الجمعة، 22 أكتوبر 2010



سر الماسيا


د. جورج عوض ابراهيم


ما هو السبب الي جعل المسيح يأمر الأبرص الذي شفاه أن لا يقول لأي أحد شيئاً يتعلق بشفائه ؟ ( أنظر مت 8: 4 . مر 1: 44 . لو 5: 14 )
هذا الحدث هو من ضمن وحدة متسعة من الوقائع المذكورة في إنجيل مرقس، وكذالك في الأناجيل الثلاثة الأخرى. يبدو المسيح في كل هذه الحوادث أنة يهدف إلي إخفاء معجزته وهويته، وأيضاً إلي غموض تعليمة لقد وصُف موقف المسيح هذا من جانب المفسرين المعاصرين كـ " سر المسيا " وقبل أن نجيب علي السؤال الذي يفرض نفسه عن ما هو السبب الخفي وراء هذا الموقف،
دعونا نذكر حودث معينة في إنجيل مرقس تخص موضوعنا هذا :
أ‌- في مر 1: 44 يأمر المسيح الإنسان الذي شفي من برصه أن لا يقول لأحد شيئاً يتعلق بشفائه، لكن علية أن يذهب للكهنة لكي يتحققوا من شفائه.
ب‌- مباشرة ًبعد معجزة إشباع الجموع بخمسة أرغفة وسمكتين، يلزم يسوع تلاميذه بأن يدخلوا السفينة التي كانت موجودة بالقرب من مكان المعجزة ويبتعدون من هناك لكي يتجنب التعبيرات الحاسمة للجموع ولكي لا ترتبط بقدر الإمكان هذه المعجزة بشخصه ( أنظر مر 6 : 45 . مت 14 : 22 ، يو 6 : 15 ).
ج- بعد شفاء المولود أعمي، يرُسله يسوع مباشرة إلي بيته مع الأمر بأن لا ينتشر مباشرة ً خبر شفائه: " لا تدخل القرية ولا تقل لأحد في القرية " مر 8: 26.
د- بعد التجلي أمر يسوع الثلاثة تلاميذ الذين كانوا معه أن لا يخبروا أحد بهذا الحدث حتى قيامته ( أنظر مر 9: 9. مت 17 : 9 . لو 9: 36 ).
إن المسيح لن يُخفي فقط أفعالة المعجزية بل وأعاق أيضاً إعلان حقيقة هويته التي وفق الآية الاولي في إنجيل مرقس هو المسيح ابن الله . وكون أنة ابن الله، والمسيح قدوس الله، فالشياطين تشهد بذالك ( انظر مر1: 24، 34.3 : 11 . 5: 7، انظر أيضاً لو 4: 41 ) ، حيث أمرهم مباشرة ً أن لا يظهروه ( انظر مر 1 : 25، 34 . 3: 12، لو 4: 41 ). وبطرس يعترف بإسم كل التلاميذ أنة هو المسيح ، أي المسيا المُرسل في العهد القديم ( انظر مر 8 : 29 . مت 16 : 16 . لو 9: 20. يو 6 : 69 ). لكن يأمر أيضاً كل التلاميذ – بعد هذا الإعتراف – أن لا يعُلنوا لأحد محتوي هذا الإعتراف: " فأنتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنة " مر 8: 30.
علي الجانب الآخر ، صاغ يسوع تعليمة ليبدو لسامعيه أنة عميق وليس من السهل إدراكه جيداً ، فكان يتحدث بأمثلة : " لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا ...... " ( مر 4: 12 . هذه الآية تأتي من اشعياء 6: 9- 10. أنظر أيضاً مت 13: 13 – 15. لو 8: 10. يو 9: 39 ،12: 40 ) ، بمعني أن المسيح يعلم ، بمثل هذه الطريقة، حتى أن الشعب الذي يسمعه يري بدون أن يدُرك، ويسمع بدون أن يفهم . حسناً، تعليم يسوع بالأمثال هو صعب الفهم حتى أن التلاميذ أنفسهم لم يدركوا روح هذا التعليم، إن لم يفسر لهم معلمهم هذا التعليم ( انظر مر 4: 10، 34. أنظر لو 8: 9 ).
بالرغم من الإخفاء المتعمد للمعجزات وكذلك إخفاء هويتة، إلا أن نشاطة كان ساطعاً سطوع الشمس ( انظر مر 1:28 . لو 4: 37)، الأمر الذي يدل علي أنة في النهاية من المستحيل أن يُخفّي أعظم حدث في التاريخ الإنساني : تأنس الله ذاته . هكذا بالرغم من أنة أمر الذين شفاهم بأن لا يقولوا شيئاً ، بيد أنهم كانوا يتحدثون ويدعون معجزاته ( انظر مر 1: 45). والنتيجة أن جمع كبير من المرضي كانوا يطلبون منة الشفاء. لقد تجنب – منذ البداية – الظهور في المدن حيث كان معروفاً ، لكن كانوا يبحثون عنة ويأتون إلي الأماكن المقفرة التي كان يعتاد أن يذهب إليها ( أنظر مر 1: 35 . 6: 33 . مت 14: 1
13 ) . لقد تمت معجزات كافية أمام جمع من البشر، سواء في المجمع ( أنظر مر 1: 23 – 27. لو4: 33 – 36) أو اجتماع في الخلاء ( أنظر مر 6: 35 -44. 8: 1- 9 .مت 14: 15 – 21 . 15 : 32 – 38 . لو 9:12 – 17. يو 6: 1 – 15 ).أيضاً تعليم يسوع كان علنياً وكان يسبب دهشة من اللحظة الأولي: " فبهتوا مِن تعليمة لأنة كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة " ( أنظر مر 1: 22. مت 4: 19. لو 4: 32 ).
إن صيت يسوع وصَّل إلي هيرودس رئيس الربع في الجليل ( أنظر مر6:14 . مت 14 : 1. لو 9: 7 )،الذي عندما سمع عن يسوع تحير مَنْ يكون هذا ؟ ( أنظر مر 6: 16 . مت 14: 2 . لو 9: 9). هذه العلانية كانت تسير جنباً إلي جنب مع عدم فهم تام لشخص وعمل يسوع:
أ‌- يتهمونه الكتبة بأنة يجدف عندما قال كيف أنة يستطيع أن يغفر الخطايا، الأمر الذي يستطيع أن يفعله الله فقط في العهد القديم ( أنظر مر2: 6- 7. مت 9 : 3 . لو 5: 21 ).أيضاً قالوا له أنة يُخرج بعلزبول الشياطين: " إن معه بعلزبول وأنة برئيس الشياطين يخرج الشياطين " مر 3: 22. لم يدركوا أن يسوع هو الله ، وبالتالي من ضمن مقدرتة أن يغفر الخطايا ويخُِرج الشياطين.
ب‌- شرَّع الفريسيون في قتل يسوع لأنة لم يحفظ السبت ( أنظر مر 3: 6. مت 12: 14 . لو 6: 11)، بدون ان يدركوا أن يسوع هو الله وأنة واحد في الجوهر مع مُشَّرع السبت.
ج- سُمع في كل الجليل عن يسوع بأنة يوحنا المعمدان الذي قُطعت رأسه وقام ثانية ً أو إيليا النبي أو احد الأنبياء من ضمن أنبياء العهد القديم ( أنظر مر 6: 14 – 15 . 8: 28 . مت 16 : 14. 9: 8 ) . هيروديس أنتيباس نفسه أنتهي إلي نتيجة مفادها أنة " يوحنا الذي قطعت أنا رأسه أنة قام من الأموات " ( انظر 6: 16 . مت 14 : 2 . لو 9: 9). لم يُدرك أحد أن يسوع هو أعظم مِن نبي، وأيضاً أعظم مِن إيليا ويوحنا المعمدان.
د- حكم علية شيوخ اليهود بالموت ( أنظر مر 14: 64: " فالجميع حكموا علية أنة مستوجب الحكم "
( أنظر أيضاً مت 26: 66 )، عندما أعلن أنة " المسيح وابن المبارك " أي ابن الله وأنباء عن مجيئه الثاني ( أنظر مر 14: 62. مت 26 : 64 . لو 22: 67 – 70 ).
بإيجاز نقول أن آراء الشعب تأرجحت من جهة إما يسوع هو إنسان الله جاء في شكل نبوي ، أو أنة مجدف ومثير فتن. لكن لا احد أدرك جيداً بأن يسوع هو نفسه أبن الله.
علي الجانب الآخر ، ليس فقط الجمع بل هؤلاء التلاميذ أيضاً لم يدركوا مَنْ هو حقاً معلمهم:
أ- في معجزة سير يسوع علي المياه ، حين رأي التلاميذ يسوع يمشي علي الأمواج المضطربة ( أنظر مر 6 : 5 . مت 14 : 26 . يو 6 : 19 ) ثم يصعد إلي السفينة ويُسَّكن الرياح، يقول الكتاب : " فبهتوا وتعجبوا في أنفسهم جداً إلي الغاية " مر 6: 51. ويشرح القديس مرقس أنهم لم يفهموا حقاً مَنْ هو يسوع من المعجزة السابقة: إشباع الجموع : " إذ كانت قلوبهم غليظة" مر 6: 52 .
ب- عندما أعترف – فيما بعد – بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله ( انظر مر 8: 29. مت 16 : 16 . لو 9: 20. يو 6: 69 ) ، يبدو من أول وهلة أنة هو نفسه وباقي التلاميذ قد دخَّلوا في عمق سر هويته . والمسيح حامي عن أعتراف بطرس ، وقال له " طوبي لك يا سمعان بن يونا . إن لحماً ودماً لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السموات . وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلي هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوي عليها " مت 16: 17 – 18 . حقاً إن أعتراف بطرس هو حجر الأساس للكنيسة، إذا فهمنا هذه الأقوال لاهوتياً ، إنه أساس الإيمان المسيحي.
لكن، لو رأينا هذا الأعتراف في إطاره التاريخي ، يبدو أن بطرس – ومعه كل التلاميذ – كانوا يقصدون أن يسوع هو المسيا اليهودي الذي سوف يحرر الشعب الإسرائيلي من الاحتلال الروماني ثم يؤسس مملكة داود . وهذا الأستنتاج يأتي من تصرف بطرس تجاة المسيح - مباشرة ً بعد أعترافة – حينما أنباء يسوع عن آلامه وموته وقيامته ( انظر مر 8 : 31 . مت 16 : 21 . لو 9 : 22 )،إذ أراد أن يحميه منِ مثل هذه المواقف التي تعيق رسالته الماسيانية – كما أعتقد ( انظر مر 8 : 32 . مت 16 : 22 ) . لكن المسيح وجَّه له عبارته المشهورة " " إذهب عني يا شيطان . لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس " ( مر 8 : 33 . أنظر مت 16 : 23 ). بهذا التعبير ، قصد المسيح إظهار المسيح إظهار أن أفكار بطرس الماسيانيه هي بكل وضوح بشرية ولا تتوافق حقاً مع خطة الله لفداء الإنسان والتي سوف تصل إلي قمتها في آلام وقيامة المسيح.
ج – بعد التجلي، أنباء يسوع ثانية ً التلاميذ عن قيامته من الأموات ( انظر مر 9: 9. مت 17 : 9 )، فتسائل التلاميذ فينا بينهم " ما هو القيام من الأموات " مر 9 : 10 ، لأنهم لم يتمكنوا من إدراك كيف الإنسان ، مهماً كان قديساً أن يرجع من الموت إلي الحياة.
د – وفي إنباء ثالث ليسوع عن آلامه وقيامته ( انظر مر 9: 31 . مت 17: 22 – 23. لو 9 : 44 ) يبدو التلاميذ أنهم يجهلون مفهوم هذا الإنباء ثم خافوا أن يسألوه : " وأما هم فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوا " مر 9 : 32 .
هـ - الفكر الخاطئ عن ماسيانية يسوع ظهر من طلب يعقوب ويوحنا بأن يجلسا واحداً عن اليمين الآخر عن اليسار " في مجدة " مر 10 : 37 ، عندما يملك علي إسرائيل كماسيا عالمي . يجيب يسوع قائلاً : " أما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطية إلا للذين أعُـِدَّ لهم " مر 10 : 40 ، ويُظهر لهم أن مملكته ليست بها ملامح عالمية بل هي مملكة اله السماوية.
مِن هذه الأمثلة يبدو مدي سوء فهم التلاميذ لشخص وعمل يسوع .لكن وعمل يسوع . لكن لأي سبب حدث هذه الآراء الخاطئة؟ نقول ، وفق الصورة التي أعطتنا إياها كل الأناجيل عن مسيرة يسوع التاريخية قبل قيامتة لم يكن من الممكن لهوتية وعملة أن يُدركا ويصيرا مقبولان من جانب الشعب وكذلك من جانب التلاميذ أنفسهم . وهذا يرجع إلي أن اليهود في ذلك العصر لم يتمكنوا من إدراك أن إله آبائهم، يهوه، أن يصير أنساناً وأن يحيا فيما بينهم . علي الجانب الآخر ، كل النبوات المتعلقة بة في العهد القديم لم يفسروها مثلما فسرها المسيحون فيما بعد لكن فسرها علي أساس معطياتهم الدينونه واللاهوتية .
إذن – بحسب الإيمان اليهودي وقتذاك – الله منفصل عن الإنسان إذ بينهما هوة كيانه لا تُعبر. مُن الممكن عبور هذة الهوة – بحسب العهد القديم – فقط من خلال الظهورات الإلهية . لكن بعد الأسر البابلي ندرت الظهورات الألهية، وفي عصر المسيح لا نجد نصوص يهودية فيها أي أثر لظهورات الله . أذن كيف يتواصل الإنسان اليهودي البسيط مع الله وقتذاك؟ بطريقة واحدة غير مباشرة، من خلال الصلاة والعبادة وبدراسة وحفظ الناموس ، طالما أن الله كشخص كان غائباً عن حياته اليومية، هكذا يبحث عنة داخل التقوى الناموسية إذن في إطار الإيمان اليهودي حيث بنوده الأساسية هي وحدانية الله وتعاليه ، أي إنسان يزعم أنة إلة حتى لو أتم معجزات كثيرة لكي يدعم زعمه هذا ، سوف تسقط علية إدامة الموت بسبب تجديفه .
إذن لماذا أظهر يسوع ميلة بأن يخفي معجزاته وهويته وتعليمة؟ ببساطة لكي يتجنب التفسيرات الخاطئة لشخصة وعملة، حتى لا يعطي وقوداً للسيناريوهات الخارجية والمطالبات المؤسسة علي دورة التحرري من الاحتلال الروماني، ولكي لا يُغذي العداوة الموجودة بالفعل بين النظام الرئاسي اليهودي الديني والأحتلال الروماني، وبالحري حتى لا ينشئ حماس يستند علي تطلعات ماسيانية خاطئة غرضها التحرر القومي . ربما أنة يعلم مسبقاً بأنة سوف يساء تفسير عملة هذا وهويته؟ هنا يجب التشديد أن الغموض الذي اكتنف مسألة شخصة وعملة مع كل الذين إقتربوا منة كان وقتياً. لقد منح يسوع تلاميذه بعد القيامة الروح القدس كوسيلة لأدراك شخصه وعملة. فالروح القدس هو الذي قاد المؤمنين لتخطي الشكوك الدينية والظنون التي كانت سائد بين الناس، كذلك هو الذي أنار البشر ليقبلوا : بأن الله حقاً صار إنساناً وعاش بينهم ، هذا هو منبع خلاصهم.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق