهنوتي في جوهره هو نفسه الفعل الذي به تصل الخليقة إلي هدفها, لأنه بواسطتها يتمجد المسيح.
هذا الفعل يتجرد من الزمن لكي يوجد وجودًا أزليًا وبالتالي السر يجعل هذا الفعل حاضر في كل الأوقات وفي كل الأماكن.
الجزء الأخير لسر الإفخارستيا هو التناول والذي يسبقه ترتيبيين: وضع الخبز علي الصينية ثم تقسيمه. نجد الأتي في النص المنسوب خطأ إلي ديونيسيوس: [ مثل هذه هي الدروس التي يعلنها رئيس الكهنة وهو يتمم طقوس الليتورجيا الإلهية عندما يكشف علنا التقدمات التي كانت منذ البداية مستترة عندما يقسم إلي قطع كثيرة (القربان), عندما ـ بوحدة السر الكاملة التي تعطي إلي النفوس التي تتناوله ـ يقبل الذين يتناولونه في الشركة الكاملة. يظهر لنا هكذا بطريقة محسوسة وكأنه أيقونة كيف أن المسيح يخرج من مذبحه السرائري والإلهي, لكي يأخذ شكل إنسان من محبته للإنسان, كيف أنه نزل ـ بدون تغيير في طبيعته ـ إلي مستوي ماديتنا المحسوسة, وكيف أن أفعال محبته لنا الملتهبة تعطي الجنس البشري إمكانية أن يأتي في شركة مع الله] (444C).
ويربط الأب ثيودور بين تقسيم الخبز بالحوادث التاريخية التي صاحبت قيامة المسيح قائلاً: [ الآن حيث الليتورجيا قاربت علي النهاية, يقسم رئيس الكهنة الخبز, مثلما الرب, أولاً, في ظهوراته مثلما حدثت مرة لواحد وأحيانا لآخر] .
هكذا التتميم الطقسي المحسوس يرمز لتناقل المسيح ـ لكن بدون أي تجزئة لوحدته ـ إلي النفوس المختلفة.
الإفخارستيا هي حقًا تمثل الغذاء الروحي الذي هو مستتر تحت الخبز والخمر: [ كما أنه لكي نستمر في هذه الحياة لنا الخبز غذاؤنا, بالرغم من أنه بطبيعته لا يمتلك أي خاصية مثل هذه, لكن هو قادر علي أن يحفظ حياتنا لأن الله أعطاه هذه المقدرة, هكذا نقبل الخلود ونحن نأخذ السر, لأنه بالرغم من أن الخبز ليس لديه مثل هذه الطبيعة, لكن عندما قبل الروح القدس, صار قادرًا لأن يقود هؤلاء الذين يأكلونه إلي الأبدية] .
الإفخارستيا هي فعلاً عربون للعطايا السماوية, إنها عربون الإشتراك في العشاء السماوي. هذا الغذاء الروحي لا يجب أن ننظر إليه إلاّ من خلال ذبيحة المسيح. فالإفخارستيا هي الاشتراك في هذه الذبيحة, أي في موت وقيامة المسيح. حقًا سر الآلام والقيامة لا يصير حاضرًا إلاّ فقط لكي يعطينا النتائج الفعالة, وبالتناول من الأسرار المقدسة تتفاعل هذه النتائج في النفس. لذلك فإن التعليم عن التقديس لا يبدو أنه مختلف عن التعليم عن الشركة (المناولة), طالما هو الاتحاد بس المسيح الذي مات وقام. والشركة هي الاشتراك في موت المسيح وأيضًا اشتراك في قيامته: [ كل مرة تقبل الإفخارستيا ماذا يقول لك الرسول؟ كل مرة تقبلونها تعلنون موت الرب. وإن كُنا نعلن موته فنحن نشهد لغفرانه الخطايا. إذن كل المرات ينسكب الدم, فإنه ينسكب لأجل غفران الخطايا يجب أن نقبله دائمًا, لكي تغفر لنا دائمًا الخطايا] .
الإفخارستيا كما يؤكد لنا غريغوريوس النزينزي [ هي الذبيحة غير الدموية التي بها نشترك في الشهادة لألوهية المسيح] : " آمين آمين آمين بموتك يارب نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلي السموات نعترف نسبحك نباركك نشكرك يارب ونتضرع إليك يا إلهنا" (القداس الإلهي).
هكذا يقول الأب ثيودور: [فكما بموت المسيح ربنا قبلنا الميلاد بالمعمودية هكذا الغذاء الروحي يعني أتذكر موت الرب الذي منحنا القيامة وتذوق الخلود حيث نحن ـ بموت ربنا ـ قبلنا ميلاد سرائري يجعلنا نأخذ ـ بنفس الموت ـ طعام سر الخلود. ونحن نشترك في السر نتذكر آلامه والتي بها سوف نحصل علي الخيرات الصالحة وغفران الخطايا] .
هكذا من بداية الاستعداد حتى التناول تحققنا من موضوعين رئيسيين في التعليم الآبائي من الإفخارستيا: الأول: فعل ذكري آلام وقيامة وصعود المسيح. والثاني: الاشتراك في الذبيحة وفي العشاء السماوي. وهذان الموضوعان يمثلان الأهمية الجوهرية للإفخارستيا.
صور ورموز الإفخارستيا عند الآباء
التقديس يُتمم في الليتورجيا بالطلبة العظيمة التي تبدأ بـ "نشكر الرب" وتنتهي إلي الاستدعاء. تبدأ بذكر أعمال الله العظيمة في الماضي. لدينا مثال جدير بالملاحظة في كتاب "تعاليم الرسل". فالأسقف يشكر الله من أجل خلق العالم والإنسان, من أجل الفردوس, من اجل ذبيحة هابيل, من أجل صعود أخنوخ, من أجل خلاص نوح, من اجل العهد مع آبرام, من أجل كهنوت ملكي صادق, من أجل التحرر من مصر . تستمر في ذكر أعمال الله العظيمة في العهد الجديد وأسرار المسيح, حتى تنتهي إلي الاستدعاء حيث يتوجه بطلب إلي الروح القدس الذي تمم هذه الأعمال العظيمة في الماضي لكي يستمر في عمله هذا في الحاضر.
هنا لدينا الشكر ثم الطلبة والرجاء, والاستناد علي الإيمان في هذا الذي فعله الله في الماضي لكي يؤسس الرجاء في تلك التي سوف يتممها الآن وفي المستقبل. هكذا يظهر الفكر المسيحي الاستمرارية بين العهد القديم والجديد والأسرار, إذ يدعونا إلي التفتيش علي الأمثلة أو النماذج الموجودة في العهد القديم. وبهذا المفهوم بأن النماذجية Τυπολογία للإفخارستيا ليست هي إلاّ شرح محتوي طلبة التقديس. هكذا الليتورجيا تبدو بالنسبة لنا كاستمرارية في الزمن الحاضر لأعمال العهدين المقدسة. لذا سوف نتناول ثلاثة نماذج أو أمثلة في العهد القديم
يشيرون إلي الإفخارستيا, وهم:
1ـ تقدمة ملكي صادق 2ـ المَنْ
3ـ مائدة العشاء
1ـ تقدمة ملكي صادق
الخبز والخمر اللذان قدما بواسطة ملكي صادق يعتبران كنموذج للأفخارستيا. يحدثنا القديس كليمندس الأسكندري عن [ ملكي صادق الذي قدم الخبز والخمر, الطعام المقدس الذي هو مثال للإفخارستيا] . ورسالة كبريانوس LXIII إلي كيكيليانوس هي في الحقيقة مخصصة لمحاربة الهراطقة الذين يرفضون استخدام الخمر في الإفخارستيا, ويستشهد بنصوص العهد القديم التي تقدم الخمر كمثال للإفخارستيا. ومن بين هذه النصوص الهامة هو النص الذي يذكر ملكي صادق: [ نري فيما قدمه ملكي صادق الكاهن سر ذبيحة الرب مصورة مسبقًا, وفق تأكيد الكتاب: ملكي صادق, ملك ساليم, قدم الخبز والخمر] .
يبدأ كبريانوس مظهرًا كيف أن ملكي صادق: هو مثال للمسيح, ويستند علي (مز4:110) "أنت الكاهن إلي الأبد علي رتبة ملكي صادق" "الذي هو كاهن الله العلي مثل ربنا يسوع المسيح الذي قدم إلي الآب ما قدمه ملكي صادق, أي الخبز والخمر, أي جسده ودمه" (704). هكذا, ملكي صادق هو مثال للمسيح, وتقدمته هي مثال لذبيحة المسيح لكن ـ كما قال كبريانوس ـ مثال لسر هذه الذبيحة: [ هكذا مثال الذبيحة الذي يتمثل في الخبز والخمر قد سبق وظهر في الماضي. وهذا بالضبط ما فعله الرب وتممه, عندما قدم الخبز وكأس مزيج الخمر والماء: هذا الذي هو الملء أكمل حقيقة الأيقونة الرمزية] (704).
مثال ملكي صادق يحتل قسم مشترك في عظات الآباء. القديس أمبروسيوس يقول: [ نعرف كيف أن مثال هذه الأسرار سبق عصر ابرآم, عندما قدم ملكي صادق ـ الذي ليس له بداية ولا نهاية ـ الذبيحة] . هذا المبرر استخدمه أمبرسيوس لكي يؤسس أولوية وأفضلية الذبيحة المسيحية تجاه الذبيحة الموسوية: [ اظهر هذا الذي أقوله,أي كيف أن أسرار المسيحيين هي أقدم من التي لليهود. إذا كان اليهود يرجعون أسرارهم إلي ابرآم, فمثال أسرارنا قد سبق (ابرآم), حيث أن رئيس الكهنة ملكي صادق قد سبق ابرآم وقدم له خبز وخمر. من كان لديه الخبز والخمر؟ لم يكن ابرآم بل ملكي صادق, بالتالي فإنه هو الذي تمم الأسرار] .
عند قراءتنا لنص أمبرسيوس نتذكر رسالة العبرانيين التي قدمت لنا ملكي صادق: " بلا أب بلا أم بلا نسب. لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه (مثال) بإبن الله هذا يبقي كاهنًا إلي الأبد" (عب3:7).
هكذا في رسالة العبرانيين نجد ملكي صادق هو مثال للمسيح كرئيس كهنة أبدي. إن اختبار المسيح للخبز والخمر كمادة منظورة للإفخارستيا يجعلنا نقول إن أعمال المسيح هي محملة بذكريات العهد القديم, إذ يبدو كيف أن اختيار الخبز والخمر يحوي إشارة إلي ما فعله ملكي صادق الذي قدم أيضًا الخبز والخمر. وهكذا ما قيل عن كهنوت المسيح في رسالة العبرانيين هو مؤسس علي الأناجيل التي أخبرتنا بتقديم المسيح للخبز والخمر في العشاء الأخير.
يركز يوسابيوس القيصري علي المقارنة بين كهنوت ملكي صادق والكهنوت الإسرائيلي, مشددًا علي أن الكهنوت الإسرائيلي كان مقتصرًا علي سبط معين. بينما الكهنوت ملكي صادق كان كهنوتًا مسكونيًا وليس امتياز مجموعة خاصة: [ لم يُختار ملكي صادق من بين الناس ولا مُسح بزيت مصنوع] . علي الجانب الآخر, فإن عبادة العهد القديم انحصرت في مكان معين, هيكل أورشليم. وهذا كان إشارة ورمز للإله الواحد, فالمذبح الواحد. وفيما بعد يقول النبي ملاخي: " لأنه من مشرق الشمس إلي مغاربها اسمي عظيم بين الأمم وفي كل مكان يقرَب لإسمي بخور وتقدمة طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب الجنود" (ملا11:1). والآباء يرون في هذه النبوة مثال للإفخارستيا: "ذبيحة الناموس الجديد التي تقدم في كل مكان" .
نفس الأمر يسري علي مواد الذبيحة (الخبز والخمر): [هذا الذي كان كاهنًا للأمم لم يظهر إطلاقًا لكي يقدم ذبيحة جسدية, لكن حيث أنه بارك إبرآم, قدم خبز وخمر بنفس الطريقة التي فعلها الرب أولاً ثم بعد ذلك أولئك الذين أستلموا منه كهنوتهم من كل الأمم, مقدمين ذبيحة روحية بحسب قوانين الكنيسة, أي أسرار الجسد والدم, الخلاص بالخبز والخمر, الأمر الذي فعله ملكي صادق بمعونة الروح القدس منذ سنين عديدة قبل الأمثلة أو النماذج التي أتت في المستقبل] .
لقد رأينا أثناء استعرضنا لصور وأمثلة المعمودية أن عبور البحر الأحمر هو مثال للمعمودية. أيضًا الإفخارستيا أُشير لها بالخروج, والمنْ وصخرة حوريب هما مثال مزدوج للمعمودية والإفخارستيا. يقول ذهبي الفم: [ هل رأيت في الإستعداد للمعمودية من كل المثال؟ وما هي الحقيقة؟ أنتبه أيضًا سوف أظهر لك أيضًا المائدة وشركة الأسرار... بعد تعليق بولس علي السحابة والبحر يستمر قائلاً: الكل شربوا شرابًا روحيًا واحدًا. ومثلما أنت بعد أن صعدت من جرن المعمودية مضيت نحو المائدة, هكذا هؤلاء عندما خرجوا من البحر أتوا إلي مائدة جديدة ومدهشة, أريد أن أقول: المن. ومثلما أنت لديك شراب سرائري واحد, هو الدم الخلاص, هكذا كان لديهم شراب معجزي واحد كان هناك حيث لا يوجد بتاتًا لا نبع ماء جاري, ماء وفير تدفق من الصخرة الجافة] .
نجد في نص ذهبي الفم الترتيب: 0المعمودية ـ الإفخارستيا) واضحًا جدًا. أيضًا نجد نفس الأمر عند الأب ثيودور: [ البحر الأحمر هو مثال لجرن المعمودية, عصا موسي: الصليب, فرعون: الشيطان, جنود فرعون: الشياطين, المنْ: الطعام الإلهي, الماء من الصخرة: دم المخلص. حقًا, كما أن أولئك بعدما عبروا البحر الأحمر ذاقوا الطعام الإلهي وماء النبع المعجزي, هكذا نحن, بعد العماد المقدس نشترك في الأسرار الإلهية] .
2ـ المَنْ
بينما يتبع التقليد الأسكندري فيلون اليهودي في أن المَنْ يشير إلي كلمة الله وفق ما جاء في إنجيل (مت4:4): " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله", فإن التفسير الإفخارستي للمن يستند علي (يو31:6ـ33): " أباؤنا أكلوا المَنْ في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا. فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس موسي أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم. فقالوا له يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز. فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة..". وهذا التفسير نجده عند الآباء في عظاتهم. فالقديس أمبرسيوس بعد أن أظهر بمثال ملكي صادق أن الأسرار المسيحية هي قديمة عن اليهودية, يقول: [ هذا المَنْ هو معجزة عظيمة حيث أنزله الله إلي الآباء الأولين. لقد أطعموهم السمائيون بطعام يومي, كما هو مكتوب: "أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز5:78). لكن الذين أكلوا مثل هذا الطعام ماتوا في البرية. لكن الطعام الذي تقبله أنت, أي الخبز النازل من السماء, ينقل لك جوهر الحياة الأبدية. إنه جسد المسيح وكما أن النور هو أعظم من الظلال والحقيقة من المثال, هكذا جسد الخالق أعظم من المَنْ السماوي] .
القديس أمبروسيوس يشدد ـ في نفس الوقت ـ علي التماثل الحقيقي بين المَنْ والإفخارستيا وتفوق الحقيقة علي المثال. لكن هذا التفوق لا يعني أن المَنْ ليس مثال للإفخارستيا. وهذا ما قاله أغسطينوس: [ المَنْ يعلن الخبز (الإفخارستي), مذبح الله يعلن الخبز (الإفخارستي), لكن هذان الاثنان هما فعلاً من ضمن الأسرار. الأمور الظاهرية تختلف, لكن الحقيقة هي نفسها. الطعام الجسدي هو شئ آخر, حيث أولئك أكلوا من المَنْ ونحن (نأكل) شئ آخر. لكن الطعام الروحي كان هو نفسه لأولئك ولنا نحن] .
المفهوم الأخروي للمَنَّ:
لقد أعطت اليهودية للمن المفهوم الأخروي. فكما أطعم الله شعبه بطعام معجزي في عصر الخروج القديم, هكذا سوف يفعل ذلك في أزمنة الخروج الأخروي. هذه الأهمية الأخروية للمنْ موجودة في العهد الجديد. فالقديس يوحنا يكتب في سفر الرؤيا: " من يغلب سأعطيه أن يأكل من المْ المخفي..." (رؤ17:2). والمَنْ يوضع في نفس مستوي شجرة الحياة: "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة" (رؤ7:2), كمثال للإشتراك في الخيرات الإلهية للعالم الأخروي.
لكن بالنسبة للعهد الجديد فالهدف هو إظهار أن الطعام الأخروي هو فعلاً حاضرًا في الكنيسة بالإفخارستيا. هذا هو تعليم ليس فقط بولس الرسول لكن يوحنا الإنجيلي. في(1كو) حيث قال إن يهود الخروج أكلوا نفس الطعام الروحي يضيف قائلاً: "هذه الأمور حدثت مثالاً لنا" (1كو6:10). والقديس يوحنا يقدم لنا المسيح وهو يقول: " أباؤكم أكلوا المَنْ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت...." (يو50:6ـ51). المثال الإفخارستي للمنَّ لا يمثل فقط جانب من تقليد الكنيسة المشترك لكن يمثل أيضًا تعليم المسيح نفسه.
لقد سبق أن رأينا أن ذهبي الفم والأب ثيودور يربطون صخرة حوريب بالمَنْ كمثال للإفخارستيا. فالمَنْ يشير إلي الخبز, وماء الصخرة إلي الخمر. وهذا يمثل تقليد كامل له بداياته عند القديس بولس (1كو4:10). ويوجد تقليد آخر يربط صخرة حوريب بالمعمودية, وله بدايته عند القديس يوحنا. فالقديس كبريانوس يرفض رؤية ماء الصخرة كمثال للخمر الإفخارستي . لكن التقليد الذي يري في ماء صخرة حوريب مثال للخمر الإفخارستي نجده عند عدد لا بأس به من الآباء.
فالقديس أمبرسيوس يذكر معجزة المَنْ لكي يبرهن علي سمو الأسرار المسيحية ثم يربطها بماء صخرة حوريب قائلاً: [ لأجلهم خرج الماء من الصخر, ولأجلكم خرج الدم من المسيح, الماء رواهم إلي حين, والدم يشبعكم إلي الأبد, اليهود كانوا يشربون وكانوا أيضًا يعطشون وأنتم بعد الشرب تصيرون فوق مستوي العطش, ذلك كان ظلا وأما هذا فهو حقيقة. فإذا كان ذلك الذي تتعجبون منه مجرد ظل, فكم ينبغي لذلك الذي تتعجبون من ظله أن يكون عظيمًا؟ أنظر الآن ما حدث كظل مع الآباء: "جميعهم شربوا من الصخرة التي تابعتهم والصخرة كانت المسيح, ولكن بأكثرهم يُسر الله لأنهم طُرحوا في القفر وهذه الأمور أصابتهم مثالاً لنا" (1كو14:10). فالآن يمكنكم أن تعرفوا أيهما أعظم, لأن النور أعظم من الظل, والحقيقة أعظم من الرمز, وجسد ذاك الذي يعطيه (لنا) أعظم من المَنْ الذي من السماء] .
والقديس أغسطينوس مثل أمبرسيوس يربط معجزة حوريب بالمَنْ كمثال للإفخارستيا, وهذا وفق كلام بولس: "شربوا شرابًا روحيًا واحدًا". أولئك شربوا شرابًا روحيًا واحدًا, ونحن شرابًا روحيًا آخرًا. لكن هذان (الشرابان) لا يختلفان فقط من جهة الشكل الخارجي, لأنه من جهة خواصهم السرية يعنون شيئًا واحدًا. كيف شربوا نفس الشراب؟ شربوا من الصخرة التي تابعتهم, وهذه الصخرة كانت المسيح. الصخرة هي مثال للمسيح, والمسيح الحقيقي هو اللوغوس متحد بالجسد. وكيف شربوا. ضُربت الصخرة بالعصا مرتين, والضربتين تعني طعنتي الصليب , سوف يلاحظ المرء الإشارة إلي صليب المسيح. القديس أمبرسيوس من جانبه يتحدث عن دم المسيح الذي تدفق وهكذا نري ظهور موضوع الدم الذي خرج من جنب المسيح فوق الصليب. نشدد حقًا علي أن التقليد القديم يري في الماء الذي تدفق من الصخرة في البرية مثال للدم الذي خرج من جنب المسيح المطعون. أي في الماء وفي الدم الذي خرج من جنب المسيح يري الآباء مثال للمعمودية والإفخارستيا, هكذا الماء الذي خرج من الصخرة يمكن أن يكون في نفس الوقت مثال للمعمودية وأيضًا للإفخارستيا.
3ـ مائدة العشاء
يربط القديس كبريانوس الأمور المتعلقة بمائدة الحكمة بحادثة ملكي صادق (أمثال5:9): [ "أيضًا من سليمان: تظهر لنا مثال ذبيحة الرب, ذاكرًا الضحية المذبوحه, الخبز, والخمر والمذبح: الحكمة, تقول, بنتَّ بيتها. نحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ذبحها مزجت خمرها. أيضًا رتبَّت مائدتها. أرسلت جواريها تنادي علي ظهور أعالي المدينة. هلموا كلوا من طعامي وأشربوا من الخمر التي مزجتها. سليمان يتحدث عن خمر ممزوج, ونبويًا الخمر يعلن كأس الرب الذي يحتوي علي الخمر والماء .
نري هنا موضوعًا جديدًا الخمر والماء كمثال للإفخارستيا ويعبر عن الإتحاد بين اللاهوت والناسوت. الليتورجيا اليهودية بها عشاء مقدس داخل الهيكل فوق جبل أورشليم, وهذا العشاء كان العلامة المنظورة التي تبرهن علي أنه كيف أن المرء ينتمي إلي شعب الله. هكذا نقرأ في سفر التثنية: " لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم. بل المكان الذي يختاره الرب إلهم من جميع أسباطكم ليضع أسمه فيه سكناه يطلبون وإلي هناك تأتون. وتقدمون إلي هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذروكم.. وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم.. لا يحل لك أن تأكل في أبوابك عُشر حنطتك وخمرك وزيتك ولا أبكار بقرك وغنمك ولا شيئًا من نذورك.. بل أمام الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب.." (تث4:12ـ7 ,17ـ18).
نجد في التقليد اليهودي سلسة النصوص التي تظهر لنا الخيرات الماسيانية المحفوظة إلي نهاية الأزمنة كعشاء مقدس. وأشعياء النبي يقدم لنا هذه الخيرات كعشاء: " أيها العطاش جميعًا هلموا إلي المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا. لماذا تزنون فضة لغير خبز وتعبكم لغير شبع. إستمعوا لي استماعًا وكلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم" (إش1:55ـ2, أنظر أيضًا إش11:65ـ13). أيضًا نجد موضوع العشاء الماسياني في الأدب الرؤيوي, فإشعياء يتنبأ ويقول: " ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن وليمة خمر" (إش25:6). وفي الأسفار غير القانونية مثل عزرا وغيره من الأسفار تشير إلي عشاء إبن الإنسان, وهذا ما نجده في (لو22:29): " وأنا أجعل لكم كما لي أبي ملكوتًا. لتأكلوا وتشربوا علي مائدتي في ملكوتي".
هكذا العشاء الماسياني هو ـ من جهة ـ يظهر بنفس الملامح مع العشاء الليتورجي داخل هيكل أورشليم. يصير " داخل بيت الحكمة" (أم1:9) أي داخل الهيكل ويصير أيضًا فوق الجبل(إش6:25). الجبل هو صهيون حيث يسكن الله, وحيث يظهر العصر الماسياني. يصير في المدينة (عزرا52:8). أورشليم الأرضية ترمز إلي السمائية. لكن في نفس الوقت العشاء يتخطي العشاء الليتورجي الذي ليس إلا مثال للعتيد أن يكون: يظهر نوعية ووفرة تبرهن أننا لسنا بعد في العالم الحاضر لكن داخل عالم متجلي (إش6:25, 1:55). أنها الخيرات الروحية (إش3:50) التي يُرمز لها بالأطعمة المنظورة في العشاء الليتورجي. أخيرًا بينما في العشاء اليهودي يُقبل فقط أعضاء شعب الله, نجد أن في العشاء الإسخاتولوجي كل الشعوب مقبولة (إش6:25).
إذن ظهرت نماذجية العشاء المقدس من زمن العهد القديم. والعهد الجديد يؤكد كيف أن العشاء تُمم بالمسيح. هنا يجب أن نعطي أهمية إلي الموائد التي شارك فيها المسيح وذكرت في الأناجيل. هذه الموائد لها أهمية ماسيانيه, بمعني أنها تعبر عن الفرح الذي تنبأ عنه الأنبياء. وهذا نراه عندما ذهب يسوع ليأكل في بيت متى حيث أُعثر تلاميذ يوحنا: " وكان تلاميذ يوحنا والفريسيين يصومون. فجاءوا وقالوا له لماذا يصوم تلاميذ يوحنا والفريسيين وأما تلاميذك فلا يصمون", فأجاب المسيح "هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم. مادام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا" (مر18:2ـ19). هكذا الموائد التي اشترك فيها المسيح كانت تعبيرًا عن ملمح الفرح الماسياني الناتج من حضور المسيح. وحديث المسيح هذا كان يسبق حادثة قطف تلاميذ يسوع للسنابل وهو سائرون يوم السبت, وتذمر الفريسيين علي ذلك, مما جعل البعض يعتبر أن هذا الحدث يعلن العشاء الأخروي ونفس الوقت يعلن الإفخارستيا. أيضًا الإنجيلي لوقا يذكر حديث المسيح ضد الفريسيين قائلاً: " لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا فتقولون به شيطان. جاء إبن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاه" (لو34:7), قبل المائدة التي اشترك فيها المسيح في بيت سمعان الفريسي حيث قبل يسوع دخول المرأة الخاطئة. هكذا أراد المسيح أن يزيل الحواجز بين الخطاة والله. وكما أن معجزة اشباع الجموع بمباركة الخبز نعتبرها كتحقيق لمثال المَنْ وفي نفس الوقت نبوة عن الإفخرستيا, هكذا هذه الموائد التي اشترك فيها المسيح هي كنموذج لقبول الأمم في الشركة المسيانية التي تتحقق في الكنيسة. هكذا, في نص لوقا يكرز بأنه " أكلنا قدامك وشربنا" في أثناء حياته الأرضية لا تمثل تحقيق للوعود. حقًا "هناك يكون البكاء وصرير الأسنان متى رأيتم إبراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطروحين خارجًا. ويأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت الله" (لو28:13ـ29). هذا الكلام إشارة إلي قبول الأمم في الكنيسة.
وتحقيق هذا العشاء الماسياني مع دعوة الأمم يؤكد أيضًا نفس هذا النص بمثل العشاء العظيم الذي ذُكر في إصحاح (15:14ـ24) عندما قال أحد من المتكئين للمسيح: "طوبي لمن يأكل خبزًا في ملكوت السموات" حينئذٍ أجاب المسيح: "إنسان صنع عشاء عظيمًا ودعي كثيرين... حينئذٍ غضب رب البيت وقال لعبده أخرج عاجلاً إلي شوارع المدينة وأدخل إلي هنا المساكين والجُدع والعُرج والعُمى" (يو16:14ـ21).
نلاحظ كيف ن النص يشير بوضوح إلي موضوع العهد القديم الذي بدأناه بموضوع مائدة الحكمة كما كتب عن ذلك أوريجانوس في تفسيره لنشيد الأنشاد .
وكما في سفر الأمثال أرسلت الحكمة جواريها تدعو المارين إلي مائدتها, هكذا السيد المسيح في المثل أرسل عبيده ليدعوا الذين يريدون أن يحضروا إلي المائدة المُعدَّة هكذا ظهرت الكنيسة كبيت الحكمة حيث يُعطي الخبز والخمر ليس كمثال بل كسر للحقائق الإلهية. لذا نري القديس أمبروسيوس يقول: [ هل تريد أن تأكل, هل تريد أن تشرب. تعال إلي مائدة الحكمة المدعو إليها جميع البشر بصوت عالي: تعالوا كلوا خبزي واشربوا خمري الممزوج. لا تخاف سوف لا يغيب عن مائدة الكنيسة عطور مفرحة أو أطعمة لذيذة, أو مشروبات متنوعة, أو الخدام الماهرين. هناك سوف تقطف المُر أي قبر المسيح, سوف تقوم أنت أيضًا من الموت, كما قام ذاك (المسيح). هناك سوف تأكل الخبز الذي يقوي قلب الإنسان, سوف تشرب الخمر لكي تبلغ ملء قياس قامة المسيح] . هكذا نفهم أن الإفخارستيا هي ذبيحة روحية ومسكونية, غنها طعام شعب الله أثناء مسيرتهم نحو أرض الميعاد, وأنها مشاركة كل الأمم في شركة الخيرات الإلهية.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق